بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر) - الصفحة 2 - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: الا يا غزّ اشتاقك (آخر رد :ممدوح أسامة)       :: الأزهر يتحدث :: شعر :: صبري الصبري (آخر رد :ممدوح أسامة)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :ممدوح أسامة)       :: الادب والمجتمع (آخر رد :ممدوح أسامة)       :: مقدّّس يكنس المدّنس (آخر رد :ممدوح أسامة)       :: تعـديل (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: إخــفاق (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: حلم قصير وشائِك (آخر رد :عبدالماجد موسى)       :: رفيف (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: الزمن الأخير (آخر رد :حسين محسن الياس)       :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: لغة الضاد (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: إلى السارق مهند جابر / جهاد دويكات/ قلب.. (آخر رد :أحلام المصري)       :: لنصرة الأقصى ،، لنصرة غزة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: السير في ظل الجدار (آخر رد :محمد داود العونه)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ▂ ⟰ ▆ ⟰ الديــــــوان ⟰ ▆ ⟰ ▂ > ⊱ تجليات ســــــــــــردية ⊰

⊱ تجليات ســــــــــــردية ⊰ عوالم مدهشة قد ندخلها من خلال رواية ، متتالية قصصية مسرحية او مقامة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 18-07-2011, 11:44 PM رقم المشاركة : 26
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)17


طُرِقَ الباب صباحاً وسراب لم تزل في سريرها إثر شعور بإرهاق ألمَّ بها، أصغت قليلاً وانتظرت ريثما ينتهي هذا الصوت المزعج بفتح الباب، ولكن لم يحصل ما تريد.
نهضت من فراشها، وخرجت إلى فسحة الدار.. بحثت عن حماتها فلم تجدها في البيت، يزداد الطرق على الباب قوة وإصراراً، تأففت ضيقاً، وبلحظة طيش عصبي خانت عهد اختفائها عن الناس بالرد على القادم الطارق.. اقتربت من الباب وسألت من؟ فسمعت صوت جارتها هناء تستعجلها في أمر هام.
حوصرت سراب بالنداء، لن يفك حصارها أحد، فأدركت أنها في ورطة حقيقية وأنها لا محالة ستضحي بالبيت الجديد.
قبل أذان الظهر كان خبر حمل سراب يملأ أسماع أهل الجزيرة، كثر العاتبون، وتكلَّم الحاسدون، وفاعل خير يحبُّ (عادل) بثَّ إليه عبر راديو السفينة خبر الحمل هذا ليفوز بهدية قيمة.
وعندما عادت أم عادل إلى البيت قالت بخيبة: لن يشتري عادل البيت الجديد هذا العام.
كما ودَّعته بالدموع استقبلته بها سخيَّة عند عودته عل متن طائرة ركاب نقلته من ميناء مرسين إلى العاصمة، ومنها بالسيارة فالمركب إلى الجزيرة. روت له بتفوق ملحوظ حتَّى أدقَّ التفاصيل منذ بداية حملها إلى كشف سرِّه.
لفَّها بالإمتنان وضمَّها بالشوق، ولكنَّه لم ينس أن يفخِّخ لهفته الحرَّى واشتياقه المجنون إليها بشيء من اللوم وكثير من العتب، ولم تخفي عليه هي حسرتها المرة بخسارة البيت الجديد.
قال لها: أيسعدك أن أعمل صيَّاداً ريثما يأتي هاشم؟
أجابت بسرور: طبعاً، ولكن مايدريك بأنَّه( هاشم)؟
أجابها: هاشم، درة لا فرق، كلاهما نعمة من الله تستوجب الشكر.
فُك حصار سراب برجوع زوجها، فعادت إلى الظهور في المجتمع ولكن بحذر بعد أن تعلمت من الأحداث التي مرَّت بها فلسفة جديدة.
بهدوء جهَّزت ووالدتها ما يلزم للمولود عند قدومه، وأعدَّت البيت كما يليق بهذه المناسبة الرائعة، وبيَّضت الجدران.
لم يكن عادل كريماً بإنفاق الوقت دون عمل، فسعى منذ وصوله لإيجاد قارب صيد استأجره مع بعض رفاقه لتأمين قوت يومه بعد أن ترك العمل على ظهر السفينة وعاد بالقليل من المال.
مهنة الصيد تحتاج لخبرة جيدة، والريس منصور معلم ٌبها، وقد سبق لعادل أن عمل معه أحياناً كثيرة فيما مضى فاستدعاه لرياسة المركب.
هناك في البحر وعلى بعد عدَّة أميال من الجزيرة غرباً كان قارب الصيد يحمل(عادل) ورفاقه كي يلقوا شباكهم بعد عصر كلِّ يوم ويعودوا إلى الجزيرة قبل الغروب، وقبل الفجر يخرج الصَّيَّادون لجمع شباكهم بما علق فيها من اسماك، ثمّ َيعودون بها إلى المدينة الساحلية القريبة من الجزيرة لبيع صيد يومهم لمسمكاتها بالسعر الذي يستحقُّه كلُّ نوع منها.
قالت أم عادل له ذات يوم عندما عاد بثمن الصيد: سمعت والدك يتحدَّث عن الأسماك وعن علاقتها الحميمة بالصَّيادين.
سألها باهتمام: وماذا قال عنها؟
أجابت: قال رحمه الله: إنَّ الأسماك تحس بتعاسة الصَّيَّادين، لذلك فهي تحبُّهم وتشفق عليهم وتدخل في شباكهم لتخفِّف عنهم شيئاً من المعاناة.
فقال عادل باسماً: ولكنَّها تقع فريسة في الشباك لصغر عقلها، وضعفها فتهزم.
قالت: مايدريك، ربَّما كانت منتصرة بالهزيمة، قويَّة بالضعف.
فسألها ساخراً: وهل هناك انتصار بالهزيمة وقوَّة بالضعف ياأمَّ عادل؟!!
أجابته بثقة: عند المحبين فقط، بمعنى أن تقدم نفسك فداء لمن تحبُّ.
قال: أليس هذا غاية الجنون ياأمي؟ إنَّه انتحار ولو كان من سمكة، منطق غير صحيح لا أحبُّه ياسيِّدتي.

بقلم


زاهية بنت البحر


يتبع






  رد مع اقتباس
/
قديم 18-07-2011, 11:59 PM رقم المشاركة : 27
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)

ليلة من ليالي العمر شهدتها الجزيرة، رقصت فيها سجية حتى الفجر، فرحة بزفاف ابنتها شهلة عبد السميع لابن عمها توفيق، وظلت الأفراح والليالي الملاح قائمة عدة أيام بلياليها أعادوا فيها تقاليد الأعراس القديمة التي كادت تنقرض في السنوات الأخيرة.
اشترك أطفال العائلة والجيران ومن يشاء من الشبان والرجال بنقل جهاز العروس من بيت أهلها إلى بيتها على صوت قرع الطبول.. وقف الناس يشاهدون الجهاز من الأزقة الضيقة ومن على الأسطح، ومن النوافذ ويحفظون ما يشاهدونه ليكون المادة الدسمة للسهرات التي يتحدثون فيها عن الجهاز.. كم دزينة من الصحون بكل أنواعها أخذت معها، والطناجر، والصواني، والكاسات، والفناجين، والأحذية، والأراجيل، والفرش واللحف، والمخدات، والشراشف، وأدوات المطبخ والخياطة والتطريز، ويستمر الرجال بالنقل لوقت طويل، وزغاريد النسوة تعلو كلما شاهدن فوجا من حملة الجهاز يمرون من أمامهن.
تبدأ الأم في الجزيرة بتجهيز ابنتها منذ أن تكون فتاة صغيرة ويستمر حتى يوم نقله إلى بيتها.
في اليوم الثاني ليلا تكون ( الشوفة ) فيها تعرض العروس فساتينها في حفل ساهر، وفي اليوم الثاني (التغسيلة) وفيها تحني الماشطة الحاجة( أم النشار) العروس وتهيِّئها لليلة الدخلة التي ستكون في الليلة القادمة، أما ليلة التغسيلة فترتدي فيها العروس فستانها الأسود، وتستمر الحفلة حتى وقت متأخر من الليل دون أن يأتي العريس فهي للنسوة فقط، يغنين ويرقصن على قرع الطبلة(الدربكة)، وغناء الحاجة بكريَّة صاحبة أجمل صوت في الجزيرة، وهي التي تزف العرائس منذ أكثر من ستين عاما بمساعدة ابنتها خضرا.
في اليوم الثاني تمد سفرة في بيت العريس(العَشْوة) لجميع أهل الجزيرة يأتي إليها من يشاء من الناس، ويجد الأطفال فيها فرصة للفرح وتناول أشهى المأكولات التي اشتهرت بها الجزيرة من كجيجات (كبة بالفرن) وفاصولياء ورز، وورق عنب، وخروف محشي، وكبة لبنية ومقلية وغير ذلك مما لذ وطاب من الحلويات كالكنافة والبقلاوة والمعمول والعجوة والفاكهة بكل أنواعها، ومن ثم تبدأ بعد العصرالحلاقة للعريس والتلبيسة حيث يقوم رفاقه بتلبيسه بدلة العرس على صوت قرع الطبول، ورقص إخوته ورفاقه، ويستمر ذلك حتى الليل حيث تُجلى العروس في بيت أهلها بفستانها الأبيض والطرحة فوق منصة عالية ليتسنى للجميع رؤيتها، وتزفها بكرية وتكون ليلة خاصة جدا تفوق ببهجتها كل ما مضى من ليالٍ، وفيها يتم النقوط للعروس كل حسب مكانتها وقرابتها من العائلتين، ولايقتصر الحفل على المدعوات فهناك أيضا( الفراجة) وهنَّ من النسوة غير المدعوات يأتين لحضور العرس وقد خبأن وجوههن بمنديل أسود، فلا يظهر منهن سوى العيون ويكنَّ بأعداد كبيرة لم يخلُ منهنَّ فرح.
تجلس الماشطة أم النشار بالقرب من العروس فوق البرزة، وتضع في حضنها منديلا خاصا للنقوط ثم تلفه وتحمله معها، ولبكرية أيضا نقوط ممن تغني لهن ويرقصن على نقرات أصابعها السحرية على الطبلة(الدربكة)، ولكل فتاة وامرأة أغنية خاصة بها تختلف عن أغنية غيرها من الحاضرات، ويأتي العريس ليأخذ عروسه بمرافقة الطبل والعراضة ورقص الرجال بالسيوف من أصحابه وأقربائه.
يتأبط العريس يد عروسه، ويخرج بها من بيت أهلها بمرافقة بكرية وأهل العريس والزغاريد تملأ الأجواء بعد أن يخلي الرجال الطريق لموكب العروسين، ويستمر الغناء حتى تصل إلى بيتها الذي ستقيم فيه مع زوجها حيث أتمت أم العريس تجهيزه وفرشه بما يليق بسمعة العريس، وكل يجهزه حسب قدرته المادية.. قبل دخول البيت تناولها حماتها قطعة من العجين (الخميرة) فتلصقها فوق العتبة، وهذه عادة درج عليها السكان يعتقدون من خلالها بأن العروس ستلتصق مدى العمر ببيت زوجها كقطعة العجين التي التصقت فوق العتبة.
في صباح اليوم الثاني تكون الصبحية، ترتدي العروس فستانها الأبيض، وتزفها بكرية والأهل يغنون ويرقصون. بقي عليها ليلة السرقة وفيها تأتي إلى بيت أهلها، تسهر معهم وعندما تريد العودة إلى منزلها تشير لها أمها بأن تأخذ شيئًا من المنزل متفق عليه مسبقا، فتسرقه وتذهب به إلى بيتها.
فرح أهل الجزيرة بشهلة وتوفيق بعد أن وفق عقلاء الجزيرة وحكماؤها بين العائلتين، وتمنوا لهما حياة سعيدة.
حضرت سراب وحماتها حفلات النسوة وحضر عادل حفل الرجال رغم حزنه الشديد على صديقه أحمد.
دخل وزوجته إلى غرفتهما وهما يحلمان بليلة زواج ابنهما هاشم أو ابنتهما درة، وتعاهدا على أن يكون الزفاف على الطريقة القديمة فليس هناك أجمل من التقاليد التي تعبق بالأصالة، وتعيد ذكرى الآباء والجدود.

بقلم


زاهية بنت البحر


يتبع






  رد مع اقتباس
/
قديم 19-07-2011, 12:14 AM رقم المشاركة : 28
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)

أكثر من مرة زارت سراب مع والدتها القابلة القانونية التي ستقوم بتوليدها، وفي كل مرة كانت تطمئنها بأن أمور الجنين بخير، وتصف لها بعض المقويات وتطلب منها شرب الحليب وتناول الفاكهة، وأن لا ترهق نفسها بالعمل كثيرا على أن تقوم بالمشي بين فترة وأخرى، ووصفت لها حبوب الحديد والكلس.
لم تكن أم عادل مسرورة بشأن القابلة، فهي تريد أن تستقبل حفيدها على يد الداية كما جاء والده وعمته، فرفضت والدة سراب وعادل ذلك خاصة وأنها الولادة الأولى، ولن يجازفوا بمغامرة لا يدري أحد ماتخبئه من مفاجآت.
سكتت أم عادل على مضض مالبثت بعد وقت أن رضيت بالقابلة مفوضة الأمر إلى الله.
لم يكن حمل سراب بالنسبة لعادل أمرا عاديا فكان فرحا بقلق، وقلقا بحذر، يشعر رغم كل شيء وهو بانتظار المولود بأنه يمر في أجمل أيام حياته، وأكثرها ترقبا وتوجسا وسعادة بتمازج المتناقضات في إحساسه الجديد، كان يتشوق لرؤية المولود، فأحضر له ألعابا كثيرة، وثيابا تكفيه لسنوات، وذهب بسراب إلى طبيب الجزيرة فطمأنه، وضعها ممتاز وكل شيء طبيعي، لكنه كان في بعض الأوقات يحس بالضيق فيجلس إلى أمه.. يحدثها عن الحاضر والماضي والمستقبل، وسراب تنصت إليهما وابتسامة تعلو ثغرها وبين الحين والآخر تتلقى من جنينها ضربة رقيقة بحركة قدم أو كوع أو رأس.. تتحسس موضع الحركة متمتمة بالمعوذتين وعينا عادل تراقب يدها فوق الثوب وقلبه يرقص فرحا.
ذات يوم طلب عادل من سراب ارتداء الفستان الأخضر الذي أحضره لها عندما عاد من السفر:
- أحب أن أراك به.
حاولت فلم تستطع ذلك لزيادة وزنها بالحمل، وعدته بارتدائه بعد الولادة، وبأن تتخلص من الوزن الزائد في أقرب فرصة، فوعدها بأن يشتري لها غيره بعد الولادة، ولا يريدها أن تستعجل بالتخلص من الوزن الزائد خوفا على الطفل من سوء التغذية، ولتدع هذا الأمر لحينه، ويكفيه أنها ستهديه أغلى زهرة عطرة في الوجود.. كثيرة هي الزهور، ومتنوعة هي العطور، ولكن أجملها في يقينه على أية حال تلك التي تجعله يشعر بالسعادة حقيقة، وهو ينعم النظر في بديع صنعها، فيقول سبحان الله الخالق العظيم.
وهاهو الأملُ يدلف من ثقب قلبه خيطا رفيعًا يغزل به ستارة دفءٍ يعلقها فوق جدرانه خشية اجتياح الصقيع له في هجمة حزنٍ قارصة، ولن ينسى أن يسدَّ الثقب ببقايا الخيط، فبين اللحظة واللحظة برزخ مجهول لايعلمه إلا من سوَّاه.. كم نفس تقبض بين شطيه ?كم دمعة تسكب بحرقة أو بفرح؟ كم من دمٍ يهدر قبل بلوغ الشط الثاني بين اللحظة واللحظة؟ واليوم هو بانتظار طفله ورغم خوفه فالأمر يعجبه، بل يبهره، فعندما تولد حياة من حياة، فإنها تستحق المخاض الصعب بصرخة وليد يشرق أملا من بعد استبداد يأسٍ، فإن حقق الهدف من مولده فلا أحلى منه ولاأجمل، وإن لم يتم ذلك، فيكفي أنه مولد حياة تتولد منها حيوات جديدة قد يكون فيها ما ينتظر من أمل.

بقلم


زاهية بنت البحر

يتبع






  رد مع اقتباس
/
قديم 19-07-2011, 12:30 AM رقم المشاركة : 29
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)


في إحدى زيارات سراب وأم عادل لوالدة أحمد، التقت هناك بخطيبته لمى التي أقامت عند خالتها منذ وصول الجثة ولم تفارقها إلى بيت أهلها إلا نادرا، وللضرورة الملحة خاصة وأنهما تعيشان في حارة واحدة.
تحدثن كثيرا عن أحمد وعادل، وعن عمق الصداقة التي ربطت بينهما.
روت سراب عن رحلتهما الأخيرة الشيء الكثير بإلحاح من لمى وأم أحمد التي أرادت أن تسمع كل شيء عنه صغيرا كان أو كبيرا، فلم تبخل عليهما بالقص، مما جعل الابتسامة تعود إلى محياهما بما روته عن بخل القبطان خاصة بشأن الطعام رغم انه كان يأخذ من مالك السفينة أضعاف أضعاف مايصرفه أثناء السفر كما يفعل بسعر الوقود، وهذا كما قيل معروف عن بعض القباطنة الذين يصبحون من الأثرياء بل من أصحاب البواخر في مدة قصيرة من الزمن، عدا عن السرقات العامة التي تتم عندما يعلن أحدهم أنه سيشتري باخرة، والباب مفتوح لمن يريد مشاركة الناس له.
يُحدد القبطان ثمن السهم مبلغا معينا من المال لمن يريد الشراء.. يتهافت عليه الأهالي تهافت الفراش على النور، ولِمَ لا فهم يعرفون كرم البحر.. تبيع النساء مصاغهن.. يستدين الفقراء ثمن ربع أو نصف أو حتى ثمن عشر حصة.. تضع الأرامل واليتامى ما معهم من صدقات المحسنين ثمنا لجزء من سهم أيضا، وآخرون يضعون تحويشة العمر وحتى حصة ميراثهم من أمواتهم على أمل الربح العميم.. ويتم جمع المال.
تبدأ الأحلام الوردية تأخذهم إلى عوالم شتى يجدون بها أنفسهم في ثراء وهناء، وقد قبروا الفقر والعوز إلى الأبد.
أحلام كبيرة وآمال براقة بخيال جامح، ولكن سرعان ما يتهاوى كل شيء عندما يعلن القبطان بعد عدة أشهر من استغلال الباخرة في التجارة البحرية خارج البلد، بأن الديون قد تراكمت عليها، وأنه سيبيعها بسعر بخس لتحصيل مايمكن الحفاظ عليه من ثمنها، وقد يعيد للمبخوسين ربع أموالهم أو ثلثها دون أرباح إلا ماندر.
بعد مدة من الزمن يفاجأ الناس بأن القبطان قد اصبح مالكا لباخرة خاصة بحمولة كذاألف طن، وهو الآن يشيد فيلا ستبهر عيون القبطان فلان وتقلع عيون علان وهو يدري بأنها ستحرق قلوب الفقراء الذين سرق أموالهم بطرق يظنها مشروعة ناسيا أن الله له بالمرصاد، ولكنه وأمثاله لايتعظون، ولا يريدون أن يقروا بأن معظم من استغل طيبة سكان الجزيرة وقطف أحلامهم أصابه الله بسهم أحنى ظهره، ولكنه لم يرجع عن ضلاله متحديا صحوة الضمير ولو للحظة عابرة.
تركت هذه الزيارة أثرا طيبا في نفس سراب، وأسعدها التعرف على لمى فهي شابة جميلة، مهذبة تحب خالتها أم أحمد قبل أن تخطبها لابنها، وازدادت لها حبا بعد الخطوبة، وتعمقت المحبة بينهما أكثر بعد رحيل الخطيب.
في عيني لمى بريق يخطف الأنظار، ولها ابتسامة حزينة تزيدها جمالا غريبا ينطق بالألم رغم صمت صاحبته شبه الدائم.
تمنت سراب لو كان لها أخ فتزوجها له، ولكن علية لم تنجب إلا الإناث فضيعت فرصة التمني على ابنتها.
لمى أصغر منها سنا وأجمل أيضا، هي اعترفت بذلك بينها وبين نفسها لكنها لم تقل لها بأنك أجمل مني، فليس الوقت مناسبا لمثل هذا، ولا يليق بها أن تتكلم بموضوع ليس لا مبرر له على الأقل في مثل هذه الظروف، بل ولا حتى في غيرها.
أحست بشيء من لوم النفس دون أن تدري لماذا راود رأسها هذا الأمر، ربما كان من باب الشفقة عليها، فرأتها كما لم تكن لتراها في ظروف عادية، ولكن ماالعمل فيما همست لها به نفسها؟!!
كلمة حق بهمسةٍ دافئة قد تفتح أمام الآخرين أبواب السعادة ما لم تستغل مصيدة لكسب مأرب لا يتوافق هدفه مع مكارم الأخلاق، وليس لهمسة نفسها مايعارض ذلك لكنها آثرت الصمت.


بقلم
زاهية بنت البحر
يتبع






  رد مع اقتباس
/
قديم 26-07-2011, 06:19 PM رقم المشاركة : 30
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)21

آذار.. الرّبيع موسم التفتح والجمال، طقس التفاؤل والعطاء، ولكنه مختلف بالنسبة للصيَّادين، دائماً يأتي بوجهين، يوم مشرقٌ، بحرُه هادئ يغري بخوض غماره صيدا وسفرا ونزهة، والسعادة ترفرف فوق الجزيرة بأجنحة النوارس وغاقاتها البديعة، وبزقزقة الأطفال فوق الصخور، ونصب الشباك فوق الأسطح والساحات لصيد النُّفُّج، وآخر غائمة سماؤه، هائجٌ بحرُه يوحي باليأس من فرج قريب.
في أحد هذه الأيام الرمادية، المتشحة بالبؤس خرج عادل من البيت منزعجا وفي رأسه الكثير من التساؤلات.
مشى في الحارات التي تملأ الجزيرة على غير هدى.. لم يكن يقصد هدفاً معيناً، فقط يريد أن يمشي عبر الأزقة الضيقة التي لا يتسع بعضها لمرور شخصين دون مواربة، هكذا تعود منذ الصغر عندما يحس بالضيق يمشي في الأزقة بعض وقت ثم يعود إلى البيت وقد استعاد شيئًا من الراحة النفسية. كانت أمه تلومه على ما يقوم به لكنه لم يترك هذه العادة وظلت ترافقه حتى اليوم.
عادل يحب جزيرته ولاعجب في ذلك، فهو رغم زيارته لعدد كبير من مدن العالم، وبعض الموانئ الشهيرة ومشاهدته لمظاهر الحضارة فيها، والتي تفتقد جزيرته الصغيرة الوادعة إلى أقلِّها تطوراً، فإنَّه كان يحب أزقتها الخانقة حباً جماً، ولكنَّ حبه الكبير هذا كاد اليوم أن يتحول كرها عندما رأى جمهوراً غفيراً من القطط، وقد تجمَّعت حول أكوامِ القمامة الملقاة خارج البيوت دون أكياس، والذباب والبعوض يحوم حولها بشكل مقزِّز، ورائحة كريهة تنبعث منها جعلته يحسُّ بالغثيان والاشمئزاز، فأغلق أنفه بإصبعيه، والذباب يحيط به كوليمة شهيَّة له، وأسرع باجتياز الحارة التي اشتهرت بعدم نظافتها بخلاف بيوت سكانها، والتي تسبب حرجاً لأهالي الجزيرة أمام السُّيَّاح.
رفع أصبعيه عن أنفه بعد ابتعاده عن رائحة الأوساخ وتراجع الذباب عنه.. استنشق الهواء بملء رئتيه هرباً من الاختناق، وسرعان ما تجدد شعوره بحب الجزيرة فحدَّث نفسه:
- آه لو كنت رئيساً للبلدية.
- وماذا كنت ستفعل ياشاطر، إن كان الأهالي قد تعودوا رمي الأوساخ قرب بيوتهم؟
أجاب نفسَهُ: أفعل الكثير، الكثير.
- كلُّهم يقولون مثلك في البداية، ثم يصابون باليأس من الإصلاح، فينسوا ويطنّشوا ليبقوا في البلدية.
- ولكنَّني لن..
- حتى عمال النظافة يهربون..
- سأحـاو…
- لن تصل إلى ما تريد، فلا تتطاول كثيرا.
- صدقت ومن أنا كي أتطاول كثيرا أو قليلا؟!!
خرج من دائرة الأسئلة والأجوبة ليجد نفسه مواجهاً للبحر غربَ الجزيرة.
امتطى صهوة صخرة عالية قديمة التاريخ مجهولته وجلس فوقها مبهوراً بعظمة الأمواج الصاخبة التي راحت تضرب الشواطئ والصخور بثأر لا يعرفه.
حاول اكتشاف المجهول بنظرة إلى الصخور المجاورة، والبعيدة يستطلع منها ملابسات الثأر، ولكنَّه فشل في استدراجها للاعتراف.
جثا صامتاً.. حائراً تتقاذف الأمواج أفكاره ثمَّ تلقي بها فوق كتل الأوابد القاسية.. الصامدة فتكسرها بالعناد.
أحس بالبرد يأكل عظامه، فوقف يحرك رجليه كجندي أثناء التَّدريب ليطرد البرد من شرايينه قبل أن تتجمَّد فيها الدماء، أعجبته الحركة فكررها كثيرا وسرح بأفكاره بعيدا متمنيا لو أنه خدم في الجيش وجرَّب حياة العسكر بكل ما فيها من نشاط وقوة، لكن للأسف لم يتسنَ له ذلك لأنه وحيد، ومن كان وحيدا لأمه يُعفَ من خدمة العلم.
شعر بشيء من الحرمان.. توقف عن المراوحة وبعض دفء يسري في داخله، وعندما ترجل عن صخرته قدَّمت له الأمواج بغتة هدية غريبة جعلت جسده يرتعش لدقائق كادت خلالها أطراف لسانه تقرض تحت أسنانه المضطربة عندما فقد السيطرة على مشاعره وهو يرى كرم البحر يستقرُّ فوق الصخور خارج الماء.






  رد مع اقتباس
/
قديم 26-07-2011, 06:21 PM رقم المشاركة : 31
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)


قبل أسبوع اشترى عادل في طريق عودته إلى البيت ديكا سمينا ذا عرف أحمر جميل من (العنيدي بوصطيف) كان يعرضه للبيع في إحدى أزقة الجزيرة بعد أن طردته والدته مع ديكه المدلل الذي أفسد عليها حديقة البيت الصغيرة وما فيها من مزروعات، وأزهار وورود، وأصيص القرنفل الذي يذكرها بزوجها الراحل وكيف كان يحب أن يرى القرنفل المخملي الخمري يزين شعرها، فأقسمت ألا تسمح له بدخول الدار إن هو عاد ومعه هذا العفريت المؤذي.
كل تفاصيل الحدث الجميل تظل متقدة في الذاكرة مهما طالت قامة الوقت واتسعت مساحته ..ربما تهرب لحظة خجولة من حضن العمر، فتختبئ خلف عيون الذاكرة بإحساس طفلة بريئة المشاعر، تنتظر رفة جفن تعيدها إلى داخل الإطار، فتبدو أكثر وضوحا عندما تتبختر في طريق العودة.
رحبت أم عادل بالديك الجميل فأنزلت القن القديم عن سطح المطبخ وهيَّأت له موضعا في الزاوية الغربية من حوش البيت، فصار المنبه الطبيعي لها في أوقات السحر، يوقظها من النوم بصياحٍ أحبت سماعه، فكانت تتوضأ.. تصلي قيام الليل.. تسبح الله كثيرا.. تحمده.. تؤدي صلاة الفجر.. تقرأ جزأ من القرآن.. تحتسي قهوة الصباح ثم تجلس مع الديك.. تطعمه وتسقيه.. أكثر من مرة سمعتها سراب تحدثه.. بداية خافت أن تكون حماتها قد أصيبت بمس في عقلها، لكنها سرعان ماتراجعت عن خوفها عندما رأتها تحدثه أمامها.. تلاعبه كطفل صغير، وهو ينظر إليها بلا فهم، وذات مناوشة بينهما نقر أصبعها.. تألمت، بلعت على مضض تأوها كادت تطلقه.. ضحكت بتصنع تلافيا لشماتة سراب التي كانت تراقبها عن كثب بابتسامة خفيفة في محاولة لإخفاء ضيقها من الديك المزعج لها بالصياح، وعندما كانت تبدي ذلك لحماتها كانت تقول لها:
- إنه يسبح الله بلغته ياابنتي، فلا تتضايقي منه.
تضحك سراب فهي تعلم أن كل شيء في الكون يسبح الله عزَّ وجل بلغته، وهي لاتحتج على ذلك وإنما احتجاجها فقط على كثرة الصياح، ثم تعود فتسبح الله وتروض نفسها على سماع تسبيح الديك فتحس بالرضا..
بالأمس ذبحه عادل، وطلب منها أن تحضره لعشاء اليوم. أحست العجوز بالحزن على الديك فقد تعودت عليه، وبات يؤنسها ويشغل حيزا محترما من اهتمامها عندما تشعر بالفراغ.
فراغ نهش كبدها لسنوات طويلة بينما أحست سراب بارتياح كبير لذبحه، وعودة الهدوء إلى البيت.
تباين المشاعر بين امرأتين لم ينحت أثرا مزعجا في صدريهما وإن لم تستطع أم عادل الاحتفاظ بنسائم فرح عابرة مرَّت في أجوائها النفسية بمؤانسة الديك المطرود من بيت امرأة أخرى، هذا قدره مالبث أن لقي به حتفه في بيت شرَّعت له فيه سيدته الأبواب والنوافذ.






  رد مع اقتباس
/
قديم 26-07-2011, 06:54 PM رقم المشاركة : 32
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)23

عندما تبتسم الشمس صباحاً فوق خدود الورد تبدأ قطرات الندى تجفّ وشذاها فواح ينعش المارين بحدائق الوعدِ في يومٍ ربيعي طال انتظاره تزفُّه تغاريد الطيور.
هكذا كان صباح درة في هذا اليوم، أحست بقوة تنبت في جسدها، فنهضت للعمل بهمة تفوقت بها على بنات العشرين، ولمَ لا؟ فهي لم تستسلم لآلام المفاصل ووجع الظهر، بل ظلت تتحداهما بقوة ونجحت في المحافظة على لياقتها بينما فشلت الكثيرات ممن هن في مثل سنها لاستسلامهن للألم فهزمهن بخبث لعين.
درة تحدت ظروف حياتها الصعبة بكل شيء دون أن تتطاول على الزمن ولم تنسب لنفسها يوما مالا يحق لها لقناعتها التامة بأن من يرتدِي ثوباً فضفاضاً أو ضيِّقاً سيظهر عيوبه لأنه لا يليق به غير ثوبه الذي فُصِّلَ له بمقاسه، وقد ينزوي ذات وقت صاغراً في ركنٍ جانبي بعد أن جعل نفسه موضعَ سخرية للآخرين.
درة تفكر قبل أن تقرر فلم تندم على شيء قامت به طواعية حتى في هذا اليوم عندما اختلفت مع ابنها في نقاشٍ خاص يحدث بين أي أم وأولادها، فترك البيت وخرج بضيق لم ترده له لأن الأرزاق بيد الله وعلى الإنسان أن يعمل دون يأس من رحمة ربه، فما حُرم منه اليوم قد يأتيه غدا أو بعد غد، ولكن ابنها كان اليوم على غير عادته، تركته يفكر عله يصل لشيء يريحه بفكرة ما.
قبل أن تذهب إلى بيت ابنتها في زيارة مستعجلة تلبية لدعوة وجيهة لها في أمرٍ هام، نظفت الديك (ملطته) وحشته بالرز واللحم المفروم وبعض المكسرات، ثم أخاطته ( وكتفته) جيدا بالخيطان، وقلَته بالسمن، ثم وضعته في طنجرة فيها الماء والملح وورق الغار وبعض حبات الهيل، كانت سراب تشاهد حماتها وهي جالسة على الأرض فوق (طراحة) تعمل بجد ونشاط- افتقدتهما سراب في أشهر الحمل الأخيرة- إلى أن انتهت من عملية طهيه وبات جاهزا للعشاء، تركت الطنجرة مغطاة ورائحة الديك المحشي تملأ أجواء البيت وتفوح منه إلى البيوت الملاصقة لبيتهم، ثم لبست ملايتها وذهبت إلى بيت وجيهة، بينما دخلت سراب إلى غرفتها لتشاهد دِيارة المولود( ثيابه) التي أرسلتها لها أمها صباحا مع أختها الصغرى مروة بعد أن هيأت نفسها لاستقبال زوجها لتناول بعض الطعام من بواقي غداء الأمس لأن حماتها قد تأكل عند ابنتها.
فرحت سراب بجهاز الصغير فرحتين أولا لأنه من والدتها، فقد تعودت نسوة الجزيرة على تجهيز المولود الأول لبناتهن، وإن كانت حالة الأب جيدة تجهز جميع أحفادها، وفرحت ثانيا وهي ترسم صورة وليدها بهذه الثياب، ولم تبخل برؤيته أيضا بما أحضره له والده من ملابس، فرأته وليدا ورأته يمشي وجمح بها الخيال فرأته عريسا.
تمنت أن تطول بها لحظات الحلم الجميلة لكنها سرعان ما تنتهي برفة جفن.. تهرب إلى المجهول.. تحاول اللحاق بها.. تفشل، ويظل الفرقُ شاسعًا بين لحظةِ دخول الحلم، ولحظة الخروج منه.
سراب تجيد امتطاء صهوة الحلم، وتعرف كيف تقوده دون أن تهوي فيه، فمن يمتلك خيالا جامحاً صوب المنى تنبت له أجنحة قوية تتحدى الريح والمطر ومطبات القلق، ولكن ليس كل خيال يصلح للتحليق، ولحسن حظها ففد حظيت بخيال كان متمرسا على اجتياح الصعاب بقلب قوي، ونية صافية تستمد نقاءها من إيمانها بالله العلي العظيم.

بقلم
زاهية بنت البحر
يتبع






  رد مع اقتباس
/
قديم 29-07-2011, 05:09 AM رقم المشاركة : 33
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)


قبل مغادرتها الحارة كانت الطريق خالية من المارة إلا منهما، رفعت منديلها الأسود عن وجهها، نظرت إليه بعينين واجفتين، ودقات قلبها تخفق بشدة، اقتربت منه، مدت إليه يدها.. أسرع إليها وأمسكها بكلتا يديه.. مرت لحظات صمت بينهما.. تعلقت عيناه في عينيها، حاولت أن تبتسم.. ارتعشت شفتاها بعجاف السنين.. فشلت.. حاولت ثانية فخذلت بها أيضا.. لماذا تهرب منها في وقت حاجتها لها؟ ولماذا لم يقبض هو على ابتسامة يرطب بها قلبها الحزين عليه؟!!
أحياناً تموتُ البسمة ُفوقَ شفتي ِطفلٍ صغيرٍ.. تنوبُ عنها دمعة ٌفي عينيهِ كانت تلوبُ بوجعِ الحرمانِ، وفقدِ الأملِ فيما يريد، فلاهي تهمي فتطفئ حسرةً، ولا هي تختفي فتريح من وقدٍ مؤلمٍ لا يحسِّهُ إلا البؤساء.
خانته ابتسامته في وجهها، لكن دموعه كانت سخية فوق ظهر يدها وهو يقبلها.
- تعالَ يا صغيري.
- مشى معها وهي تمسك بيده، لم تشعر بالغثيان من ثيابه المتسخة، ولم تبعد يدها عن يده المعفرة بالتراب.
سألته: مضى زمن لم أرك فيه، أين كنت غائبا.
- لم تسمح لي بالخروج من البيت.
- وكيف خرجت اليوم؟
- ذهبتْ لزيارة أمها.
- من ساعدك بالهروب؟
- عثمان السلاوي عندما ناديته.. انتظرها حتى خرجت من الحارة فنزل إلي في حوش البيت من على سطح مطبخهم، فك قيدي وهربنا معا.
- سيكون عقابك شديدا عندما تعود إلى البيت..
- لن أعود إليها.
- لا مأوى لك غير منزل أبيك.
- فيه حية سامة، سأنام في الجامع.
- تقفل أبواب الجامع بعد صلاة العشاء.
- أنام فوق السطح.
- مازال الطقس باردا، وجسمك الضعيف لن يحتمل البرودة.
- لن يكون أشد برودة من حوش البيت.
- سأعيدك إليها في طريق عودتي.
- لا تفعلي ذلك، فهي ظالمة.
- سأشفع لك عندها.
- وعندما تذهبين ستعيدني مقيدا إلى الحوش والصراصير، والفئران.
- لا لن يحدث هذا بعد اليوم، اطمئن ياصغيري.
أدخلته وجيهة الحمام وأعطته ثيابا نظيفة من ملابس أولادها. وعندما خرج منه نظيفا أسرع إليه الأطفال وراحوا يلعبون معه بينما جلست وجيها تحدث أمها بصوت منخفض في ركن جانبي من الغرفة.
تحدثتا طويلا واتسع وقت الحديث لأكثر من فنجان قهوة وكأس شاي، كانت تحضرها لهما راوية ابنة وجيهة البكر.
قالت أم عادل: لا تخبريه شيئا قبل التأكد من صحة الخبر.
تأكدت منه من عدة مصادر.
- تمهلي قليلا.
- لا أستطيع.
- على أية حال إن كان مانُقل إليك صحيحا فهو لم يتم بعد، وبشيء من الحكمة يمكن غض الطرف عنه.
- جل ما أخشاه أن تقع الفأس بالرأس بين ليلة وضحاها.
- لاتخبريه شيئًا، سأتدبر الأمر بمعرفتي.
- لن تستطيعي منعه صدقيني، فهو إن وضع فكرة في رأسه واقتنع بها فلن يتركها مهما حصل.
- إلا إذا اقتنع بما يسمع من كلام محدثه.
- ولكنه لن يفعل، وأنا بصراحة لن أسكت بعد اليوم وسأضع حدا لكل شيء.
- إياك أن تفعلي ذلك، وإلا ندمتِ.
- لماذا سأندم وأنا على حق؟
- علَّمتني الحياة ياابنتي أن أجد للآخرين عذرًا كي لاأجرح شعورهم بكلمة أو عملٍ لايليق بي، وعلَّمتني أيضًا المرونةَ في وقت الشِّدة والصلابةَ في وقت الخطر، وعلَّمتني أن أسمع نصائح من هم أكثر مني علمًا وتجربة في الحياة .
- نِعمَ ماعلمتك الحياة ياأمي، ولكن هل أتركه يجرح شعوري بكل غلظة وقسوة ويخرب بيتي بما علمتك الحياة؟ّ!! أنا زوجة وأم ولي كرامة.
- وهو رجل وله أيضا كرامة، لم يكن تعدد الزوجات يوما من الأيام انتقاصا لكرامة الزوجة، فلا تحرِّمي ما أحلَّ الله.
- إذا وجدت الأسباب التي تبيح التعدد أما إذا لم….
- التعدد مباح شئت هذا أم أبيتِ، فاعقلي ولا تنغصي عليك حياتك.
- لن أسكت والله ولو وصل بنا الأمر للطلاق.
- دعيني أتدبر الأمر، فإما أن أقنعه أو يقنعني. طعامك اليوم زائد الملوحة.
بقلم
زاهية بنت البحر
يتبع






  رد مع اقتباس
/
قديم 29-07-2011, 05:12 AM رقم المشاركة : 34
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)25

25
بصمت وانتباه كانت تقرأ ما يختلج في صدره من خوف رهيب تشي به ارتعاشة يده الجاثمة في قبضة يمناها وهي تعود به إلى بيت أبيه.
ترى هل سمعت مواساة الأزقة الضيقة له بحيطانها العتيقة، وشبابيكها المغلقة هروبا من صفير الريح الممتقعة وجها بما تحمله من بقايا القمامة التي نثرتها في أماكن شتى من مساحة الجزيرة الصغيرة، فَهَمَتْ من عينيها بعضُ دموع؟
ربما أحست بها، استشفت ذلك من خلال تعاطف من هم خلف الحيطان مع الصغير منذ رحيل والدته وهي تضعه، فجاء الى الدنيا لطيما وعاش يتيما..
جميلٌ أن تجدَ قلوباً نقية تحبك بصدق وإخلاص.. تقف بجانبك وقت الضيق.. تبتسم لك عندما تكون بحاجة لمن يدخل السعادة إلى نفسك.. تحملك لراحة الفكر والجسد، وتضيء لك درب الحياة بقنديل الأمل.
كان مولده مؤلما للجميع، وازداد تعاطف الناس معه بعد رحيل والده قبل سنتين غرقا في البحر، فبقي في عهدة زوجته رضوى المالكة الشرعية للبيت الذي كتبه لها الراحل عوضا عن المهر، لكن رضوى لم تعامل اليتيم اللطيم رزق كما أمر الله وكما أوصاها والده، فأساءت إليه ولم ترسله إلى المدرسة، وحبسته في حوش الدار في غرفة صغيرة باردة في الشتاء، حارة في الصيف بحجة ضيق البيت خاصة بعد زواجها في العام الماضي من سعفان الفذي، الذي قيل بأن شرطه الرئيس للزواج منها كان عدم السماح للصغير بالعيش معه تحت سقف بيت واحد كي لايذكره بوالده، فآثرت له العيش في الحوش دون الطرد خشية أن تلوكها ألسنة الناس على فعلتها النكراء تلك، بعد أن رفض خال الطفل وخالته حضانته بحجة أن بيت والده هو الأَولى به من بيوت غيره، فظل في الحوش ينام ويأكل البائت من الطعام فليس له جد ولا عم يرعى طفولته في زمن تسيدت فيه على عرش حياته امرأة ظالمة لاتخشى الله في عمل ولا في قول.
قبلت رضوى بسعفان وقبل بها فهي تريد طفلا وهو يريد مالا وجمالا، هي امرأة جميلة وشابة تستحق التضحية بالزواج منها حتى لو عارضته زوجته، وتصنعت الضيق، وذهبت إلى بيت أهلها، فلاشيء يهم مادام سيريح نفسه من صراخ الأطفال ونق المرأة متفرغا لعبِّ السعادة في شهر العسل مع رضوى، وفي النهاية ستعود وصيفة مع أولادها إلى البيت لعدم قدرة أهلها على القيام بواجباتهم تجاههم تماما.
(رزق) الطفل اليتيم اللطيم جميل الصورة، ذكي، نبيه وصبور يحمل في أحضان أعوامه التسعة قلب رجل كبير جرعته الحياة باكرا كؤوس البؤس والحرمان، وكثيرا ما كان يلجأ إلى بيت أم عادل قبل وفاة والده يشكو لها ظلم زوجة أبيه، وبخلها الشديد، وعدم اهتمامها بنظافة جسمه وملابسه، وعدم السماح له بالخروج من البيت ولقاء الأطفال إلا نادرا، وإرهاقه بأعمال البيت رغم اعتراض والده على ظلمها وإهمالها لطفله اللطيم، فكانت تهدده بطردهما من المنزل إن هو ألح عليها بالكلام، فيصمت مرغما فهي سيدة البيت ومالكته، وليس هناك مكان آخر يأوي إليه مع طفله المسكين.
ظل رزق بعد وفاة والده يلجأ إلى أم عادل، فقد كانت له الصدر الحنون الذي وجد فيه شيئا من الدفء الذي افتقده منذ مولده. لم ترزق رضوى بأطفال من والد رزق، فظنت بأنه أصيب بالعقم بعد الحادث الذي وقع له في إحدى السفن التجارية، وكثيرا ما كانت تعيره بعقمه دون أن تزور طبيبا لمعرفة من العقيم منهما.
بعد رحيله بعام أرسلت لسعفان من يقنعه بالزواج منها. كانت فرحتها عارمة عندما علمت بموافقته، فرضيت بكل ما أملاه عليها من شروط، وقبل ليلة الدخلة قبض منها مبلغا كبيرا من المال احتسبته ثمنا لطفل قد ترزق به من سعفان الفذي، وحتى اليوم لم يتحقق حلمها، ولم تعامل رزق بما يرضي الله.







  رد مع اقتباس
/
قديم 29-07-2011, 05:14 AM رقم المشاركة : 35
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)26

في طريقها إلى بيت رضوى حاولت درة التغلب على مشاعر القلق تجاه ابنتها.. ما أخبرتها به وجيهة ليس بالأمر البسيط.. حاولت تقليبه من مختلف الجوانب الاجتماعية والمادية والعائلية، فوجدته صعبا.. تأكدت بأن ثمة آثار سلبية ستلقي بثقلها على كاهل جميع أفراد الأسرة.
أحست بوخز خفيف في صدرها شمالا.. تابعت السير ويدها ممسكة بيد رزق، وحبات عرق تنفر من جبينها رغم برودة الجو حولها.
وصلت بيت والد رزق.. نقرت على الباب عدة نقرات.. سمعت رضوى .. سألت: من الطارق؟
ردت درة: أم عادل..
لحظات قليلة تمر كلمح البصر.. يفتح الباب.. رضوى تقف أمام أم عادل بدهشة كبيرة كأنها لاتصدق ماترى عيناها.. تبتسم لدرة تدعوها لدخول البيت.. ترفض درة قبل أن تعدها بتحقيق ما جاءت من أجله.. تتمنع رضوى بأعذارٍ شتى ترفضها أم عادل.. تطلب منها ثانية دخول البيت.. تعيد شروطها.. تحس رضوى بالخجل من العجوز التي تحترمها.. تقبل على مضض.. تدخل أم عادل البيت.. تلقي نظرة على المكان الذي يبات فيه رزق.. تهمي من عينيها الدموع.. تحس رضوى بالخجل.. تدعوها إلى غرفة الجلوس.. تجلس على ديوان في صدر الغرفة وهي تمسح دموعها بمنديل أخرجته من جيبها.. يجلس رزق على البساط المفروش فوق الأرض وهو يرتعش ورضوى ترمقه بغضب.
- كفى يارضوى، أنت تغضبين الله بقسوتك على رزق.
- هذا قدره يا خالة، ليس الأمر بيدي.
- بل بيدك، فظلم الناس للناس لم يأمر به رب العالمين بل نهانا عنه، فكيف إن كان ظلما لليتامى خاصة إن كانوا صغارا كرزق؟
- إنه عبء علي لا أستطيع تحمله.
- لايحق لك أن تقولي هذا، فالبيت لوالده وكما أعرف نصفه لأم رزق سجلته باسم زوجها قبل موتها بأشهر لأنهما كانا ينويان بيعه وشراء دار أكثر اتساعا منه، ولكنها ماتت قبل بيع البيت.
- لايهمني لمن كان سابقا، المهم أنه الآن بيتي أنا، وليس لرزق فيه شيء.
- تذكري يا رضوى كرم والده معك عندما سجل البيت باسمك.
- لم أنسَ ذلك، رحمه الله..
- بل نسيت، وسجنت ابنه في مكان يأنف منه الحيوان، أهذا هو رد الجميل لمن أكرمك؟
- لم أطرده عندما رفضت خالته وخاله حضانته.
- أكملي إذا عمل الخير واكفلي اليتيم كما يريد الله.
- لاأستطيع.. زوجي يرفض أن ينام في البيت ورضي به في الحوش على مضض.
- ليس البيت بيته كي يرضى أو لا، أيقبل لأولاده العيش كما يقبله لرزق؟
- لكنه زوجي وإن خالفته قد يحدث بيننا طلاق، فهو يصر على ألا يدخل الولد البيت.
- لن يصل الأمر بينكما للطلاق .
- بل قد يصل، سعفان صعب جدا ومتشدد بهذا الأمر.
- لن يحصل هذا وإن حصل لاقدَّر الله فألف من يتمناك ويكرمك ويقبل برزق.
- ولكن…
- اسمعي، عندي حل لهذه المشكلة.
- هاتي ما عندك يا خالة، فقد ارتبكت أفكاري.
- تبنين له غرفة صغيرة في الحوش تليق بسكن إنسان، وتفرشينها له بما يريحه فترتاحي ويرتاح، مارأيك؟
- أبني له غرفة؟!! من أين لي المال ياخالة؟ وإن توفر المال هل سيقبل سعفان بهذا الحل؟
- لا عليك، سأجمع له المال من أهل الخير في الجزيرة فهم كثر، أما سعفان فسأجد من يكلمه إن رضيت باقتراحي، وإن رفض سيُجبر على ذلك دون أن تتاثر حياتكما الزوجية بما يعكر الصفو بينكما.
- كلام معقول ، لكن..
- مادمت اقتنعت بالأمر فدعي الباقي لي.
- إن تم هذا الموضوع سارسل رزق إلى المدرسة ولن أقيده مرة أخرى.
- بارك الله فيك يا رضوى، تأكدي يا ابنتي أن الله لا يضيع لإنسان أجر عمل صالح، وقد يرزقك بطفل عما قريب.
فرحت رضوى بما بشرتها به أم عادل وهي تشير لرزق أن يحضر لهما القهوة. من قلب اليأس قد يولد الأمل، ومن دموع الحزن قد ينبت الفرح، ومن المستحيل قد يشرق الممكن بلحظة رضا من الرحمن الرحيم، فيبدلنا من عسرٍ يسرا. تشققت شفاه الدوح شوقا لرشفة قطرٍ من ندى الورد في صباح مشرق بالرضا، وفراشات الروض ترسم بالضوء فوق الأثير وجوه الأمنيات باسمة لأطفال الحياة.






  رد مع اقتباس
/
قديم 29-07-2011, 05:16 AM رقم المشاركة : 36
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)27

خرجت أم عادل من بيت رضوى بنفسٍ فواحة بالأمل، راجية الله عز وجل أن يلهم المرأة الصدق في وعدها.
تأخر الوقت وهي مازالت خارج البيت.. شدت في السير.. تحدت تعب تقدم سنها.. في مدخل الزقاق على كتف حارتهم التقت بفكيرة عجاير، قبَّلت المرأة يد درة بحرارة، دعتها لمرافقتها إلى دارها.. حاولت التملص منها.. لم تفلح، وجدت نفسها منساقة معها إلى بيتها..
- خير يا فكيرة ما الذي يتعبك ؟
- زوج ابنتى الصغرى واعدة..
- عوني السَّهام؟
- بأم عينه قلع الله عينيه، وعينَي والدته، وعينَي أخته مهيرة.
- لاتدعي عليهم.
- بل سأدعو ليلا ونهارًا لعل الله ينتقم لابنتي منهم.
- على علمي كانت ابنتك وزوجها مثل السمن على العسل.
- كانا، رحم الله أيام زمان..
- ما الذي سرق المودة والوفاق منهما؟
- أمه وأخته لا كثَّر الله من أمثالهما، ونكل بهما في الدنيا والآخرة.
عندما تطلع الشمس يرافقها الضياء، وعندما نرى الورود يجذبنا عطرها الشذي، وعندما نرى ابتسامة على ثغرِ محدثنا نشعر بالطمأنينة.
هي النفس الطيبة البعيدة عن الغش والنفاق تصدق ماتراه فلا تظن أن الضياء والشذا والابتسامة الصافية هي مجرد صور خادعة للعين سرعان ماتصبح وحوش بأنياب وأظافر.
- ليس لعوني حرية حكَّ رأسه مالم تسمح له أمه وأخته بذلك، وإلا فلا.
- وما العيب إن هو استشار أمه أو أخته؟ قد يستفيد من رأيهما.
- للزوجة أيضا رأي في أمور زوجها خاصة فيما يتعلق بحياتها وحياة ولديها، أو ليست شريكة حياته؟
- الحق معك مادام الأمر متعلقا ببيت الزوجية وينصب في صالح الأسرة، وعلى الأطراف الأخرى عدم التدخل فيما يهدم البيت على ساكنيه.
الغيرة مرض عضال نهش قلبَي امرأتين كاذبتين، منافقتين بهما مس من جنون يظهر فجأة بأقوال وأفعال غريبة، تختلق إحداهما شيئًا.. تصدقه.. تحكيه للثانية.. تصدقه.. ومن لا يصدقه عنهما ويعمل به يكن حسابه عسيرا تجرعته واعدة سما زعافا.
- كان على ابنتك أن تغض الطرف عما تحيكانه لها فتصبر لترسو بهم السفينة في مرفأ أمان.
- لم تقصر، ولكن العجوز الظالمة كانت تحدث ابنها وابنتها بغير ذلك، وتدَّعي أن ابنتي تظلمها، وتعذبها ويشهد الله أنها بريئة مما تقول، ذات يوم سمعتْهما تتحدثان عنها كلاما ضايقها كله كذب وافتراء.. صدَّق زوجها ما قالتاه له.. ضربها وطردها من البيت هي وولديها، ولا يريد أن يعيدها إليه لأن أمه لا تريدها وتسعى للتفريق بينهما.
- وأين أولاد الحلال للسعي بالصلح ورأب الجراح؟
لن يفلح أحد في ردعه عن غيه، فهو إنسان ظالم لا يخاف الله، ولا يفكر بمستقبل ولديه، أعطى أذنيه للباطل وصم وعمي عن الحق، حذرته واعدة من عقاب الله إن هو استمر بضلاله، فكان جزاءها الطرد والضرب..
- مهما يكن الأمر أفلا نترك للعقل دورا لحل المشاكل إن هي وقعت بين الزوجين؟ أتسمحين لي بالتدخل للصلح بينهما؟
- صعب جدا يا خالة، لن تستفيدي شيئا، وقد يلحق بك من مجرد زيارتهم ما يسيء إليك كما حصل مع عمته وهي تحاول ردعه عن ظلمه لابنتي، فبكت بندم عندما قالت لها واعدة:
- لقد ظلمتِني ياعمة، فلولاك ماقبلنا بعوني زوجا.
فأقسمت العمة بالله العظيم أنها لم تكن تعلم أنه بهذه الأخلاق السيئة، وأنها لن تكون سببا في زيجة ثانية بعد اليوم.






  رد مع اقتباس
/
قديم 29-07-2011, 05:17 AM رقم المشاركة : 37
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)28

فتحت سراب لحماتها الباب.. رحبت بها.. رأتها متعبة والإرهاق بادٍ على وجهها بوضوح للعيان.. دخلت العجوز غرفتها بهدوء.. غيرت ملابسها وخرجت إلى المطبخ متثاقلة في مشيها لتحضير كأس من مغلي الكمون، فقد تعودت أن تخدم نفسها بنفسها دون أن تطلب من كنتها أو ابنتها مساعدتها، فهي امرأة تكره الكسل الذي تعتبره من مسببات العجز المبكر للشيوخ، ولا تحب أن تشغل غيرها بأمورها الشخصية مادامت قادرة على القيام بها إلا في حال لا تستطيع فيها تأدية ذلك.. لحقت بها سراب.. طلبت منها الخلود إلى الراحة وهي ستعد لها المغلي.. لم تمانع.. جلست على الديوان في غرفة المعيشة وعيناها مسبلتان، ويمناها فوق صدرها شمالا.. لم تستطع سراب إخفاء قلقها على حماتها التي خرجت بنشاط ملفت، وعادت بتعبٍ ملفت أيضا.
تناولت العجوز مغلي الكمون بعد أن وضعت فيه سراب بعض عصير الليمون، وأحضرت لها طشت فيه ماء ساخن لتضع فيه قدميها فربما يساعد ذلك على الإسراع بالتحسن.
قصَّت أم عادل على سراب كل ما مرَّ بها من أحداث منذ خروجها من البيت حتى عودتها إليه، ولم تنسَ أن تبدي قلقها على ابنتها وجيهة وما هي فيه من همٍّ وغمٍّ، وعلى واعدة المسكينة أيضا وما ينتظرها وولديها من تعب في الحياة من جراء تآمر العقربين جمحرة وأمها الظالمة، وانبطاح عوني المخزي لتسلط أمه وأخته فقد نفض يديه من أخلاق الرجولة، بينما أخبرتها بأنها تحس بارتياح بما يخص رزق بعد أن وعدتها رضوى خيرا.
أحست بشيء من التحسن بعد تناول المغلي، فحمدت الله وراحت تعدد لسراب أسماء أصحاب الخير ممن تنوي أن تطلب منهم مساعدة رزق.
نظرت درة في وجه سراب وكأنها تذكرت شيئًا هاما.. نهضت من مجلسها وقالت لها:
- تعالي معي إلى غرفتي..

لحقت بها دون أن تسألها عن السبب. فتحت العجوز باب الغرفة.. دخلتها وسراب.. اتجهت إلى خزانتها التي رافقتها طوال حياتها واحتفظت بالكثير من أسرارها الخاصة والعامة، فقد شهدت معها أجمل أيام عمرها منذ أن تزوجت وأنجبت وربت ولديها فعاشت معهما أرملة ويتيمين، وكم اختزنت في سر مرآتها من أحزان ودموع نزفتها في ليالي وحدتها بعد أن يغفو القمر وتأوي النجوم إلى أحضان الغياب. رأتها سراب من خلال المرآة كما لم ترها من قبل، وكأن متاعب السنين كلها قد تجسدت في وجهها ألما وحزنا، حشرجت في حلقها غصة، كتمتها بصعوبة، فاندفعت بسعال مفاجئ ..
فتحت درة خزانتها.. أخرجت منها مفتحا صغيرا.. أغلقت باب الخزانة بشيء من العنف دون قصد منها، فاهتزت المرآة بشدة ظنت سراب للوهلة الأولى بأنها ستسقط فوق الأرض لا محالة فسَّرتها ضمنيا بشيء من الاحتجاج على وضع حماتها من تعب، وتارة أخرى حزنا عليها..
طلبت درة من كنتها الجلوس فوق السرير كي لا تشعر بالإرهاق وهي في الأشهر الأخيرة من الحمل بينما راحت هي ترفع الفرش والمخدات والبسط عن الصندوق الكبير الذي يربض في الركن الشمالي من الغرفة.
حاولت سراب مساعدتها أكثر من مرة لكنها رفضت بشدة. فتحت الصندوق ففاحت منه رائحة الخَزْنِ القديمة ممزوجة برائحة صابون الغار والنفتلين المضاد للحشرات.
أحست سراب بشيء من الضيق سببته لها تلك الرائحة المزعجة، لكنها لم تدع حماتها تشعر بذلك، ودعت ربها أن تنهي بأسرع وقت ممكن تلك المهمة التي لا تدري عنها شيئا، ولا تعلم لماذا أتت بها إلى غرفتها في هذا اليوم بالذات وفتحت الصندوق الذي تجهل تماما ما تخبِّئ فيه، فلم يسبق لها أن فتحته أمامها من قبل..
كانت سراب تراقب حماتها عن كثب يخالجها إحساس بالخوف عليها، فقد علت وجهها صفرة واضحة مصحوبة بتسرع أنفاسها وهي تفرغ الصندوق مما فيه.
مرت لحظات ظنت فيها سراب أن حماتها قد تقع مغشيا عليها، وقد يحدث هذا فجأة وهي وحيدة في البيت، فدعت ربها أن يحضر عادل في أقرب وقت لينقذها مما هي فيه من قلق، بينما كانت درة تبتسم لأمر ما وهي تجدُّ بإفراغ الصندوق العجوز مثلها، ومثل مرآتها وسريرها النحاسي الذي لم تستبدله بآخر خشبي رغم محاولة عادل ذلك مرارا وتكرارا.






  رد مع اقتباس
/
قديم 29-07-2011, 05:18 AM رقم المشاركة : 38
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)29

عندما تقع النفس صيدا لخوف ما، أو تجد ذاتها في لحظة حذر، أو انتظار أمرٍ هام، نجدها تحسب الدقيقة ساعة، والساعة يوما واليوم ربما سنة أو عمرا، تحتلها هواجس ومخاوف قد يكون أغلبها أوهاما ليس لها شيء من الصحة، بعكسها تماما فسرعان ما تمر لحظات السعادة والسرور كلمح البصر، نبكي عليها تحسرا وندما بعد أن تلفظنا خارج زمانها، نتمنى لو أننا عشنا فيها أكثر.. نتمنى عودتها بما كانت عليه، أو أجمل، أو حتى لو أقل بكثير مما عرفناها، ولكن هيهات هيهات.
أم عادل رغم ما كانت تشكو من تعب وإرهاق، فقد نهضت إلى صندوقها القديم، تنبش بأنامل الشوق فيه صدرا دفن في أعماقه سرا لم تشأ أن تطلع عليه أحدا قبل اليوم حتى ابنتها الوحيدة وجيهة، ترى ما الذي جعلها تفعل هذا، ولماذا اليوم وهي متعبة، ولسراب دون غيرها ؟
هناك في أعماقِ النفسِ البشريةِ مناطقُ مغلقةٌ لا تسمحُ لأحدٍ باختراقِها كذاك الصندوق المغلق رغما عنه.. هي سرُ الذاتِ مع الذاتِ.. تبخل ُبها على عيونِ الفضوليينَ وآذانِهم.. حسدِهم.. سخريتِهم وشفقتِهم أحيانًا.. تحتفظُ بها بدمعةٍ تارةً و بفرحةٍ تارةً أخرى.. هي ملكٌ خاصٌ محالٌ استعمارُهُ لا يطلعُ عليهِ سوى الله عالم الأسرارِ، وبعد موت صاحبه قد يفشى السر إن كان ماديا أو يموت مع صاحبه إن كان معنويا.
مازال السر دفين الصندوق ويداها تحفران باتجاهه، رأت سراب أشياء كثيرة تنهض من سباتها الطويل بألوان شتى، أبيض، أحمر، أخضر، أسود.. لم تولِ أم عادل شيئًا منها أدنى اهتمام بل كانت تضعها على الأرض بالقرب من الصندوق الناطق بما سكت عنه طويلا.
معظم ما أخرجته كان قديما جدا لم يعد يناسب الزمن الحاضر، لكنه رغم ذلك يظل غاليا عند صاحبته التي كنزته دهرا لأهميته عندها مهما كان صغيرا بالنسبة لغيرها، فهو عندها يساوي الدنيا وما فيها.
لم تعد أم عادل جسدا يتحرك بل أحست بها سراب وكأنها روحٌ تمشي على الأرض بهمة ونشاط، ما الذي دبَّ فيها فانتفضت من وعكتها قوية معافاة؟!!
تريد جوابا يذهب حيرتها، ابتسامة العجوز تزداد اتساعا وهمتها نشاطا، وسراب دهشة وحيرة وتساؤلا، وجبين درة يرشح عرقا حبات لؤلؤ تتدحرج فوق وجنتيها المجعدتين.. ترطب جفافهما المزمن بقطرات ندى الشوق ولكن الشوق لماذا؟
توقفت قليلا.. نظرت إلى سراب وبيدها شروال رجالي أسود، ضمته إلى صدرها بحنان، قبلته، التفتت إلى سراب بابتسامة عذبة وهي تقول: هذا شروال عمك أبو عادل، لم أره منذ سنين كثيرة… كان يلبسه عندما يدعى إلى فرح أو يكون في اجتماع أكابر البلد… تلبدت عيناها بالدموع الهاطلة فامتزجت بحبات العرق المالحة وهي تلوك حزنها بالحرمان.
اكتفت سراب بالدعاء لعمها بالرحمة وسكنى الجنان، وطلبت من حماتها أن ترتاح قليلا رأفة بنفسها بعد كثير جهد قامت به اليوم.
رفضت العجوز وتابعت عملها بإفراغ الصندوق من محتوياته التي لم تجد فيها سراب ما يثلج صدرها، فشعرت بالضيق وتمنت مغادرة الغرفة هروبا من رائحة الصندوق المزعجة التي راحت تزداد فوحا كلما أخرجت منه كنزا جديدا.
قبل قليل تمنت أن يحضر عادل ليكون معها إن وقعت حماتها فوق الأرض، والآن تستعجل عودته إلى البيت لينقذها مما هي فيه قبل أن تسقط مغشيا عليها من تأثير رائحة الصندوق وما فيه من محتويات أكل الزمن عليها وشرب.






  رد مع اقتباس
/
قديم 29-07-2011, 05:22 AM رقم المشاركة : 39
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)30

ظلت سراب تقاوم رغبتها بالخروج من الغرفة- وحماتها منهمكة بما لايهمها أمره- وتدعو الله أن يرجع عادل الذي وقف مذهولا، مرتعشا أمام ما قدم له البحر دون سابق إنذار.
"أنا البحرُ فى أحشائهِ الُدرُّ كامنٌ.. فهل سَاءَلوا الغواصَ عن صدفاتي"
أما صدفاتك التي قذفتها اليوم لعادل دون غوص ولا سباحة وهو ساهٍ عن كنوزك العجيبة الغريبة، الغالية، المدهشة فقد كانت بالنسبة له قاصمة ظهر، لماذا تقسو عليه؟
دارت به الدنيا، كاد للحظة تسرَّع فيها قلبه أن يتوقف للأبد... خطف لونه.. أغمض عينيه بعد اتساع جعلهما جاحظتين، داراهما عن تلك التي مالت في السماء للغروب، فاكتست ثوبا برتقاليًا أضفى أثره فوق وجهه كاشفا لما حدث داخله من انهيار مخزٍ لمثله من الرجال.
بحارا كان أو صيادا فقوة زنديه يجب أن تطفو على جميع مواهبه، يشد بها حبلا، مرساة أو شباكا تمتلئ بثروة سمكية يقدمها له البحر ثمنا لكفاحه ونزِّ عرق العافية. ما بال زنديه الآن تورعتا عن القوة مثقلتين بهول المفاجأة؟
حمد الله في لحظة عبرت أفق تفكيره.. لم يره أحد في الجرم المشهود وهو ينحر تماسك نفسه على مذبح الخوف، يبحث فيها عن قشة في بحر أفكاره الهادرة تنقذه مما هو فيه من قلق سقط عليه بتلك المفاجأة الرهيبة بخلوةٍ تقصدها طلبا لشيء من الراحة، فوجد نفسه في جبٍّ عميق تهدر في جوفه أصوات ضجيج لا تشبه سواها مما عرفه من أصواتٍ وضجيج ولم يجد القشة.
أحس اختناقا.. حاول تسلق جدران الجبِّ المظلم.. فشلت المحاولة، أعاد الكرة.. ضاقت أنفاسه.. تذكر أمه عندما رفعته ذات يوم من البئر وهو صغير وقد خرج بالقطة الميتة التي أفسدت ماءه، كان متعبا آنذاك.. منظر قطته الغريقة في الماء ألهب صدره بالحزن لفراقها فقد تعهدها بالحماية منذ ولادتها، وبنى لها بيتا صغيرا في حوش المنزل، كانت تحبه ، تلحق به أينما ذهب، يناديها تأتي إليه ولو كانت في الحارة، جمعت بينهما صداقة حميمة دامت أشهرا، صعب عليه يومها تحمل منظرها فاغرة الفم ، جاحظة العينين، افتقدها ليومين، بحث عنها في كل مكان ، لم يجدها فدلته عليها رائحة التفسخ الخارجة من الجب، لم يعلم كيف سقطت فيه، وعندما وصل بها إلى فتحة البئر زغردت درة فرحا بنجاحه بإخراج الميتة من الماء.. سمعها تزغرد وحيطان البئر تردد الزغرودة بينما كان قلبه يبكي قطته المدللة..
- هذا فستان فرحي يا سراب، مازلت أحتفظ به.. قماشه أبيض بلون الياسمين، كلفنا مالا كثيرا، اشتراه لي عمك أبو عادل من بيروت مع باقي الشوفة(ثياب العروس) كان فستانا جميلا لم أرَ مثله أبدا.. كنت أود أن ترتديه وجيهة ليلة عرسها لكنها رفضت رغم أنه يناسبها تماما..

صمت سراب جعلها تنهي الحديث عن فستان عرسها الأبيض المطرز بذكريات فرحها، وتتابع البحث في الصندوق بينما أنهك التثاؤب سحاب وأذبل النعاس عينيها، هي متعبة الآن ولا تحب مط الوقت في أمرٍ يزيدها تعبا ولا يعلم مداه إلا الله، لكنها من أجل سعادة أم عادل الآنية التي أنستها وعكتها الصحية كانت
تكابر بصبرٍ مرير.

بقلم
زاهية بنت البحر
يتبع

http://zahya12.wordpress.com/






  رد مع اقتباس
/
قديم 29-07-2011, 05:26 PM رقم المشاركة : 40
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)31


أم عادل العجوز الرزينة، السيدة الحكيمة.. التي تزن كلامها بميزان الذهب، رأتها سراب الآن خارج الإطار الذي عرفتها به سابقا، رأتها بروح شابة رغم تغضن وجهها الذي غزاه الزمن، فأحاله إلى ما يشبه صحراء قاحلة ملأتها الشقوق.
تأكدت اليوم أن السعادة الداخلية للإنسان تضفي عليه جمالا غريبا مضاءً بشباب لا يمتُّ بصلة من قريب أو بعيد لمقاييس الشباب الجسدية ، ولا يحبس نفسه بقيود الوقار والحكمة التي لاتلزمه في مثل هذه اللحظات الشفيفة، فينبت من ذات النفس حرا لا تحده حدود، وتعجز كل الأطر عن ضمه في صفة معينة لأنه خارج الزمن الذي هو فيه.
سألت نفسها عن سر هذا التبدل اللحظي في كيان الإنسان، وكيف يحدث دون ترتيب مسبق، فلم تسعفها ثقافتها المحدودة بالوصول إلى جواب، لكن عندما نظرت إلى مرآة حماتها العتيقة رأت نفسها أيضا في وجه مغاير لما كان عليه عندما صافحته لحظة دخول الغرفة. وجه متعب، شاحب، تعلو نضارة شبابه ملامح كآبة لم تشأ أن تظهرها لحماتها، ولكنها تحدت إباءها وتربعت فوق ربيع عمرها الغض، وأم عادل مشغولة بتاريخ عمرها السجين في صندوق عتيق بين بقايا أقمشة بألوان باهتة منعتها عن أفواه العتِّ الجائعة بالنافتلين وبرش الصابون، كم هي بخيلة هذه المرآة الكريمة!!.
تململت سراب ضيقا.. نهضت عن السرير النحاسي.. سمعت صوت تألم مفاصله كالذي ألفته في غرفة جدتها لأبيها التي كانت هي الأخرى لوقت قريب تحتفظ بمثله إلى أن أصابه العطب، فتنازلت مرغمة عن حقها بالاحتفاظ به مدى الحياة، فبيع بثمن بخس للحداد مالك الحربوش، وأُحضر لها عوضا عنه سرير خشبي جديد لم يعد يُسمح للصغيرات بالوقوق فوقه، والنط والعفرتة عليه كالسرير القديم.
مشت في الغرفة عدة خطوت في محاولة لتليين جسدها.. التفتت العجوز إليها.. سألتها عما بها.. أجابتها:
- أردت تحريك مفاصلي قليلا..
- خيرا تفعلين ريثما أحضر ما أريد من أسفل الصندوق.
شارفت الشمس على الغياب وعادل لم يأت بعد لينقذها من ماضي أمه وصندوقها العجيب. ضجت نفسها بالاحتجاج متظاهرة فوق قسمات وجهها البريء، فتكبحها بهراوات الخجل من حماتها التي شغلتها عما هي فيه من ضيق يقظة مفاجئة لماضٍ سبب لها أرقا وتعبا.
غبطة جميلة اجتاحت قلب سراب عندما سمعت الباب يُقرع، جاءها الفرج بعد حصار مرير، استأذنت حماتها لترى من الطارق راجية أن يكون عادل، ردت عليها أمه بقول أحبط تفاؤلها:
- لاتذهبي.. سأفتح أنا الباب، عادل معه مفتاح البيت.
أحست سراب لأول مرة بأنها في سجن ذي قضبان حديدية سجَّانُه درة، فأحبت التمرد وكسر القيد، لحقت بها رغم أمر المنع لترى من القادم.
استدارت أم عادل بكلِّها نحو سراب، وطلبت منها إغلاق باب غرفتها قبل أن تفتح باب البيت، فقد سمعت صوت ابنتها وجيهة في الخارج، ومعها طفل صغير وهي لاتحب أن يدخل الصغار إلى غرفتها والصندوق مغلق فكيف بها إن كان ناطقا بما فيه؟.
- خير يا ابنتي، ما الذي جاء بك الآن؟
- سأخبرك بكل شيء عندما ألتقط أنفاسي..
- ادخلي يا وجيهة يبدو أن زوجك قد..
- لا.. لا يا أمي.. لا يتعلق الأمر بزوجي..
- تكلمي.. هل أصاب أخاك مكروه؟
أقتربت سراب من وجيهة عندما سمعت سؤال حماتها عن عادل، وقد فقدت قدرتها على النطق والدموع تتدحرج من عينيها، وشفتاها ويداها ترتعشان.
لم تنتبه درة لما أصاب كنَّتها من خوف واضطراب، فأمسكت بوجيهة تهزها بعنف وتطلب منها أن تتكلم فعادل مازال خارج البيت وقد تأخر بالحضور كثيرًا.
بقلم

زاهية بنت البحر


يتبع


http://zahya12.wordpress.com/






  رد مع اقتباس
/
قديم 30-07-2011, 12:52 PM رقم المشاركة : 41
معلومات العضو
روضة الفارسي
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
تونس
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)


المبدعة العزيزة زاهية

أنرت وأثريت المكان

ألف ألف شكر على هذه المتعة التي حققتها لنا






  رد مع اقتباس
/
قديم 30-07-2011, 03:31 PM رقم المشاركة : 42
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة روضة الفارسي

المبدعة العزيزة زاهية

أنرت وأثريت المكان

ألف ألف شكر على هذه المتعة التي حققتها لنا



المكرمة أستاذة روضة
الجمال والنور في حضورك غاليتي فليسعدك الباري،
رياض ياسمين ويمامات بيضاء لحضورك المورق
أختك
زاهية بنت البحر






  رد مع اقتباس
/
قديم 30-07-2011, 03:36 PM رقم المشاركة : 43
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)32



أمسكت وجيهة بيدي أمها بهدوء كما تكلمت به، ودعتهما لعدم الخوف فليس في الأمر الذي جاءت من أجله ما يستوجب كل ما بدا منهما من أجل عادل الذي لم تقابله اليوم.
جلست النسوة الثلاث في غرفة المعيشة وعلامات الاضطراب تنسحب عن وجهي سراب وحماتها كانسحاب الجيوش من معركة، بينما راحت وجيهة تقص عليهما ما حدث معها بعد ذهاب والدتها من بيتها.
- كنت مؤدبة جدا معها رغم أنها أمسكتني من وجهي بكلتا يديها وشدتني بقوة لا أدري من أين جاءت بها وعيناها تلمعان بشرر غريب.. شعرت بألم شديد في الفكين، ووجع مفاجئ في رأسي، كدت أصعق خوفا منها عندما رأيت وجها آخر يحتلُّ مكان وجهها البريء، حدث كل شيء خلال لحظات عندما كنت أسلم عليها، غادرت بيتها حزينة دون أن أنبس ببنت شفة احتراما لنفسي وللبيت الذي تربيت فيه ولزوجي الذي لا يقبل بما حدث.
سألتها وجيهة:
- ولماذا ذهبتِ لزيارتها؟
- لتهنئتها بعودة ابنها سالما من سفرٍ كاد يودي بحياته.
- ربما بدر منك ما أزعجها ولم تنتبهي لذلك.
- أقسم بالله لم أفعل شيئًا يغضبها، قبل عدة أيام كنت في زيارتها وكانت لطيفة جدا معي رغم حزنها على غياب ابنها، واليوم تنقلب ضدي بشكل فظيع.
- لك الله يا ابنتي وهو ينصفك إن كنت بريئة، عودي إلى بيتك والتزمي الصمت فهي والدة زوجك على أية حال.
- جرحت مشاعري يا أمي أمام من كان عندها في البيت.
- لا تحزني يا ابنتي سيشفي الله جرحك فهو يسمع ويرى ويعد للظالمين عذابا أليما.
عادت وجيهة إلى بيتها لكن السكينة لم تعد إلى نفسها بعد تهجم حماتها عليها بأسلوب فج لا يصدر عن امرأة تتقي الله مهما كانت الظروف التي تحيط بها، فالكنة ليست كالابنة في مثل هذه المواقف الحساسة، ولا يحق للحماة تعدي الخط الأحمر، وإهانة ابنة الناس عدا عن كونها تهين نفسها بما يصدر عنها من عمل لا يليق بامرأة عاقلة.
نساء كثيرات يشعرن بالغيرة من زوجة الابن.. يكتمن كرههن لهن ردحا من الزمن وهن يتسلطن عليهن بأسلوب أو بآخر.. يقبلن ذلك للكنة ويأبينه للابنة، ولكن أيًا كان التسلط فهو صعب يحبس ناره في قلوب الأبرياء، وعندما تتراكم الأنات والأوجاع يحدث الانفجار الذي يحطم كل ما حوله، وقد تصل شظاياه إلى أماكن بعيدة عن موقع الحدث.
نظرت درة إلى سراب.. ابتسمت بلطف وعيناها تعبران الواقع إلى المجهول:
- أدعو الله أن يقدِّرَ وجيهة على نسيان إساءة حماتها إليها التي تكررت مرارا وألا تبقى نابضة في ذاكرتها كي لا تعذبها، فالذاكرة يا سراب هي نحن فيها تفاصيل حياتنا من خير وشر، رتَّبتها الأيام والسنون في فصول نقتطف منها الثمار صيفًا وشتًاء… ربيعًا وخريفًا، فما نفع إنسان بلا ذاكرة ؟! أظنه يكون في هذه الحال مريضًا بفقد الذاكرة، وهو بحاجة لعلاج نفسي وطبيبٍ حاذق ينقذه من بلائه المقيت.
نحن لا ننسى ياابنتي بل أحيانًا نتناسى لمتابعة الحياة، لأنه من المستحيل أن يعيش الإنسان بلا نبض قلب، والنبض عند الكثيرين يستمر بمطر الذاكرة، وآه ثم آه من ذاكرة ملؤها الألم.
تدفق الدمع من عيني سراب وهي تستمع لحماتها التي تجلت الحكمة في قولها، فهتفت مؤيدة ما تفوهت به أم عادل من درر ثمينة أغلى من الماس والياقوت:
- كلماتك جعلت دمعي ينفر من عيوني غزيرًا، أتصدقين يا امرأة عمي بلحظة خاطفة تحضرنا الذكريات الجميلة التي دفنتها الذاكرة في دفء الروح، تعودنا عندما نقرع بلطف باب الماضي، فتخرج إلينا من مخبئها باسمة أو باكية.. هي الحياة تمشي بنا كيفما شاء الله لنتعلم منها ما يساعدنا على عبورها بسلام.
بقلم
زاهية بنت البحر
يتبع






  رد مع اقتباس
/
قديم 30-07-2011, 05:45 PM رقم المشاركة : 44
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)33


لم تستطع أم عادل رؤية دموع سراب فوق خديها، فأمسكت بيدها ومشت بها إلى غرفتها لمتابعة عملها في كشف المستور داخل جوف الصندوق الخشبي.
تنهدت سراب بألم امتزجت به مشاعر الحزن والضيق معا، وها هي من جديد تعود لورطتها مع الصندوق التي ظنت بأنها قد تحررت من صيده بمغادرة إيوانه، لكنها تأكدت الآن يقينا بأن خيوط شباك حماتها من النايلون الممتاز الذي لا تستطيع أضخم الأسماك قطعها مهما كانت قوية الأسنان.
قررت سراب التحلي بالصبر في تحمل ما تبقى من وقت في غرفة حماتها، قليل من التعب ثم ينتهي كل شيء، فلا هي تضررت جسدا ولا نفسا، ولاهي جرحت مشاعر حماتها التي اصطفتها دون الجميع لشيء لا تعرف ماهيته لتطلعها عليه.
هذه المرة دخلت معها الغرفة بابتسامة عذبة المُحيَّا، مسحت بها عن وجهها آثار الحزن والدموع التي سفحتها قبل قليل تأثرا بحديث عَبَرَ سماء صفائهما ملبدَا الأجواء ببعض غيوم رمادية انقشعت بشيء من الدمع.
قد يكون التعاطف مع الآخرين عن سماحة نفس المتعاطف ورضاه، وما قطرة رحيق التي تنزفها زهرة إلا لتطهير الذات من حزن يلم بها وجعًا لفقد ما جمعته بكدها، ولكن لا بأس مادام القلب تعود صنع الرحيق، والله يعوضها خيرًا منه.
يا لهذه الحياة بكل ما فيها من خير وشر، فرح وحزن، فالعمر فيها لحظة لكنها لا تصفو إلا قليلا، وعند صفائها تتفجر براكين سعادة لا تهدأ إلا بخمود الفرح بنفخة حزن صاعقة تطفئ توهج الذات وتقص جناح التحليق.
في الغرفة أمام معقل ذكرياتها التاريخي العريق، استعادت درة حيويتها ونشاطها الذي وئدِ بحضور وجيهة، فتابعت البحث عن شيء ما، ما لبثت بعد دقيقة من العمل أو أقل أن علت وجهها ابتسامة مضيئة حطت فوق وجهها المتغضن بريقَ سعادة عارمة، فانفرجت أساريرها غبطة وحبورا وهي تحمل صرة بيضاء صغيرة- بين يديها المجعدتي الجلد، المعرورقتين، المنمشتين – مالت للصفرة بتقادم الزمن عليها.. مشت بها باتجاه السرير وهي تتبختر وكأنها تسمع من بعيد صوت زفة فتكاد ترقص طربا.
دهشت سراب عندما رأت حماتها قد رقت، وشفت حتى كادت تطير مرفرفة في سماء الغرفة.. لابد أن ما تحمله بين يديها هو سرٌّ غالٍ عليها فهي لم ترها بهذه الحال من قبل..
تتجه به نحو السرير.. تضعه برفق وكأنه طفل صغير ولد للتو بعد مخاضٍ عسير.. تنظر إلى سراب.. تدعوها للاقتراب منها لترى كنزها الغالي الذي بخلت به على الجميع.. تتقدم منها خطوات.. تقترب أكثر.. تبدأ درة بفك الرباط الذي يحيط بالصرة.. طبقة.. ثنتان.. ثلاث.. مازالت الدهشة تحتل وجه سراب وحماتها في تقدم مستمر نحو الطبقات الأعمق..
ثبتت درة عينيها في عيني سراب وبريق جميل يلمع بين جفونها بدأ يتشكل دمعا دريا وهي تهمس بصوت رقيق:
- كل تفاصيل الحدث الجميل تظل متقدة في الذاكرة مهما طالت قامة الوقت واتسعت مساحته.. ربما تهرب لحظة خجولة من حضن العمر، فتختبئ خلف عيون الذاكرة بإحساس طفلة بريئة المشاعر، تنتظر رفة رمش تعيدها إلى داخل الإطار، فتبدو أكثر وضوحا عندما تتبختر في طريق العودة.. هي كذلك فرحة اللقاء يا سراب بابتسام العمر من جديد.. لحظة سماع زغرودة في بيت أم، كانت تنظر فرح أولادها لحظة إثر لحظة..






  رد مع اقتباس
/
قديم 30-07-2011, 06:05 PM رقم المشاركة : 45
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)

ما الذي تسمعه أذناها؟!! كلام عميق بحاجة لانتباه بكل الحواس كي تدرك معناه وما خلف المعاني، درة الأنثى البسيطة، المتواضعة التي لم تدخل مدرسة يوما والتي حفظت في الكتَّاب أجزاء متفرقة من القرآن الكريم، تصدح الآن بكلمات جميلة، منمقة، بديعة يسكبها قلبها في حروف من عبير، تعطر أجواءها النفسية المبتهجة بهذه القامة السامقة التي تحمل فوق أكتاف عمرها الطويل الكثير من المعاناة خلال العشرات من الفصول الاربعة.
لله ما أعظم الفرح بعد الحزن وما أروع الأخذ بعد الحرمان. أمور بسيطة جدا قد لا تلفت انتباه أحد، بل قد يراها البعض غير ذات قيمة إن هم مروا بها أو سمعوا عنها، لكنها عند من تشكل لديهم قيمة غالية، سامية لابد أن تكون ذات صلة بأحاسيس ومشاعر سعدت بها يوما، فحفرت في أعماق ذواتهم فوق جدران الشرايين محبة اختلطت بنبضات القلوب، فعاشت مشتعلة الخفق تأبى الوأد حتى آخر نفس يعلو به الصدر ويهبط.
سراب تقرأ حماتها في هذه اللحظات الراقصة بالحبور، تقرأها صادقة النفس، متصالحة مع الزمن، تغمرها الطمأنينة بهدوء ذاتي يحركه بشير الأمل بهبات النسيم القادمة من حدائق المنى.
- ما هذه الصرة يا امرأة عمي؟
تفرد الطبقة الأخيرة من القماش الملتف حول السِّرِّ.. الشمس مالت للغروب والوقتُ يجدل شعرها بقصاقيص ذهب.. بفضول محبب مدَّت رأسها من بعض ثقوب نافذة الغرفة المغلقة.. تصافح السِّرَّ بضيائها الهادئ.. تلمع خيوط القصب فوق صدر فستان طفل صغير يسلب بريقه لبَّ سراب.
- ما هذا يا امرأة عمي؟
- فستان عمك أبي عادل عندما ولدته أمه، طرزته بخيوط الفضة والقصب بيديها، أهدتنيه عندما ولد عادل، وطلبت مني أن يكون لابنه من بعده.
- يا الله ما أبدعه..
- لم ير النور منذ سكن الصندوق بعد أن أصبح عمر عادل أربعين يوما ولم يره أحد منذ ذلك اليوم.
حملته سراب بيديها، اقتربت به من النافذة حيث منبع ضوء الشمس، فتحت الشباك فاندلق منها نور برتقالي بديع أضفى على الفستان بهاء وروعة انعكست ألوانها الخلابة على جدران الغرفة وعلى وجه أم عادل الباسم المشرق بالفرح.
ضمته سراب إلى صدرها ودارت به حول نفسها عدة دورات مغمضة العينين :
- أراه جميلا، وهو يرتدي الفستان الطويل ..
- بإذن الله نراه معا ياسراب ..
- خبأت صورة ابني في قلبي وأنا ألبسه الفستان البديع .. لن أريه للناس أخاف عليه من عيونهم.
- سأقرأ المعوذتين وياسين وتبارك..
- سأذهب بالفستان إلى غرفتي ليراه عادل.
- انتفضت درة وكأن شيئًا مزعجا قد ألم بها:
- لا لن يراه أحد قبل أن نلبسه للوليد.. هذا هو الوعد الذي قطعته لامرأة عمي ..
- حسنا سأضعه في خزانتي بانتظار الولادة.
- لا.. بل يبقى عندي في خزانتي، هيا اذهبي وحضري الطعام..
- يبدو أن الفرحة أنستك بأن الطعام جاهز للعشاء، أما تشمين رائحة الديك المحشي؟
- يووووه.. نسيت والله.. ولكنه نسيان مقبول وليس خرفا.

بقلم
زاهية بنت البحر
يتبع






  رد مع اقتباس
/
قديم 01-08-2011, 07:39 PM رقم المشاركة : 46
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)35

35
وكما تهب ثورة الفرح عارمة تعمي عيون القلب عن كل ماعدا الحدث المفرح، فإنها تهدأ رويدا رويدا، ومع مرور الوقت تخمد تحت طبقة رقيقة من التناسي، أو سميكة بحسب أهميتها للنفس الحاضنة لها، بانتظار ما يثيرها مجددا من رياح محببة تذروها ملء القلب والأجواء، كذلك عادت سراب إلى طبيعتها خارج أي مؤثرات تبعدها عن التفكير بتأخر عادل خارج البيت.
في غرفتها، وهي ممددة فوق سريرها راحت تستعرض بصورة لاإرادية أحداث اليوم بكل ما حمل لها في جعبته من إرهاقٍ وإشراق.. تبتسم حينا، وتقطب حينا آخر.
في إحدى محطات الذاكرة استوقفتها نقطة تفتيش بدأت تتوضح هويتها شيئًا فشيئًا.
نهضت من سريرها.. مشت في الغرفة الصغيرة ذهابا وإيابا في محاولة للإجابة على أسئلة طرحت عليها في خضم تصارع أفكارها المنهالة فوق دماغها في لحظة طلبت فيها الراحة، فأغرقتها بوابل من التساؤلات المشروعة، وإن كانت بصورة مزعجة على أية حال.
"لماذا تفتح أم عادل الصندوق اليوم مستبقة مولد الطفل، وتريها الفستان مخالفة بتسرعها هذا وصية حماتها؟" هي تعرف جيدا من خلال الزمن الذي عاشته معها بأنها امرأة صادقة إذا عاهدت صدقت العهد، وإن وعدت أوفت به، لكنها اليوم.. تدور رأسها بها، وعيناها تجولان في الغرفة أنى اتفق مبحرة في خضم هائج من الهواجس المخيفة.
لقد عادت اليوم من الخارج مرهقة، متعبة سقتها مغلي الكمون، وأحضرت لها طشت المياه الساخنة.. هي مريضة بلا شك، ولكنها تحدت أوجاعها التي لم تفصح عنها بما فيه الكفاية، ونهضت تنبش في الصندوق بعزم من حديد.. ترى أيمكن أن تكون ...
لم تستطع إكمال الفكرة التي هاجمتها بغتة، استعاذت بالله من وساوس الشيطان، وخرجت من الغرفة لتكون بالقرب منها فقد تحتاجها بشيء ما، أو تستطيع تقديم أي مساعدة في حال وجدتها بحاجة لها، أو حتى لو لم تكن بها فيجب عليها ملازمتها طوال الوقت مادام عادل غائبا.
ابتسمت درة في وجه سراب عندما تلاقت عيونهما.. دعتها للجلوس بالقرب منها. استجابت للابتسامة، ولكن القلق الذي احتلت جيوشه كيانها لم يستجب لوقف حدة المخاوف بهدنة قدمتها درة لسراب على صحن من بشاشة. نهضت العجوز من مجلسها.. همت بالخروج من الغرفة.. سألتها سراب:
- إلى أين؟
- لإحضار القهوة.
- استريحي.. أنا أجهزها.
- بل أنا.. اطمئني لست متعبة، أشعر بتحسن كبير عما كنت عليه عندما عدت إلى البيت.
- الحمد لله.
- دائما له الحمد والشكر.. احضري لي الشباك ريثما أعود، أريد تكملة حياكتها فقد تأخرت بتسليمها للريس عجران.
- لاداعي للعمل بها اليوم، غدا أو بعده تتابعين الحياكة.
- لاعليك، أحضريها واتركي الأمر لي.
وهما تحتسيان القهوة كانت أم عادل تجلس فوق البساط مادة رجليها وقد علقت رأس الشبكة بإبهام قدمها الأيمن، وأمسكت بيدها اليسرى بعضا منها وباليد اليمنى القصبة التي تحيك بها الشبكة.
سألتها سراب:
- ألا تتعبين من هذا العمل يا امرأة عمي؟
- أجل أتعب، ولكن حياكة الشباك أصبحت جزءا من حياتي بعد وفاة عمك أبو عادل، فقد أمنت لي دخلا ماديا ساعدني كثيرا في تربية َولدَيّ دون أن أحتاج لأحد غير الله.
- العمل عبادة، يحفظ كرامة الإنسان، ويرفع من مستوى حياته المعيشية.
- أجل يا ابنتي، خاصة للتي فقدت زوجها وهي قادرة على العمل، فلا تنتظر شفقة الناس والمحسنين الذين يقدمون الصدقات وعيونهم ما تزال معلقة بها.
- صدقت.
- وهناك من يتباهى بها أمام الناس دون أدنى مراعاة لمشاعر الفقراء والمحتاجين، يعني يعطونهم اللقمة بمنة وأذى.

بقلم
زاهية بنت البحر

يتبع






  رد مع اقتباس
/
قديم 01-08-2011, 07:40 PM رقم المشاركة : 47
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)36

35

كانت سراب متخذة بحديث حماتها فقالت لها:
- صدقت يا امرأة عمي لكن لا ينسحب هذا على الجميع.
- طبعا، فلو خليت لخربت. هناك أناس لا تعلم يدهم الشمال ماذا قدمت يدهم اليمين.
- كالحاج مصطفى وكثير غيره..
- أجل.. المهم أن يطلب الإنسان المتصدق رضا ربه لا السمعة بين الناس التي تحبط عمله في الدنيا والآخرة. وتلوك سمعته الألسن.
- المهم أن يكون إنسانا حقيقيا في السر والعلن، ولايهم إن كان الآخرون غيرذلك، فالمعاملة هي أولا وأخير مع الله، ومن أحسنها معه أحسنها مع عباده.
- قل الصادقون وكثر المزيفون، حتى كدنا لا نميز بينهما من غلبة النفاق.
- لكن الطيبين سيماههم في وجوههم، يرشدنا إليهم تواضعهم ولينهم في معاملة الناس.
- قد يجر اللين في المعاملة على صاحبه في أحيان كثيرة ما يتعبه في الوسط الذي هو فيه، فكم من بشوش طيب القلب، مسالم، صدوق جر عليه حسن خلقه – مع من لا يستحق تلك المعاملة- من آلام لو أنه وقف في بدء نشوئها موقفًا صارمًا، دون جرحٍ أو تجريح، لكفاه ذلك ما وجد نفسه فيه من مشقة.
- ورغم هذا فلا يزداد إلا تواضعا في نفسه، وعلوا بين الناس.
- سبحان الله من تواضع لله رفعه يا ابنتي.
أرأيت يا امرأة عمي كيف يأخذنا الحديث – عندما نفترش بساطه- من فكرة إلى فكرة دون أن نشعر بمرور الوقت؟
- وكثيرا ماننسى النقطة التي بدأنا بها لتولد نقاط كثيرة ما تلبث هي أيضا أن تتشعب لأخرى.
وترحل بهما الكلمات أنى طاب لها السُّرى، لكن في قلبيهما انشغال على من سكنهما حبيبا تترقبان قدومه بصمت فتخفي كل منهما عن الأخرى مايختلج في صدرها من قلق عليه. سألتها أم عادل:
- هل أنت بخير؟
- ليس كثيرًا. احس اختناقا.
- مما؟
- تأخر عادل.
- سيعود بإذن الله لا تقلقي. ذكرتني بأختي وهيبة رحمها الله.
- رحمة الله عليها، كيف ذكرتك بها؟
- ذات يوم كنا في سيران على البر والجميع سعداء إلا أنا، وأجبتها عندما سألتني عما بي بأنني أحس اختناقا، فقالت لي رحمة الله عليها:
” عندما تحسين اختناقًا، وأنت في روضٍ جميل، تزقزق طيوره بهجة، وتفوح أزاهيره شذا، والنهر يتدفق رقراقًا، والنسيم العليل يغازل أوراق الشجر وأهداب الورود، فأعلمي أنك في محنة، وأنك بحاجة لطبيب يخرجك من أزمة الاختناق المتكمشة بشغاف قلبك، وعندما يفشل الطبيب بفك أسرك من قيدٍ فتاك ثقيل الوطء على النفس والقلب بل والروح أيضًا، انظري حولك وتفكري بروعة ما ترين، وأن من خلق هذا الجمال وأبدعه، هو الطبيب الشافي، فناديه يارب.
ابتسمت سراب وهي تنادي:
- يا رب، يا رب، يا رب. سبحان الله أحسست بالراحة الآن بل بالفرح حقيقة..
- يا ابنتي، عندما يولد الفرح بغفلة منا، تسرقنا الدهشة من أنفسنا بعض وقت، ننسى خلالها كيف تبدل الحزن فرحًا بطريقة تجعلنا بغياب تام عما نغصَّ حياتنا في وقت مضى، سبحانك ربي (فإنَّ مع العسر يسرا) وتُؤكِّدُ ذلك( إن مع العسر يسرا)

بقلم
زاهية بنت البحر

يتبع






  رد مع اقتباس
/
قديم 02-08-2011, 12:12 AM رقم المشاركة : 48
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)

أيقن عادل أنه في مأزق حرج للغاية، وحدته الآن زادت من شعوره بالرهبة، تمنى لو انه امتطي صهوة صخرته ومضت به في طريقه فوق الأمواج دون أن يحظى بصيد تقشعر له الأبدان، حصانه الصخري بدا عاجزا عن حمله والهروب به عن دائرة موقعه ولو إلى جبهة القتال مع عدو ما هم من يكون.
انتفض من بوتقة الخوف الذي كاد أن يخذله رافعا رأسه إلى السماء، ونادى” يا رب لا تتخلى عني، ساعدني فأنا بحاجة لك”. أتراه استشعر عن بُعد نداءَ سراب فاتحد النداءان وصعدا شفعا إلى الله عزَّ وجل؟
استجمع قواه لاهثاً فهو رجل، والخوف ليس من شيم الرجال.. نظر إلى بيوت الجزيرة المجاورة للبحر وأزقَّتها النحيلة المؤدية إليه علَّه يجد من يساعده في انتشال ما لفظته الأمواج خارج فيها المخيف.
ثمة رجلان كانا فوق أحد السطوح في عمل ما إثر هبوب العاصفة، سمعا صوته يستنجد بهما فأسرعا بالنزول إليه. لم يعد الآن وحيدا في خلوته مع البحر الهائج بطيش أرعن، سيصل الرجلان ليقذفاه خارج جوف وحدته التي كرهها كره العمى، تمنى للحظات لو أنه لم يغادر المنزل، ولم يختلف مع والدته بأمور حسبها تافهة أمام ما هو فيه الآن.
ربما عبرت ذهنه وهو صيد مفاجأة الرهبة مئاتُ الفكر وآلاف الصور مما رآها أو سمع عنها أو تخيَّلها، ولكن ليس كمثل هذه المفاجأة شيء آخر.
هو يؤمن بالغيب، وبأنه معرض لأي شي يمكن أن يحدث له، ولكنه وجد نفسه الآن ضعيفا لا حيلة له ولا حول، فاستمسك بإيمانه، قوَّى عزيمته، والتجأ بكله إلى الله يستعجله وصول الرجلين قبل أن تسحقه المفاجأة، فشهامته تأبى عليه الهروب وغض الطرف عن أمر يستوجب الرجولة في مثل هذا الموقف، والمسؤولية أمام الله والقانون.
الرجولة الحقة تحلق بحاملها فوق الخوف والتعاسة وضوابط المعقول، واللامعقول، تجعله سيدا لا يخشى شيئًا سوى الله، يتخلى عن الأنا في سبيل عمل خير يثمر رحمة للآخرين، تحركه طاقة جبارة أكبر من حجم الوصف والكلمات.. يتراءى أمامه المستقبل ناصعا، والليل مضاء بقناديل الحق التي لا يحترق زيتها مدى الحياة.
ابتسم في سره عندما وجد نفسه واقفا فوق منصة عالية يلقي خطابا أخلاقيا في صالة واسعة خلت إلا منه، فأوشك أن يصفق لنفسه لكنه توقف خشية اتهامه بالجنون إن هما بهذه الحال الغريبة مهما كانت الأسباب التي جعلته يخرج عن المألوف في تصرف الرجال المحترمين، وهو يشهد لنفسه بأنه رجل محترم لم يصدر عنه فعل مشين يجعله في دائرة الشبهات، بل جميع من يعرفه يشهد له من غير زور بشهادة الحق هذه، وأول الشاهدين والدته وزوجته سراب التي مازالت تنتظره على أحر من الجمر، تلهو بقلبها الوساوس من جراء تأخره عن الحضور إلى البيت حتى الآن.
أجل سيظل قويا كما عهده الجميع واثقا من نفسه عملا بما علمته والدته فحفظه وعمل به، فخيل إليه أنه يسمعها تردد على مسمعه مقولتها:
“عندما عندما تشعر بالعجز لا تستسلم له، وعندما تكون حليمًا فإنَّك ترى بعين البصيرة مالا يراه الآخرون.”
كل يوم تزداد مكانة أمه المرموقة في نفسه ارتفاعا، فرأيها ذو قيمة يعتز به، ويفخر أمام الجميع لعميق فكره وسمو حكمته عن التملق وصف الكلام بلا فائدة.






  رد مع اقتباس
/
قديم 03-08-2011, 01:25 AM رقم المشاركة : 49
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)38


عندما وصل الرجلان إليه وشاهدا عن قرب ما رمته الأمواج فوق الصخور، هالهم المشهد وأربكهم لبعض وقت، لكن سرعان ما استأذن أحدهما بالذهاب لإحضار لوح خشبي كبير يساعدهم فيما هم مقدمون عليه.
وعندما عاد كان معه عدة رجال ولفيف من الأطفال الذين لا يفوِّتون حدثا في الجزيرة إلا ويكون كل واحد منهم شاهد عيان يدلي بمعلومات عما رآه بعضها صحيح، وكثير منها مما أوحى به خياله بتفسيرات شخصية خاصة جدا مع رشَّات من التوابل.
تعاون الرجال على إخراج الجثَّة المنتفخة التي حوصرت بين الصخور، وقد تسبب ارتطامها الشديد بتناثر أجزاء منها فوق المياه وعلى بعض الصخور القريبة منها.
لم يتعرَّف أحد على صاحبها شأن كلِّ جثَّة تحملها الأمواج عادة إلى شواطئ الجزيرة.
كانت لرجل أسود مجهول الهويَّة، مشوَّه الملامح، شبه عارٍ مقيَّد بحبال غرست في جسده الرخو المتآكل.
أخطر المخفر بشأنها، فأُمروا بدفنها في المقبرة قرب مقابر الغرباء.
بعد صلاة المغرب قام المصلون بأداء صلاة الغائب عليها، ودعوا له بالرحمة والصبر لأهله.
في المساء جلس عادل حزينا متعبا أمام التلفاز يشاهد نشرة الأخبار من إحدى المحطَّات الكثيرة التي يلتقطها الهوائى بسهولة في الجزيرة بعد أن أرهقته أسئلة الأهالي عن الغريق، فقد ظن الكثيرون منهم بأنه ربما يكون أحد أقربائهم، ولكن لون الجثة كان ينقذه من طول الأسئلة.
وعندما دعته أمه وزوجته للعشاء اعتذر بلباقة بحجَّة عدم شعوره بالجوع ولفقدان الشَّهيَّة. وبإلحاح من أمه تناول بضع لقيمات من الديك المحشي الذي كان متشوقا لالتهامه منذ الصباح، لكن منظر الجثة جعل نفسه تأنف من تناول الطعام، والاكتفاء بكأس من الشاي عاد بعده لمتابعة النشرة الجويَّة في التلفزيون المحلي، وقد نوى ضمنيا ألا يذوق بعد اليوم لحم ديك محشي.
سألته والدته وقد جلست بالقرب منه:
- هل توصَّلوا لمعرفة صاحب الجثة؟
أجابها دون اكتراث:
- من هم؟
- رجال المخفر.
أجابها ببرود:
- إنَّهم بضعة رجال وهم ليسوا محقِّقين.
فسألته: ومن سيتولَّى التَّحقيق إذن؟
- لا تشغلي بالك يا أمّ عادل. هم يعرفون عملهم أكثر منا.
فسألته بحزن: وأهل الغريق ألن يسألوا عنه؟
- حتماً هم يسألون، ولكن لا أحد يعرف عنهم شيئاً.
- أهو من بلدنا؟
أجابها: لا يدل لونه على ذلك.. البحر واسع يا أمي والأمواج تقرب البعيد وتبعد القريب، والجثة متفسخة يعني مضى عليها في البحر وقت لا يمكننا تحديه.
اقتربت منه قليلاً وهمست في أذنه: هل في الأمر جريمة؟
أجابها بفتور: ربَّما، فالجثَّة وجدت مقيَّدة بالحبال.
سألته: ولِمَ قيَّدوه بالحبال؟
أجاب بضيق: لم أكن معهم عندما قيَّدوه.
فسألته: هل ألقي من إحدى السفن إلى البحر؟
أجابها وهو ينظر إلى زوجته: ربَّما يكون مات في السفينة فألقوه في البحر لأن البحر مقبرة أموات السفن كما تعرفين، أو قد يكون قُتِلَ فيها مقيَّداً ثمَّ ألقوه للتَّخلص من آثار الجريمة، ومثل هذه الحوادث تحصل في السفن التي تجوب البحار فليس البحارة ملائكة، أو ربَّما قتل فوق اليابسة والقي في البحر، فحملته الأمواج إلينا أو قد يكون انتحر و..
- وماذا يا عادل؟
- البحر يحبنا يا أمي، يحبنا كثيرا، ويقدم لنا دائما هداياه المدهشة..
فقالت وهي تنظر إلى سراب التي كانت تصغي إليهما بكثير من التأثر والدموع تلمع في مقلتيها:
- من الأفضل أن تبقى صيَّاداً ولو شبعنا يوماً وجعنا سنة.

ظلت سراب قلقة حتى ساعة متأخرة من الليل بينما رقد عادل وأمه، واستسلما لنومٍ عميق.
أفكار شتى شغلت رأسها الصغيرة، حاولت الهرب منها، لكنها فشلت أمام أسئلة ملحة لم تجد لها جوابا، ترى كيف كانت حال صاحب الجثة قبل الموت وما هي الأسباب التي أودت به إلى هذا المصير؟ من قتله؟ هل رأى قاتله؟ ما الحوار الذي دار بينهما قبل القتل؟ وهل قيد قبله أم بعده؟ من أي بلد هو؟ هل له أم وزوجة وأولاد ينتظرون عودته سالما غانما كما كانت هي تنتظر عادل عندما كان مسافرا؟ هل كان سيجمع المال لشراء بيت لعائلته أم أنه كان سيجهز بيتا لعروس؟
أتعبتها الأسئلة التي ظلت تمطر حزنا وخوفا في نفسها القلقة.. نهضت من سريرها.. خرجت من غرفتها إلى غرفة المعيشة، فوجدت حماتها تحتسي مغلي اليانسون.
بقلم
زاهية بنت البحر

يتبع






  رد مع اقتباس
/
قديم 03-08-2011, 01:27 AM رقم المشاركة : 50
معلومات العضو
زاهية بنت البحر
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / آرام
سوريا
افتراضي رد: بانتظار الأمل( رواية لزاهية بنت البحر)39

ابتسامة درة الليلة في وجه سراب لم تكن كما عهدتها منها سابقا، بدت العجوز أكبر سنا من عمرها الحقيقي، كانت كئيبة، حزينة، قلقة، وعيناها تنظران إلى سراب تسألانها بصمت عما أرَّقها حتى هذه الساعة المتأخرة من الليل.
أومت لها برأسها أن اقتربي.. لبت نداء إيماءتها.. جلست بالقرب منها على الديوان وهما صامتتين.
تابعت درة ارتشاف اليانسون الساخن وسراب مطرقة رأسها .. نظرت إليها بإشفاق.. سألتها درة:
- ماالذي أرقك .
- الذي أرقك ياامرأة عمي..
- تناولي كأسا من اليانسون علك تنعسين فتنامي.
- لماذا يقتل الناس بعضهم بعضا ياامرأة عمي؟
- ليس الامر جديدا، القتل ياابنتي وجد مع الإنسان منذ عهد أبينا آدم وأنت أعلم بذلك مني، أم نسيت قصة قابيل وهابيل؟
- لم أنسَ ذلك، ولكن حتى مَتى سيستمر القتل بين الناس؟
- إلى أن يرث الله الأرض، ويوم القيامة يُحاسب كل نفس بما كسبت، فللجنة يا ابنتي أهلها وللنار أهلها.
- مسكين هذا الغريق، كانت له أحلام ركب البحر معرضا نفسه للخطر كي يحققها.
- كل إنسان له أحلام يا سراب كبرت أم صغرت، بعضهم يحققها وبعضهم يموت قبل أن يصل إليها.
- شيء محزن ألا يعيش أحلامه على أرض الواقع، ربما كانت جميلة جاهد من أجلها كثيرا.
- دائما يا ابنتي يسرح بنا الخيال في عالم الأحلام كبارا وصغارا، نراها جميلة، براقة، تسحرنا .. نحار أيها نختار وكأننا في حديقة ملئت بأشجار وأزاهير خلابة.. نقطع أشواطا من العمر قبل أن نقطف منها شيئًا، وعندما نظفر بشيء منها نجد بساطَ العمر قد سحب منا.
- أجل هذا يحصل كثيرا وقد سمعت قصصا أبطالها عاشوا وماتوا دون أن يقطفوا حلما ما.
- أحس أحيانا بأن الحياة كلها وهم كما قلت لك ذات حديث بيننا.. أين هو الآن هذا الغريق من أهله، أحقا كان موجودا بينهم والآن هو تحت التراب في جزيرة نائية لم يخطر في باله أو بال أهله أو حتى في بال أهل الجزيرة أن يرقد فيها إلى الأبد؟!!
- هذا قضاؤه وقدره وقد قال الله عزَّ وجل(وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت.)
- صدق الله العظيم.. أحس يا امرأة عمي بالعجز والضعف والخوف معا.
- كلنا نشعر بهذا ولكن من الحكمة يا ابنتي ألا تستسلمي للعجز عندما تحسين به، بل كوني حكيمة ، حليمة بنفسك فتري بعين البصيرة مالا يراه الآخرون. انهضي الآن وأحضري كأسا من مغلي اليانسون، فما زال في الدّلة شيء منه، فستنامي بهدوء.
- وأنت ألن تنامي؟
- اقترب السَّحر، سأقوم للصلاة.
- أيقظينا بعد الفجر إن تأخرنا بالنوم.
وقفت أم عادل خاشعة في صلاة الليل، سلمت فؤادها وأحاسيسها لربها ناسية الدنيا ومآسيها، وعيناها تسكبان الدمع طاهرا عَطِرَا في لحظة القرب من الربِّ العظيم.
العمر غريب بكل ما فيه من أحداث ومشاعر، المحظوظ فقط من يقبض على لحظة هناء تملي عليه خفقاتِ قلبٍ تهدي حبيبتيه بعض زخات مطرٍ تطهره من لواصق لا تجلب له مسعدًا في قادم لا مفرَّ منه، قد تسكن الأنسام أجسادًا، ولكن قد يظل الاتصال بينهما مفقودا إلى أن يشاء الله، فيكرم إحداها بلحظة وصلٍ يحملها الجسد ما بقيت الروح فيه سعادة تضيء حياته حتى الغروب بشعورٍ لا يعرف ماهيته، هكذا كانت تلك اللحظة.
الانتصار على النفس بانسكاب دمعة شكر لخالقها، يجدِّدُ اليقين، ويعود بالنفس إلى النَّقاء، فتغسل بتلك الدمعة ما علق فيها من قاطعات الصِّلة بالأصل، فيشرق بومضة الصَّحو ماغم بتراكم القشور وتضاء لكينونتها مسالك الهديِ بالسّلام.






  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:56 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط