(بانتظار الأمل ـ زاهية بنت البحر/ رقم الايداع :ز.هـ/ 20/ 2017) - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: حلم قصير وشائِك (آخر رد :عبدالماجد موسى)       :: رفيف (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: الزمن الأخير (آخر رد :حسين محسن الياس)       :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :أحلام المصري)       :: لغة الضاد (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: إلى السارق مهند جابر / جهاد دويكات/ قلب.. (آخر رد :أحلام المصري)       :: لنصرة الأقصى ،، لنصرة غزة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: السير في ظل الجدار (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إجراءات فريق العمل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: بــــــــــــلا عُنْوَان / على مدار النبض 💓 (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إخــفاق (آخر رد :محمد داود العونه)       :: جبلة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: تعـديل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إنه أنـــــــا .. (آخر رد :الفرحان بوعزة)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ▂ 📜 ▆ 📜 دار العنقاء 📜 ▆ 📜 ▂ > 🔰 سجلات الايداع>>>

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 09-03-2018, 02:25 AM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
المنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني
المنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني

الصورة الرمزية المنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني

افتراضي (بانتظار الأمل ـ زاهية بنت البحر/ رقم الايداع :ز.هـ/ 20/ 2017)



بانتظار الأمل
رواية
زاهية بنت البحر





عشر من السَّنوات مرَّت مملة.. كئيبة.. خانقة.. تلهث وراءها يومًا بعد يوم زارت خلالها عيادات الأطباء، ودور العرَّافين، سخت لأجل النُّذور، وأكثرت من الصَّدقات، بكت نهارًا وسهرت ليلا تدعو الله قيامًا وقعودا دعاء المضطر، ولكنْ لم يأت المنتظر، لم يقرع باب حياتها بأنامل السعادة، لم يدغدغ كيانها بنداء أمي، أو ببسمة ثغرٍ، أو بصرخة ألم.
هي كغيرها من النِّساء اللواتي يتزوجن كرهاً أو طوعاً، لا تملك من أمرها شيئًا، ولكنها تحلم بطفل صغير يزيِّن حياتها بالفرح، ويملأ أجواءها بالتَّغريد على أفنان حبِّها للحياة ولمن تحب.
كانت تحلم به جميلاً كالبدر، وديعاً مثلها وكأبيه، تضمه إليها بحنان، ترضعه من صدرها حليباً طاهراً، تعلمه أحلى الأشياء، تربيه على الإيمان وحب الخير، تلبسه أحلى الثِّياب، وترقص ليلة عرسه حتَّى الفجر، لكنَّها حتى اليوم لم تجرب الوحام الذي تشكو منه النسوة حقيقة أو دلالا، لم تشكُ وجع الحليب، ولم تذق ألم الولادة.
أحياناً عندما كانت تلتقي مصادفة في الطريق أو في بيت ما بإحدى رفيقات الطُّفولة، وهي ترضع أو تحمل طفلاً، كانت تحسُّ بالغيرة تهاجم أنوثتها، وبالحرمان يفترسها، فتنظر إلى الطفل بلهفة تكاد عيناها بها تخرجان من وجهها لتلتهمه بشهية أنثى محرومة الأمومة، تتلظى حرقة ما تلبث بعدها أن تنتبه إلى نفسها، تواري حسرتها بابتسامة رقيقة تفضح سريرتها المعذَّبة، فتردّ عليها الرَّفيقة الخائفة من مقلتيها بابتسامة مجاملة باهتة، وتهرب بطفلها خشية الحسد، فتلوك سراب نارها بصمت مرير، وعيناها تفيضان بالدموع، والأم وطفلها يبتلعهما الطريق.
زُوِّجتْ لعادل في سنٍّ مُبَكِّرة جدا، تقاليد الجزيرة تقضي بتزويج الفتاة بعد البلوغ لأول طارق باب، أمَّا الشَّاب فحسب قدراته المادية.
أحبت سراب (عادل) بإخلاص كما أحبَّه سكان الجزيرة، فهو شاب دمثَ الأخلاق، لطيف المعشر، محمود النسب تمنت الزواج منه الكثيرات من الجميلات، ولكنه لم يتمنَّ غير حبيبة القلب منذ أن كان يراها تلعب مع صديقاتها على صخور الشاطئ في أيام الصيف الحارة.
ضيق ذات اليد لم يغيِّر من حبِّها له، بل زادها تعلُّقاً به رغم حلمها بأن تكون غنيِّة كسعاد وعايدة وسميرة وغيرهن من صديقاتها الأقل منها جمالا ونسبا، لكنها لم تشعر بالضيق من عسره المادي يومًا، بل راحت تبث فيه روح التَّفاؤل والأمل، فظلت في قلبه أميرةً، وسكن قلبها مليكاً.
رغم صغر سنِّهما فقد كانا يؤمنان بانَّ العقل بواسطة الدين هو السَّبيل الوحيد لمتابعة الحياة بينهما بشكلٍ هادئ، فعاشا متفاهمين.
حفظته في ماله وشرفه، فحفظها في قلبه ووجدانه، وعندما كان يسافر على متن إحدى السُّفن التِّجارية تاركًا بلده وأمنه ودفء بيته، وحنان أمه وزوجته طلباً للرِّزق، لم تكن سراب تذهب أثناء غيابه إلى بيت أهلها في زيارة طويلة قد تستغرق مدَّة غيابه كاملة كما تفعل الأخريات خاصة خلية الولد منهنَّ، بل كانت تنتظره في بيتها، فتهتمّ بوالدته العجوز وتعتني بشؤونها، كان ذلك يسعدها كثيرًا لاعتقادها بأن ما تقدمه لحماتها يسعد حبيبها الغائب، ويطمئن قلبه على أن والدته بأيدٍ أمينة فيتفرغ نفسيًا للعمل بجد وراحة بال.
وحينما كان يجوب البحار، وموانئ البحر المتوسِّط، ويُعرَض له الجمال بأعلى مقاساته وفتنته في حوريَّات الشَّواطئ، والمدن السَّاحلية، تلك الجميلات اللواتي يلعب حسنهنَّ برؤوس أشدِّ الرِّجال عقلاً، لم يكن يشاهد بناظريه أجمل ولا أروع من حوريته سراب.
تناغمٌ بديع ظلَّ يربطهما بمحبَّة صادقة لم يسمعا له نشازاً في عمر زواجهما أبدا.
أمًّ عادل، الأرملة العجوز، مازالت تحتفظ بشيءٍ من أنفاس الجمال في وجها المغضَّن المتعب بالوحدة دون أنيس، يقال بأنه كان أجمل وجهٍ في الجزيرة، لم تحن لها السنوات الخوالي الفارغة من قلبٍ يؤنس وحدتها ظهرًا، ولم تهدم لها حيطا فظلت شامخة، صامدة كسرت طاحونة الحزن بالصبر دون أن تقع بين حجري الرحى فتطحن أمالها بأن ترى (عادل) رجلا.. ظلت تروي نبتة آمالها بندى الورد، وتعطرها بأريج الحنان.
أم عادل هي( درة )كما كانت تُسمى، لم تكن حالة خاصة بين النِّساء ممن زوجن أولادهن، بل هي مثلهن إن لم تكن أكثرهنَّ استعجالاً للكنَّة بالولد، فقد درجت عادة ليست بالجديدة بين الأمهات أن يسارعن بتزويج الابن بالتَّرغيب أو بالتَّرهيب إن تأخرت الزَّوجة بالإنجاب، عادة قديمة نعم، ربَّما كانت سيئة أو قد تكون جيدة، لكنَّها ستبقى موجودة إلى ما شاء الله أيًا كان نوعها.
شمَّتْ سراب أكثر من مرَّة رائحة زيجة تـُعَدَّ لزوجها لتقدَّمَ له على طبق من إغراء عاطفة الأمومة المشتعلة في صدر درة، الذي كان يقدسها برًا بأمه التي أفنت حياتها في سبيل تربيته أفضل تربية تستطيع توفيرها له. أزعجتها الرَّائحة، أبكتها كثيرًا، وأرقتها طويلا، جعلتها تحس بالغثيان، لكنَّها لم تتقيَّأ خشية الشَّماتة، فاعتصمت بحبل الله، صابرة على أمر ربها ، تسأله سرًا وعلنًا بحرقة المحروم أن يجبر خاطرها، وأن يحميها وزوجها من مغبات الأمور، فقد يدفع الجهل ببعض الأهل إن تأخرت الزوجة بالإنجاب إلى ارتكاب المحرَّمات التي توصل للشرك بالله في أحيان ٍكثيرة، وما زيارة العرافين والتَّمسح بالقبور إلا منها في جميع الأحوال، ولكنها كانت ترضخ لرغبة أمها وحماتها رغمًا عنها، وعندما تختلي بنفسها كانت تستغفر الله .
سراب المحبوبة المحبة، الأمينة المؤتمنة تعلم جيداً أن لعادل مزاجاً خاصاً، وذوقاً استثنائيًا لا ترضيه سواها من بنات جنسها، فعاشت مع زوجها مطمئنة القلب، راضية بما قسمه الله لها، وعندما كانت أمه وأخته تفشلان في إقناعه بزيجة ما بعد مشقةٍ وعناء، كانتا تعودان دون خسائر لأنَّهما كانتا تحبَّان( سراب) وتشفقان عليها.
ذات مساء قالت أمُّ عادل لابنها في غياب زوجته بزيارة أهلها:
أريد أن أحمل لك طفلاً قبل أن أموت.
أجابها وهو ينظر في ساعة يده: أمدَّ الله في عمرك يا أمَّ عادل، ولا حرمنا من طلعة وجهك البهي، أكثري من الدُّعاء لنا، عسى الله أن يمنحنا ما يسرك ويسرُّنا.
ضمت يده بين راحتيها وشدَت عليها بحنان، بينما برقت عيناها بدموع حسرة جعلت قلبه يفلت من بين جوانحه حين همست في أذنه بحزن: ذريَّة أبيك قليلة، أنا والمرحوم لم ننجب سواك ووجيهة، كان طيَّبَ الله ثراه يحب الأطفال، يتمنى أن ينجب دزينة من الصبيان والبنات، لكنه قضى نحبه في شرخ الشباب ولم، فقاطعها مداعبًا قبل أن تسترسل في بوح أشجانها ، وتفسد عليه ليلته: وقد أنجبتْ وجيهة والحمد لله جيشاً من الذُّكور والإناث.
همستْ: أولاد البنت يُنْسَبون لأبيهم يا بني، ولا يخلِّدون اسم أبيها، ولا يدخلون في شجرة العائلة، فلماذا تحرم أباك من تخليد اسمه؟
نهض من مجلسه متذمِّراً متجهًا َنحو باب البيت، نظر إليها برجاء قائلاً:
يجب ألا ننسى كرم الله وقدرته يا أمي، ولا تنسي بأن كل شيء بإذنه، ومتى أراد إتمام أمرٍ فلا ممسك له. أتريدين شيئاً من الخارج، سأذهب لإعادة زوجتي ؟
أجابته بضيق: لا، سلِّم على حماتك..
وعندما أغلق وراءه الباب تمتمت بصوتٍ منخفض: عنيد كوالده، لم يتزوَّج من أخرى رغم قلَّة ذريَّتي، صدق من قال: من شابه أباه ما ظلَم.
ولمَّا عاد بسراب إلى البيت نظرت إليهما بعين الرِّضا، فرأتهما سعيدين، يرفرفان بجناحي الحبِّ، ومسحة حزنٍ ترتسم فوق وجهيهما، رقَّ قلبها، وأشفقت عليهما، فنظرت إلى السَّماء برجاء صامت ودمعة تتدحرج فوق وجنتها.
قبل أن يدخلا غرفتهما، ناولتْ (سراب) صحناً فيه بعض الحلوى، كانت قد أعدَّ ته بنفسها قبل قليل.
شكرتها سراب بلطفها المعهود، وطبعت قبلة فوق خدَّها، ودخلت إلى زوجها لمشاركته أكل الحلوى قبل أن يستعدّ َللسَّفر عند الفجر.
أسندت سراب رأسها بيديها، وأجهشت بالبكاء، احتضنها برفق، وراح يمسح دموعها بحنانه المعهود، ودفء كلماته، وحين قال لها: كفي عن البكاء.. دموعك تحرقني.
قالت: سيطول غيابك هذه المرّة، سنة!! إنَّها أيَّامٌ كثيرة، كيف سأحتمل غيابك هذا؟
ـ من يعلم ربَّما عدتُ قبل إتمامها، عليك بالصَّبر.
ـ صبري يحتاج لجهد كبير لا أستطيعه.
فقال مشجِّعاً: بل تستطيعين إذا شغلت أفكارك بالبيت الجديد عندما أعود بالمال الوفير، حاولي أن تشغلي نفسك بحفظ القرآن والحديث، وتذكري دائماً بأنني ما سافرت إلا لإحضار المال من أجلك.
قالت بصوت تخنقه العبرات: لا أريد مالاً ولا بيتاً، أريدك أنت، أنت فقط أتفهم؟
أجابها برقَّة: نعم أفهم، ولكن من أين سنأكل إذا تركتُ السَّفينة؟
فقالت بحماس: تعمل صيَّاداً كما يعمل الكثيرون من أهالي الجزيرة.
قال: وهذا يعني أن نأكل يوماً ونجوع عشرة.
فقالت بدلال: يظلَّ الأمر أفضل من غيابك لسنة أو حتَّى لشهر، بل ليومٍ ، بل لدقيقة.
ـ مهنة الصَّيد يا سراب لا تبني بيوتاً، أفقر النَّاس وأكثرهم تعاسةً هم الصَّيادون.
ـ ولكنَّ قلوبهم غنيَّة بالحب، عامرة بالإلفة.
ـ الفقر عدو الحب، أينما وجده افترسه.
سألته: لماذا؟
أجابها: لأنّ للفقر أنياباً ومخالب وحشية لا يعرفها إلا من نشبت في جسده، وفقأت عينيه، وامتصَّت دماءه.
-ولكنَّ أهل الصَّيَّادين يسعدون بقربهم طوال العام.
فقال بضيق: فقط في أيَّام الخير وهدوء البحر، وبعد ذلك تنتهي السَّعادة ،وتبدأ المشاكل، أتعرفين لماذا؟
ـ لا
ـ لأنَّ البطون تصرخ من الجوع ، فتخاف القلوب، ترتجف، وأحياناً تموت قهراً وحرمانا، وأنا لاأريد لقلبينا أن يموتا.
فالقت برأسها فوق كتفه وهمست: إن ارتجف قلبي فقربك يدفئه.
فقال باسماً: ربما مادمنا وحيدين، وما لم نحلم بأولاد هم بحاجة لحياة كريمة يجب أن نوفِّرها لهم.
فقالت محتدَّة: ولكنَّك لست رباناً، فتأتي بالمال الكثير مثلهم.
فقال بنظرة عتب: صدقتي، ولكنَّني بحارٌ نشيط أجني بعرق جبيني مالاً حلالاً يحفظ ماء وجهي، ويكفيني ذُلَّ السُّؤال.
وكأنَّها أحست بأنَّها جرحته، فقالتْ بدلع: إنَّني خائفة عليك من غدر البحر، فهو لا يؤتمن على شيء، فكيف أسلِّمُه زوجي، وهو في لحظة هياج يغرق السفن، ويبتلع الشَّباب، ويثكل الأمهات وتكثر الأرامل؟
فقال باسماً: الأعمار بيد الله، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، هيَّا ابتسمي، لا تودِّعيني بالتَّشاؤم، دعيني أحمل معي زوادة التَّفاؤل بغدٍ مشرق، فالتقت عيناهما وتمتمت: ليحمك الله يا حبيبي.
أحست سراب بنعاس شديد، يصحبه إرهاق عام يفوق ثقله قدرة سنِّها على التحمل، لكن النوم خاصم عينيها متحديا انسدال جفونهما بضجيج صاخب غزا رأسها الصغيرة، وهبَّت رياحه تذرو أفكارها ذات اليمين وذات الشمال، وهي معلقة بين الصحو والنوم بمشنقةِ الخوف من سفر حبيبها وابتعاده عنها لزمن لا يعلم مداه إلا الله.
كانت بين الفينة والأخرى تتأمل وجهه الأسمر وهو مستسلم لنومٍ عميق، تبحر بأحلامها بسفن الخيال.. تخترق نومه.. تشاركه أحلامه المغردة بالأمل عبر اتساع الحلم في عالم خارج أسوار الحدود.
تقترف المستحيل.. تراه محلقا بها بأجنحة فضية فوق ديم محملة بالدرر والنجوم، وحولهما دزينة من الأطفال يرفرفون مغردين والنجوم تتراقص على أصوت سقسقاتهم بأضواء الفرح، تمتد يدها لتمسك بأكبر الصغار.. تحس بحرارة جسده.. تكاد تلامسه، ستضمه إلى صدرها العمر كله، لن يبعده عنها أحد، لن تتركه يركب البحر بحارا كأبيه ولا حتى ربانا، تعال بني.. سأحملك في قلبي وأحميك بعيوني، تمتد يدها أكثر، تقبض على لاشي، تصعق، تشهق وأصابعها تنغرس في ثيابها فوق صدرها في محاولة لاختراق القلب، يتقلب عادل في سريره، فتكتم أنفاسها خشية أن يصحو من نومه قبل موعد إقلاع السفينة بساعات.
مازالت تنظر في وجهه ويداها ترتعشان، سيسافر غدا، ما يدريها بما سيلاقيه في سفره من مفاجآت؟ أجل هناك في البعيد سترسو سفينته في موانئ شتى، أوليس من الممكن أن تعجبه إحداهن، هن جميلات، ساحرات بعيون زرقاء وخضراء، وأجساد لا يستطيع غض البصر عنها إلا قلة من الرجال، ولم لا يفتن بإحداهن؟
لا مكان للثقة هنا، ألم يتزوج شاهر من غريبة رغم عشقه لوديعة قبل الزواج، تركها وأولادها في الجزيرة فامتلأ قلبها حزنا وانتفخ جسدها شحما بما يرسله لها من مصروف كبير جعلها من أكثر النساء تبذيرا، بينما هو غارق في عشق الغريبة ينجب منها أطفالا أنسوه فلذاته من زوجته الوديعة.
هي لن تستطيع بأي حال من الأحوال تحمل الصدمة كما فعلت وديعة، هي تحب عادل وليس بإمكانها مجرد تخيل أن تختطفه امرأة أخرى منها.
نظرت إلى السماء تدعو الله ألا يمتحنها بفقد حبيبها مهما كانت الأسباب، وألا يمد النار التي تلهب صدرها بقطرة من وقود.
بلا شعور اقتربت برأسها من وجهه والدموع تتساقط من عينيها بغزارة، فأيقظته منها بضع قطرات جعلته يفتح عينيه.. يراها تبكي.. ينهض من فراشه.. يمسك بها.. يضمها إلى صدره والدموع تغرق وجهيهما.
في هذه الليلة لم تغمض عينٌ لأمِّ عادل، ظلَّت ساهرة تصلِّي، وتبتهل إلى الله سبحانه وتعالى أن يحمي وحيدها، ويرزقه بالمال والولد، صلت ودعت بحرقة، وسقت ذبول خديها دموعًا كثيرة علَّ الأمل ينبت فيهما روضَ سعادةٍ تهدي ثمارها لفلذة كبدها، فتغمض عينيها وهي مطمئنة على ذرية حبيبها الراحل.
ـ ما الذي جاء بك يا أبا عادل في هذه الساعة المتأخرة من العمر، مازلت شابا، جميلا، لم تغضن السنون وجهك، أحس بالحياء منك، لا تنظر في وجهي، لقد هرمتُ بتقادم الزمن.
تمد يديها المرتعشتين إلى الأمام، تحركهما في الهواء، تبتسم، تسأل: أين أنت.. لماذا لا تكلمني؟
ـ انتظر، غدا سيبحر عادل ويتركني وسراب، ألا تريد أن تراه قبل السفر؟
ـ مازلت أدعو الله أن يرزقه الولد.
ـ لماذا تبتعد؟
ـ أرجوك، لا ترحل.. لا ترحل، لا ترحل..
وهو يودِّعها عند الفجر، حاولت أن تخفي دموع أمومتها عنه بعد أن أطلقت الباخرة بوقًا تستدعي به جميع البحارة المنتشرين في الجزيرة، بينما لم تستطع سراب حجب دموعها، فبدا القلق جليًا في عيني عادل وحار في أمره.
مع طلوع الشَّمس أطلقت السَّفينة بوق الوداع، فأسرعت سراب بالصُّعود إلى سطح البيت لرؤيتها وهي تمخر في العباب مبتعدة عن الجزيرة، وفوق متنها أغلى الأحبة، اخترقت عيناها مسافة البعد علَّها تلمح مليكها، فتمسح عن جبينه بعض حبات عرق تحتفظ بشذاه لحين رجوعه إليها، وطار قلبها يرفرف فوق السَّفينة نورسَ حبِّ شغوف بوليفه حتى غابت في الأفق البعيد، وظل محلقًا في سمائها يرفض العودة وحيدا دون مليكه.
أحسَّت انكسارًا، فنزلت إلى البيت متثاقلة الخطوات، كريمة العبرات، شاردة الفكر.
استقبلتها حماتها بوجه بشوش يوحِّدُ خالقه، وكأنَّ شيئًا لم يكن، ودَعَتْها لمشاركتها بتناول قهوة الصَّباح تحت الياسمينة التي ظلَّلت فسحة الدَّار.
لم تكن لديها رغبة في شرب القهوة، لكنَّها مسايرةً لحماتها قبلتها، وفي جوفها نار الفراق تحرق فؤادها دون رحمة.
قالت العجوز وهي تناولها الفنجان: لا أحبَّ أن أراك حزينة، ابتسمي يا ابنتي.. لا تكتئبي.. سرعان ما تمرُّ الأيَّام، ويعود إليك. وإنما الحزن على من لا يعود.
أجابتها وهي تمسح دموعها بأنامل يدها: ولكنَّه عام يا امرأة عمي، عام، كثير والله.
ظلت العجوز صامتة، وفي رأسها مالا يعلمه إلا الله، بينما نظرت سراب إلى السَّماء وتابعت: السَّماء ملبَّدة بالغيوم.
فقالت العجوز وهي مطرقة: فقط في الصَّباح، ألا ترينها مقلعة إلى أجواء أخرى؟
ـ بلى، ولكن..
ـ اطمئنِّي يا ابنتي مازلنا في أواخر تموز، والرِّيح مازالت في الغربة.
فقالت سراب وقد عاودها البكاء: وتموز القادم مازال بعيداً.
ابتسمت العجوز وهمست: انظري في وجهي، تأمليه جيداً.
سألتها: لماذا؟
أجابت: أتعرفين كم تمُّوز مرَّ على وجهي هذا؟
سألتها سراب: كم تقدِّرين؟
قالت : كثير.. كثير، ولكنَّها مرت جميعاً كتموزٍ واحد.
كلام العجوز جعل الابتسامة تعود إلى ثغر سراب، فقالت بدهشة: تموز واحد يا امرأة عمي؟!!
أجابت العجوز: نعم.. نعم، فالعام ينطح العام، ويلقي به في هوَّة الزَّمن.. غداً يأتي تموز الثَّاني، ويعود عادل، فلا تعكِّري صفو أيّاَمك بالحزن والألم، تمتَّعي بشبابك قبل أن يهرب منك يا ابنتي.
سألتها سراب: كيف مادام زوجي غائباً؟
أجابت العجوز: وهل المتعة محصورة بوجود الزَّوج؟
فسألتها سراب باستغراب: ما رأيك أنت؟
أجابت: طبعاً لا.
سألتها سراب بحرج: لم أفهم ما ترمين إليه، أريد توضيحاً؟
قالت العجوز: لا أعتقد أنَّك لا تفهمين ما قلت، وقد نلتِ قسطاً من التَّعليم.
ردَّت سراب: ربَّما لم أفهم لأنَّ عقلي مازال متأثِّراً بسفر عادل.
فقالت العجوز: حسناً سأوضح لك الأمر.
ـ تفضَّلي.
سرحت العجوز بنظرها بعيداً، وكأنها تقرأ شيئًا في ملفات الزمن الغابر، وهي تلقي محاضرة هامة:
ـ لقد خلق الله سبحانه وتعالى الكون، وخلق الإنسان، وخلق كلَّ الموجودات، وسخَّرها له كي يتمتَّع بها، ويجعلها في خدمة عبادته لله عزَّ وجلّ.
سألتها سراب بدهشة: وهل الزَّواج إحدى هذه الموجودات؟
أجابت العجوز: بل من أهمها، لأنَّ الإنسان يتكاثر من خلاله ويحفظ الله به البشر.
قالت سراب بعفوية: ولكن قد يأتي بعض النَّاس من طريق غير شرعي.
فقالت العجوز: هذا الطريق قد نهى الله عنها، وأنكرتها جميع الدِّيانات السَّماوية.
هزَّت سراب برأسها موافقة حماتها التي تابعت قائلة: وبما أنَّ الزَّواج من أهمِّ هذه المتع الجسدية والمعنوية، والاجتماعية، فإنَّ عدم تحققه لا يعني انتفاء المتع الأخرى.
سألتها سراب: كيف؟
أجابت: الاستمتاع بالعبادة شيء عظيم، ورؤية الجمال الذي خلقه الله في الأرض والسَّماء، بمساعدة النَّاس، بالقراءة، وحتَّى بالطَّعام.
فسألتها سراب: هل استمتعت بحياتك بعد وفاة عمّي أبي عادل؟
ابتسمت العجوز بحزن وأجابت: نعم، نعم، ولكن أتعرفين كيف كانت متعتي؟
سألتها: أخبريني؟
أجابت: بتربية أولادي تربية صالحة، وبمساعدتي للمحتاجين رغم محدودية حالتي المادية، استمتعت برؤية البحر هادئًا وصاخبا، بالتَّفكير بملكوت الله وعظمته، وبعبادتي له، وبحياكة الشباك للصيادين، كلُّ هذا استمتاع مشبـِع للنفس، ومن قال غير ذلك فهو كاذب.
قالت سراب: ربَّما كان كلامك صحيحاً، ولكنَّني أشعر بالألم بسبب غياب عادل.
قالت العجوز: وهذا إحساس عاطفي أيضاً، وهو أمر طبيعي، ولكن لا تجعلي الألم يلبسك، حاولي الخروج منه.. عودي لسعادتك، وتمتَّعي بعاطفة الشَّوق إليه دون أن تحرقي نفسك فيها.
سألتها سراب: أأنت تقولين لي هذا، وعادل هو ابنك؟
أجابتها باسمة: عادل هو ولدي وقرَّة عيني، ولكنَّ سفره هو جزء من قدره، فهل أحارب القدر بعاطفة الأمومة التي قد تقتلني حزناً على فراقه، فأسبّب له الألم؟
قالت سراب: تقولين الحق ولكنني ضعيفة أمام عاطفتي، ليتني كنت مثلك قوية أستطيع التحكم بنفسي عاطفيًا.
قالت العجوز: القوَّة خير من الضَّعف حتَّى في أدقِّ المشاعر.. تعلَّمي هذا يا ابنتي، فالحياة لا تحقق لنا دائمًا ما نحب.
قالت سراب: سأحاول، ولكن لا أعدك أن يكون باستطاعتي تحقيق ذلك.
كان عادل آخر من بقي على ظهر السفينة يودع جزيرته بعينين مغرورقتين بالدموع، جاهدهما في سبيل إخفاء شفقهما القاني عن أنظار رفاقه من البحارة الأشداء، الذين هم أيضًا ودعوا أهاليهم بحثًا عن الرزق الحلال خلف الأمواج على مدِّ النظر، الكثير منهم يحملون في صدورهم قلوبًا من حجر لا يتركون عواطفهم تفتك بها وهم على سفر قد يعودون منه وقد لا يعودون.
كان حزنه يمزق أعماقه، يفتت قلبه، ويقيد صبره، فهناك في الجزيرة ترك أمًا تقدمت بها السن وتلبسها الوهن، ولا يدري أيعود فيراها بصحة جيدة أم تكون قد ودعت الحياة والتحقت بالحبيب الراحل الذي ظلَّ يشغل تفكيرها سنوات عمرها كله، وما زالت تعمل على أن يستمر نسله من خلال عادل.
شعر بالحزن من أجلها، ما ذنبها كي تكابد حسرة حرمانه من الذرية، وقد مرَّ على زواجه من السنوات ما حرمها السعادة مع أحفادها من ابنها الوحيد، مازال يتمنى أن يهبها هذه السعادة، فيرى الفرحة تشرق في عينيها أبدا فلا تميل إلى الغروب، وفي المقابل كانت دموع سراب تلمع في خياله وهي تودعه بقلب ما خفق إلا لأجله زوجًا وحبيبًا.
آه من الحياة ما أمر كؤوسها وما أضعف الإنسان في مقاومة العب منها حتى النهاية مجبرا كان أم راضيا.
هو يعلم بأنه في سفره هذا سيواجه الكثير من المعاناة النفسية والعاطفية من حرِّ أشواقه لحبيبته سراب، ولأمه سيدة الحب الطاهر، ولكنه يعرف أيضا أنه مكره لا بطل.
نظر نحو الجزيرة فبدت له كخيط رفيع يطفو فوق الماء في الأفق البعيد. اتسعت مسافة البعد الجسدي بينهم بفاصل مائي رهيب، بينما توحَّدت مشاعره بمن تركهما بقلبين يلهجان بالدعاء له ليحفظه الله ويرده إليهما سالمًا غانما. وعندما مالت الشمس للمغيب أحس بوحشة تقتحم قلبه فانزوى في مهجعه مرهقًا، وألقى برأسه فوق وسادته تاركًا لعينيه حرية البوح بحزنه دون قيود.
كاد صوت نشيجه يفضحه أمام رفاقه البحارة الذين كانوا يمرون أحيانا بجانب المهجع، لكن الله سلَّم أكثر من مرة وستر عليه، فأنقذه من ألسنتهم التي لا ترحم، والتي ستظل تلوك قصة دموعه في ليالي الإبحار الطويلة، فيتندرون بها تسلية لوجودهم بعزلة عن البشر والحجر والشجر مابين سماء وماء.
توالت الأيام كحلم لا تخلو أحياناً من بعض شرود، وشيء من الدُّموع حاولت فيها سراب أن تسلي نفسها بالعمل في أشغال البيت، ومساعدة حماتها في تخزين الأغذية التموينية التي يحتاجونها في الشتاء، فكانت تقضي معظم أوقاتها بمحادثة أم عادل وقلَّ ما كانت تقوم بزيارة أهلها إلا عند الضرورة أو إن كانوا باجتماعٍ عائلي، فهي تحب أسرتها وتحب الاجتماع بهم ولكنها مراعاة لزوجها كانت تقلل من زيارتهم كي لا تترك حماتها وحيدة في البيت.
خلال السنوات العشر الماضية كانت علاقة سراب بأم زوجها رائعة، فكانتا تتعاملان معاملة الأم وابنتها. وكثيرا ما كانت وجيهة تغار من زوجة أخيها ولكنها لم تكن تظهر غيرتها بشكل عدائي، وإنما كما يقول المثل العامي( بالأمزاح تشفى الأرواح) وكانت سراب لا تبدى ضيقا رغم ما يترك الكلام في نفسها من جراح، فكانت تعمل بالمثل القائل( كرمال عين يكرم مرج عيون)، فعاشت بهدوء دون أن ينغص حياتها قيل ولا قال اللهم إلا شعورها باحتياجها لطفل صغير يحقق لها حلم الأمومة، والشعور بأنها أنثى لا ينقصها شيء.
ذات جمعة جاءت والدة سراب لزيارتها باكرا، استقبلتها أم عادل بالترحاب وكانت وجيهة هي الأخرى قد جاءت لزيارة والدتها برفقة أولادها، فقد درجت على هذه العادة في كل يوم جمعة من الصباح وحتى المساء، وكانت سراب تقوم بمساعدتها طوال اليوم بأمور أولادها الخاصة منها والعامة دون ضيق أو تذمر.
قامت أم عادل بواجب الضيافة على أكمل وجه مرحبة بالزائرة الكريمة، ودعتها لتناول الغداء الذي يعدون له، فاعتذرت بلباقة وهي تنظر إلى ابنتها سراب وقد بدا الذبول في وجهها جليا رغم فرحها بزيارة أمها المفاجئة، وازدادت فرحا عندما أعلمتها بأن والدها سيأخذهم بعد صلاة العصر إلى جزيرة الحبيس للسباحة هناك، فالطقس اليوم جميل، والبحر هادئ يغري بخوضه وتوديع الصيف قبل رحيله، فقد اقترب أيلول ولن يعود باستطاعتهم الذهاب إلى جزيرة النوارس والسباحة فيها بعيدا عن أعين الرجال.
أبدت سراب موافقتها ودعت حماتها ووجيهة لمرافقتهم في هذه الرحلة. ابتسمت أم عادل وشكرتها على الدعوة، لكن وجيهة امتعضت وقطبت مابين حاجبيها مبديةً استياءها من الموضوع بحجة أنه يوجد في جزيرة الحبيس بعض الرجال الذين يتعاطون الخمر، وأن عادل لو علم بذلك لما وافق على ذهابها مع أهلها.
أحست والدة سراب بالضيق مما تفوهت به وجيهة وأحدث ذلك في نفسها شرخا قد لا ترأب صدعه الأيام خاصة وأن زوجها هو من طلب منها دعوة ابنتهما، وأنه يخاف على أسرته من الطير الطائر، ولو كان يعلم حقيقة بوجود من ذكرتهم وجيهة لما فكر باصطحاب أهل بيته إلى مكان مشبوه.
التزمت سراب الصمت ودمعة تلوب فوق جفنها، وعندما ودعت أمها لم تتمالك نفسها.. دخلت غرفتها وأغلقت وراءها الباب، وغرقت في بحر من الدموع تألما على أمها من تلك الصفعة التي وجهتها إليها وجيهة بأسلوب فج لم تلتزم به أدب الخطاب.
وعندما دعتها حماتها لتناول الغداء اعتذرت منها بحجة أنها تشعر بالنعاس وهي بحاجة للنوم. لم تلح العجوز عليها بالطلب فقد أحست حقيقة بشعور سراب تجاه ما قالته ابنتها لوالدتها، واكتفت بتوبيخ وجيهة عندما انفردت بها في المطبخ، وطلبت منها الاعتذار من سراب ووالدتها، فأبت لأنها كانت تعتقد بأن ما قالته صحيح، وهي تخشى أن تلوك سمعة أخيها الألسن التي لا ترحم أحدا.
لم تخرج سراب من غرفتها إلا للوضوء طوال اليوم إلى أن غادرت وجيهة وأولادها البيت، فراحت ترتب المنزل وتنظفه فقد تركت وجيهة كل شيء على ماهو عليه دون أن تكلف نفسها مشقة إصلاح ما أفسده أولادها من كسر صحون وشق ملاءات وغير ذلك، حتى أنها لم تعتذر من زوجة أخيها رغم علمها بما سببت لها من ألم.
أسرعت أم عادل تساعدها بصمت، فقد كانت هي الأخرى في حال لا تحسد عليها، يفضحها احمرار وجهها وتصبب العرق من جبينها رغم ما طرأ على الطقس من تغير في درجة الحرارة التي مالت للبرودة قليلا، فقد امتلأت السماء بالغيوم الداكنة، وهبت ريح مفاجئة راحت تشتد ساعة بعد ساعة، فحمدت سراب ربها في سرها على أنها لم تذهب وأهلها إلى جزيرة الحبيس فهي تخاف من ركوب البحر عندما يهيج ويموج، ومن يدري فقد كان من المحتمل أن يحصل ذلك وهم في الفلوكة في وسط البحر، وعندها لا أحد يعلم ماذا يمكن أن يحدث لهم، وخطرت في بالها حوادث كثيرة راح ضحيتها رجال ونساء من جراء غرق المراكب في أحوال جوية سيئة مرَّت على الجزيرة من عهد قريب وأخرى من عهد بعيد، وتذكرت زوجها فانقبض قلبها ودعت له بأن يحفظه الله فالبحر غدار لا يؤتمن على قشة.
تشابكت أحاسيس قلقها على زوجها مع انشغال بالها على أمها وأبيها، تمنت أن تذهب إليهما للاطمئنان عليهما، ورغم ذلك لم تنبس ببنت شفة، وحماتها تنظر إليها بين الفينة والأخرى بانتظار فك الحصارعن لسانها بأي كلمة تنطق بها، حتى لو كانت بشتم ابنتها.
طال انتظار العجوز دون فائدة، وهي تتقلى على جمر الصبر.
عاد البيت مرتبا نظيفا بعد ساعة ونيف من العمل كما كان قبل مجيء وجيهة وأولادها إليه. وقبل أن تعود سراب إلى غرفتها سمعت حماتها تناديها، التفتت إليها، رأتها تحمل صينية قش صغيرة وفوقها أطباق الطعام، أشارت إليها برأسها أن اقتربي وعلى ثغرها ابتسامة رقيقة. وقفت سراب تنظر في وجه العجوز وطيف عادل يلوح لها من بعيد وصدى كلماته يرن في أذنها( أمي أمانة في عنقك ياسراب) وظل صوته يلاحقها وهي تركض صوبها.. تتناول الصينية منها ودموعها تملأ وجهها، والعجوز تربت على كتفها قائلة بفرح: أصيلة ياسراب. تناولي طعامك، واستعدي لنذهب معا إلى بيت أهلك فقد اشتقت لأمك كثيرا.
وضعت سراب صينية الطعام فوق الأرض وعانقت حماتها ولسان حالها يقول، ليس لك ذنب فيما حصل ياامرأة عمي.
لم تعد أم عادل وسراب من بيت أهلها قبل أن صفت القلوب خاصة بعد أن قال والدها بأن كلام وجيهة فيه من الصحة الشيء الكثير، ولكن في الآونة الأخيرة مُنع هؤلاء الشبان من الذهاب إلى الحبيس يوم الجمعة، ولاشك فإن وجيهة لو علمت بذلك لما حدث ماحدث.
عادت سراب وحماتها إلى البيت والابتسامة فوق ثغريهما وقد تلاشت من سماء نفسيهما غيوم الحزن وأشرقت فيهما أنوار الصفاء والمودة وهما تتبادلان تحية ما قبل النوم وتأوي كل منهما إلى غرفتها.
في تلك الليلة كانت السَّماء ملبَّدة بالغيوم، تلاقى فيها خريف امرأة بخريف عام فكيف كان اللقاء؟
لم تكن أمُّ عادل نشيطة هذا المساء، فقد أحسَّت بوعكة مفاجئة، فأوت إلى فراشها بعد صلاة العشاء، تدثَّرتْ ببطانية سميكة، وألصقت ركبتيها ببطنِّها طلباً للدِّفء، وغطَّت في نومٍ عميق، بينما كانت سراب تسهر في غرفتها وهي تتابع إحدى التَّمثيليات على شاشة التِّلفاز.
ربما كانت السَّاعة الواحدة ليلاً عندما استيقظت العجوز فزعة، تتقاذفها الأوهام، هبَّت من فراشها، أشعلت نور المصباح الكهربائي، وخرجت من غرفتها إلى فسحة الدَّار.
أحست برهبة، اقشعر بدنها وهي تسمع صوت الرِّيح كعواء الذِّئاب يزداد حدَّة باشتداد اهتزاز أغصان الأشجار التي تغطي فناء الدَّار.
تفقَّدت عيناها أرجاء المكان، فرأت نوراً ينبعث من حمَّام البيت في الخارج، وسمعت صوت حركة هناك، اقتربت من مصدر النُّور والصَّوت على حذر، من تراه هنا؟ الأبواب والنوافذ مقفلة.. أيكون حرامي استغل غياب عادل ونزل البيت للسرقة؟
سمعت أنين سراب، خافت أكثر، ترى هل أصابها مكروه، أسرعت باتجاه الحمام، وعندما وقفت ببابه، فوجئت بسراب وهي تتقيَّأ فوق المغسلة، ازداد خوفها حدة، سألتها: مابك ياابنتي؟
نظرت سراب إليها بتعب وقالت: أشعر بالغثيان ودواراً مزعجاً يا امرأة عمِّي.
قالت العجوز:عودي إلى غرفتك، تعالي، هاتي يدك، سأستدعي طبيب الجزيرة لمعاينتك.
لا أريد طبيباً، إنَّني (وأشارت إلى بطنها)
شهقت أم عادل شهقة كادت تودي بحياتها، سألتها: هل أنت حامل؟
هزَّت سراب رأسها بالإيجاب: منذ مدة قريبة.
فقالت العجوز بعتاب يمتزج بدمع الفرح: لِمَ لمْ تخبريني ألا أستحق منك هذه الفرحة؟
أجابتها بخجل: بلى والله تستحقّيِنها وزيادة، لكنني كنت أخشى ألا يكون الحمل حقيقيا.
رفعت أم عادل يديها نحو السماء تقدم قربان الشكر دمعاً : الحمد لك يارب.. كم أنت كريم. سأزغرد.
استوقفتها سراب ممسكة بيدها: لا تفعلي، جعلتك الفرحة تنسين أننا في وقت متأخر من الليل.
ـ وليكن لم يعد للوقت عندي حساب.
ـ حسنا فلننتظر حتى تشرق الشمس، أليس الغد لناظره قريبا؟ أجابت العجوز هذه المرة بحكمة وهدوء: بلى فالعمر لحظة.
العمر لحظة، ولكن كم تضم هذه اللحظة من حوادث فرح وحزن ومفاجآتٍ يرسمها القدر بعيداً عن إرادة البشر؟
قضية أم عادل كانت حلماً حاربت من أجله بسلاح المنطق والأخذ بالأسباب، فهي تريد حفيداً يحمل اسم زوجها هاشم، فما انتصرت بمنطقها، وما تحقَّقت قضيَّتها إلا بإرادة الله، فحدثت المعجزة، وتهاوى المنطق البشري أمام القدرة الإلهيَّة.
رائع هذا الصباح أحست درَّة بفتوة تنمو في جسدها المثقل بسنوات التعب، المحني بهموم العيش، المفرغ من بريق الوعد.
العمر لحظة.. قطع قطار زمنها خلالها محطات كثيرة حاولت أن تنسجم معها بمنطق الحكمة، تحَوِّلُ الحزن فيها فرحاً، واليأس أملاً، ولكن بقناعة المعدم.
العمرلحظة خلعت القناع، ضمها الأمل إلى كتائبه الباسمة بالألوان الزاهية، ألبسها الربيع ثوباً، والشمس إشراقاً، والتفاؤل وشاحاً.
مساحة الأمل لا تحصرها حدود، فسيحة كالأحلام، شاهقة كالمستحيل، بديعة كالولادة. حملتها فرحتها الوليدة إلى عوالم براقة ساحرة.. حنونة.. فوضويَّة الرُّؤى.. سمعت فيها صوت هاشم يناديها.. رأته يلعب معها.. تحضنه.. تطعمه.. تقبِّله، يهرب منها.. أحبت البداية وكرهت النهاية، وهنت ركبتاها.. شهقت.. أسرعت تمسك به لا تريده أن يهرب منها أبداً.. أبداَ.. خافت عليه في الحلم.. نعم، ولكنَّها ستخاف عليه في الحقيقة أكثر.

لا لن تخبر أحداً بحمل سراب خشية الحسد، فالعيون فارغة لا تملؤها إلا حفنة من تراب، وهي لم تصدق أن سراب ستحمل يومًا فلن تتركها صيدا للعيون الفارغة.
الحرص هنا واجب، وسيكون مسلكها، لن تخبر أحداً حتى عادل لن تبعث إليه بالبشرى كي لا يترك السفينة، ويعود، فيخسر المال الذي سيشتري به البيت الجديد، تريد أن تطمئن على سكنه قبل موتها.
تغير المنطق أم هي التي تغيرت؟ فوضى الفرح، فوضى الأحاسيس المتمرِّدة، فوضى اللحظة، ترى من تغير؟ هي تعرف فقط أنَّها يجب أن تكون حريصة في المحافظة على هاشم وليكن ما يكون.
وافقت سراب أمَّ عادل الرأي بشأن إخفاء خبر الحمل.
عجوز قدَّرت وشابة تفهَّمت فكان الاتِّفاق.
إتِّفاق سرِّيٌّ أبرم بين الخريف والربيع فأنجز خيراً.
إنجاز مهم لن يعلم به سوى عائلة سراب، وأخت عادل وجيهة، وبذلك يبقى الخبر طيَّ الكتمان.
أسرة سراب لا تحب الثرثرة.
أب صارم حازم لا يجامل أحداً، لكنَّه يحسن التَّدبير، هادئ الأعصاب غالباً، يشكو من ارتفاعٍ في ضغط الدم، لم يرزق ذكوراً.
علية أم سراب سيدة في الخمسين من العمر، عاطفية، من أصل تركي، أنهت دراستها الابتدائية في الجزيرة، تزوَّجت في الرابعة عشرة من عمرها، وأنجبت خمس بنات أصغرهنَّ سراب.
حدَّثت ْعلية زوجها بشأن إخفاء خبر حمل سراب، اتَّهم الجميع بالهذيان، وعقم التفكير، وأعلن براءته مما يعملن.
وبعد كثير من المناقشة والمجادلة، وافقهنَّ على مضض من أجل عادل، وهدفه المادي الذي سافر في البحر من أجله، وليس من أجل الحسد، وقلة عقل النسوان.
قال لزوجته: عجيب أمر النساء والله، كنتنَّ تلهثن وراء الحمل، والآن تلهثن من أجل ستره!
سألته علية: ساعدنا بطريقة تمكننا من ستر الحمل دون قيل وقال؟
فقال متبرمًا: حسبي الله نعم الوكيل من كيد النساء، ومن أفكارهنَّ الغريبة.
فقالت: هذا الأمر لن نختلف فيه أبداً، ولكن أنقذنا مما نحن فيه من حيرة؟
قال بعد تردُّد: لا حول ولا قوة إلا بالله ، اسمعي جيدا إن كنت تصرين على رأيك في كتم الخبر.
قالت بلهفة: قل يارجل وأرحني أراحك الله من أعدائك؟
قال: في الأشهر الأولى لا توجد مشكلة لأن الحمل يحتاج لوقت كي يبدو للعيان، وماتبقى من أشهره تجلس سراب في البيت، ولا تقابل أحداً حتَّى يقضي الله أمراً كان مفعولا.
سألته: ولكن قد تطول مدة احتجابها عن الناس، فماذا سنقول لهم إن هم سألوا عنها؟
أجاب: لن تعدمن حجَّة، إن كيدكن عظيم.
في ليلة مقمرة من ليالي أيلول، جلس عادل وزميله أحمد على حافة مؤخرة السفينة يتسامران بين سماءٍ وماء، يؤنس وحدتهما القمرُ بدرًا، وخياله يتراقص تحت سطح البحر بجمالٍ أخاذ على أنغام صوت أم كلثوم من الجانب الآخر للسفينة، كأنه في حفل بين الأحياء البحرية، فتلهب المعاني بالصوت الرخيم والآهاتُ الحارقةُ أشواقـَهما لمن تركوهم في الجزيرة بانتظار عودتهما سالمين على أحر من الجمر، وما استطاعت النسمات العليلة المحملة بأنفاس البحر الباردة أن تخفف من لهيب الحنين في صدريهما، فبدت الحيرة بتهدج صوتيهما بحزن عميق، وهما يبثان شكوى الفراق وهموم الحياة، والنجوم الساهرة تسترق السمع إليهما عن كثب، وتسعد باستنشاق الشذا من حريق القلوب، ونورها يتمايل مع رفات الجفون.
تحدثا طويلا، وأنصتا للست كثيرًا، وطال الليل بهما متأرجحين بين حلم ويقظة، حقيقة وخيال، تلمع في عيونهما بعض دموع يحجرانها رجولة ً بتماسكٍ مؤلم، ما تلبث أن تختطفها النجمات طمعًا بالمزيد من دمع العيون.
هما يعلمان أن الحياة صعبة، متعبة ، مؤرقة، وأن الراحة فيها لا تكون إلا قليلا، ويعلمان أيضًا أنَّ العمل واجب مقدس مهما كان صعبًا ماداما قد اختاراه طواعية فيما قدِّر لهما من حياة أوجدهما الله فيها بظروف بيئية معينة، تفرض عليهما مثل هذا العمل فوق ظهر بحر لا يعرف الرحمة في ساعات الغضب الرهيبة، قبلا به لتحسين ظروف الحياة في جزيرة نائية تعيش قلقة بين فصولٍ أربعة أشدها قسوة عليها الخريف والشتاء.
تذكرا من سافر ولم يعد إليها، من مات حرقًا أو غرقا، ومن أحضر في تابوت، ومن لم يُحْضَر منه سوى حقيبة تبكي فقيدها، تذكرا لوعة الأهل على فلذات أكبادهم وهم يشاهدون جنون البحر الأهوج أيام الشتاء، وكيف ينسون أنفسهم باحتلال الخوف قلوبهم، واهتياج مشاعرهم كلما سمعوا عواء الريح يملأ أجواء الجزيرة رعبا، وينشب أنيابه في أفكارهم بأسوء الاحتمالات، تذكرا من قضى نحبه بانتظار رجوع الربيع، فانتقلت الروح إلى ربها والغائب لم يعد والربيع أطال الغياب.
مضى النصف الأول من الليل، وقبل مضي ساعة من النصف الثاني منه، استدعى الربان البحارة ومساعديه على عجلٍ لأمر هام.
انشغل الجميع بتحضير نقل المازوت للسفينة الأجنبية التي استنجدت بالربان، كي يزودها بالوقود الذي نفذ منها إثر ثقب حلَّ بخزان الوقود، فلم يعد لديها ما يكفي لمتابعة الرحلة في عرض البحر.
تمت العملية بنجاح، وقبض الربان ثمن المازوت بأضعاف ثمنه، وعندما ابتعدت سفينته عن السفينة الأخرى، راح يضحك بصوت عال ووزع على البحارة الحلوى مما جعلهم يستغربون أمره، لم تطل مدة الاستغراب كثيرًا بالنسبة لعادل بعد أن أعلمه أحمد بأن الربان قد باع المازوت مغشوشًا بالماء، وقبض سعره غاليًا، وكان أيضًا قد استغفل مالك السفينة التي يعملان فيها، فسرق منه ثمن كميات وهمية من المازوت قبل الإبحار من الجزيرة، وهاهو الآن يفخر بسرقة السرقة.
أحس عادل بانقباضٍ في صدره مما سمع، استغفر الله كثيرًا، خاف أن ينتقم الله من القبطان فيغرق السفينة بمن فيها، ولكن إيمانه جعله يتماسك بعد وقت قليل، مقررا بينه وبين نفسه أن يترك العمل مع هذا الربان الحرامي عندما يصل إلى أول ميناء قرب اليابسة.
سخر أحمد من سذاجة عادل فقال له: الربان الأمين في هذا الزمن عملة نادرة جدا، ليس هنا فقط، وإن كانت أكثر ظهورًا عندنا عمن سوانا، إنهم يسرقون بطريقة أو بأخرى سرًا وعلانية، يسرقون ثمن المازوت، وثمن الطعام وحتى أجرة البحارة.
ظل فكر عادل مشغولا بما أخبره به أحمد حتى ساعة متأخرة من الليل، نهض من فراشه، وعندما هم بالخروج من مهجعه استوقفه صوت أحمد:
ـ انتظرني، أنا أيضًا أحس أرقًا.
جلسا هذه المرة في مقدمة السفينة صامتين وكأن على رأسيهما الطير. كان الجو جميلا وانبلاج الفجر يقترب موعد الإعلان عن مولده، بينما كان القمر يتجه إلى البعيد ليحل ضيفًا على مشاهدين له في مكانٍ آخر. نظر أحمد إلى عادل فرأى فيه قلبًا يسافر هو الآخر إلى حيث وليفه. افتر ثغره عن ابتسامة خفيفة ويده تهوي فوق الجهة اليسرى من صدره، أحس بنبض قلبه يتسرع رويدا.. رويدًا، فامتثل لأمر عقله في وقف تسرعه بمحادثة عادل عله يسترجع اطمئنان فؤاده بعد أن لعب به الشوق لأهله وخطيبته لمى، التي وعدها بإحضار مهرها والمبلغ اللازم لإتمام تجهيز بيتهما ومصاريف حفلة الزفاف.
لمى ابنة خالته أجبرته أمه على خطبتها بعد وفاة والدها في الصيف الماضي، عندما كان يغطس في أعماق البحر مرتديًا بدلة الغطس لاصطياد الإسفنج، فتعرض لتأثير الضغط المرتفع تحت الماء فاختل ضغطه، ومات بعد خروجه من الماء بوقت قصير، كثيرون هم الذين قضوا نحبهم مثله، وقلما يمر صيف اصطياد دون أن يموت غطاس أو أكثر عدا عمن يصابون بشلل نصفي، أو إعاقة دائمة في أحد الأطراف، ورغم ذلك فاصطياد الإسفنج هو أهم وأسرع وسيلة للغنى، وأكثر اجتذابًا لشبان الجزيرة والغرباء أيضًا.
لم يكن أحمد يرغب بالزواج من لمى لتعلق قلبه بفتاة رومانية وعدها بالزواج، وكان يصرف عليها الكثير من المال، ولكن والدته خافت أن تفقده بزواجه من الغريبة، كما حدث مع الكثيرين من الشبان الذين تركوا الجزيرة وعاشوا هناك بالقرب من زوجاتهم أوصديقاتهم، فأقسمت بالله إن لم يتزوج من لمى فلن تراه مدى الحياة.
بعد طويل تحدٍ ومقاومة استسلم رغمًا عنه، وانصاع لرغبتها بينما ظل قلبه يلهج بحب أنيتا.
مرت الأيام وبدأ قلب أحمد يحول اتجاه دقاته نحو لمى خاصة عندما علم بأن أنيتا على علاقة بأكثر من بحارٍ من الذين يرتادون الموانئ من مختلف البلدان، ومالبث أن تعلق بلمى كليًا، وأحس بأن سعادته لن تكون إلا مع ابنة خالته العفيفة، النقية المحبة له.
لم يكن انتباه عادل شديدًا لحديث أحمد، سمع منه الكثير لكنه لم يعِ منه إلا القليل، كأن بينه وبين سيادة وعيه حاجزًا أقامه الليلة ربان السفينة عندما سرق السرقة دون خوف من الله ولا خجل ممن يعرفون الحقيقة.
أمور كثيرة ظلت تدق في رأسه بمطرقة تأنيب الضمير لسكوته على ما حدث.
كان يعنف نفسه بشدة، فترد عنها اللوم باتهام أحمد أيضًا بالسكوت على ذلك، ولكن سكوت أحمد أكبر ذنبًا من سكوته هو، لأن أحمد كان على دراية بحقيقة الربان، ورغم ذلك لم يبدِ امتعاضًا بل الأنكى من ذلك فقد راح يسخر منه ويتهمه بالسذاجة، ومما زاد قهره تأججا قوله بأن معظم القباطنة هم على شاكلة قبطان سفينتهم الغراء التي مازالت تشق طريقها في البحر دون أن تتأثر بما كان، أحس بالغيظ منها لكنه عاد يعذرها فهي أجير مأمور، عليها تلبية تعليمات الربان الموجهة إليها من غرفة القيادة يحركها بها كيفما شاء دون أن تبدي اعتراضًا على مايريد.
بدلة الغطس “وهي عبارة عن ثوب كتيم ورأس نحاسي ذو نظارة زجاجية وحذاء رصاصي
زنته بحدود 3. كغ ، وأنبوب مطاطي يصل الى الآلة التي تزوده الأوكسجين
والتي هي بنفس الوقت تعدل الضغط للغواص”
ابتسمت الحياة في وجه سراب، بعد سنوات مرَّت رمادية ببؤس مرير. لم يكن هناك ما يملأ حياتها سوى عادل، ولكن بغصة حزن لشعورهما بالحرمان من طفل يناديهما بابا، وماما.
كل شيء بات اليوم أجمل.. لإشراقة الصباح بهجة لم تعرفها من قبل.. لشقشقة العصافير فوق أشجار بيتها لحن عذب أصبحت تنصت إليه باهتمام وكأنه لايشقشق إلا لها دون الناس جميعا، يحملها على أوتار عزفه إلى هناك حيث السعادة في مستقبل قادم ترى فيه طفلها يشارك العنادل أغاريدها، وبينهما عادل بابتسامته العريضة يمتع ناظريه بجمال طفله، ويحضنهما معا بصدر الحنان.
يااااه ماأجمل الغد، سيكون عندها بيت كبير وحديقة غناء، وزهور، وعصافير، وماء وسماء تشرق فيها شمس محبة لا تغيب، تجمعهم دائما فوق بساط الأمل مع أم عادل المرهقة بالانتظار، سيكون الغد رائعا حتى ولو لم يشترِ عادل بيتا كبيرا كما تريد، يكفيهما هذا مادام فيه طفلهما بما سيملأ أجواءه من بهجة وسعادة.
اليوم بدت سراب في حب للحياة يحملها إليه الأمل، راحت تشكر الله طليقة اللسان، فليس هناك أجمل ولا أروع من عودة الحب إلى القلوب التي سكنها الصقيع، فتجمدت فيها دماء المنى، وانتشرت حولها أمراض اليأس فغدت الدنيا كئيبة، حزينة والتشاؤم، يسعى فيها فسادا.
سراب هي اليوم غير سراب الأمس، لن تكره أحدا في هذا العالم، هي تتمنى للجميع السعادة وأن يرتشفوا من منهلها رواء كالذي ملأت به كأسها الظمأى. تحس بأنها تغيرت حقيقة فلم تعد تهربُ بالحلم إلى أدغال الرؤى، بعيدا، بعيدا.. تتوه في أفيائها حائرة، هذهـ لا.. هذاـ بل تلك.. و… تعود برفة جفنٍ إلى واقع مؤلم، وفي جعبتها بقايا أمنياتٍ تضربها أجنحة الريح بصحوتها.. تتفلتُ من يدها هباء منثورا.
الحمد لله الذي تفضل عليها بالنعم عاهدت نفسها أن تقول لعادل عندما يعود ما لمْ تقلْهُ امرأةٌ لمنْ تحبُّ، وكما خبأ حبها في صدفاتِ النور، فقد أودعتُ حبَّه في سرِّ الضيا والجمال، فابتسمَ الكونُ في وجوهِ العشاقِ، وستغني لهما الحور بهمسِ دقاتِ القلوب، وهما يحضنان أولادهما عصافير محبة وحنانٍ، ولم لا؟!! فمن حقهما أن يفرحا.. يبتسما.. يستنشقا عبير الحياة النقي.. أن يحضنا أطفالهما بحبٍّ واطمئنان.. أن يعانقا عمريهما بتوحد الروح مع الجسد.
يتساقط المطر نوراً.. يسقي الروح العطشى الصاهلةعلى ضفاف الفرح المعشقبالحلم.. المزخرف بالأمل . المعطربالطهور من الزلال..تسمو بها اللحظة بالشكر.. تسجد الجبهة بسكونلخالقِ الممكن والمستحيل، خالقالكون وقوانين الوجود، ويظل النور مضاءً بالفرح..
هناك في الجهة اليسرىقرب شلالٍ على كتفِ الأمل حيث الظلالِ الوارفة، جلست أم عادل وحيدة تناجي ربها بما تجود به نفسها الصبورة، المؤمنة، الخاشعة، الراضية بقضاء الله وقدره.
أحست بحاجةٍ للبكاء.. إحساس غريب يلهب مشاعرها بفقرها للطمأنينة في هذه الليلة.. ما بال قلبها يخفق بحزنه وقد آن له أن يفرح بحَمل سراب؟ّ
رجته قلبا أن يدعها بلا قلق، فهي بحاجةلنبضة سعادة تدفئ حولها برد الدنيا. رجته أن يكون صديقها.. أن يتسلق معها قمم الرضا.. أن يحررها من الحزن فقد أضناها عمرا مديدا.. ابتهلت إلى الله أن يشرِّع لها نوافذ خيرٍ تلقى بها ومن تحبهم النعيم فيالدارين.. تشهق بالبكاء.. يغرق وجهها بطهور الدمع علَّه يطفئ في داخلها شعور الحزن .. علَّه..
عبر أمواج الدموع تجد نفسها هناك على الشاطئ الشرقي تحمل بيدها اليمنى طاقة قرنفل حمراء، وحول عنقها طوق من الياسمين تعبق رائحته العطرية في أجوائها الصباحية والشمس تنهض من نومها بابتسامة برتقالية مشرقة، والنسيم يغازل بجرأة فستانها الوردي.
بخفة شبابها الغض تمتطي صهوة صخرة عجوز مازالت تربض على جفن الجزيرة منذ آلاف السنين.. تتطاول على رؤوس أصابع قدميها الدقيقتين.. تلمح من بعيد فلوكته تتهادى بين الأمواج كعروس خجلى، تقفز إلى صخرة أخرى ومنها إلى أخرى والفلوكة تقترب من الشاطئ.. تراه مبتسما يلوح لها من بعيد، تناديه: هاشم، أطلت الغياب، يجد بالتجديف أكثر.. يقترب.. تنزل عن الصخرة.. تلامس المياه الباردة قدميها، تحس بقشعريرة تسري في جسدها.. تنتبه.. تفتح عينيها.. أين هاشم؟ أين الفلوكة؟ لم تجد شيئا.
انتفضت خائفة.. فتحت نافذة الغرفة المطلة على البحر، لفحت وجهها نسمات باردة، أغمضت عينيها للحظات.. فتحتهما بكسل.. نظرت إلى السماء.. الظلام الدامس يحجب عنها الرؤية.. أغلقت النافذة.. تأوهت بحرقة وهي تقلب كفيها حسرة وألما فأصعبُ مافي النفسِ الإنسانيةِ ألا تعرفَ أينَ هي ..تموجُ الحياة ُبكلِّ صعبٍ ومريرٍ، ويبقى الأملُ شراعَ السفينِ التائهِ في خضَّمِالعمرِ، يبحثُ عن شاطئِ سلامٍ يتخيلُهُ جميلاً.. هادئاً لا تعصفُ بهِ الأعاصيرُ كذاكالذي يتلظى في صدورِ المساكين بين حريقٍ ورمادٍ.
هي لحظةٌ فارقةٌ بين الحقيقةِوالخيالِ ما أمسكَ بها قلب إلا وصلَ برَ الأمانِ، ولكنَّ مجداف َالخيالِ يظلُّأقوى، وفورة َ الدماءِ أشد سفحاً بكفِّ الوعدِ الكاذبِ أحيانًا، وتلاعب الأمواجبسفينِة الأمل وقدْ.. وقدْ.. قدْ تغرقُ بالرُّكَّابِ ..
بتوالي الأيام دخلت سراب مدرسة الحوامل لأول مرة، لم يكن انتسابها سهلا فقد انتظرت سنوات عجافا ريثما فُتح لها باب القبول، فبدأت أولا تعرف معنى الوحام، ومن ثم مضت تعيش تفاصيله بندا، بندًا، فراحت تكره رائحة البحر التي تصدر عنه في بعض الأحيان، فتهرع إلى الحمام، وتفرغ ما في جوفها، وأم عادل تلحق بها بقطعة من ليمون حامض قيل بأنها تخفف الشعور بالغثيان.
حارت أم عادل.. لماذا يحصل هذا مع سراب عندما تشم رائحة البحر تحديدا، فهي لم تمر بمثل هذه التجربة سابقا بالنسبة لرائحة البحر؟!!
خافت عليها فقررت اصطحابها إلى طبيب الجزيرة فربما كان في الأمر خطورة، لكن سراب رفضت ذلك واكتفت بالصمت، وكثرة النوم، وقلة الطعام.
كرهت أشياءً كثيرة وأحبت أشياء أخرى لم تكن على علاقة طيبة بها قبل الوحام.
أصبح الشاي يثير اشمئزازها، فلم تعد تطيق تناوله بل بات ذكر اسمه يدفعها للتقيؤ، وكان سابقا من أحب المشروبات إلى نفسها باردا كان أو ساخنا، والغريب أيضا أنها لم تعد تذكر زوجها كثيرا وإن تحدثت عنه حماتها استأذنتها بالذهاب، ودخلت غرفتها خوف إزعاج العجوز بكلمة أو بالتفاتة تصدر عنها محملة بما تحسه تجاه عادل من تغير عاطفي، لكن والدتها أخبرتها عندما التقت بها ذات يوم بأن بعض النساء يشعرن بكره الزوج في الوحام، ومنهن من تترك البيت لعدم استطاعتها رؤيته أو شم رائحة ثيابه، وهذا أمر طبيعي سرعان ما ينتهي بانتهاء مدة الوحام التي قد تستمر أشهرا، فحمدت الله على أن عادل ليس موجودا معها في هذه الفترة العصيبة التي تمر بها الآن.
سألتها حماتها ذات يوم عما تشتهي من الطعام، فقد كانت العجوز تقوم بالطهي في ذلك الوقت لعدم استطاعة سراب شم رائحته المقلي منه والمسلوق، فطلبت ورق عنب بزيت(يالنجي).
جلست أم عادل بنشاط ملحوظ تلف اليبرق بمساعدة ابنتها وجيهة التي راحت تغني بصوت هامس لأمها تظهر فيه مدى لهفتها لاستقبال هاشم الصغير على أحر من الجمر، وعيون أم عادل تهمي بكرم دموع الهناء.
في هذه الأثناء بدأت سراب تحد من خروجها من المنزل، فقطعت علاقتها مع صديقاتها وقريباتها بحجة انشغالها بأمور البيت، فعتبن عليها وبعضهن اتخذن منها موقفًا معاديا، بينما التزمت أخريات بالحياد، وتركن لسراب حرية التصرف ولم يقلن بحقها إلا خيرا.
في عزلتها كانت تحس بالضيق مما ينقل لها عما يقال عنها، ولكنها كانت تعود فتبتسم فالأمر لن يطول كثيرًا، فكانت عندما تحسُّ اختناقًا يحاول اقتلاعها من أعماق الصبر فيحياة صعبة المراس،تجد نفسها برئة الأمل تتنفَّس، وبحضنهتتدفَّأ، وهي على يقين بأن من يُحرَمْ هذا الحضن يُسلبْالسعادة.. فتسبِّح من جعل لكل داءٍ دواء، فدواءُ هو اليأسِ الأملُ بكل نوافذه، وشرفاته وحدائقه الغناء.
الجمعة ، صباحا، في أحد موانئ البحر الأبيض المتوسط رست السفينة التي يعمل على متنها عادل.. رمى البحارة الياطر، واستعدوا للنزول إلى اليابسة والتجول فيها والالتقاء برفاقهم الذين سبقوهم إليها، فهم جميعا يعرفون هذه المدينة جيدا، وقد شهدت للبعض منهم مغامرات كثيرة، وهناك من له فيها بيت لزوجة وأولاد، أو لصديقة يقيم عندها ريثما تفرغ السفينة حمولتها في الميناء، وتُحمَّل بغيرها من البضائع التي تنقلها إلى ميناء آخر.
أنهى عادل أعماله المكلف بها في السفينة ونزل برفقة أحمد إلى المدينة لمحادثة والدته وسراب هاتفيًا، فقد هده الشوق إليهما، بعد مرور زمن طويل على سفره دون أن يستطيع الاتصال بهما لعدم السماح لهم بالنزول إلى المدن الساحلية التي مروا بها، بموجب قانون بعض الدول الذي يمنع البحارة من مغادرة السفينة، ومن ناحية ثانية فإن القبطان لا يسمح باستخدام الراديو إلا لأمور هامة جدا، إضافة إلى رفض عادل مبدأ الحديث عن طريق الراديو واستماع الناس المنتظرين محادثات ذويهم لما يدور بينه وبين أهله من كلام.
مشى عادل بهدوء يمتع نظره بجمال المدينة وما فيها من رقي حضاري، ونظافة شوارع والتزام الناس بقواعد السير والنظام في كل شيء، لكن رغم ذلك كانت صورة جزيرته لا تفارق مخيلته.
وهو في الطريق لفت انتباهه فستان أخضر في إحدى الواجهات المنتشرة بكثرة في هذا الشارع الكبير، لم يعطِ اهتماما للمانيكان الجميلة التي ترتديه بل تخيله على زوجته التي يحب. طلب من أحمد أن يرافقه لشرائه، فاعتذر لأنه هو الآخر قرر شراء (جاكت) جلد طويلة للمى رآها في واجهة أخرى فأعجبته.
افترقا على أمل اللقاء في الكافيتيريا التي يجتمع فيها البحارة من أبناء الجزيرة ومضى كل إلى ما يريد شراءه.
وعندما عادا إلى السفينة كان عادل غاضبا والضيق يعلو وجهه، حاول أحمد تهدئته فلم ينجح. رمى الكيس الذي كان فيه الفستان وبعض الأغراض التي اشتراها لوالدته وسراب ووجيهة فوق السرير في غرفتهما، وجلس مقطبا بينما راح أحمد يلطف الجو بإلقاء بعض النكات المضحكة إلى أن بدأت علامات الارتياح تظهر على وجه عادل فقال له:
ـ لا تشغل نفسك بما لا يخصك، كل إنسان هو حر بحياته يفعل ما يشاء ولن ينزل أحد مع أحد في قبره.
ـ ما كنت لأهتم لولا أنه أراد أن أشاركه في خطيئته، لقد فقد عقله.
ـ ولِماذا الغضب، فأنت رفضت أن تقرضه المال، وانتهى الأمر؟
ـ ما يؤلمني يا أحمد أنه يضيع عمره وماله في الحرام تاركا زوجته وأطفاله للمحسنين، أهذا عدل؟
ـ أمثاله كثر، ولا يهمهم إلا الساعة التي هم فيها، فادعُ لهم بالهداية؟
ـ أي هداية؟ وهو يريد أن يقترض المال منى من أجل صديقته التي يقيم عندها، لتدفع قسط المدرسة لولدها بحجة أنه عمل إنساني، تصور يا أخي سيدفع لأولاد الصديقة، بينما أولاده بأمس الحاجة للمال. لم يعد يستحي والله.
ـ سيرته باتت علكة بأفواه الناس، مثله ومثل غيره.
ـ الله يعافينا مما ابتلى به الكثير من خلقه؟
ـ آمين. المهم أنك تكلمت مع الوالدة والحمد.
ـ أجل، ولكن أخونا أزعجني والله.
ـ لا عليك، أنا أيضا تحدثت مع الوالدة وكانت لمى عندها فضربت عصفورين بحجر.
ـ عندما سمعت صوت أمي شعرت بغصة تخنقني، تمنيت لو أعود إلى الجزيرة، ولكن عندما تكلمت مع زوجتي غيرت رأيي، وصممت على متابعة السفر لتأمين ثمن البيت الجديد أو مبلغٍ منه لكن لا أدري شعرت بأن هناك شيئا ما تخفيه أمي عني.. سمعت في كلامها نبرة جديدة أرجو أن تكون خيرا.
ـ كل خير بإذن الله. قل الله
ـ الله ، لا إله إلا الله
سرق الخوف أمنها، وبدد صفوها، فاتسعت عيناها وهي تخرج من غرفتها إلى بهو الدار والهواجس تملأ رأسها، رأت حماتها هي الأخرى بحالة قلق أشبه بالذعر:
ـ ما الذي يحدث في الخارج يا امرأة عمي؟
ـ لاأدري، اهدئي سأعرف ماهناك.
ـ صراخ رجال يملأ الأجواء.. سأنظر من خلف النافذة لمعرفة ما يدور.
ـ لا.. قد يراك أحد.
ـ كيف سيراني من خلف النافذة؟
ـ قلت لك لا تفعلي، سأرتدي ثياب الصلاة وأخرج، ناوليني الغطاء، أسرعي.
تزداد الأصوات علوا مختلطة بأصوات نساء.. تفتح درة باب البيت.. تمد رأسها إلى الحارة.. تلتفت إلى سراب.. تشير لها أن لا تقتربي وهي تغادر الدار.. يلتهما الزقاق.. تمتد يد رجل من الخارج وتغلق الباب.
مازالت الأصوات تعلو.. تعلو.. يختلط الحابل بالنابل.. أصغت من خلف الشباك.. وقع في سمعها صوت امرأة:
ـ أنت السبب يامنافق، لو أنك أحسنت تربية ابنك لنجت ابنتي من أنيابه القذرة. والله ثم والله، لن نسكت على هذا الأمر، وسترى ما الذي سيحل بك وبابنك.

إنه صوت جارتهم سجية.. أجل هي سجية أم الصبية شهلة، لكن ما الذي حدث؟ الفتاة مخطوبة لابن عمها، وسيتم الزواج بعد شهر، لابد أن الذي أثارها خطب جلل، فهي امرأة متزنة ومن عائلة يحترمها الجميع، ويقال بأنها حليمة، فهيمة.
انتظرت عودة حماتها لكن الأخيرة لم تعد إلى البيت رغم عودة الأجواء إلى هدوئها المعتاد.
توضأت سراب وصلت فرض العصر، وجلست تحتسي قهوة ما بعد العصر، يؤنس وحدتها ما يقوم به الجنين في بطنها من حركات مفاجأة كانت تضع فوقها يدها وتقرأ المعوذتين والسعادة ترسم فوق وجهها ابتسامات الرضا.

منذ مدة احتجبت سراب عن الناس ولم تعد تظهر لأحد، فهي تخاف كثيرا على حملها، وتخشى أكثر أن يرى الآخرون دهشتها وتأملها بما لم تعرفه سابقا، فالتأمُّلُ بشيءٍ غريبٍ يحدثُ لصاحبِهِ دهشةً تجعلُ الآخرينَ في حَيرةٍ من أمرِه.. منهم من يتهمُهُ بالاضطرابِ، وآخرونَ بالجنون، والبعضُ يظنُّهُ حالماً يرنو لأملٍ بعيدِ يوشكُ أنٍ يصطادَهُ بعينينِ مشدوهتينِ بروعةِ الصًّورة وربما كان ضربا من خيال..
سراب تؤمن حقيقة بما علمتها أمها وكانت تردد على مسمعها قولا حفظته عن ظهر قلب"إذا شعرتِ بأنك متشوقة للقاءِ فكرةٍ ما خطرتْ في بالك، فلا تمانعي باعتناقِها إذا كانتْ مفيدةً لك ولمنْ حولك.. ازحفي إليها بكل ما أوتيتَ من قوةٍ إن عجزتِ ركضاً، أو مشياً، وتأكدي بأنك لن تتلوثَي بالغبارِ لأن الفِكرَ الطاهر يكون دائماً نظيفا". هي تعلم بنظافة حملها فلِمَ لا تتعلق بفكرة المحافظة عليه وعلى مستقبله بما سيحضره عادل من مال؟
وعندما عادت أم عادل إلى البيت سألتها عما حدث. هزت المرأة رأسها بأسف واختصرت ما جرى بعدة كلمات، لعنت فيها الشيطان الذي يلعب بعقول الشباب فيقترفوا الإثم عن طيب خاطر، وعند المطالبة بإصلاح الخطأ والإسراع بالزواج يقولون: لم نجبر أحدا على شيء.
قالت سراب بأسف: لا حول ولا قوة إلا بالله، حتى لو كانت خطيبته يرفض ذلك؟
ـ أجل يا ابنتي لأنه يقول، من تسلم نفسها قبل الزواج لا تُستأمن على عرضٍ بعده.
في عرض البحر كانت السفينة تواجه عاصفة هوجاء هبت عليها برياح شديدة في غرب المتوسط، في نقطة بحرية تفصلها عن اليابسة مسافات طويلة.
حركة غير طبيعية ملأت السفينة فبدا البحارة في ذهول، والقبطان في غرفة القيادة مستنفر الفكر والأعصاب لمواجهة ما قد تتعرض له السفينة من أخطار في هذه الأجواء الكئيبة التي تخلع القلوب من أعماقها، وتلقي بها في أحوال لا تليق بالرجال.
في هذه الظروف يجدون أنفسهم رغمًا عنهم يعيشون لحظاتهم ارتحالا في المدى، يتقبلون كلَّ ما يخطر في بالهم من عثراتٍ تحجب عنهم أمن السفر، وعندما يخطون أولى الخطوات يبدون بعدها بعين مفتوحة، يسترقون السمع لهمسات الوهم، وهم يغذون السير باتجاه الهدف، وحدهم الشجعان منهم يتابعون الإبحار في المجهول، بينما يتساقط الجبناء غرقى في أعماق البحار.
يمضي الوقت غير مكترث بشيء، يقطع جموعَ المارين به سعادة أو تعاسة، فمن يفهم لعبة الوقت يكسب منه كثيرًا، فكل شيء محتمل في دنيا غريبة عجيبة نفسر الظاهر منها حسب المعطيات التي تصلنا، فنقف عندها، ويظل المجهول أبعد من أن يطاله فكر أو حسابات بأي حال.
كان عادل في الحقيقة يشعر بالخوف أحيانا عندما يجد السفينة في شاهق من الماء ثم تنحدر بسرعة في واد منه وأمامها جبل مائي عليها تسلقه ببطولة قبل أن يطمرها بأحماله الهائلة من الماء المالح.
الآن هم بين الخطر واليأس يبتهلون إلى الله حتى سارق السرقة يقوم بذلك ضعفا، فهم بين قبضة واقع لا يدري أحد كيف تكون فيه النهاية، فكم من سفينة ضخمة اخترقتها الأمواج وأرستها في بطن البحر بمن وما فيها قبل أن يصل إليها الإنقاذ من إحدى الدول أو السفن القريبة منها.
كانت الأمواج تظهر كغول ضخم فاغر الفم لابتلاع السفينة، من ينجُ ويعود إلى أهله يحدثهم عن رعب لم يذقه إنسان إلا شاب رأسه قبل وقت المشيب. لكن هناك من اعتاد على تلك العواصف فبات الأمر عنده غير ذي أهمية فيعلن تحدي البحر بكلمات لا يتفوه بها إلا زنديق.
نسي زوجته وأمه وحتى جزيرته، وشغل نفسه بالدعاء وهو يؤدي مع البحارة ما يطلبه منهم الربان الثاني من أعمال.
كان أحمد يركض من مقدمة السفينة إلى مؤخرتها ثم ينزل إلى العنبر ومنه إلى غرفة الماكينات التي تسير السفينة، لم يكل عن الحركة كنحلة نشيطة جعلت الربان يثني عليه عندما هدأت العاصفة ووعده بمكافأة مالية . فرح أحمد بوعد الربان له بالمال ولو كان قليلا فقد يساعده بقضاء حاجة من حاجات التحضير للزواج.
تعمقت الصداقة بين عادل وأحمد حتى أصبحا كأخوين من أم وأب واحد، فهناك خيط شفاف لايراه إلا الأوفياء، يربط القلوب النقية الصادقة برباط غالٍ جدًا لا يملك ثمنه إلا الكرام من البشر، أولئك الذي يعرفون قيمة أنفسهم من خلال قيم الناس في قلوبهم، ولكن للأسف هم قلة، ورغم ذلك فبهم يصبح للحياة طعم جميل ومعنى محترم.
وعندما سقط أحمد في عنبر السفينة، وفارق الحياة ظلَّ عادل يبكيه عدة أيام دون أن يعرف الرقاد له جفنا.
ودع البحارة رفيقهم أحمد بالدموع والزهور.. ونقلته الطائرة من أحد مطارات الغرب إلى بلده، ترافق تابوته حقيبته الصغيرة والكيس الذي وضع فيه (جاكت) لمى، ودفن في الجزيرة وسط دموع أمه وخطيبته وجميع أهله ومعارفه.
لقد تعودت الجزيرة على استقبال أولادها البحارة أحياء وأمواتا بدموع الفرح، أو بدموع الحزن والفقد وهم في ربيع العمر..
طُرِقَ الباب صباحاً وسراب لم تزل في سريرها إثر شعور بإرهاق ألمَّ بها، أصغت قليلاً وانتظرت ريثما ينتهي هذا الصوت المزعج بفتح الباب، ولكن لم يحصل ما تريد.
نهضت من فراشها، وخرجت إلى فسحة الدار.. بحثت عن حماتها فلم تجدها في البيت، يزداد الطرق على الباب قوة وإصراراً، تأففت ضيقاً، وبلحظة طيش عصبي خانت عهد اختفائها عن الناس بالرد على القادم الطارق.. اقتربت من الباب وسألت من؟ فسمعت صوت جارتها هناء تستعجلها في أمر هام.
حوصرت سراب بالنداء، لن يفك حصارها أحد، فأدركت أنها في ورطة حقيقية وأنها لا محالة ستضحي بالبيت الجديد.
قبل أذان الظهر كان خبر حمل سراب يملأ أسماع أهل الجزيرة، كثر العاتبون، وتكلَّم الحاسدون، وفاعل خير يحبُّ (عادل) بثَّ إليه عبر راديو السفينة خبر الحمل هذا ليفوز بهدية قيمة.
وعندما عادت أم عادل إلى البيت قالت بخيبة: لن يشتري عادل البيت الجديد هذا العام.
كما ودَّعته بالدموع استقبلته بها سخيَّة عند عودته عل متن طائرة ركاب نقلته من ميناء مرسين إلى العاصمة، ومنها بالسيارة فالمركب إلى الجزيرة. روت له بتفوق ملحوظ حتَّى أدقَّ التفاصيل منذ بداية حملها إلى كشف سرِّه.
لفَّها بالإمتنان وضمَّها بالشوق، ولكنَّه لم ينس أن يفخِّخ لهفته الحرَّى واشتياقه المجنون إليها بشيء من اللوم وكثير من العتب، ولم تخفي عليه هي حسرتها المرة بخسارة البيت الجديد.
قال لها: أيسعدك أن أعمل صيَّاداً ريثما يأتي هاشم؟
أجابت بسرور: طبعاً، ولكن مايدريك بأنَّه( هاشم)؟
أجابها: هاشم، درة لا فرق، كلاهما نعمة من الله تستوجب الشكر.
فُك حصار سراب برجوع زوجها، فعادت إلى الظهور في المجتمع ولكن بحذر بعد أن تعلمت من الأحداث التي مرَّت بها فلسفة جديدة.
بهدوء جهَّزت ووالدتها ما يلزم للمولود عند قدومه، وأعدَّت البيت كما يليق بهذه المناسبة الرائعة، وبيَّضت الجدران.
لم يكن عادل كريماً بإنفاق الوقت دون عمل، فسعى منذ وصوله لإيجاد قارب صيد استأجره مع بعض رفاقه لتأمين قوت يومه بعد أن ترك العمل على ظهر السفينة وعاد بالقليل من المال.
مهنة الصيد تحتاج لخبرة جيدة، والريس منصور معلم ٌبها، وقد سبق لعادل أن عمل معه أحياناً كثيرة فيما مضى فاستدعاه لرياسة المركب.
هناك في البحر وعلى بعد عدَّة أميال من الجزيرة غرباً كان قارب الصيد يحمل(عادل) ورفاقه كي يلقوا شباكهم بعد عصر كلِّ يوم ويعودوا إلى الجزيرة قبل الغروب، وقبل الفجر يخرج الصَّيَّادون لجمع شباكهم بما علق فيها من اسماك، ثمّ َيعودون بها إلى المدينة الساحلية القريبة من الجزيرة لبيع صيد يومهم لمسمكاتها بالسعر الذي يستحقُّه كلُّ نوع منها.
قالت أم عادل له ذات يوم عندما عاد بثمن الصيد: سمعت والدك يتحدَّث عن الأسماك وعن علاقتها الحميمة بالصَّيادين.
سألها باهتمام: وماذا قال عنها؟
أجابت: قال رحمه الله: إنَّ الأسماك تحس بتعاسة الصَّيَّادين، لذلك فهي تحبُّهم وتشفق عليهم وتدخل في شباكهم لتخفِّف عنهم شيئاً من المعاناة.
فقال عادل باسماً: ولكنَّها تقع فريسة في الشباك لصغر عقلها، وضعفها فتهزم.
قالت: مايدريك، ربَّما كانت منتصرة بالهزيمة، قويَّة بالضعف.
فسألها ساخراً: وهل هناك انتصار بالهزيمة وقوَّة بالضعف ياأمَّ عادل؟!!
أجابته بثقة: عند المحبين فقط، بمعنى أن تقدم نفسك فداء لمن تحبُّ.
قال: أليس هذا غاية الجنون ياأمي؟ إنَّه انتحار ولو كان من سمكة، منطق غير صحيح لا أحبُّه ياسيِّدتي.
ليلة من ليالي العمر شهدتها الجزيرة، رقصت فيها سجية حتى الفجر، فرحة بزفاف ابنتها شهلة عبد السميع لابن عمها توفيق، وظلت الأفراح والليالي الملاح قائمة عدة أيام بلياليها أعادوا فيها تقاليد الأعراس القديمة التي كادت تنقرض في السنوات الأخيرة.
اشترك أطفال العائلة والجيران ومن يشاء من الشبان والرجال بنقل جهاز العروس من بيت أهلها إلى بيتها على صوت قرع الطبول.. وقف الناس يشاهدون الجهاز من الأزقة الضيقة ومن على الأسطح، ومن النوافذ ويحفظون ما يشاهدونه ليكون المادة الدسمة للسهرات التي يتحدثون فيها عن الجهاز.. كم دزينة من الصحون بكل أنواعها أخذت معها، والطناجر، والصواني، والكاسات، والفناجين، والأحذية، والأراجيل، والفرش واللحف، والمخدات، والشراشف، وأدوات المطبخ والخياطة والتطريز، ويستمر الرجال بالنقل لوقت طويل، وزغاريد النسوة تعلو كلما شاهدن فوجا من حملة الجهاز يمرون من أمامهن.
تبدأ الأم في الجزيرة بتجهيز ابنتها منذ أن تكون فتاة صغيرة ويستمر حتى يوم نقله إلى بيتها.
في اليوم الثاني ليلا تكون ( الشوفة ) فيها تعرض العروس فساتينها في حفل ساهر، وفي اليوم الثاني (التغسيلة) وفيها تحني الماشطة الحاجة( أم النشار) العروس وتهيِّئها لليلة الدخلة التي ستكون في الليلة القادمة، أما ليلة التغسيلة فترتدي فيها العروس فستانها الأسود، وتستمر الحفلة حتى وقت متأخر من الليل دون أن يأتي العريس فهي للنسوة فقط، يغنين ويرقصن على قرع الطبلة(الدربكة)، وغناء الحاجة بكريَّة صاحبة أجمل صوت في الجزيرة، وهي التي تزف العرائس منذ أكثر من ستين عاما بمساعدة ابنتها خضرا.
في اليوم الثاني تمد سفرة في بيت العريس(العَشْوة) لجميع أهل الجزيرة يأتي إليها من يشاء من الناس، ويجد الأطفال فيها فرصة للفرح وتناول أشهى المأكولات التي اشتهرت بها الجزيرة من كجيجات (كبة بالفرن) وفاصولياء ورز، وورق عنب، وخروف محشي، وكبة لبنية ومقلية وغير ذلك مما لذ وطاب من الحلويات كالكنافة والبقلاوة والمعمول والعجوة والفاكهة بكل أنواعها، ومن ثم تبدأ بعد العصرالحلاقة للعريس والتلبيسة حيث يقوم رفاقه بتلبيسه بدلة العرس على صوت قرع الطبول، ورقص إخوته ورفاقه، ويستمر ذلك حتى الليل حيث تُجلى العروس في بيت أهلها بفستانها الأبيض والطرحة فوق منصة عالية ليتسنى للجميع رؤيتها، وتزفها بكرية وتكون ليلة خاصة جدا تفوق ببهجتها كل ما مضى من ليالٍ، وفيها يتم النقوط للعروس كل حسب مكانتها وقرابتها من العائلتين، ولايقتصر الحفل على المدعوات فهناك أيضا( الفراجة) وهنَّ من النسوة غير المدعوات يأتين لحضور العرس وقد خبأن وجوههن بمنديل أسود، فلا يظهر منهن سوى العيون ويكنَّ بأعداد كبيرة لم يخلُ منهنَّ فرح.
تجلس الماشطة أم النشار بالقرب من العروس فوق البرزة، وتضع في حضنها منديلا خاصا للنقوط ثم تلفه وتحمله معها، ولبكرية أيضا نقوط ممن تغني لهن ويرقصن على نقرات أصابعها السحرية على الطبلة(الدربكة)، ولكل فتاة وامرأة أغنية خاصة بها تختلف عن أغنية غيرها من الحاضرات، ويأتي العريس ليأخذ عروسه بمرافقة الطبل والعراضة ورقص الرجال بالسيوف من أصحابه وأقربائه.
يتأبط العريس يد عروسه، ويخرج بها من بيت أهلها بمرافقة بكرية وأهل العريس والزغاريد تملأ الأجواء بعد أن يخلي الرجال الطريق لموكب العروسين، ويستمر الغناء حتى تصل إلى بيتها الذي ستقيم فيه مع زوجها حيث أتمت أم العريس تجهيزه وفرشه بما يليق بسمعة العريس، وكل يجهزه حسب قدرته المادية.. قبل دخول البيت تناولها حماتها قطعة من العجين (الخميرة) فتلصقها فوق العتبة، وهذه عادة درج عليها السكان يعتقدون من خلالها بأن العروس ستلتصق مدى العمر ببيت زوجها كقطعة العجين التي التصقت فوق العتبة.
في صباح اليوم الثاني تكون الصبحية، ترتدي العروس فستانها الأبيض، وتزفها بكرية والأهل يغنون ويرقصون. بقي عليها ليلة السرقة وفيها تأتي إلى بيت أهلها، تسهر معهم وعندما تريد العودة إلى منزلها تشير لها أمها بأن تأخذ شيئًا من المنزل متفق عليه مسبقا، فتسرقه وتذهب به إلى بيتها.
فرح أهل الجزيرة بشهلة وتوفيق بعد أن وفق عقلاء الجزيرة وحكماؤها بين العائلتين، وتمنوا لهما حياة سعيدة.
حضرت سراب وحماتها حفلات النسوة وحضر عادل حفل الرجال رغم حزنه الشديد على صديقه أحمد.
دخل وزوجته إلى غرفتهما وهما يحلمان بليلة زواج ابنهما هاشم أو ابنتهما درة، وتعاهدا على أن يكون الزفاف على الطريقة القديمة فليس هناك أجمل من التقاليد التي تعبق بالأصالة، وتعيد ذكرى الآباء والجدود.
أكثر من مرة زارت سراب مع والدتها القابلة القانونية التي ستقوم بتوليدها، وفي كل مرة كانت تطمئنها بأن أمور الجنين بخير، وتصف لها بعض المقويات وتطلب منها شرب الحليب وتناول الفاكهة، وأن لا ترهق نفسها بالعمل كثيرا على أن تقوم بالمشي بين فترة وأخرى، ووصفت لها حبوب الحديد والكلس.
لم تكن أم عادل مسرورة بشأن القابلة، فهي تريد أن تستقبل حفيدها على يد الداية كما جاء والده وعمته، فرفضت والدة سراب وعادل ذلك خاصة وأنها الولادة الأولى، ولن يجازفوا بمغامرة لا يدري أحد ماتخبئه من مفاجآت.
سكتت أم عادل على مضض مالبثت بعد وقت أن رضيت بالقابلة مفوضة الأمر إلى الله.
لم يكن حمل سراب بالنسبة لعادل أمرا عاديا فكان فرحا بقلق، وقلقا بحذر، يشعر رغم كل شيء وهو بانتظار المولود بأنه يمر في أجمل أيام حياته، وأكثرها ترقبا وتوجسا وسعادة بتمازج المتناقضات في إحساسه الجديد، كان يتشوق لرؤية المولود، فأحضر له ألعابا كثيرة، وثيابا تكفيه لسنوات، وذهب بسراب إلى طبيب الجزيرة فطمأنه، وضعها ممتاز وكل شيء طبيعي، لكنه كان في بعض الأوقات يحس بالضيق فيجلس إلى أمه.. يحدثها عن الحاضر والماضي والمستقبل، وسراب تنصت إليهما وابتسامة تعلو ثغرها وبين الحين والآخر تتلقى من جنينها ضربة رقيقة بحركة قدم أو كوع أو رأس.. تتحسس موضع الحركة متمتمة بالمعوذتين وعينا عادل تراقب يدها فوق الثوب وقلبه يرقص فرحا.
ذات يوم طلب عادل من سراب ارتداء الفستان الأخضر الذي أحضره لها عندما عاد من السفر:
ـ أحب أن أراك به.
حاولت فلم تستطع ذلك لزيادة وزنها بالحمل، وعدته بارتدائه بعد الولادة، وبأن تتخلص من الوزن الزائد في أقرب فرصة، فوعدها بأن يشتري لها غيره بعد الولادة، ولا يريدها أن تستعجل بالتخلص من الوزن الزائد خوفا على الطفل من سوء التغذية، ولتدع هذا الأمر لحينه، ويكفيه أنها ستهديه أغلى زهرة عطرة في الوجود.. كثيرة هي الزهور، ومتنوعة هي العطور، ولكن أجملها في يقينه على أية حال تلك التي تجعله يشعر بالسعادة حقيقة، وهو ينعم النظر في بديع صنعها، فيقول سبحان الله الخالق العظيم.
وهاهو الأملُ يدلف من ثقب قلبه خيطا رفيعًا يغزل به ستارة دفءٍ يعلقها فوق جدرانه خشية اجتياح الصقيع له في هجمة حزنٍ قارصة، ولن ينسى أن يسدَّ الثقب ببقايا الخيط، فبين اللحظة واللحظة برزخ مجهول لايعلمه إلا من سوَّاه.. كم نفس تقبض بين شطيه ?كم دمعة تسكب بحرقة أو بفرح؟ كم من دمٍ يهدر قبل بلوغ الشط الثاني بين اللحظة واللحظة؟ واليوم هو بانتظار طفله ورغم خوفه فالأمر يعجبه، بل يبهره، فعندما تولد حياة من حياة، فإنها تستحق المخاض الصعب بصرخة وليد يشرق أملا من بعد استبداد يأسٍ، فإن حقق الهدف من مولده فلا أحلى منه ولاأجمل، وإن لم يتم ذلك، فيكفي أنه مولد حياة تتولد منها حيوات جديدة قد يكون فيها ما ينتظر من أمل.
في إحدى زيارات سراب وأم عادل لوالدة أحمد، التقت هناك بخطيبته لمى التي أقامت عند خالتها منذ وصول الجثة ولم تفارقها إلى بيت أهلها إلا نادرا، وللضرورة الملحة خاصة وأنهما تعيشان في حارة واحدة.
تحدثن كثيرا عن أحمد وعادل، وعن عمق الصداقة التي ربطت بينهما.
روت سراب عن رحلتهما الأخيرة الشيء الكثير بإلحاح من لمى وأم أحمد التي أرادت أن تسمع كل شيء عنه صغيرا كان أو كبيرا، فلم تبخل عليهما بالقص، مما جعل الابتسامة تعود إلى محياهما بما روته عن بخل القبطان خاصة بشأن الطعام رغم انه كان يأخذ من مالك السفينة أضعاف أضعاف مايصرفه أثناء السفر كما يفعل بسعر الوقود، وهذا كما قيل معروف عن بعض القباطنة الذين يصبحون من الأثرياء بل من أصحاب البواخر في مدة قصيرة من الزمن، عدا عن السرقات العامة التي تتم عندما يعلن أحدهم أنه سيشتري باخرة، والباب مفتوح لمن يريد مشاركة الناس له.
يُحدد القبطان ثمن السهم مبلغا معينا من المال لمن يريد الشراء.. يتهافت عليه الأهالي تهافت الفراش على النور، ولِمَ لا فهم يعرفون كرم البحر.. تبيع النساء مصاغهن.. يستدين الفقراء ثمن ربع أو نصف أو حتى ثمن عشر حصة.. تضع الأرامل واليتامى ما معهم من صدقات المحسنين ثمنا لجزء من سهم أيضا، وآخرون يضعون تحويشة العمر وحتى حصة ميراثهم من أمواتهم على أمل الربح العميم.. ويتم جمع المال.
تبدأ الأحلام الوردية تأخذهم إلى عوالم شتى يجدون بها أنفسهم في ثراء وهناء، وقد قبروا الفقر والعوز إلى الأبد.
أحلام كبيرة وآمال براقة بخيال جامح، ولكن سرعان ما يتهاوى كل شيء عندما يعلن القبطان بعد عدة أشهر من استغلال الباخرة في التجارة البحرية خارج البلد، بأن الديون قد تراكمت عليها، وأنه سيبيعها بسعر بخس لتحصيل مايمكن الحفاظ عليه من ثمنها، وقد يعيد للمبخوسين ربع أموالهم أو ثلثها دون أرباح إلا ماندر.
بعد مدة من الزمن يفاجأ الناس بأن القبطان قد اصبح مالكا لباخرة خاصة بحمولة كذاألف طن، وهو الآن يشيد فيلا ستبهر عيون القبطان فلان وتقلع عيون علان وهو يدري بأنها ستحرق قلوب الفقراء الذين سرق أموالهم بطرق يظنها مشروعة ناسيا أن الله له بالمرصاد، ولكنه وأمثاله لايتعظون، ولا يريدون أن يقروا بأن معظم من استغل طيبة سكان الجزيرة وقطف أحلامهم أصابه الله بسهم أحنى ظهره، ولكنه لم يرجع عن ضلاله متحديا صحوة الضمير ولو للحظة عابرة.
تركت هذه الزيارة أثرا طيبا في نفس سراب، وأسعدها التعرف على لمى فهي شابة جميلة، مهذبة تحب خالتها أم أحمد قبل أن تخطبها لابنها، وازدادت لها حبا بعد الخطوبة، وتعمقت المحبة بينهما أكثر بعد رحيل الخطيب.
في عيني لمى بريق يخطف الأنظار، ولها ابتسامة حزينة تزيدها جمالا غريبا ينطق بالألم رغم صمت صاحبته شبه الدائم.
تمنت سراب لو كان لها أخ فتزوجها له، ولكن علية لم تنجب إلا الإناث فضيعت فرصة التمني على ابنتها.
لمى أصغر منها سنا وأجمل أيضا، هي اعترفت بذلك بينها وبين نفسها لكنها لم تقل لها بأنك أجمل مني، فليس الوقت مناسبا لمثل هذا، ولا يليق بها أن تتكلم بموضوع ليس لا مبرر له على الأقل في مثل هذه الظروف، بل ولا حتى في غيرها.
أحست بشيء من لوم النفس دون أن تدري لماذا راود رأسها هذا الأمر، ربما كان من باب الشفقة عليها، فرأتها كما لم تكن لتراها في ظروف عادية، ولكن ماالعمل فيما همست لها به نفسها؟!!
كلمة حق بهمسةٍ دافئة قد تفتح أمام الآخرين أبواب السعادة ما لم تستغل مصيدة لكسب مأرب لا يتوافق هدفه مع مكارم الأخلاق، وليس لهمسة نفسها مايعارض ذلك لكنها آثرت الصمت.
آذار.. الرّبيع موسم التفتح والجمال، طقس التفاؤل والعطاء، ولكنه مختلف بالنسبة للصيَّادين، دائماً يأتي بوجهين، يوم مشرقٌ، بحرُه هادئ يغري بخوض غماره صيدا وسفرا ونزهة، والسعادة ترفرف فوق الجزيرة بأجنحة النوارس وغاقاتها البديعة، وبزقزقة الأطفال فوق الصخور، ونصب الشباك فوق الأسطح والساحات لصيد النُّفُّج، وآخر غائمة سماؤه، هائجٌ بحرُه يوحي باليأس من فرج قريب.
في أحد هذه الأيام الرمادية، المتشحة بالبؤس خرج عادل من البيت منزعجا وفي رأسه الكثير من التساؤلات.
مشى في الحارات التي تملأ الجزيرة على غير هدى.. لم يكن يقصد هدفاً معيناً، فقط يريد أن يمشي عبر الأزقة الضيقة التي لا يتسع بعضها لمرور شخصين دون مواربة، هكذا تعود منذ الصغر عندما يحس بالضيق يمشي في الأزقة بعض وقت ثم يعود إلى البيت وقد استعاد شيئًا من الراحة النفسية. كانت أمه تلومه على ما يقوم به لكنه لم يترك هذه العادة وظلت ترافقه حتى اليوم.
عادل يحب جزيرته ولاعجب في ذلك، فهو رغم زيارته لعدد كبير من مدن العالم، وبعض الموانئ الشهيرة ومشاهدته لمظاهر الحضارة فيها، والتي تفتقد جزيرته الصغيرة الوادعة إلى أقلِّها تطوراً، فإنَّه كان يحب أزقتها الخانقة حباً جماً، ولكنَّ حبه الكبير هذا كاد اليوم أن يتحول كرها عندما رأى جمهوراً غفيراً من القطط، وقد تجمَّعت حول أكوامِ القمامة الملقاة خارج البيوت دون أكياس، والذباب والبعوض يحوم حولها بشكل مقزِّز، ورائحة كريهة تنبعث منها جعلته يحسُّ بالغثيان والاشمئزاز، فأغلق أنفه بإصبعيه، والذباب يحيط به كوليمة شهيَّة له، وأسرع باجتياز الحارة التي اشتهرت بعدم نظافتها بخلاف بيوت سكانها، والتي تسبب حرجاً لأهالي الجزيرة أمام السُّيَّاح.
رفع أصبعيه عن أنفه بعد ابتعاده عن رائحة الأوساخ وتراجع الذباب عنه.. استنشق الهواء بملء رئتيه هرباً من الاختناق، وسرعان ما تجدد شعوره بحب الجزيرة فحدَّث نفسه:
ـ آه لو كنت رئيساً للبلدية.
ـ وماذا كنت ستفعل ياشاطر، إن كان الأهالي قد تعودوا رمي الأوساخ قرب بيوتهم؟
أجاب نفسَهُ: أفعل الكثير، الكثير.
ـ كلُّهم يقولون مثلك في البداية، ثم يصابون باليأس من الإصلاح، فينسوا ويطنّشوا ليبقوا في البلدية.
ـ ولكنَّني لن..
ـ حتى عمال النظافة يهربون..
ـ سأحـاو…
ـ لن تصل إلى ما تريد، فلا تتطاول كثيرا.
ـ صدقت ومن أنا كي أتطاول كثيرا أو قليلا؟!!
خرج من دائرة الأسئلة والأجوبة ليجد نفسه مواجهاً للبحر غربَ الجزيرة.
امتطى صهوة صخرة عالية قديمة التاريخ مجهولته وجلس فوقها مبهوراً بعظمة الأمواج الصاخبة التي راحت تضرب الشواطئ والصخور بثأر لا يعرفه.
حاول اكتشاف المجهول بنظرة إلى الصخور المجاورة، والبعيدة يستطلع منها ملابسات الثأر، ولكنَّه فشل في استدراجها للاعتراف.
جثا صامتاً.. حائراً تتقاذف الأمواج أفكاره ثمَّ تلقي بها فوق كتل الأوابد القاسية.. الصامدة فتكسرها بالعناد.
أحس بالبرد يأكل عظامه، فوقف يحرك رجليه كجندي أثناء التَّدريب ليطرد البرد من شرايينه قبل أن تتجمَّد فيها الدماء، أعجبته الحركة فكررها كثيرا وسرح بأفكاره بعيدا متمنيا لو أنه خدم في الجيش وجرَّب حياة العسكر بكل ما فيها من نشاط وقوة، لكن للأسف لم يتسنَ له ذلك لأنه وحيد، ومن كان وحيدا لأمه يُعفَ من خدمة العلم.
شعر بشيء من الحرمان.. توقف عن المراوحة وبعض دفء يسري في داخله، وعندما ترجل عن صخرته قدَّمت له الأمواج بغتة هدية غريبة جعلت جسده يرتعش لدقائق كادت خلالها أطراف لسانه تقرض تحت أسنانه المضطربة عندما فقد السيطرة على مشاعره وهو يرى كرم البحر يستقرُّ فوق الصخور خارج الماء.
قبل أسبوع اشترى عادل في طريق عودته إلى البيت ديكا سمينا ذا عرف أحمر جميل من (العنيدي بوصطيف) كان يعرضه للبيع في إحدى أزقة الجزيرة بعد أن طردته والدته مع ديكه المدلل الذي أفسد عليها حديقة البيت الصغيرة وما فيها من مزروعات، وأزهار وورود، وأصيص القرنفل الذي يذكرها بزوجها الراحل وكيف كان يحب أن يرى القرنفل المخملي الخمري يزين شعرها، فأقسمت ألا تسمح له بدخول الدار إن هو عاد ومعه هذا العفريت المؤذي.
كل تفاصيل الحدث الجميل تظل متقدة في الذاكرة مهما طالت قامة الوقت واتسعت مساحته ..ربما تهرب لحظة خجولة من حضن العمر، فتختبئ خلف عيون الذاكرة بإحساس طفلة بريئة المشاعر، تنتظر رفة جفن تعيدها إلى داخل الإطار، فتبدو أكثر وضوحا عندما تتبختر في طريق العودة.
رحبت أم عادل بالديك الجميل فأنزلت القن القديم عن سطح المطبخ وهيَّأت له موضعا في الزاوية الغربية من حوش البيت، فصار المنبه الطبيعي لها في أوقات السحر، يوقظها من النوم بصياحٍ أحبت سماعه، فكانت تتوضأ.. تصلي قيام الليل.. تسبح الله كثيرا.. تحمده.. تؤدي صلاة الفجر.. تقرأ جزأ من القرآن.. تحتسي قهوة الصباح ثم تجلس مع الديك.. تطعمه وتسقيه.. أكثر من مرة سمعتها سراب تحدثه.. بداية خافت أن تكون حماتها قد أصيبت بمس في عقلها، لكنها سرعان ماتراجعت عن خوفها عندما رأتها تحدثه أمامها.. تلاعبه كطفل صغير، وهو ينظر إليها بلا فهم، وذات مناوشة بينهما نقر أصبعها.. تألمت، بلعت على مضض تأوها كادت تطلقه.. ضحكت بتصنع تلافيا لشماتة سراب التي كانت تراقبها عن كثب بابتسامة خفيفة في محاولة لإخفاء ضيقها من الديك المزعج لها بالصياح، وعندما كانت تبدي ذلك لحماتها كانت تقول لها:
ـ إنه يسبح الله بلغته ياابنتي، فلا تتضايقي منه.
تضحك سراب فهي تعلم أن كل شيء في الكون يسبح الله عزَّ وجل بلغته، وهي لاتحتج على ذلك وإنما احتجاجها فقط على كثرة الصياح، ثم تعود فتسبح الله وتروض نفسها على سماع تسبيح الديك فتحس بالرضا..
بالأمس ذبحه عادل، وطلب منها أن تحضره لعشاء اليوم. أحست العجوز بالحزن على الديك فقد تعودت عليه، وبات يؤنسها ويشغل حيزا محترما من اهتمامها عندما تشعر بالفراغ.
فراغ نهش كبدها لسنوات طويلة بينما أحست سراب بارتياح كبير لذبحه، وعودة الهدوء إلى البيت.
تباين المشاعر بين امرأتين لم ينحت أثرا مزعجا في صدريهما وإن لم تستطع أم عادل الاحتفاظ بنسائم فرح عابرة مرَّت في أجوائها النفسية بمؤانسة الديك المطرود من بيت امرأة أخرى، هذا قدره مالبث أن لقي به حتفه في بيت شرَّعت له فيه سيدته الأبواب والنوافذ.
عندما تبتسم الشمس صباحاً فوق خدود الورد تبدأ قطرات الندى تجفّ وشذاها فواح ينعش المارين بحدائق الوعدِ في يومٍ ربيعي طال انتظاره تزفُّه تغاريد الطيور.
هكذا كان صباح درة في هذا اليوم، أحست بقوة تنبت في جسدها، فنهضت للعمل بهمة تفوقت بها على بنات العشرين، ولمَ لا؟ فهي لم تستسلم لآلام المفاصل ووجع الظهر، بل ظلت تتحداهما بقوة ونجحت في المحافظة على لياقتها بينما فشلت الكثيرات ممن هن في مثل سنها لاستسلامهن للألم فهزمهن بخبث لعين.
درة تحدت ظروف حياتها الصعبة بكل شيء دون أن تتطاول على الزمن ولم تنسب لنفسها يوما مالا يحق لها لقناعتها التامة بأن من يرتدِي ثوباً فضفاضاً أو ضيِّقاً سيظهر عيوبه لأنه لا يليق به غير ثوبه الذي فُصِّلَ له بمقاسه، وقد ينزوي ذات وقت صاغراً في ركنٍ جانبي بعد أن جعل نفسه موضعَ سخرية للآخرين.
درة تفكر قبل أن تقرر فلم تندم على شيء قامت به طواعية حتى في هذا اليوم عندما اختلفت مع ابنها في نقاشٍ خاص يحدث بين أي أم وأولادها، فترك البيت وخرج بضيق لم ترده له لأن الأرزاق بيد الله وعلى الإنسان أن يعمل دون يأس من رحمة ربه، فما حُرم منه اليوم قد يأتيه غدا أو بعد غد، ولكن ابنها كان اليوم على غير عادته، تركته يفكر عله يصل لشيء يريحه بفكرة ما.
قبل أن تذهب إلى بيت ابنتها في زيارة مستعجلة تلبية لدعوة وجيهة لها في أمرٍ هام، نظفت الديك (ملطته) وحشته بالرز واللحم المفروم وبعض المكسرات، ثم أخاطته ( وكتفته) جيدا بالخيطان، وقلَته بالسمن، ثم وضعته في طنجرة فيها الماء والملح وورق الغار وبعض حبات الهيل، كانت سراب تشاهد حماتها وهي جالسة على الأرض فوق (طراحة) تعمل بجد ونشاطـ افتقدتهما سراب في أشهر الحمل الأخيرةـ إلى أن انتهت من عملية طهيه وبات جاهزا للعشاء، تركت الطنجرة مغطاة ورائحة الديك المحشي تملأ أجواء البيت وتفوح منه إلى البيوت الملاصقة لبيتهم، ثم لبست ملايتها وذهبت إلى بيت وجيهة، بينما دخلت سراب إلى غرفتها لتشاهد دِيارة المولود( ثيابه) التي أرسلتها لها أمها صباحا مع أختها الصغرى مروة بعد أن هيأت نفسها لاستقبال زوجها لتناول بعض الطعام من بواقي غداء الأمس لأن حماتها قد تأكل عند ابنتها.
فرحت سراب بجهاز الصغير فرحتين أولا لأنه من والدتها، فقد تعودت نسوة الجزيرة على تجهيز المولود الأول لبناتهن، وإن كانت حالة الأب جيدة تجهز جميع أحفادها، وفرحت ثانيا وهي ترسم صورة وليدها بهذه الثياب، ولم تبخل برؤيته أيضا بما أحضره له والده من ملابس، فرأته وليدا ورأته يمشي وجمح بها الخيال فرأته عريسا.
تمنت أن تطول بها لحظات الحلم الجميلة لكنها سرعان ما تنتهي برفة جفن.. تهرب إلى المجهول.. تحاول اللحاق بها.. تفشل، ويظل الفرقُ شاسعًا بين لحظةِ دخول الحلم، ولحظة الخروج منه.
سراب تجيد امتطاء صهوة الحلم، وتعرف كيف تقوده دون أن تهوي فيه، فمن يمتلك خيالا جامحاً صوب المنى تنبت له أجنحة قوية تتحدى الريح والمطر ومطبات القلق، ولكن ليس كل خيال يصلح للتحليق، ولحسن حظها ففد حظيت بخيال كان متمرسا على اجتياح الصعاب بقلب قوي، ونية صافية تستمد نقاءها من إيمانها بالله العلي العظيم.
قبل مغادرتها الحارة كانت الطريق خالية من المارة إلا منهما، رفعت منديلها الأسود عن وجهها، نظرت إليه بعينين واجفتين، ودقات قلبها تخفق بشدة، اقتربت منه، مدت إليه يدها.. أسرع إليها وأمسكها بكلتا يديه.. مرت لحظات صمت بينهما.. تعلقت عيناه في عينيها، حاولت أن تبتسم.. ارتعشت شفتاها بعجاف السنين.. فشلت.. حاولت ثانية فخذلت بها أيضا.. لماذا تهرب منها في وقت حاجتها لها؟ ولماذا لم يقبض هو على ابتسامة يرطب بها قلبها الحزين عليه؟!!
أحياناً تموتُ البسمة ُفوقَ شفتي ِطفلٍ صغيرٍ.. تنوبُ عنها دمعة ٌفي عينيهِ كانت تلوبُ بوجعِ الحرمانِ، وفقدِ الأملِ فيما يريد، فلاهي تهمي فتطفئ حسرةً، ولا هي تختفي فتريح من وقدٍ مؤلمٍ لا يحسِّهُ إلا البؤساء.
خانته ابتسامته في وجهها، لكن دموعه كانت سخية فوق ظهر يدها وهو يقبلها.
ـ تعالَ يا صغيري.
ـ مشى معها وهي تمسك بيده، لم تشعر بالغثيان من ثيابه المتسخة، ولم تبعد يدها عن يده المعفرة بالتراب.
سألته: مضى زمن لم أرك فيه، أين كنت غائبا.
ـ لم تسمح لي بالخروج من البيت.
ـ وكيف خرجت اليوم؟
ـ ذهبتْ لزيارة أمها.
ـ من ساعدك بالهروب؟
ـ عثمان السلاوي عندما ناديته.. انتظرها حتى خرجت من الحارة فنزل إلي في حوش البيت من على سطح مطبخهم، فك قيدي وهربنا معا.
ـ سيكون عقابك شديدا عندما تعود إلى البيت..
ـ لن أعود إليها.
ـ لا مأوى لك غير منزل أبيك.
ـ فيه حية سامة، سأنام في الجامع.
ـ تقفل أبواب الجامع بعد صلاة العشاء.
ـ أنام فوق السطح.
ـ مازال الطقس باردا، وجسمك الضعيف لن يحتمل البرودة.
ـ لن يكون أشد برودة من حوش البيت.
ـ سأعيدك إليها في طريق عودتي.
ـ لا تفعلي ذلك، فهي ظالمة.
ـ سأشفع لك عندها.
ـ وعندما تذهبين ستعيدني مقيدا إلى الحوش والصراصير، والفئران.
ـ لا لن يحدث هذا بعد اليوم، اطمئن ياصغيري.
أدخلته وجيهة الحمام وأعطته ثيابا نظيفة من ملابس أولادها. وعندما خرج منه نظيفا أسرع إليه الأطفال وراحوا يلعبون معه بينما جلست وجيها تحدث أمها بصوت منخفض في ركن جانبي من الغرفة.
تحدثتا طويلا واتسع وقت الحديث لأكثر من فنجان قهوة وكأس شاي، كانت تحضرها لهما راوية ابنة وجيهة البكر.
قالت أم عادل: لا تخبريه شيئا قبل التأكد من صحة الخبر.
تأكدت منه من عدة مصادر.
ـ تمهلي قليلا.
ـ لا أستطيع.
ـ على أية حال إن كان مانُقل إليك صحيحا فهو لم يتم بعد، وبشيء من الحكمة يمكن غض الطرف عنه.
ـ جل ما أخشاه أن تقع الفأس بالرأس بين ليلة وضحاها.
ـ لاتخبريه شيئًا، سأتدبر الأمر بمعرفتي.
ـ لن تستطيعي منعه صدقيني، فهو إن وضع فكرة في رأسه واقتنع بها فلن يتركها مهما حصل.
ـ إلا إذا اقتنع بما يسمع من كلام محدثه.
ـ ولكنه لن يفعل، وأنا بصراحة لن أسكت بعد اليوم وسأضع حدا لكل شيء.
ـ إياك أن تفعلي ذلك، وإلا ندمتِ.
ـ لماذا سأندم وأنا على حق؟
ـ علَّمتني الحياة ياابنتي أن أجد للآخرين عذرًا كي لاأجرح شعورهم بكلمة أو عملٍ لايليق بي، وعلَّمتني أيضًا المرونةَ في وقت الشِّدة والصلابةَ في وقت الخطر، وعلَّمتني أن أسمع نصائح من هم أكثر مني علمًا وتجربة في الحياة .
ـ نِعمَ ماعلمتك الحياة ياأمي، ولكن هل أتركه يجرح شعوري بكل غلظة وقسوة ويخرب بيتي بما علمتك الحياة؟ّ!! أنا زوجة وأم ولي كرامة.
ـ وهو رجل وله أيضا كرامة، لم يكن تعدد الزوجات يوما من الأيام انتقاصا لكرامة الزوجة، فلا تحرِّمي ما أحلَّ الله.
ـ إذا وجدت الأسباب التي تبيح التعدد أما إذا لم….
ـ التعدد مباح شئت هذا أم أبيتِ، فاعقلي ولا تنغصي عليك حياتك.
ـ لن أسكت والله ولو وصل بنا الأمر للطلاق.
ـ دعيني أتدبر الأمر، فإما أن أقنعه أو يقنعني. طعامك اليوم زائد الملوحة.
بصمت وانتباه كانت تقرأ ما يختلج في صدره من خوف رهيب تشي به ارتعاشة يده الجاثمة في قبضة يمناها وهي تعود به إلى بيت أبيه.
ترى هل سمعت مواساة الأزقة الضيقة له بحيطانها العتيقة، وشبابيكها المغلقة هروبا من صفير الريح الممتقعة وجها بما تحمله من بقايا القمامة التي نثرتها في أماكن شتى من مساحة الجزيرة الصغيرة، فَهَمَتْ من عينيها بعضُ دموع؟
ربما أحست بها، استشفت ذلك من خلال تعاطف من هم خلف الحيطان مع الصغير منذ رحيل والدته وهي تضعه، فجاء الى الدنيا لطيما وعاش يتيما..
جميلٌ أن تجدَ قلوباً نقية تحبك بصدق وإخلاص.. تقف بجانبك وقت الضيق.. تبتسم لك عندما تكون بحاجة لمن يدخل السعادة إلى نفسك.. تحملك لراحة الفكر والجسد، وتضيء لك درب الحياة بقنديل الأمل.
كان مولده مؤلما للجميع، وازداد تعاطف الناس معه بعد رحيل والده قبل سنتين غرقا في البحر، فبقي في عهدة زوجته رضوى المالكة الشرعية للبيت الذي كتبه لها الراحل عوضا عن المهر، لكن رضوى لم تعامل اليتيم اللطيم رزق كما أمر الله وكما أوصاها والده، فأساءت إليه ولم ترسله إلى المدرسة، وحبسته في حوش الدار في غرفة صغيرة باردة في الشتاء، حارة في الصيف بحجة ضيق البيت خاصة بعد زواجها في العام الماضي من سعفان الفذي، الذي قيل بأن شرطه الرئيس للزواج منها كان عدم السماح للصغير بالعيش معه تحت سقف بيت واحد كي لايذكره بوالده، فآثرت له العيش في الحوش دون الطرد خشية أن تلوكها ألسنة الناس على فعلتها النكراء تلك، بعد أن رفض خال الطفل وخالته حضانته بحجة أن بيت والده هو الأَولى به من بيوت غيره، فظل في الحوش ينام ويأكل البائت من الطعام فليس له جد ولا عم يرعى طفولته في زمن تسيدت فيه على عرش حياته امرأة ظالمة لاتخشى الله في عمل ولا في قول.
قبلت رضوى بسعفان وقبل بها فهي تريد طفلا وهو يريد مالا وجمالا، هي امرأة جميلة وشابة تستحق التضحية بالزواج منها حتى لو عارضته زوجته، وتصنعت الضيق، وذهبت إلى بيت أهلها، فلاشيء يهم مادام سيريح نفسه من صراخ الأطفال ونق المرأة متفرغا لعبِّ السعادة في شهر العسل مع رضوى، وفي النهاية ستعود وصيفة مع أولادها إلى البيت لعدم قدرة أهلها على القيام بواجباتهم تجاههم تماما.
(رزق) الطفل اليتيم اللطيم جميل الصورة، ذكي، نبيه وصبور يحمل في أحضان أعوامه التسعة قلب رجل كبير جرعته الحياة باكرا كؤوس البؤس والحرمان، وكثيرا ما كان يلجأ إلى بيت أم عادل قبل وفاة والده يشكو لها ظلم زوجة أبيه، وبخلها الشديد، وعدم اهتمامها بنظافة جسمه وملابسه، وعدم السماح له بالخروج من البيت ولقاء الأطفال إلا نادرا، وإرهاقه بأعمال البيت رغم اعتراض والده على ظلمها وإهمالها لطفله اللطيم، فكانت تهدده بطردهما من المنزل إن هو ألح عليها بالكلام، فيصمت مرغما فهي سيدة البيت ومالكته، وليس هناك مكان آخر يأوي إليه مع طفله المسكين.
ظل رزق بعد وفاة والده يلجأ إلى أم عادل، فقد كانت له الصدر الحنون الذي وجد فيه شيئا من الدفء الذي افتقده منذ مولده. لم ترزق رضوى بأطفال من والد رزق، فظنت بأنه أصيب بالعقم بعد الحادث الذي وقع له في إحدى السفن التجارية، وكثيرا ما كانت تعيره بعقمه دون أن تزور طبيبا لمعرفة من العقيم منهما.
بعد رحيله بعام أرسلت لسعفان من يقنعه بالزواج منها. كانت فرحتها عارمة عندما علمت بموافقته، فرضيت بكل ما أملاه عليها من شروط، وقبل ليلة الدخلة قبض منها مبلغا كبيرا من المال احتسبته ثمنا لطفل قد ترزق به من سعفان الفذي، وحتى اليوم لم يتحقق حلمها، ولم تعامل رزق بما يرضي الله.
في طريقها إلى بيت رضوى حاولت درة التغلب على مشاعر القلق تجاه ابنتها.. ما أخبرتها به وجيهة ليس بالأمر البسيط.. حاولت تقليبه من مختلف الجوانب الاجتماعية والمادية والعائلية، فوجدته صعبا.. تأكدت بأن ثمة آثار سلبية ستلقي بثقلها على كاهل جميع أفراد الأسرة.
أحست بوخز خفيف في صدرها شمالا.. تابعت السير ويدها ممسكة بيد رزق، وحبات عرق تنفر من جبينها رغم برودة الجو حولها.
وصلت بيت والد رزق.. نقرت على الباب عدة نقرات.. سمعت رضوى .. سألت: من الطارق؟
ردت درة: أم عادل..
لحظات قليلة تمر كلمح البصر.. يفتح الباب.. رضوى تقف أمام أم عادل بدهشة كبيرة كأنها لاتصدق ماترى عيناها.. تبتسم لدرة تدعوها لدخول البيت.. ترفض درة قبل أن تعدها بتحقيق ما جاءت من أجله.. تتمنع رضوى بأعذارٍ شتى ترفضها أم عادل.. تطلب منها ثانية دخول البيت.. تعيد شروطها.. تحس رضوى بالخجل من العجوز التي تحترمها.. تقبل على مضض.. تدخل أم عادل البيت.. تلقي نظرة على المكان الذي يبات فيه رزق.. تهمي من عينيها الدموع.. تحس رضوى بالخجل.. تدعوها إلى غرفة الجلوس.. تجلس على ديوان في صدر الغرفة وهي تمسح دموعها بمنديل أخرجته من جيبها.. يجلس رزق على البساط المفروش فوق الأرض وهو يرتعش ورضوى ترمقه بغضب.
ـ كفى يارضوى، أنت تغضبين الله بقسوتك على رزق.
ـ هذا قدره يا خالة، ليس الأمر بيدي.
ـ بل بيدك، فظلم الناس للناس لم يأمر به رب العالمين بل نهانا عنه، فكيف إن كان ظلما لليتامى خاصة إن كانوا صغارا كرزق؟
ـ إنه عبء علي لا أستطيع تحمله.
ـ لايحق لك أن تقولي هذا، فالبيت لوالده وكما أعرف نصفه لأم رزق سجلته باسم زوجها قبل موتها بأشهر لأنهما كانا ينويان بيعه وشراء دار أكثر اتساعا منه، ولكنها ماتت قبل بيع البيت.
ـ لايهمني لمن كان سابقا، المهم أنه الآن بيتي أنا، وليس لرزق فيه شيء.
ـ تذكري يا رضوى كرم والده معك عندما سجل البيت باسمك.
ـ لم أنسَ ذلك، رحمه الله..
ـ بل نسيت، وسجنت ابنه في مكان يأنف منه الحيوان، أهذا هو رد الجميل لمن أكرمك؟
ـ لم أطرده عندما رفضت خالته وخاله حضانته.
ـ أكملي إذا عمل الخير واكفلي اليتيم كما يريد الله.
ـ لاأستطيع.. زوجي يرفض أن ينام في البيت ورضي به في الحوش على مضض.
ـ ليس البيت بيته كي يرضى أو لا، أيقبل لأولاده العيش كما يقبله لرزق؟
ـ لكنه زوجي وإن خالفته قد يحدث بيننا طلاق، فهو يصر على ألا يدخل الولد البيت.
ـ لن يصل الأمر بينكما للطلاق .
ـ بل قد يصل، سعفان صعب جدا ومتشدد بهذا الأمر.
ـ لن يحصل هذا وإن حصل لاقدَّر الله فألف من يتمناك ويكرمك ويقبل برزق.
ـ ولكن…
ـ اسمعي، عندي حل لهذه المشكلة.
ـ هاتي ما عندك يا خالة، فقد ارتبكت أفكاري.
ـ تبنين له غرفة صغيرة في الحوش تليق بسكن إنسان، وتفرشينها له بما يريحه فترتاحي ويرتاح، مارأيك؟
ـ أبني له غرفة؟!! من أين لي المال ياخالة؟ وإن توفر المال هل سيقبل سعفان بهذا الحل؟
ـ لا عليك، سأجمع له المال من أهل الخير في الجزيرة فهم كثر، أما سعفان فسأجد من يكلمه إن رضيت باقتراحي، وإن رفض سيُجبر على ذلك دون أن تتاثر حياتكما الزوجية بما يعكر الصفو بينكما.
ـ كلام معقول ، لكن..
ـ مادمت اقتنعت بالأمر فدعي الباقي لي.
ـ إن تم هذا الموضوع سارسل رزق إلى المدرسة ولن أقيده مرة أخرى.
ـ بارك الله فيك يا رضوى، تأكدي يا ابنتي أن الله لا يضيع لإنسان أجر عمل صالح، وقد يرزقك بطفل عما قريب.
فرحت رضوى بما بشرتها به أم عادل وهي تشير لرزق أن يحضر لهما القهوة. من قلب اليأس قد يولد الأمل، ومن دموع الحزن قد ينبت الفرح، ومن المستحيل قد يشرق الممكن بلحظة رضا من الرحمن الرحيم، فيبدلنا من عسرٍ يسرا. تشققت شفاه الدوح شوقا لرشفة قطرٍ من ندى الورد في صباح مشرق بالرضا، وفراشات الروض ترسم بالضوء فوق الأثير وجوه الأمنيات باسمة لأطفال الحياة.

خرجت أم عادل من بيت رضوى بنفسٍ فواحة بالأمل، راجية الله عز وجل أن يلهم المرأة الصدق في وعدها.
تأخر الوقت وهي مازالت خارج البيت.. شدت في السير.. تحدت تعب تقدم سنها.. في مدخل الزقاق على كتف حارتهم التقت بفكيرة عجاير، قبَّلت المرأة يد درة بحرارة، دعتها لمرافقتها إلى دارها.. حاولت التملص منها.. لم تفلح، وجدت نفسها منساقة معها إلى بيتها..
ـ خير يا فكيرة ما الذي يتعبك ؟
ـ زوج ابنتى الصغرى واعدة..
ـ عوني السَّهام؟
ـ بأم عينه قلع الله عينيه، وعينَي والدته، وعينَي أخته مهيرة.
ـ لاتدعي عليهم.
ـ بل سأدعو ليلا ونهارًا لعل الله ينتقم لابنتي منهم.
ـ على علمي كانت ابنتك وزوجها مثل السمن على العسل.
ـ كانا، رحم الله أيام زمان..
ـ ما الذي سرق المودة والوفاق منهما؟
ـ أمه وأخته لا كثَّر الله من أمثالهما، ونكل بهما في الدنيا والآخرة.
عندما تطلع الشمس يرافقها الضياء، وعندما نرى الورود يجذبنا عطرها الشذي، وعندما نرى ابتسامة على ثغرِ محدثنا نشعر بالطمأنينة.
هي النفس الطيبة البعيدة عن الغش والنفاق تصدق ماتراه فلا تظن أن الضياء والشذا والابتسامة الصافية هي مجرد صور خادعة للعين سرعان ماتصبح وحوش بأنياب وأظافر.
ـ ليس لعوني حرية حكَّ رأسه مالم تسمح له أمه وأخته بذلك، وإلا فلا.
ـ وما العيب إن هو استشار أمه أو أخته؟ قد يستفيد من رأيهما.
ـ للزوجة أيضا رأي في أمور زوجها خاصة فيما يتعلق بحياتها وحياة ولديها، أو ليست شريكة حياته؟
ـ الحق معك مادام الأمر متعلقا ببيت الزوجية وينصب في صالح الأسرة، وعلى الأطراف الأخرى عدم التدخل فيما يهدم البيت على ساكنيه.
الغيرة مرض عضال نهش قلبَي امرأتين كاذبتين، منافقتين بهما مس من جنون يظهر فجأة بأقوال وأفعال غريبة، تختلق إحداهما شيئًا.. تصدقه.. تحكيه للثانية.. تصدقه.. ومن لا يصدقه عنهما ويعمل به يكن حسابه عسيرا تجرعته واعدة سما زعافا.
ـ كان على ابنتك أن تغض الطرف عما تحيكانه لها فتصبر لترسو بهم السفينة في مرفأ أمان.
ـ لم تقصر، ولكن العجوز الظالمة كانت تحدث ابنها وابنتها بغير ذلك، وتدَّعي أن ابنتي تظلمها، وتعذبها ويشهد الله أنها بريئة مما تقول، ذات يوم سمعتْهما تتحدثان عنها كلاما ضايقها كله كذب وافتراء.. صدَّق زوجها ما قالتاه له.. ضربها وطردها من البيت هي وولديها، ولا يريد أن يعيدها إليه لأن أمه لا تريدها وتسعى للتفريق بينهما.
ـ وأين أولاد الحلال للسعي بالصلح ورأب الجراح؟
لن يفلح أحد في ردعه عن غيه، فهو إنسان ظالم لا يخاف الله، ولا يفكر بمستقبل ولديه، أعطى أذنيه للباطل وصم وعمي عن الحق، حذرته واعدة من عقاب الله إن هو استمر بضلاله، فكان جزاءها الطرد والضرب..
ـ مهما يكن الأمر أفلا نترك للعقل دورا لحل المشاكل إن هي وقعت بين الزوجين؟ أتسمحين لي بالتدخل للصلح بينهما؟
ـ صعب جدا يا خالة، لن تستفيدي شيئا، وقد يلحق بك من مجرد زيارتهم ما يسيء إليك كما حصل مع عمته وهي تحاول ردعه عن ظلمه لابنتي، فبكت بندم عندما قالت لها واعدة:
ـ لقد ظلمتِني ياعمة، فلولاك ماقبلنا بعوني زوجا.
فأقسمت العمة بالله العظيم أنها لم تكن تعلم أنه بهذه الأخلاق السيئة، وأنها لن تكون سببا في زيجة ثانية بعد اليوم.

فتحت سراب لحماتها الباب.. رحبت بها.. رأتها متعبة والإرهاق بادٍ على وجهها بوضوح للعيان.. دخلت العجوز غرفتها بهدوء.. غيرت ملابسها وخرجت إلى المطبخ متثاقلة في مشيها لتحضير كأس من مغلي الكمون، فقد تعودت أن تخدم نفسها بنفسها دون أن تطلب من كنتها أو ابنتها مساعدتها، فهي امرأة تكره الكسل الذي تعتبره من مسببات العجز المبكر للشيوخ، ولا تحب أن تشغل غيرها بأمورها الشخصية مادامت قادرة على القيام بها إلا في حال لا تستطيع فيها تأدية ذلك.. لحقت بها سراب.. طلبت منها الخلود إلى الراحة وهي ستعد لها المغلي.. لم تمانع.. جلست على الديوان في غرفة المعيشة وعيناها مسبلتان، ويمناها فوق صدرها شمالا.. لم تستطع سراب إخفاء قلقها على حماتها التي خرجت بنشاط ملفت، وعادت بتعبٍ ملفت أيضا.
تناولت العجوز مغلي الكمون بعد أن وضعت فيه سراب بعض عصير الليمون، وأحضرت لها طشت فيه ماء ساخن لتضع فيه قدميها فربما يساعد ذلك على الإسراع بالتحسن.
قصَّت أم عادل على سراب كل ما مرَّ بها من أحداث منذ خروجها من البيت حتى عودتها إليه، ولم تنسَ أن تبدي قلقها على ابنتها وجيهة وما هي فيه من همٍّ وغمٍّ، وعلى واعدة المسكينة أيضا وما ينتظرها وولديها من تعب في الحياة من جراء تآمر العقربين جمحرة وأمها الظالمة، وانبطاح عوني المخزي لتسلط أمه وأخته فقد نفض يديه من أخلاق الرجولة، بينما أخبرتها بأنها تحس بارتياح بما يخص رزق بعد أن وعدتها رضوى خيرا.
أحست بشيء من التحسن بعد تناول المغلي، فحمدت الله وراحت تعدد لسراب أسماء أصحاب الخير ممن تنوي أن تطلب منهم مساعدة رزق.
نظرت درة في وجه سراب وكأنها تذكرت شيئًا هاما.. نهضت من مجلسها وقالت لها:
ـ تعالي معي إلى غرفتي..
لحقت بها دون أن تسألها عن السبب. فتحت العجوز باب الغرفة.. دخلتها وسراب.. اتجهت إلى خزانتها التي رافقتها طوال حياتها واحتفظت بالكثير من أسرارها الخاصة والعامة، فقد شهدت معها أجمل أيام عمرها منذ أن تزوجت وأنجبت وربت ولديها فعاشت معهما أرملة ويتيمين، وكم اختزنت في سر مرآتها من أحزان ودموع نزفتها في ليالي وحدتها بعد أن يغفو القمر وتأوي النجوم إلى أحضان الغياب. رأتها سراب من خلال المرآة كما لم ترها من قبل، وكأن متاعب السنين كلها قد تجسدت في وجهها ألما وحزنا، حشرجت في حلقها غصة، كتمتها بصعوبة، فاندفعت بسعال مفاجئ ..
فتحت درة خزانتها.. أخرجت منها مفتحا صغيرا.. أغلقت باب الخزانة بشيء من العنف دون قصد منها، فاهتزت المرآة بشدة ظنت سراب للوهلة الأولى بأنها ستسقط فوق الأرض لا محالة فسَّرتها ضمنيا بشيء من الاحتجاج على وضع حماتها من تعب، وتارة أخرى حزنا عليها..
طلبت درة من كنتها الجلوس فوق السرير كي لا تشعر بالإرهاق وهي في الأشهر الأخيرة من الحمل بينما راحت هي ترفع الفرش والمخدات والبسط عن الصندوق الكبير الذي يربض في الركن الشمالي من الغرفة.
حاولت سراب مساعدتها أكثر من مرة لكنها رفضت بشدة. فتحت الصندوق ففاحت منه رائحة الخَزْنِ القديمة ممزوجة برائحة صابون الغار والنفتلين المضاد للحشرات.
أحست سراب بشيء من الضيق سببته لها تلك الرائحة المزعجة، لكنها لم تدع حماتها تشعر بذلك، ودعت ربها أن تنهي بأسرع وقت ممكن تلك المهمة التي لا تدري عنها شيئا، ولا تعلم لماذا أتت بها إلى غرفتها في هذا اليوم بالذات وفتحت الصندوق الذي تجهل تماما ما تخبِّئ فيه، فلم يسبق لها أن فتحته أمامها من قبل..
كانت سراب تراقب حماتها عن كثب يخالجها إحساس بالخوف عليها، فقد علت وجهها صفرة واضحة مصحوبة بتسرع أنفاسها وهي تفرغ الصندوق مما فيه.
مرت لحظات ظنت فيها سراب أن حماتها قد تقع مغشيا عليها، وقد يحدث هذا فجأة وهي وحيدة في البيت، فدعت ربها أن يحضر عادل في أقرب وقت لينقذها مما هي فيه من قلق، بينما كانت درة تبتسم لأمر ما وهي تجدُّ بإفراغ الصندوق العجوز مثلها، ومثل مرآتها وسريرها النحاسي الذي لم تستبدله بآخر خشبي رغم محاولة عادل ذلك مرارا وتكرارا.
عندما تقع النفس صيدا لخوف ما، أو تجد ذاتها في لحظة حذر، أو انتظار أمرٍ هام، نجدها تحسب الدقيقة ساعة، والساعة يوما واليوم ربما سنة أو عمرا، تحتلها هواجس ومخاوف قد يكون أغلبها أوهاما ليس لها شيء من الصحة، بعكسها تماما فسرعان ما تمر لحظات السعادة والسرور كلمح البصر، نبكي عليها تحسرا وندما بعد أن تلفظنا خارج زمانها، نتمنى لو أننا عشنا فيها أكثر.. نتمنى عودتها بما كانت عليه، أو أجمل، أو حتى لو أقل بكثير مما عرفناها، ولكن هيهات هيهات.
أم عادل رغم ما كانت تشكو من تعب وإرهاق، فقد نهضت إلى صندوقها القديم، تنبش بأنامل الشوق فيه صدرا دفن في أعماقه سرا لم تشأ أن تطلع عليه أحدا قبل اليوم حتى ابنتها الوحيدة وجيهة، ترى ما الذي جعلها تفعل هذا، ولماذا اليوم وهي متعبة، ولسراب دون غيرها ؟
هناك في أعماقِ النفسِ البشريةِ مناطقُ مغلقةٌ لا تسمحُ لأحدٍ باختراقِها كذاك الصندوق المغلق رغما عنه.. هي سرُ الذاتِ مع الذاتِ.. تبخل ُبها على عيونِ الفضوليينَ وآذانِهم.. حسدِهم.. سخريتِهم وشفقتِهم أحيانًا.. تحتفظُ بها بدمعةٍ تارةً و بفرحةٍ تارةً أخرى.. هي ملكٌ خاصٌ محالٌ استعمارُهُ لا يطلعُ عليهِ سوى الله عالم الأسرارِ، وبعد موت صاحبه قد يفشى السر إن كان ماديا أو يموت مع صاحبه إن كان معنويا.
مازال السر دفين الصندوق ويداها تحفران باتجاهه، رأت سراب أشياء كثيرة تنهض من سباتها الطويل بألوان شتى، أبيض، أحمر، أخضر، أسود.. لم تولِ أم عادل شيئًا منها أدنى اهتمام بل كانت تضعها على الأرض بالقرب من الصندوق الناطق بما سكت عنه طويلا.
معظم ما أخرجته كان قديما جدا لم يعد يناسب الزمن الحاضر، لكنه رغم ذلك يظل غاليا عند صاحبته التي كنزته دهرا لأهميته عندها مهما كان صغيرا بالنسبة لغيرها، فهو عندها يساوي الدنيا وما فيها.
لم تعد أم عادل جسدا يتحرك بل أحست بها سراب وكأنها روحٌ تمشي على الأرض بهمة ونشاط، ما الذي دبَّ فيها فانتفضت من وعكتها قوية معافاة؟!!
تريد جوابا يذهب حيرتها، ابتسامة العجوز تزداد اتساعا وهمتها نشاطا، وسراب دهشة وحيرة وتساؤلا، وجبين درة يرشح عرقا حبات لؤلؤ تتدحرج فوق وجنتيها المجعدتين.. ترطب جفافهما المزمن بقطرات ندى الشوق ولكن الشوق لماذا؟
توقفت قليلا.. نظرت إلى سراب وبيدها شروال رجالي أسود، ضمته إلى صدرها بحنان، قبلته، التفتت إلى سراب بابتسامة عذبة وهي تقول: هذا شروال عمك أبو عادل، لم أره منذ سنين كثيرة… كان يلبسه عندما يدعى إلى فرح أو يكون في اجتماع أكابر البلد… تلبدت عيناها بالدموع الهاطلة فامتزجت بحبات العرق المالحة وهي تلوك حزنها بالحرمان.
اكتفت سراب بالدعاء لعمها بالرحمة وسكنى الجنان، وطلبت من حماتها أن ترتاح قليلا رأفة بنفسها بعد كثير جهد قامت به اليوم.
رفضت العجوز وتابعت عملها بإفراغ الصندوق من محتوياته التي لم تجد فيها سراب ما يثلج صدرها، فشعرت بالضيق وتمنت مغادرة الغرفة هروبا من رائحة الصندوق المزعجة التي راحت تزداد فوحا كلما أخرجت منه كنزا جديدا.
قبل قليل تمنت أن يحضر عادل ليكون معها إن وقعت حماتها فوق الأرض، والآن تستعجل عودته إلى البيت لينقذها مما هي فيه قبل أن تسقط مغشيا عليها من تأثير رائحة الصندوق وما فيه من محتويات أكل الزمن عليها وشرب.
ظلت سراب تقاوم رغبتها بالخروج من الغرفةـ وحماتها منهمكة بما لايهمها أمرهـ وتدعو الله أن يرجع عادل الذي وقف مذهولا، مرتعشا أمام ما قدم له البحر دون سابق إنذار.
"أنا البحرُ فى أحشائهِ الُدرُّ كامنٌ.. فهل سَاءَلوا الغواصَ عن صدفاتي"
أما صدفاتك التي قذفتها اليوم لعادل دون غوص ولا سباحة وهو ساهٍ عن كنوزك العجيبة الغريبة، الغالية، المدهشة فقد كانت بالنسبة له قاصمة ظهر، لماذا تقسو عليه؟
دارت به الدنيا، كاد للحظة تسرَّع فيها قلبه أن يتوقف للأبد... خطف لونه.. أغمض عينيه بعد اتساع جعلهما جاحظتين، داراهما عن تلك التي مالت في السماء للغروب، فاكتست ثوبا برتقاليًا أضفى أثره فوق وجهه كاشفا لما حدث داخله من انهيار مخزٍ لمثله من الرجال.
بحارا كان أو صيادا فقوة زنديه يجب أن تطفو على جميع مواهبه، يشد بها حبلا، مرساة أو شباكا تمتلئ بثروة سمكية يقدمها له البحر ثمنا لكفاحه ونزِّ عرق العافية. ما بال زنديه الآن تورعتا عن القوة مثقلتين بهول المفاجأة؟
حمد الله في لحظة عبرت أفق تفكيره.. لم يره أحد في الجرم المشهود وهو ينحر تماسك نفسه على مذبح الخوف، يبحث فيها عن قشة في بحر أفكاره الهادرة تنقذه مما هو فيه من قلق سقط عليه بتلك المفاجأة الرهيبة بخلوةٍ تقصدها طلبا لشيء من الراحة، فوجد نفسه في جبٍّ عميق تهدر في جوفه أصوات ضجيج لا تشبه سواها مما عرفه من أصواتٍ وضجيج ولم يجد القشة.
أحس اختناقا.. حاول تسلق جدران الجبِّ المظلم.. فشلت المحاولة، أعاد الكرة.. ضاقت أنفاسه.. تذكر أمه عندما رفعته ذات يوم من البئر وهو صغير وقد خرج بالقطة الميتة التي أفسدت ماءه، كان متعبا آنذاك.. منظر قطته الغريقة في الماء ألهب صدره بالحزن لفراقها فقد تعهدها بالحماية منذ ولادتها، وبنى لها بيتا صغيرا في حوش المنزل، كانت تحبه ، تلحق به أينما ذهب، يناديها تأتي إليه ولو كانت في الحارة، جمعت بينهما صداقة حميمة دامت أشهرا، صعب عليه يومها تحمل منظرها فاغرة الفم ، جاحظة العينين، افتقدها ليومين، بحث عنها في كل مكان ، لم يجدها فدلته عليها رائحة التفسخ الخارجة من الجب، لم يعلم كيف سقطت فيه، وعندما وصل بها إلى فتحة البئر زغردت درة فرحا بنجاحه بإخراج الميتة من الماء.. سمعها تزغرد وحيطان البئر تردد الزغرودة بينما كان قلبه يبكي قطته المدللة..
ـ هذا فستان فرحي يا سراب، مازلت أحتفظ به.. قماشه أبيض بلون الياسمين، كلفنا مالا كثيرا، اشتراه لي عمك أبو عادل من بيروت مع باقي الشوفة(ثياب العروس) كان فستانا جميلا لم أرَ مثله أبدا.. كنت أود أن ترتديه وجيهة ليلة عرسها لكنها رفضت رغم أنه يناسبها تماما..
صمت سراب جعلها تنهي الحديث عن فستان عرسها الأبيض المطرز بذكريات فرحها، وتتابع البحث في الصندوق بينما أنهك التثاؤب سحاب وأذبل النعاس عينيها، هي متعبة الآن ولا تحب مط الوقت في أمرٍ يزيدها تعبا ولا يعلم مداه إلا الله، لكنها من أجل سعادة أم عادل الآنية التي أنستها وعكتها الصحية كانت تكابر بصبرٍ مرير.
أم عادل العجوز الرزينة، السيدة الحكيمة.. التي تزن كلامها بميزان الذهب، رأتها سراب الآن خارج الإطار الذي عرفتها به سابقا، رأتها بروح شابة رغم تغضن وجهها الذي غزاه الزمن، فأحاله إلى ما يشبه صحراء قاحلة ملأتها الشقوق.
تأكدت اليوم أن السعادة الداخلية للإنسان تضفي عليه جمالا غريبا مضاءً بشباب لا يمتُّ بصلة من قريب أو بعيد لمقاييس الشباب الجسدية ، ولا يحبس نفسه بقيود الوقار والحكمة التي لاتلزمه في مثل هذه اللحظات الشفيفة، فينبت من ذات النفس حرا لا تحده حدود، وتعجز كل الأطر عن ضمه في صفة معينة لأنه خارج الزمن الذي هو فيه.
سألت نفسها عن سر هذا التبدل اللحظي في كيان الإنسان، وكيف يحدث دون ترتيب مسبق، فلم تسعفها ثقافتها المحدودة بالوصول إلى جواب، لكن عندما نظرت إلى مرآة حماتها العتيقة رأت نفسها أيضا في وجه مغاير لما كان عليه عندما صافحته لحظة دخول الغرفة. وجه متعب، شاحب، تعلو نضارة شبابه ملامح كآبة لم تشأ أن تظهرها لحماتها، ولكنها تحدت إباءها وتربعت فوق ربيع عمرها الغض، وأم عادل مشغولة بتاريخ عمرها السجين في صندوق عتيق بين بقايا أقمشة بألوان باهتة منعتها عن أفواه العتِّ الجائعة بالنافتلين وبرش الصابون، كم هي بخيلة هذه المرآة الكريمة!!.
تململت سراب ضيقا.. نهضت عن السرير النحاسي.. سمعت صوت تألم مفاصله كالذي ألفته في غرفة جدتها لأبيها التي كانت هي الأخرى لوقت قريب تحتفظ بمثله إلى أن أصابه العطب، فتنازلت مرغمة عن حقها بالاحتفاظ به مدى الحياة، فبيع بثمن بخس للحداد مالك الحربوش، وأُحضر لها عوضا عنه سرير خشبي جديد لم يعد يُسمح للصغيرات بالوقوق فوقه، والنط والعفرتة عليه كالسرير القديم.
مشت في الغرفة عدة خطوت في محاولة لتليين جسدها.. التفتت العجوز إليها.. سألتها عما بها.. أجابتها:
ـ أردت تحريك مفاصلي قليلا..
ـ خيرا تفعلين ريثما أحضر ما أريد من أسفل الصندوق.
شارفت الشمس على الغياب وعادل لم يأت بعد لينقذها من ماضي أمه وصندوقها العجيب. ضجت نفسها بالاحتجاج متظاهرة فوق قسمات وجهها البريء، فتكبحها بهراوات الخجل من حماتها التي شغلتها عما هي فيه من ضيق يقظة مفاجئة لماضٍ سبب لها أرقا وتعبا.
غبطة جميلة اجتاحت قلب سراب عندما سمعت الباب يُقرع، جاءها الفرج بعد حصار مرير، استأذنت حماتها لترى من الطارق راجية أن يكون عادل، ردت عليها أمه بقول أحبط تفاؤلها:
ـ لاتذهبي.. سأفتح أنا الباب، عادل معه مفتاح البيت.
أحست سراب لأول مرة بأنها في سجن ذي قضبان حديدية سجَّانُه درة، فأحبت التمرد وكسر القيد، لحقت بها رغم أمر المنع لترى من القادم.
استدارت أم عادل بكلِّها نحو سراب، وطلبت منها إغلاق باب غرفتها قبل أن تفتح باب البيت، فقد سمعت صوت ابنتها وجيهة في الخارج، ومعها طفل صغير وهي لاتحب أن يدخل الصغار إلى غرفتها والصندوق مغلق فكيف بها إن كان ناطقا بما فيه؟.
ـ خير يا ابنتي، ما الذي جاء بك الآن؟
ـ سأخبرك بكل شيء عندما ألتقط أنفاسي..
ـ ادخلي يا وجيهة يبدو أن زوجك قد..
ـ لا.. لا يا أمي.. لا يتعلق الأمر بزوجي..
ـ تكلمي.. هل أصاب أخاك مكروه؟
أقتربت سراب من وجيهة عندما سمعت سؤال حماتها عن عادل، وقد فقدت قدرتها على النطق والدموع تتدحرج من عينيها، وشفتاها ويداها ترتعشان.
لم تنتبه درة لما أصاب كنَّتها من خوف واضطراب، فأمسكت بوجيهة تهزها بعنف وتطلب منها أن تتكلم فعادل مازال خارج البيت وقد تأخر بالحضور كثيرًا.
أمسكت وجيهة بيدي أمها بهدوء كما تكلمت به، ودعتهما لعدم الخوف فليس في الأمر الذي جاءت من أجله ما يستوجب كل ما بدا منهما من أجل عادل الذي لم تقابله اليوم.
جلست النسوة الثلاث في غرفة المعيشة وعلامات الاضطراب تنسحب عن وجهي سراب وحماتها كانسحاب الجيوش من معركة، بينما راحت وجيهة تقص عليهما ما حدث معها بعد ذهاب والدتها من بيتها.
ـ كنت مؤدبة جدا معها رغم أنها أمسكتني من وجهي بكلتا يديها وشدتني بقوة لا أدري من أين جاءت بها وعيناها تلمعان بشرر غريب.. شعرت بألم شديد في الفكين، ووجع مفاجئ في رأسي، كدت أصعق خوفا منها عندما رأيت وجها آخر يحتلُّ مكان وجهها البريء، حدث كل شيء خلال لحظات عندما كنت أسلم عليها، غادرت بيتها حزينة دون أن أنبس ببنت شفة احتراما لنفسي وللبيت الذي تربيت فيه ولزوجي الذي لا يقبل بما حدث.
سألتها وجيهة:
ـ ولماذا ذهبتِ لزيارتها؟
ـ لتهنئتها بعودة ابنها سالما من سفرٍ كاد يودي بحياته.
ـ ربما بدر منك ما أزعجها ولم تنتبهي لذلك.
ـ أقسم بالله لم أفعل شيئًا يغضبها، قبل عدة أيام كنت في زيارتها وكانت لطيفة جدا معي رغم حزنها على غياب ابنها، واليوم تنقلب ضدي بشكل فظيع.
ـ لك الله يا ابنتي وهو ينصفك إن كنت بريئة، عودي إلى بيتك والتزمي الصمت فهي والدة زوجك على أية حال.
ـ جرحت مشاعري يا أمي أمام من كان عندها في البيت.
ـ لا تحزني يا ابنتي سيشفي الله جرحك فهو يسمع ويرى ويعد للظالمين عذابا أليما.
عادت وجيهة إلى بيتها لكن السكينة لم تعد إلى نفسها بعد تهجم حماتها عليها بأسلوب فج لا يصدر عن امرأة تتقي الله مهما كانت الظروف التي تحيط بها، فالكنة ليست كالابنة في مثل هذه المواقف الحساسة، ولا يحق للحماة تعدي الخط الأحمر، وإهانة ابنة الناس عدا عن كونها تهين نفسها بما يصدر عنها من عمل لا يليق بامرأة عاقلة.
نساء كثيرات يشعرن بالغيرة من زوجة الابن.. يكتمن كرههن لهن ردحا من الزمن وهن يتسلطن عليهن بأسلوب أو بآخر.. يقبلن ذلك للكنة ويأبينه للابنة، ولكن أيًا كان التسلط فهو صعب يحبس ناره في قلوب الأبرياء، وعندما تتراكم الأنات والأوجاع يحدث الانفجار الذي يحطم كل ما حوله، وقد تصل شظاياه إلى أماكن بعيدة عن موقع الحدث.
نظرت درة إلى سراب.. ابتسمت بلطف وعيناها تعبران الواقع إلى المجهول:
ـ أدعو الله أن يقدِّرَ وجيهة على نسيان إساءة حماتها إليها التي تكررت مرارا وألا تبقى نابضة في ذاكرتها كي لا تعذبها، فالذاكرة يا سراب هي نحن فيها تفاصيل حياتنا من خير وشر، رتَّبتها الأيام والسنون في فصول نقتطف منها الثمار صيفًا وشتًاء… ربيعًا وخريفًا، فما نفع إنسان بلا ذاكرة ؟! أظنه يكون في هذه الحال مريضًا بفقد الذاكرة، وهو بحاجة لعلاج نفسي وطبيبٍ حاذق ينقذه من بلائه المقيت.
نحن لا ننسى ياابنتي بل أحيانًا نتناسى لمتابعة الحياة، لأنه من المستحيل أن يعيش الإنسان بلا نبض قلب، والنبض عند الكثيرين يستمر بمطر الذاكرة، وآه ثم آه من ذاكرة ملؤها الألم.
تدفق الدمع من عيني سراب وهي تستمع لحماتها التي تجلت الحكمة في قولها، فهتفت مؤيدة ما تفوهت به أم عادل من درر ثمينة أغلى من الماس والياقوت:
ـ كلماتك جعلت دمعي ينفر من عيوني غزيرًا، أتصدقين يا امرأة عمي بلحظة خاطفة تحضرنا الذكريات الجميلة التي دفنتها الذاكرة في دفء الروح، تعودنا عندما نقرع بلطف باب الماضي، فتخرج إلينا من مخبئها باسمة أو باكية.. هي الحياة تمشي بنا كيفما شاء الله لنتعلم منها ما يساعدنا على عبورها بسلام.
لم تستطع أم عادل رؤية دموع سراب فوق خديها، فأمسكت بيدها ومشت بها إلى غرفتها لمتابعة عملها في كشف المستور داخل جوف الصندوق الخشبي.
تنهدت سراب بألم امتزجت به مشاعر الحزن والضيق معا، وها هي من جديد تعود لورطتها مع الصندوق التي ظنت بأنها قد تحررت من صيده بمغادرة إيوانه، لكنها تأكدت الآن يقينا بأن خيوط شباك حماتها من النايلون الممتاز الذي لا تستطيع أضخم الأسماك قطعها مهما كانت قوية الأسنان.
قررت سراب التحلي بالصبر في تحمل ما تبقى من وقت في غرفة حماتها، قليل من التعب ثم ينتهي كل شيء، فلا هي تضررت جسدا ولا نفسا، ولاهي جرحت مشاعر حماتها التي اصطفتها دون الجميع لشيء لا تعرف ماهيته لتطلعها عليه.
هذه المرة دخلت معها الغرفة بابتسامة عذبة المُحيَّا، مسحت بها عن وجهها آثار الحزن والدموع التي سفحتها قبل قليل تأثرا بحديث عَبَرَ سماء صفائهما ملبدَا الأجواء ببعض غيوم رمادية انقشعت بشيء من الدمع.
قد يكون التعاطف مع الآخرين عن سماحة نفس المتعاطف ورضاه، وما قطرة رحيق التي تنزفها زهرة إلا لتطهير الذات من حزن يلم بها وجعًا لفقد ما جمعته بكدها، ولكن لا بأس مادام القلب تعود صنع الرحيق، والله يعوضها خيرًا منه.
يا لهذه الحياة بكل ما فيها من خير وشر، فرح وحزن، فالعمر فيها لحظة لكنها لا تصفو إلا قليلا، وعند صفائها تتفجر براكين سعادة لا تهدأ إلا بخمود الفرح بنفخة حزن صاعقة تطفئ توهج الذات وتقص جناح التحليق.
في الغرفة أمام معقل ذكرياتها التاريخي العريق، استعادت درة حيويتها ونشاطها الذي وئدِ بحضور وجيهة، فتابعت البحث عن شيء ما، ما لبثت بعد دقيقة من العمل أو أقل أن علت وجهها ابتسامة مضيئة حطت فوق وجهها المتغضن بريقَ سعادة عارمة، فانفرجت أساريرها غبطة وحبورا وهي تحمل صرة بيضاء صغيرةـ بين يديها المجعدتي الجلد، المعرورقتين، المنمشتين – مالت للصفرة بتقادم الزمن عليها.. مشت بها باتجاه السرير وهي تتبختر وكأنها تسمع من بعيد صوت زفة فتكاد ترقص طربا.
دهشت سراب عندما رأت حماتها قد رقت، وشفت حتى كادت تطير مرفرفة في سماء الغرفة.. لابد أن ما تحمله بين يديها هو سرٌّ غالٍ عليها فهي لم ترها بهذه الحال من قبل..
تتجه به نحو السرير.. تضعه برفق وكأنه طفل صغير ولد للتو بعد مخاضٍ عسير.. تنظر إلى سراب.. تدعوها للاقتراب منها لترى كنزها الغالي الذي بخلت به على الجميع.. تتقدم منها خطوات.. تقترب أكثر.. تبدأ درة بفك الرباط الذي يحيط بالصرة.. طبقة.. ثنتان.. ثلاث.. مازالت الدهشة تحتل وجه سراب وحماتها في تقدم مستمر نحو الطبقات الأعمق..
ثبتت درة عينيها في عيني سراب وبريق جميل يلمع بين جفونها بدأ يتشكل دمعا دريا وهي تهمس بصوت رقيق:
ـ كل تفاصيل الحدث الجميل تظل متقدة في الذاكرة مهما طالت قامة الوقت واتسعت مساحته.. ربما تهرب لحظة خجولة من حضن العمر، فتختبئ خلف عيون الذاكرة بإحساس طفلة بريئة المشاعر، تنتظر رفة رمش تعيدها إلى داخل الإطار، فتبدو أكثر وضوحا عندما تتبختر في طريق العودة.. هي كذلك فرحة اللقاء يا سراب بابتسام العمر من جديد.. لحظة سماع زغرودة في بيت أم، كانت تنظر فرح أولادها لحظة إثر لحظة..

ما الذي تسمعه أذناها؟!! كلام عميق بحاجة لانتباه بكل الحواس كي تدرك معناه وما خلف المعاني، درة الأنثى البسيطة، المتواضعة التي لم تدخل مدرسة يوما والتي حفظت في الكتَّاب أجزاء متفرقة من القرآن الكريم، تصدح الآن بكلمات جميلة، منمقة، بديعة يسكبها قلبها في حروف من عبير، تعطر أجواءها النفسية المبتهجة بهذه القامة السامقة التي تحمل فوق أكتاف عمرها الطويل الكثير من المعاناة خلال العشرات من الفصول الاربعة.
لله ما أعظم الفرح بعد الحزن وما أروع الأخذ بعد الحرمان. أمور بسيطة جدا قد لا تلفت انتباه أحد، بل قد يراها البعض غير ذات قيمة إن هم مروا بها أو سمعوا عنها، لكنها عند من تشكل لديهم قيمة غالية، سامية لابد أن تكون ذات صلة بأحاسيس ومشاعر سعدت بها يوما، فحفرت في أعماق ذواتهم فوق جدران الشرايين محبة اختلطت بنبضات القلوب، فعاشت مشتعلة الخفق تأبى الوأد حتى آخر نفس يعلو به الصدر ويهبط.
سراب تقرأ حماتها في هذه اللحظات الراقصة بالحبور، تقرأها صادقة النفس، متصالحة مع الزمن، تغمرها الطمأنينة بهدوء ذاتي يحركه بشير الأمل بهبات النسيم القادمة من حدائق المنى.
ـ ما هذه الصرة يا امرأة عمي؟
تفرد الطبقة الأخيرة من القماش الملتف حول السِّرِّ.. الشمس مالت للغروب والوقتُ يجدل شعرها بقصاقيص ذهب.. بفضول محبب مدَّت رأسها من بعض ثقوب نافذة الغرفة المغلقة.. تصافح السِّرَّ بضيائها الهادئ.. تلمع خيوط القصب فوق صدر فستان طفل صغير يسلب بريقه لبَّ سراب.
ـ ما هذا يا امرأة عمي؟
ـ فستان عمك أبي عادل عندما ولدته أمه، طرزته بخيوط الفضة والقصب بيديها، أهدتنيه عندما ولد عادل، وطلبت مني أن يكون لابنه من بعده.
ـ يا الله ما أبدعه..
ـ لم ير النور منذ سكن الصندوق بعد أن أصبح عمر عادل أربعين يوما ولم يره أحد منذ ذلك اليوم.
حملته سراب بيديها، اقتربت به من النافذة حيث منبع ضوء الشمس، فتحت الشباك فاندلق منها نور برتقالي بديع أضفى على الفستان بهاء وروعة انعكست ألوانها الخلابة على جدران الغرفة وعلى وجه أم عادل الباسم المشرق بالفرح.
ضمته سراب إلى صدرها ودارت به حول نفسها عدة دورات مغمضة العينين :
ـ أراه جميلا، وهو يرتدي الفستان الطويل ..
ـ بإذن الله نراه معا ياسراب ..
ـ خبأت صورة ابني في قلبي وأنا ألبسه الفستان البديع .. لن أريه للناس أخاف عليه من عيونهم.
ـ سأقرأ المعوذتين وياسين وتبارك..
ـ سأذهب بالفستان إلى غرفتي ليراه عادل.
ـ انتفضت درة وكأن شيئًا مزعجا قد ألم بها:
ـ لا لن يراه أحد قبل أن نلبسه للوليد.. هذا هو الوعد الذي قطعته لامرأة عمي ..
ـ حسنا سأضعه في خزانتي بانتظار الولادة.
ـ لا.. بل يبقى عندي في خزانتي، هيا اذهبي وحضري الطعام..
ـ يبدو أن الفرحة أنستك بأن الطعام جاهز للعشاء، أما تشمين رائحة الديك المحشي؟
ـ يووووه.. نسيت والله.. ولكنه نسيان مقبول وليس خرفا.
وكما تهب ثورة الفرح عارمة تعمي عيون القلب عن كل ماعدا الحدث المفرح، فإنها تهدأ رويدا رويدا، ومع مرور الوقت تخمد تحت طبقة رقيقة من التناسي، أو سميكة بحسب أهميتها للنفس الحاضنة لها، بانتظار ما يثيرها مجددا من رياح محببة تذروها ملء القلب والأجواء، كذلك عادت سراب إلى طبيعتها خارج أي مؤثرات تبعدها عن التفكير بتأخر عادل خارج البيت.
في غرفتها، وهي ممددة فوق سريرها راحت تستعرض بصورة لاإرادية أحداث اليوم بكل ما حمل لها في جعبته من إرهاقٍ وإشراق.. تبتسم حينا، وتقطب حينا آخر.
في إحدى محطات الذاكرة استوقفتها نقطة تفتيش بدأت تتوضح هويتها شيئًا فشيئًا.
نهضت من سريرها.. مشت في الغرفة الصغيرة ذهابا وإيابا في محاولة للإجابة على أسئلة طرحت عليها في خضم تصارع أفكارها المنهالة فوق دماغها في لحظة طلبت فيها الراحة، فأغرقتها بوابل من التساؤلات المشروعة، وإن كانت بصورة مزعجة على أية حال.
"لماذا تفتح أم عادل الصندوق اليوم مستبقة مولد الطفل، وتريها الفستان مخالفة بتسرعها هذا وصية حماتها؟" هي تعرف جيدا من خلال الزمن الذي عاشته معها بأنها امرأة صادقة إذا عاهدت صدقت العهد، وإن وعدت أوفت به، لكنها اليوم.. تدور رأسها بها، وعيناها تجولان في الغرفة أنى اتفق مبحرة في خضم هائج من الهواجس المخيفة.
لقد عادت اليوم من الخارج مرهقة، متعبة سقتها مغلي الكمون، وأحضرت لها طشت المياه الساخنة.. هي مريضة بلا شك، ولكنها تحدت أوجاعها التي لم تفصح عنها بما فيه الكفاية، ونهضت تنبش في الصندوق بعزم من حديد.. ترى أيمكن أن تكون ...
لم تستطع إكمال الفكرة التي هاجمتها بغتة، استعاذت بالله من وساوس الشيطان، وخرجت من الغرفة لتكون بالقرب منها فقد تحتاجها بشيء ما، أو تستطيع تقديم أي مساعدة في حال وجدتها بحاجة لها، أو حتى لو لم تكن بها فيجب عليها ملازمتها طوال الوقت مادام عادل غائبا.
ابتسمت درة في وجه سراب عندما تلاقت عيونهما.. دعتها للجلوس بالقرب منها. استجابت للابتسامة، ولكن القلق الذي احتلت جيوشه كيانها لم يستجب لوقف حدة المخاوف بهدنة قدمتها درة لسراب على صحن من بشاشة. نهضت العجوز من مجلسها.. همت بالخروج من الغرفة.. سألتها سراب:
ـ إلى أين؟
ـ لإحضار القهوة.
ـ استريحي.. أنا أجهزها.
ـ بل أنا.. اطمئني لست متعبة، أشعر بتحسن كبير عما كنت عليه عندما عدت إلى البيت.
ـ الحمد لله.
ـ دائما له الحمد والشكر.. احضري لي الشباك ريثما أعود، أريد تكملة حياكتها فقد تأخرت بتسليمها للريس عجران.
ـ لاداعي للعمل بها اليوم، غدا أو بعده تتابعين الحياكة.
ـ لاعليك، أحضريها واتركي الأمر لي.
وهما تحتسيان القهوة كانت أم عادل تجلس فوق البساط مادة رجليها وقد علقت رأس الشبكة بإبهام قدمها الأيمن، وأمسكت بيدها اليسرى بعضا منها وباليد اليمنى القصبة التي تحيك بها الشبكة.
سألتها سراب:
ـ ألا تتعبين من هذا العمل يا امرأة عمي؟
ـ أجل أتعب، ولكن حياكة الشباك أصبحت جزءا من حياتي بعد وفاة عمك أبو عادل، فقد أمنت لي دخلا ماديا ساعدني كثيرا في تربية َولدَيّ دون أن أحتاج لأحد غير الله.
ـ العمل عبادة، يحفظ كرامة الإنسان، ويرفع من مستوى حياته المعيشية.
ـ أجل يا ابنتي، خاصة للتي فقدت زوجها وهي قادرة على العمل، فلا تنتظر شفقة الناس والمحسنين الذين يقدمون الصدقات وعيونهم ما تزال معلقة بها.
ـ صدقت.
ـ وهناك من يتباهى بها أمام الناس دون أدنى مراعاة لمشاعر الفقراء والمحتاجين، يعني يعطونهم اللقمة بمنة وأذى.
كانت سراب متخذة بحديث حماتها فقالت لها:
ـ صدقت يا امرأة عمي لكن لا ينسحب هذا على الجميع.
ـ طبعا، فلو خليت لخربت. هناك أناس لا تعلم يدهم الشمال ماذا قدمت يدهم اليمين.
ـ كالحاج مصطفى وكثير غيره..
ـ أجل.. المهم أن يطلب الإنسان المتصدق رضا ربه لا السمعة بين الناس التي تحبط عمله في الدنيا والآخرة. وتلوك سمعته الألسن.
ـ المهم أن يكون إنسانا حقيقيا في السر والعلن، ولايهم إن كان الآخرون غيرذلك، فالمعاملة هي أولا وأخير مع الله، ومن أحسنها معه أحسنها مع عباده.
ـ قل الصادقون وكثر المزيفون، حتى كدنا لا نميز بينهما من غلبة النفاق.
ـ لكن الطيبين سيماههم في وجوههم، يرشدنا إليهم تواضعهم ولينهم في معاملة الناس.
ـ قد يجر اللين في المعاملة على صاحبه في أحيان كثيرة ما يتعبه في الوسط الذي هو فيه، فكم من بشوش طيب القلب، مسالم، صدوق جر عليه حسن خلقه – مع من لا يستحق تلك المعاملةـ من آلام لو أنه وقف في بدء نشوئها موقفًا صارمًا، دون جرحٍ أو تجريح، لكفاه ذلك ما وجد نفسه فيه من مشقة.
ـ ورغم هذا فلا يزداد إلا تواضعا في نفسه، وعلوا بين الناس.
ـ سبحان الله من تواضع لله رفعه يا ابنتي.
أرأيت يا امرأة عمي كيف يأخذنا الحديث – عندما نفترش بساطهـ من فكرة إلى فكرة دون أن نشعر بمرور الوقت؟
ـ وكثيرا ماننسى النقطة التي بدأنا بها لتولد نقاط كثيرة ما تلبث هي أيضا أن تتشعب لأخرى.
وترحل بهما الكلمات أنى طاب لها السُّرى، لكن في قلبيهما انشغال على من سكنهما حبيبا تترقبان قدومه بصمت فتخفي كل منهما عن الأخرى مايختلج في صدرها من قلق عليه. سألتها أم عادل:
ـ هل أنت بخير؟
ـ ليس كثيرًا. احس اختناقا.
ـ مما؟
ـ تأخر عادل.
ـ سيعود بإذن الله لا تقلقي. ذكرتني بأختي وهيبة رحمها الله.
ـ رحمة الله عليها، كيف ذكرتك بها؟
ـ ذات يوم كنا في سيران على البر والجميع سعداء إلا أنا، وأجبتها عندما سألتني عما بي بأنني أحس اختناقا، فقالت لي رحمة الله عليها:
” عندما تحسين اختناقًا، وأنت في روضٍ جميل، تزقزق طيوره بهجة، وتفوح أزاهيره شذا، والنهر يتدفق رقراقًا، والنسيم العليل يغازل أوراق الشجر وأهداب الورود، فأعلمي أنك في محنة، وأنك بحاجة لطبيب يخرجك من أزمة الاختناق المتكمشة بشغاف قلبك، وعندما يفشل الطبيب بفك أسرك من قيدٍ فتاك ثقيل الوطء على النفس والقلب بل والروح أيضًا، انظري حولك وتفكري بروعة ما ترين، وأن من خلق هذا الجمال وأبدعه، هو الطبيب الشافي، فناديه يارب.
ابتسمت سراب وهي تنادي:
ـ يا رب، يا رب، يا رب. سبحان الله أحسست بالراحة الآن بل بالفرح حقيقة..
ـ يا ابنتي، عندما يولد الفرح بغفلة منا، تسرقنا الدهشة من أنفسنا بعض وقت، ننسى خلالها كيف تبدل الحزن فرحًا بطريقة تجعلنا بغياب تام عما نغصَّ حياتنا في وقت مضى، سبحانك ربي (فإنَّ مع العسر يسرا) وتُؤكِّدُ ذلك( إن مع العسر يسرا)
أيقن عادل أنه في مأزق حرج للغاية، وحدته الآن زادت من شعوره بالرهبة، تمنى لو انه امتطي صهوة صخرته ومضت به في طريقه فوق الأمواج دون أن يحظى بصيد تقشعر له الأبدان، حصانه الصخري بدا عاجزا عن حمله والهروب به عن دائرة موقعه ولو إلى جبهة القتال مع عدو ما هم من يكون.
انتفض من بوتقة الخوف الذي كاد أن يخذله رافعا رأسه إلى السماء، ونادى” يا رب لا تتخلى عني، ساعدني فأنا بحاجة لك”. أتراه استشعر عن بُعد نداءَ سراب فاتحد النداءان وصعدا شفعا إلى الله عزَّ وجل؟
استجمع قواه لاهثاً فهو رجل، والخوف ليس من شيم الرجال.. نظر إلى بيوت الجزيرة المجاورة للبحر وأزقَّتها النحيلة المؤدية إليه علَّه يجد من يساعده في انتشال ما لفظته الأمواج خارج فيها المخيف.
ثمة رجلان كانا فوق أحد السطوح في عمل ما إثر هبوب العاصفة، سمعا صوته يستنجد بهما فأسرعا بالنزول إليه. لم يعد الآن وحيدا في خلوته مع البحر الهائج بطيش أرعن، سيصل الرجلان ليقذفاه خارج جوف وحدته التي كرهها كره العمى، تمنى للحظات لو أنه لم يغادر المنزل، ولم يختلف مع والدته بأمور حسبها تافهة أمام ما هو فيه الآن.
ربما عبرت ذهنه وهو صيد مفاجأة الرهبة مئاتُ الفكر وآلاف الصور مما رآها أو سمع عنها أو تخيَّلها، ولكن ليس كمثل هذه المفاجأة شيء آخر.
هو يؤمن بالغيب، وبأنه معرض لأي شي يمكن أن يحدث له، ولكنه وجد نفسه الآن ضعيفا لا حيلة له ولا حول، فاستمسك بإيمانه، قوَّى عزيمته، والتجأ بكله إلى الله يستعجله وصول الرجلين قبل أن تسحقه المفاجأة، فشهامته تأبى عليه الهروب وغض الطرف عن أمر يستوجب الرجولة في مثل هذا الموقف، والمسؤولية أمام الله والقانون.
الرجولة الحقة تحلق بحاملها فوق الخوف والتعاسة وضوابط المعقول، واللامعقول، تجعله سيدا لا يخشى شيئًا سوى الله، يتخلى عن الأنا في سبيل عمل خير يثمر رحمة للآخرين، تحركه طاقة جبارة أكبر من حجم الوصف والكلمات.. يتراءى أمامه المستقبل ناصعا، والليل مضاء بقناديل الحق التي لا يحترق زيتها مدى الحياة.
ابتسم في سره عندما وجد نفسه واقفا فوق منصة عالية يلقي خطابا أخلاقيا في صالة واسعة خلت إلا منه، فأوشك أن يصفق لنفسه لكنه توقف خشية اتهامه بالجنون إن هما بهذه الحال الغريبة مهما كانت الأسباب التي جعلته يخرج عن المألوف في تصرف الرجال المحترمين، وهو يشهد لنفسه بأنه رجل محترم لم يصدر عنه فعل مشين يجعله في دائرة الشبهات، بل جميع من يعرفه يشهد له من غير زور بشهادة الحق هذه، وأول الشاهدين والدته وزوجته سراب التي مازالت تنتظره على أحر من الجمر، تلهو بقلبها الوساوس من جراء تأخره عن الحضور إلى البيت حتى الآن.
أجل سيظل قويا كما عهده الجميع واثقا من نفسه عملا بما علمته والدته فحفظه وعمل به، فخيل إليه أنه يسمعها تردد على مسمعه مقولتها:
“عندما عندما تشعر بالعجز لا تستسلم له، وعندما تكون حليمًا فإنَّك ترى بعين البصيرة مالا يراه الآخرون.”
كل يوم تزداد مكانة أمه المرموقة في نفسه ارتفاعا، فرأيها ذو قيمة يعتز به، ويفخر أمام الجميع لعميق فكره وسمو حكمته عن التملق وصف الكلام بلا فائدة.
عندما وصل الرجلان إليه وشاهدا عن قرب ما رمته الأمواج فوق الصخور، هالهم المشهد وأربكهم لبعض وقت، لكن سرعان ما استأذن أحدهما بالذهاب لإحضار لوح خشبي كبير يساعدهم فيما هم مقدمون عليه.
وعندما عاد كان معه عدة رجال ولفيف من الأطفال الذين لا يفوِّتون حدثا في الجزيرة إلا ويكون كل واحد منهم شاهد عيان يدلي بمعلومات عما رآه بعضها صحيح، وكثير منها مما أوحى به خياله بتفسيرات شخصية خاصة جدا مع رشَّات من التوابل.
تعاون الرجال على إخراج الجثَّة المنتفخة التي حوصرت بين الصخور، وقد تسبب ارتطامها الشديد بتناثر أجزاء منها فوق المياه وعلى بعض الصخور القريبة منها.
لم يتعرَّف أحد على صاحبها شأن كلِّ جثَّة تحملها الأمواج عادة إلى شواطئ الجزيرة.
كانت لرجل أسود مجهول الهويَّة، مشوَّه الملامح، شبه عارٍ مقيَّد بحبال غرست في جسده الرخو المتآكل.
أخطر المخفر بشأنها، فأُمروا بدفنها في المقبرة قرب مقابر الغرباء.
بعد صلاة المغرب قام المصلون بأداء صلاة الغائب عليها، ودعوا له بالرحمة والصبر لأهله.
في المساء جلس عادل حزينا متعبا أمام التلفاز يشاهد نشرة الأخبار من إحدى المحطَّات الكثيرة التي يلتقطها الهوائى بسهولة في الجزيرة بعد أن أرهقته أسئلة الأهالي عن الغريق، فقد ظن الكثيرون منهم بأنه ربما يكون أحد أقربائهم، ولكن لون الجثة كان ينقذه من طول الأسئلة.
وعندما دعته أمه وزوجته للعشاء اعتذر بلباقة بحجَّة عدم شعوره بالجوع ولفقدان الشَّهيَّة. وبإلحاح من أمه تناول بضع لقيمات من الديك المحشي الذي كان متشوقا لالتهامه منذ الصباح، لكن منظر الجثة جعل نفسه تأنف من تناول الطعام، والاكتفاء بكأس من الشاي عاد بعده لمتابعة النشرة الجويَّة في التلفزيون المحلي، وقد نوى ضمنيا ألا يذوق بعد اليوم لحم ديك محشي.
سألته والدته وقد جلست بالقرب منه:
ـ هل توصَّلوا لمعرفة صاحب الجثة؟
أجابها دون اكتراث:
ـ من هم؟
ـ رجال المخفر.
أجابها ببرود:
ـ إنَّهم بضعة رجال وهم ليسوا محقِّقين.
فسألته: ومن سيتولَّى التَّحقيق إذن؟
ـ لا تشغلي بالك يا أمّ عادل. هم يعرفون عملهم أكثر منا.
فسألته بحزن: وأهل الغريق ألن يسألوا عنه؟
ـ حتماً هم يسألون، ولكن لا أحد يعرف عنهم شيئاً.
ـ أهو من بلدنا؟
أجابها: لا يدل لونه على ذلك.. البحر واسع يا أمي والأمواج تقرب البعيد وتبعد القريب، والجثة متفسخة يعني مضى عليها في البحر وقت لا يمكننا تحديه.
اقتربت منه قليلاً وهمست في أذنه: هل في الأمر جريمة؟
أجابها بفتور: ربَّما، فالجثَّة وجدت مقيَّدة بالحبال.
سألته: ولِمَ قيَّدوه بالحبال؟
أجاب بضيق: لم أكن معهم عندما قيَّدوه.
فسألته: هل ألقي من إحدى السفن إلى البحر؟
أجابها وهو ينظر إلى زوجته: ربَّما يكون مات في السفينة فألقوه في البحر لأن البحر مقبرة أموات السفن كما تعرفين، أو قد يكون قُتِلَ فيها مقيَّداً ثمَّ ألقوه للتَّخلص من آثار الجريمة، ومثل هذه الحوادث تحصل في السفن التي تجوب البحار فليس البحارة ملائكة، أو ربَّما قتل فوق اليابسة والقي في البحر، فحملته الأمواج إلينا أو قد يكون انتحر و..
ـ وماذا يا عادل؟
ـ البحر يحبنا يا أمي، يحبنا كثيرا، ويقدم لنا دائما هداياه المدهشة..
فقالت وهي تنظر إلى سراب التي كانت تصغي إليهما بكثير من التأثر والدموع تلمع في مقلتيها:
ـ من الأفضل أن تبقى صيَّاداً ولو شبعنا يوماً وجعنا سنة.

ظلت سراب قلقة حتى ساعة متأخرة من الليل بينما رقد عادل وأمه، واستسلما لنومٍ عميق.
أفكار شتى شغلت رأسها الصغيرة، حاولت الهرب منها، لكنها فشلت أمام أسئلة ملحة لم تجد لها جوابا، ترى كيف كانت حال صاحب الجثة قبل الموت وما هي الأسباب التي أودت به إلى هذا المصير؟ من قتله؟ هل رأى قاتله؟ ما الحوار الذي دار بينهما قبل القتل؟ وهل قيد قبله أم بعده؟ من أي بلد هو؟ هل له أم وزوجة وأولاد ينتظرون عودته سالما غانما كما كانت هي تنتظر عادل عندما كان مسافرا؟ هل كان سيجمع المال لشراء بيت لعائلته أم أنه كان سيجهز بيتا لعروس؟
أتعبتها الأسئلة التي ظلت تمطر حزنا وخوفا في نفسها القلقة.. نهضت من سريرها.. خرجت من غرفتها إلى غرفة المعيشة، فوجدت حماتها تحتسي مغلي اليانسون.
ابتسامة درة الليلة في وجه سراب لم تكن كما عهدتها منها سابقا، بدت العجوز أكبر سنا من عمرها الحقيقي، كانت كئيبة، حزينة، قلقة، وعيناها تنظران إلى سراب تسألانها بصمت عما أرَّقها حتى هذه الساعة المتأخرة من الليل.
أومت لها برأسها أن اقتربي.. لبت نداء إيماءتها.. جلست بالقرب منها على الديوان وهما صامتتين.
تابعت درة ارتشاف اليانسون الساخن وسراب مطرقة رأسها .. نظرت إليها بإشفاق.. سألتها درة:
ـ ماالذي أرقك .
ـ الذي أرقك ياامرأة عمي..
ـ تناولي كأسا من اليانسون علك تنعسين فتنامي.
ـ لماذا يقتل الناس بعضهم بعضا ياامرأة عمي؟
ـ ليس الامر جديدا، القتل ياابنتي وجد مع الإنسان منذ عهد أبينا آدم وأنت أعلم بذلك مني، أم نسيت قصة قابيل وهابيل؟
ـ لم أنسَ ذلك، ولكن حتى مَتى سيستمر القتل بين الناس؟
ـ إلى أن يرث الله الأرض، ويوم القيامة يُحاسب كل نفس بما كسبت، فللجنة يا ابنتي أهلها وللنار أهلها.
ـ مسكين هذا الغريق، كانت له أحلام ركب البحر معرضا نفسه للخطر كي يحققها.
ـ كل إنسان له أحلام يا سراب كبرت أم صغرت، بعضهم يحققها وبعضهم يموت قبل أن يصل إليها.
ـ شيء محزن ألا يعيش أحلامه على أرض الواقع، ربما كانت جميلة جاهد من أجلها كثيرا.
ـ دائما يا ابنتي يسرح بنا الخيال في عالم الأحلام كبارا وصغارا، نراها جميلة، براقة، تسحرنا .. نحار أيها نختار وكأننا في حديقة ملئت بأشجار وأزاهير خلابة.. نقطع أشواطا من العمر قبل أن نقطف منها شيئًا، وعندما نظفر بشيء منها نجد بساطَ العمر قد سحب منا.
ـ أجل هذا يحصل كثيرا وقد سمعت قصصا أبطالها عاشوا وماتوا دون أن يقطفوا حلما ما.
ـ أحس أحيانا بأن الحياة كلها وهم كما قلت لك ذات حديث بيننا.. أين هو الآن هذا الغريق من أهله، أحقا كان موجودا بينهم والآن هو تحت التراب في جزيرة نائية لم يخطر في باله أو بال أهله أو حتى في بال أهل الجزيرة أن يرقد فيها إلى الأبد؟!!
ـ هذا قضاؤه وقدره وقد قال الله عزَّ وجل(وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت.)
ـ صدق الله العظيم.. أحس يا امرأة عمي بالعجز والضعف والخوف معا.
ـ كلنا نشعر بهذا ولكن من الحكمة يا ابنتي ألا تستسلمي للعجز عندما تحسين به، بل كوني حكيمة ، حليمة بنفسك فتري بعين البصيرة مالا يراه الآخرون. انهضي الآن وأحضري كأسا من مغلي اليانسون، فما زال في الدّلة شيء منه، فستنامي بهدوء.
ـ وأنت ألن تنامي؟
ـ اقترب السَّحر، سأقوم للصلاة.
ـ أيقظينا بعد الفجر إن تأخرنا بالنوم.
وقفت أم عادل خاشعة في صلاة الليل، سلمت فؤادها وأحاسيسها لربها ناسية الدنيا ومآسيها، وعيناها تسكبان الدمع طاهرا عَطِرَا في لحظة القرب من الربِّ العظيم.
العمر غريب بكل ما فيه من أحداث ومشاعر، المحظوظ فقط من يقبض على لحظة هناء تملي عليه خفقاتِ قلبٍ تهدي حبيبتيه بعض زخات مطرٍ تطهره من لواصق لا تجلب له مسعدًا في قادم لا مفرَّ منه، قد تسكن الأنسام أجسادًا، ولكن قد يظل الاتصال بينهما مفقودا إلى أن يشاء الله، فيكرم إحداها بلحظة وصلٍ يحملها الجسد ما بقيت الروح فيه سعادة تضيء حياته حتى الغروب بشعورٍ لا يعرف ماهيته، هكذا كانت تلك اللحظة.
الانتصار على النفس بانسكاب دمعة شكر لخالقها، يجدِّدُ اليقين، ويعود بالنفس إلى النَّقاء، فتغسل بتلك الدمعة ما علق فيها من قاطعات الصِّلة بالأصل، فيشرق بومضة الصَّحو ماغم بتراكم القشور وتضاء لكينونتها مسالك الهديِ بالسّلام.

جثَّة الغريب حرَّكت الآلام المُسَكَّنة بمشاغل الزَّمن.. هيَّجت الشجون الدَّفينة في الصدور، فتمرَّدت على سجَّانيها وتفجَّرت براكين دمع غسلت بها النسوة قبور الأحبَّة أباً.. أخاً.. زوجاً وولداً، وأمَّا الذين لم يؤتَ بجثثهم إلى الجزيرة فقد زار ذووهم قبور الغرباء ووضعوا فوقها الرياحين وقرأوا لأرواحهم الفاتحة.
استطاعت هذه الجثَّة المنتفخة أن تفجِّر طاقات ٍ إبداعية في رواية القصص المحزنة عن أبطال من أهل الجزيرة غادروها وهم يبتسمون، في جيوب قلوبهم آمال وأحلام كثيرة تترنم ابتهاجا بغدٍ مشرق، وعادوا إليها في توابيت مغلقة لم يسمح لأهاليهم برؤتهم فيها ولو للحظات، أو لم يعودوا كالغرباء الذين يرقدون في جزيرتهم بسلام، بينما قلوب أحبتهم في حزن وعذاب مرير، بعضهم ترك زوجته في شهرها الأول من الحمل ولم يعد ليرى فلذة كبده، ولا اشرأب رأس طفله بنداء بابا.
ومنهم من ذهب للعلم فقتل قبل أن يعود حاملا معه شهادات عالية لخدمة وطنه، صفِّيَ لرفضه العمل في دول الأعداء، وكان لأحمد صديق عادل نصيب كبير من أحاديث الناس لقرب عهد رحيله، فبكته أمه وخطيبته بحرِّ الدموع.
قالت سراب بعد سماعها بعض هذه القصص:
ـ عندما يصبح لي طفل، ويكبر لن أرسله للدراسة هناك، أريد لابني الحياة والسعادة في وطنه أيا كانت دراسته أو عمله.
في أثناء عاصفة الذكريات التي هبَّت على الجزيرة بوصول الغريق إليها، طلب عادل من أمه وزوجته زيارة أم صديقه أحمد وخطيبته فقد سمع بأن جراحهما قد نكأت عند سماعهما نبأ الغريق وما قيل فيه.
حاولت أم عادل تسكين حزنهما بذكر قصص كثيرة عن الصبر الذي به دواء القلوب، والثواب من الله الذي يوفي الصابرين أجورهم بغير حساب. نضخت العيون الدموع بصمت، وأنات خرجت من صدور أشعلَ الحزن حشاشتها، فالتهبت بها المشاعر طالبة من الله الرحمة للراحل والصبر والسلوان لأهله من بعده.
ـ ليس الموت حدثًا عابرًا ويمضي، بل هو دائم الوقوع بين الناس، سيرحل الإنسان عن هذه الدنيا، ولكن لا يدري متى ولا أين ولا كيف، ولا عبرة في التقدم بالسن أو الشباب، فهو لا يفرق بين صغير وكبير.
وتمر الأيام يطويها الزمن في سجله يوماً بعد يوم ويلقي بها في ملَّفات العمر المهملة، يثور خلالها البحر ويهدأ.. يثور ويهدأ، ويعلو بطن سراب ثم يبدأ بالهبوط، تحدد القابلة القانونية التي تقيم في الجزيرة موعد الولادة التي ستتم في البيت لعدم وجود مستشفى لأجل هذا الغرض.
ـ لاشيء يستوجب القلق. هكذا قالت القابلة.
أم عادل وابنها وكنتها هم الآن على شوق لإشراق الوعد.. ينسجونه من ضياء الحلم.. يخبِّئونه في العيون ويطبقون عليه الجفون.. يرعونه بالأماني، ويسقونه بالدموع عندما يحس عطشًا، ويظلون يرتقبون ولادته في فجر يوم يحمل إليهم تباشير الهناء.
يااااه ماأروعه من صباح ذاك الذي يشتاقون له بكل عواطفهم..بكل أمانيهم.. بكل أفراح الصغار.. بعبير الزهور.. بضياء الشمس، وسحرِ أهداب القمر..
في الشهر الثامن من الحمل بدأت سراب تخرج من البيت مع زوجها وأحيانا برفقة حماتها للمشي ساعة من الزمن حسب تعليمات القابلة القانونية، لأن الحامل كما أخبرتها تستنشق الأوكسجين ويأخذ الجنين كميه كبيرة منه، والمشي يسهل الولادة على ألا ترهق نفسها أثناء السير، فكانت تخرج من المنزل متأبطة ذراع عادل كل يوم بعد صلاة العشاء، ويدوران حول الجزيرة دورة كاملة ثم يعودان إلى البيت، وكانت أم عادل ترافقها أثناء انشغال ابنها بعمل ما، أو حين تأخره عن الحضور باكرا.
في إحدى هذه الطلعات اليومية مرَّتا من أحد الأزقة الضيقة في طريق العودة، وهناك التقتا بــ “شيماء الرابح” وهي تهم بدخول منزلها، فأقسمت عليهما أن تسهرا عندها لساعة من الزمن.. حاولتا الاعتذار عن الدعوة فلم تنجحا، فدخلتا المنزل الذي يشبه حديقة صغيرة من كثرة الزهور والورود التي تملأ الدار، وتزينها بأجمل الألوان الخلابة وشذاها الفواح يملأ الأجواء عبيرا.. أكثر مالفت نظر سراب كان القفصُ الكبير الساكن في الجهة الشمالية من الغرفة، وسجينُه الببغاء الرمادي اللون الذي ظل يصفر ويتكلم بجمل مفهومة وبعضها غير مفهوم بصوت يقلد فيه صوت الإنسان، فكانت في بعض الأحيان تظنه رجلا عندما تندمج في حديث ما مع السيدتين، فتظن أن أحدا دخل عليهن البيت، ما تلبث بعدها أن تنفجر ضاحكة.
أخبرتهما السيدة شيماء أن ابنها سارية قد أحضره لها هدية من أفريقيا عندما كانت سفينتهم هناك، وقد وجدت فيه مؤنسا يسليها في أوقات وحدتها بعد أن تزوج أولادها، وباتت وحيدة تمضي وقتها بالعناية بالزهور والببغاء الجميل، وهي اليوم تسمع من خلاله أصوات أولادها وأحفادها إن هم غابوا عنها فهو مقلد ماهر.
لبعض وقت انشغلت سراب بهذا الطائر العجيب الغريب المخيف أيضا، كاد أن ينقر سبابتها لولم تبعد يدها عن القفص، أعجبت به جدا فهي لم تره من قبل عيانا، وكانت قد قرأت عنه ذات يوم بأنه طائر يستطيع تقليد صوت الإنسان لأن لسانه سميك، ويقلد أي شيء يسمعه، فيخرج الكلمات والنغمات حتى صوت انسكاب الماء من الصنبور، وصوت رنين الجرس، وقرأت أيضا أنه عندما يعيش في الغابة يقلد صرخات الحيوانات الأخرى، أما صوت صراخاته الخاصة به فحاد جدا ومزعج.
أعجبت سراب بهذا الكائن البديع، وظلت عيناها معلقتين به طوال السهرة، وهي تلاعبه فيقفز في القفص بردود فعل ملفتة، محركا جناحيه فتصطدم باسلاك القفص، وأكثر ما أعجبها فيه هو طريقة أكله بزور دوار الشمس بعد أن يقشرها بلسانه، فيصدر عنها صوت يشبه صوت البزور أثناء تقشيرها بأسنان الإنسان.
لاحظت شيماء الرابح انبهارها به الذي شغلها عن معظم الأحاديث التي دارت بينها وبين أم عادل، فرأتها كطفلة صغيرة تعلقت بلعبة جميلة ذكرتها حركاتها البريئة بابنتها سارة المغتربة في أمريكا، فشعرت بنبضات حب تجاهها جعلتها تخرج إلى حديقة البيت، وتجمع طاقة من ورود قدمتها لها وهما تغادران منزلها.
حدثت سراب عادل عن الببغاء وعن انشغالها به، وتمنت لو يقتني لها مثله فقد سلب لبها، فوعدها خيرا إن هو سافر ذات يوم إلى أفريقيا لأن ثمن الببغاء في بلادنا غالٍ جدا.
في الصباح قرع باب أم عادل.. أسرعت لمعرفة الطارق.. فوجئت عندما رأت حفيد شيماء الرابح يحمل قفصا حديديا كبيرا في داخله الببغاء الذي فتن سراب.. ناولها القفص وأخبرها بأن جدته تبلغهما السلام وسوف تأتي لزيارتهما بعد ساعة.
كادت سراب تطير من الفرح عندما رأت الببغاء وسمعت صوته يصرخ بكلمات كثيرة. تركت عملها في المطبخ، وجلست قبالته تلاعبه وحماتها تنظر إليها بسعادة رغم الحيرة التي سيطرت عليها، واستغرابها من أمر إرسال شيماء الرابح الببغاء إليهم.
دخلت أم عادل المطبخ وهي تحمل السلم الصغير من الدار.. رأتها سراب.. أسرعت لمساعدتها.. أبعدتها درة عنها خشية أن تؤذي نفسها به.. وضعته على الحائط الشرقي وصعدت بواسطته إلى السقيفة وسراب تمسك بها.. غابت عدة دقائق عادت بعدها بأركيلة كاملة لم تشاهدها سراب من قبل عند حماتها، لكن شكلها يدل على أنها قديمة لكنها غالية الثمن فهي من الكريستال الأصلي.. سألتها عن سبب إنزال هذه الأركيلة، فأخبرتها بأنها ستقدمها لشيماء الرابح لتدخن بها نفس، وهي قديمة عندها اشتراها أبو عادل ولم يستعملها، فسألتها سراب :
ـ ألم تدخني يوما بها يا امرأة عمي.
ـ لا.. أنا ضد التدخين للرجال والنساء معا، أحمد الله على أنني لم أدخل إلى رئتي دخانا ولا نيكوتين، فليس منه إلا الضرر والأمراض وحرق المال بلا فائدة.
ـ وعمي ألم يكن مدخنا.
ـ لا. ولكنه اشتراها ليقدمها للزوار إن جاءنا من يدخن، فأهل الجزيرة كما تعرفين كلهم تقريبا مدخنون إلا من رحم ربي. عادة سيئة لا أحبها، ولا أحب رائحتها ولا رائحة الفحم.
ـ فلمَ إذا ستقدمينها لشيماء الرابح دون سواها ممن يأتين لزيارتنا، وأغلبهن مدخِّنات.
ـ لأنها لا تشرب قهوتها دون أركيلة.
ـ وهنَّ كذلك.
ـ لاأدري ، سأكرمها فقد أرسلت لك الببغاء.
ـ أتكرمينها بما يضرها؟
ـ معك حق، ولكن نفس عندي لن يقدم ولن يؤخر فهي مدمنة أركيلة.
ـ لا أوافقك الرأي يا امرأة عمي.
ـ سراب دعينا من المجادلة وحضري لها بعض الحلوى فقد اقترب موعد وصولها.

حديث سراب جعل حماتها تفكر بكل كلمة قالتها فوجدتها على حق وهي على غيره، وردَّدت بينها وبين نفسها:
ـ جلَّ من لا يخطئ، فقررت أن تعلن انسحابها من دائرة الخطأ هذه، فالإنسان يجب ألا يكون بوجهين فكيف بمن يتخذه الكثيرون لهم قدوة؟ ف
وجدت درة نفسها بحاجة للتفكير لإيجاد الطريقة المثلى للتصرف بأسلوب راقٍ لا يترك ندوبا في نفوس الآخرين خاصة فيمن يعرفون بشفافيتهم ورقَّة الأحاسيس.
دخلت سراب المطبخ وراحت تحضر طبقا من الحلوى لتقدمه لشيماء الرابح، بينما كانت حماتها تسقي الحوض الترابي وتنظف الدار، وصوت الببغاء يملأ الأجواء زعيقا ونداءات أدخلت السرور إلى قلبَيْ المرأتين، فراحتا توجهان له نداءات مماثلة يرددها بصوت رفيع.
أحبَّتْ سراب الببغاء هذا الحيوان الناطق، الذكي جدا حسب ظنها.. شرد ذهنها بهذا الحب فسألت ذاتها عن الحب الذي سيكون لابنها عندما يأتي إلى الدنيا، فهي منذ الآن تحبه وترسم له صورة لايشبهها أحد من الناس، سيكون ابنها طفلا استثنائيا أو ليست أما؟ والأم لا ترى أجمل من طفلها بين كل الأطفال ولو كان أقلهما جمالا.
أشعلت أم عادل الفحم.. صار جمرأ.. خرجت من البيت لبضع دقائق عادت بعدها وفي يده كيس صغير فيه علبة تنباك عجمي نقعت قليلا منه في صحن صغير ثم جهزت الأركيلة بانتظار الزائرة الكريمة، وكأن الببغاء أحس بأن سيدته ستحضر عندما وصلت إلى أنقه رائحة الفحم والتنباك فراح يصفر دون انقطاع، فاقتربت منه سراب ووضعت له شيئا من بزر دوار الشمس طعامه المفضل فتلهى بها موقفا وصلة الصفير المزعجة إن هي استمرت طويلا.
حضرت السيدة شيماء بعد ساعة ونصف، تحمل فوق كاهلها سبعين عاما ونيف، أمضت معظمها برفقة النرجيلة التي لم تزل تعتبرها الصديقة الوفية لها، كاتمة أسرارها، حافظة ودها، مؤنسة وحدتها في ليال الشتاء الطويلة بعد وفاة زوجها الريس محرم أحمد، تجمع حولها صديقاتها العجائز منهن والصبايا اللواتي يشرفن على تقديم الضيافة للساهراتـ ممن يعمل أزواجهن في السفن التجارية قباطنة أو بحارة، تاركين الجزيرة ومن فيها لأشهر وسنواتـ فيحضرن الحلوى والنراجيل، والقهوة والشاي طوال السهرة، والنسوة يتجاذبن أطراف الحديث، ويروين الحكايات الجميلة، وهن يتناولن الفاكهة ويشوين الكستناء، وبعضهن ممن هن بحاجة للمال يجلسن على جلود الخراف فوق البساط الصوفي يحكن الشباك للصيادين.
أم عادل لم تكن ممن يسهرن عند شيماء الرابح رغم صداقتهما الطيبة التي امتدت عقودا من الزمن، فهي لا تحب الأجواء التي يملؤها دخان النراجيل والجميع يعرفن عنها هذا، لكنها كانت تزورها في النهار خاصة في الصيف حيث ضرر الدخان الذي تستنشقه من نرجيلة شيماء يكون أقل في خارج الغرفة المغلقة، فتجلس معها أمام حوض الورود تحتسيان القهوة.
درة تكبر شيماء بسنوات عدة لكنها تبدو أصغر منها سنا رغم الهموم التي تعيشها، ربما كان للنرجيلة أثر في غزو الشيخوخة لها منذ أكثر من عشرين سنة، ويقال بأنها تعاني من مرض ما في الرئتين لم تفصح عنه بعد.
شيماء الرابح يدها دائما ممدودة بالخير للفقراء والمساكين، فقد ورثت عن زوجها ثروة كبيرة، وأولادها يقدمون لها المال، فهم في حالة مادية جيدة، وكثيرًا ما قامت مع درة بجمع الصدقات من الأغنياء وإدخال السعادة بها إلى نفوس اليتامى والأرامل دون أن تجرحا به شعورهم، وكان حضورها اليوم مناسبا لعرض قضية رزق من أجل بناء غرفة له في حوش بيت أبيه الذي سجله لزوجته رضوى.
قامت سراب بواجب الضيافة على أكمل وجه، وعندما سألت السيدة شيماء عن سرِّ إرسال الببغاء لهما أجابتها:
ـ رأيت الفرح بعيونك وأنت تلاعبينه فأحببتُ أن أرسله في ضيافة أترك لك تقدير مدتها.
شكرتها سراب بحمرة خدٍ على ما أولتها به من اهتمام لا يصدر إلا عن ذوي النفوس الشفيفة.
تكلمت أم عادل كثيرًا واستمعت لشيماء كثيرا، ولكن ظل في جعبة نفسها كلام ترددت عن قوله خشية مضايقة الزائرة التي كانت تنفخ الدخان من فمها إلى الفضاء برائحة التنباك العجمي، فحزمت أمرها وتهيأت لإخراج الحصوة التي كادت تخنقها حشرجة في حلقها.
لكلِّ إنسان في هذه الحياة أسلوب يتكلم به بما يجول في نفسه من فكر وما يود قوله لجليسه، منهم من لا يستطيع مستمعه تحمله بضع دقائق، ومنهم من لا يريده أن يصمت أبدا، أما درة فكانت ممن يدخلن السعادة إلى القلوب بحديثها الشيق الممزوج بالحكمة، والكلمات المنمقة الطيبة.
على بساط أحمدي جرى الحديث حول التدخين ومضاره بين المرأتين، وسراب توليه اهتماما كبيرًا لمعرفتها بقدرة حماتها على الفوز بما تريد إيصاله لمحدثها أيا كان، لكن الأمر اليوم يختلف مع مدمنة تنباك منذ أكثر من نصف قرن، فالفتيات في الجزيرة يتعلمن التدخين منذ الصغر لأن أمهاتهن يعتمدن عليهن بتحضير النرجيلة، فيأخذن منها عدة أنفاسٍ قبل تقديمها للضيوف فتفقس في أفواههن، ويصبحن مدخنات صغيرات لا يستطعن ترك النرجيلة مدى الحياة.
جادت قريحة أم عادل بكلام جميل ملأته الحكمة وعطرته الآيات، فهي مازالت تحفظ ما تعلمته عند الخُجا من أجزاء القرآن الكريم، تتعبد بها الله صلاة وقراءة وتفكرا.
لم تقاطعها السيدة شيماء التي تجيد فن الاستماع كما تجيد فن الحديث. كانت عيناها تنظران في وجه درة بابتسامة صافية توافقها الرأي بهز رأسها في نقاط كثيرة، وتارة أخرى تنظر في وجه سراب المنبهرة بحديث حماتها ولباقتها في الكلام.
عندما انتهت درة من محاضرتها لفَّت شيماء نبريج النرجيلة حولها، وتابعت ارتشاف قهوتها بهدوء مالبثت بعده أن نهضت واستأذنتهما بالذهاب إلى بيتها بعد أن دعتهما لزيارتها يوم الثلاثاء القادم بعد صلاة العشاء.
عادت شيماء إلى بيتها وكلمات درة المعسولة ترن في أذنيها رنينَ الذهب، أعجبت بما قالته لها، لكنها حزنت كثيرا لعدم استطاعتها تلبية ما أرادت درة طلبه من خلال التلميح حينا، والتصريح حينا آخر دون أن تجعلها في قفص الاتهام، فهي أذكى من أن تشعرها بأنها مؤدبة لها وهي في ضيافتها.
شيماء الرابح عركتها الحياة، وعلمتها الكثير من خلال ما واجهته فيها من تحديات على صعد مختلفة، وعلمتها الهدوء والحكمة في اتخاذ القرار خاصة في أمور جوهرية، وهي قادرة على نصر الذات الواعية على الذات التي تلهو بها الحياة لكن بعد صبرٍ قد يطول أحيانا.
مرت في ذاكرتها صور كثيرة، استعادت من خلالها ما عاينته من أحداث خلال رحلة عمرها، وما تأثرت به من قصص محزنة عن أقارب ومعارف قضوا نحبهم بسبب إصابتهم بسرطان الرئة لإدمانهم التدخين، فودع البعض منهم الحياة في سن مبكرة، وآخرون أمضوا زمنا مؤلما في معاناتهم من هذا المرض الخبيث.
هي لم تخبر أحدا بأنها مريضة بالتهاب رئوي حاد مزمن لكنه لم يتعداه للسرطان، وهناك من يتحدث عن مرض أصيبت به دون معرفة حقيقته.
قبل ثلاثة أعوام سافرت إلى أمريكا، وهناك أدخلتها ابنتها مستشفى للأمراض الصدرية.. تمت معالجتها ولكن لم تشفَ نهائيا من المرض، وعندما عادت إلى الجزيرة لم تلتزم بالتعليمات التي أوصاها بها الأطباء هناك خاصة بالنسبة للتدخين فانتصرت عليها العادة على محاولة التعود.
رغم إعجابها بحديث درة فقد كانت تحس بضآلة نفسها أمام نفسها، وكيف تجرأت أم عادل وتحدثت حديثا ربما كانت هي المقصودة به، فتنفر منها ضمنيا، ولكن سرعان ما تجد صادات النفور تطرده خارج ذاتها الشفيفة فتبرِّئ درة من سوء ظنها بها.
المرأة لم تقل مايجرح الشعور بل أدلت بنصائح عامة تمنت من كل المدخنين هجر الدخان وطلب السلامة للصحة والجيب. ظلت شيماء في حوار مع نفسها بين سين وجيم، فكانت تدخل المطبخ وتستعرض النراجيل الكرستالية الغالية الأثمان، بألوانها المختلفة ونباريجها النادرة، وتملي عينيها من صناديق التنباك العجمي التي تملأ رفوف المطبخ.
تحس بحزن تجاهها وكأن هناك من سيعتدي عليها، ويسرق منها نرجيلتها وتنباكها، فقد كانت تقول:
ـ ليس للحياة طعم ولا معنى دون نفس النرجيلة والقهوة.
كيف ستعيش شيماء بلا طعم ولا معنى للحياة إن هي استجابت لنصائح الأطباء، واليوم لتلميحات أم عادل؟ لابد ستكون معاناتها كبيرة، قد تصل لدرجة معاناتها من آلام الصدر المزمنة إن هي أشاحت بوجهها عن التدخين مدى العمر.
في أحد مقاهي الجزيرة المطلة على البحر، جلس عادل مع أصدقائه بعد عودتهم صباحا من لمِّ شباك الصيد من عرض البحر بعيدا عن الجزيرة بعدة كيلومترات.
كانوا سعداء وهم يتجاذبون أطراف الحديث، فقد وقعت اليوم في شباكهم أفواج كثيرة من الأسماك الغالية. فأل خير بتوفيق من الله أحس به عادل وهو مقبل على فرح بمولد طفله الأول.
قال أحد الصيادين وقد علت وجهه ابتسامة عريضة:
ـ والله ياشباب ليس هناك بالنسبة للصياد فرحة كفرحته عندما يعود من الصيد والفلوكة ممتلئة بالأسماك حتى البروَّة.
قال عادل:
ـ بل هناك فرحة أكبر.
سأله: ماهي؟
أجابه:
ـ عندما تنط الأسماك عائدة إلى البحر لامتلاء الفلوكة بها حتى حلقها، في هذه الأثناء يكون الصياد في قمة سعادته ولا يتأثر بهروبها منه كما لو فعلت ذلك في أوقات شح البحر.
ـ ياأخي حياتنا صعبة جدا، وأي شي من خيرِ الله يفرحنا.
ـ الأرزاق من عند الله.. هناك صيادون لايجدون لقمة العيش إلا بشق النفس، وهناك من تُملأ فلايكهم بالأسماك كل يوم.
ـ ياأخي الصيد بالديناميت غير الصيد بالشباك، فالأول يحصد كل الأسماك التي هي في دائرة التفجير الذي يقتل الكبير منها والصغير، فتقلَّ الأسماك في البحر، وهذا يمنعه القانون ويعاقب فاعله.
ـ أجل هذا صحيح لكن صياد الشباك مثلي ومثلك بالكاد دخله يكفي مصروفه.
ـ معظم الصيادين يشكون ضيق ذات اليد، قبل أيام ذهب البارومة أبو سارة إلى مسمكة أبو مصطفى يريد أن يبيع له شباك الصيد التي لايملك غيرها، كان بحاجة لمبلغ من المال لم يستطع توفيره، فالناس كما تعرف جيوبهم فارغة، وأصحاب الممتلئة عيونهم ضيقة، وأياديهم مقبوضة، لكن أبو مصطفى كثر الله من أمثاله عندما عرف سبب عرض البارومة شباكه للبيع، أعطاه المبلغ ولم يأخذ منه الشباك وقال له :
ـ ”لاتبع القفة التي تطعم منها عيالك”
ـ صدق أبو مطصفى، فالشباك هي القفة التي نطعم منها أولادنا.
ـ كل الصيادين يحبون أبو مصطفى لأنه يحن عليهم كأولاده، وهم يفضلون بيع الأسماك له، فهو يعطيهم بها أسعارا جيدة.
ـ ندعو له بطول العمر، فقد سمعت بأنه مريض وهو بحالة خطرة.
ـ عافاه الله ورده لنا فهو الأب والمعلم الذي نحبه ويحبنا.
ـ آمين، أبو مصطفى رجل قل أمثاله في هذا الزمن خلقا ورحمة وطيبة.
عندما يجد الإنسان نفسه بحاجة ماسة لشيء ما، يسعى إليه بجد ونشاط، يقدم في سبيل نواله الغالي والرخيص، لا يهتم بالصعاب وعثرات الطريق مادام يعلم أن فيه أمل يحقق له حياة كريمة، تغنيه عن سؤال الناس أعطوه أو منعوه.
كفاحه في رحلة الحياة يحتاج لمن يمهد له الطريق بشيء من المساعدة وكثير من التشجيع، لكن لسوء حظ الإنسان فإن من يرحمه في الأرض هم قلة، بينما الأكثرية هم من قساة القلوب الذين لاتهمهم إلا مصالحهم الشخصية.. يأخذون كل شيء، ويعطون المحتاج منه الفتات.
قلوب الضعفاء تتعلق بمن ينصرهم كقلوب المحتاجين التي تتعلق بمن يعينهم ويرأف بهم عندما يجدون أنفسهم في بؤر العوز لا يسألون الناس مساعدة، فتهوي إليهم قلوب الكرام، والكريم للكريم معين. الصياد في الجزيرة هو عين ساهرة، ودمعة صابرة، وهمة هادرة تتربص به في خضم البحر أمواج غادرة.
الصياد في الجزيرة لاييأس من فرج الله مهما اشتدت به المحن، بعزيمة وإيمان ظلَّ يستقدم من الخسارة الربح، ومن اليأس الأمل، ومن القناعة الغنى.
بعد مغادرة شيماء الرابح منزل درة، سألتها سراب بشيء من الفضول:
ـ هل لحديثك عن مضار النرجيلة علاقة بانصرافها ؟
ـ لا أظن ذلك.. شيماء امرأة عاقلة، لكن قد تكون فوجئت بهذا الحديث وأنا أقدم لها النرجيلة لأول مرة في بيتي.
ـ أما شعرت بشيء من التغير في داخلها؟
ـ بلى، سيكون خيرا بإذن الله.
ـ أجدك دائما على ثقة بنفسك، ألا تحسين بالخطأ في تصرف ما، أو قول قد يزعج الآخرين؟
ـ ضحكت العجوز من سؤال كنتها وكيف تجرأت بطرحه عليها بمنتهى البساطة، فأجابتها:
ـ سأجيبك يا سراب لكن بعد أن تجيبي أنت أولا على سؤالي، ألا تعتقدين بأن سؤالك هذا سيزعجني؟
أحست سراب بشيء من الارتباك، كانت جريئة جدا في طرح السؤال على امرأة لها موقع هام في حياتها، وأي خطأ معها سلوكا أو كلاما قد يحدث بينهما فجوة لا يردمها سوى الطلاق، وهذا أمر ليس غريبا فكم من كلمة قالتها كنَّة لحماتها ببراءة كانت سببا في خراب بيتها وهدمه فوق رؤوس ساكنيه.
ما هذه الورطة التي ألقت بها نفسها؟ فكرت مليا.. تفتح الورد فوق خديها أحمرا جوريا.. كانت درة تنظر إليها بعينين نصف مغمضتين ترى من خلالهما ما طرأ على وجهها من خجل.. تسألها بلطف في محاولة لإخراجها من ارتباك ما قصدته لها:
ـ لا بأس عليك يا ابنتي.. سأجيبك أنا.
استمدت سراب قوة لاشعورية من حماتها حلَّت بها عقدة من لسانها، فقالت :
ـ بل الجواب لي .
ـ ابتسمت درة: أجيبي..
ـ لو لم أكن أعرفك جيدا لقلت نعم سيزعجك سؤالي، لكن من تتصف بالحكمة والفكر القويم كأنت، فأنا على ثقة بأنك ستظلين كبيرة ولن تتأثري بسؤال عفوي لا تتجاوز أبعاده الصفاء بين الأم وابنتها.
ـ أحسنت،
ـ .. ضربتِ عصفورين بحجر.. أجبتِ عنك، وعني. هكذا هي شيماء التي أعرفها بحكمتها وطيبة قلبها وحسن استيعابها لكل شيء في الحياة.
وعندما عاد عادل إلى البيت كان يحمل معه مجموعة من الأكياس ملئت بالفاكهة والحلوى والخضروات.. وسلة فيها أصناف مختلفة من الأسماك الطازجة.
قال لأمه: كان الصيد اليوم هائلا، وددت لو أنكما رأيتما الفلوكة، كادت المياه تغمرها من كثرة الأسماك.
ـ الحمد لله يرزق من يشاء بغير حساب
ـ أجل ياأم عادل كلها أرزاق، أرسلت لأم أحمد سلة ملأتها جربيدة، رحمه الله كان يحب هذا النوع من الأسماك.
ـ بارك الله فيك يا بني، مازالت خطيبة المرحوم تقيم عندها، وقد جاءها خاطب لكنها مازالت ترفض .
ـ بالطبع سترفض.. لم يمض على وفاة أحمد عدة أشهر بعد، وهي تحبه كما أخبرني .. أعتقد من الصعب أن تقبل الزواج قبل وقت طويل.
ـ قالت سراب: الوفاء جميل، ولكن الحياة ستمضي على أية حال.. ربما زواجها يخفف عنها شيئًا من مصابها.
ـ من يفقد حبيبا يا سراب لا ينساه مدى الدهر..
ـ ربما، ولكن يبقى الأمر نسبيا ومشاعر الناس تختلف فليس الجميع سواسية فيها.
كانت درة تستمع إليهما، فسقطت دمعة من عينها أحستها جمرة حارقة فوق خدها، والببغاء يردد بعض الكلمات التي سمعها.
عندما يمتزج الحزن بالدماء يجري في الشرايين زقوما يغذي خلايا الجسم بنسغه المؤلم.. يتفجر أناتٍ مكتومة حينا، ومسموعة أحيانا أخرى.. يجعل القلب يتلوى بمخاض الذكريات التي تنبجس شوكا ينشب مخالبه السامة في الروح، وينهش بلا رحمة هدوءَ الحاضر بأنياب الحسرة، وصَبْرَ قلبٍ يعجز عن التصدي لهدير أمواج الأسى.
أم عادل تحتاج الآن لمدينة إطفاء كي تخمد نار فؤادها، للمسة حنانـ من يد التهمتها الديدان الجائعة تحت التراب قبل سنين بعيدة أنستها عددَها الأيامُ، وزادت في بؤسِ قلبها المشتاق لنظرة عطف من أبي عادلـ كي تشعرها بالسكينة.
هي الدنيا، تأخذ كل شيء، ولا تعطي إلا القليل، فيتلاشى بين ليلة وضحاها.. يصبح محض ذكريات عند هبوب ريحها تذرو الغبارَ في عيون العابرين، فتمطر الدمع كحلا.
تركته لزوجته.. دخلت غرفتها متعبة.. رمت بنفسها فوق سريرها.. بكت.. بكت.. ربما غابت عن الوعي بعض وقت لا تدري تماما كم استغرقت فيه غيابا.. ماذا رأت؟ من كلمت؟ ماذا سمعت؟ لم يدر أحد بها.. نهضت بعد صحوتها.. مسحت دموعها.. ابتسمت.. مشت في الغرفة.. فتحت النافذة.. نظرت إلى البحر.. أغمضت عينيها.. فتحتهما.. نظرت إلى السماء.. رفعت يديها.. تمتمت بدعاء.. مسحت كفيها بوجهها.. خرجت من الغرفة وابتسامة رقيقة تزين شفتيها فرأتهما يلاعبان الببغاء.. اقتربت منهما.. وضعت كفيها فوق رأسيهما وراحت تقرأ بصمت المعوذتين.
بعد صلاة المغرب بنصف ساعة تقريبا خرجت سراب برفقة حماتها لتتمشى حول الجزيرة كما طلبت منها القابلة القانونية، وكانت قد بدأت تحس بثقل في بطنها بعد أن دخلت في الشهر التاسع واقترب موعد الولادة.
بعد انتهاء ساعة المشي اتجهتا إلى منزل السيدة شيماء الرابح تلبية لدعوتها لهما للسهر عندها، بينما ذهب عادل إلى المقهى لمسامرة أصدقائه ريثما يحين موعد عودة أمه وزوجته إلى البيت.
في الطريق لاحظت درة على سراب آثار التعب فسألتها إن كانت تريد العودة إلى البيت.. نفت ذلك، وعندما دخلتا منزل شيماء فوجئتا بوجود عدة سيدات عندها.. رحبت صاحبة الدعوة بهما وبدت السعادة على وجوه الحاضرات وهن يسلمن عليهما، وكانت من بين الساهرات رضوى زوجة والد رزق التي قبلت يد أم عادل بوجه بشوش ومحبة وحياء.
لفت انتباه درة أمر غريب بعد مضي وقت على وصولها إلى منزل شيماء.. ظنته بداية أمرا عاديا لكنه حقيقة لم يكن كذلك.
نظرت إلى الحاضرات اللواتي عرفن بإدمانِ تدخين النرجيلة.. كن يجلسن بهدوء ويتحدثن بأمور كثيرة دون أن يبدو عليهن الضيق من تأخر شيماء بسطر النراجيل وتقديمها لهن خاصة وأنها كانت هي الأخرى تجلس دون نرجيلتها التي اشتهرت بها، فقد كان لها (بزبوزة) من ذهب لا تسحب بدونها أي نفس من أي نرجيلة كانت.
لاحظت شيماء علامات التعجب على وجه درة.. ابتسمت لها وأعلنت بأنها قد تخلت عن التدخين، وأنها والحاضرات قد اتفقن على تشكيل لجنة منهن، وممن تود الاشتراك معهن لمكافحة التدخين في الجزيرة بين نسوتها وبناتها.
خبر بدا للوهلة الأولى نكتة مضحكة تستوجب السخرية، أيعقل هذا ومع مدمنات لسنواتٍ طويلة؟!! لكنه حقيقة كان خبرا رائعا صفقت له درة كثيرًا، وأبدت رغبتها في المساهمة بهذا المشروع الصحي المجاني الذي إن هو تحقق فعلا على أرض الواقع فسوف تكون له نتائج صحية واجتماعية كثيرة، فالأم هي المعلمة الأولى التي يجب حضانتها، وتعليمها، وتحصينها من عدو لدود لا يرحم صدر صغير ولا كبير.
خبر آخر جعل ابتسامة درة تتسع فوق شفتيها والدموع تترقرق بين جفونها، آن لرزق أن يسكن غرفة تليق بإنسان بعد أن عاش فيما يشبه قنًا تأنف منه الحيوانات، فقد جمعت شيماء الرابح مبلغا من المال من أصحاب الخير بمساعدة هذه النسوة، ولهذا الأمر دعيت رضوى للسهرة، ولسوف يُبدأ منذ الغد ببناء الغرفة الصغيرة يودع فيها رزق الشقاء، ويعيش كبقية الناس طفلا محترما آمنا، له حقوق كاملة كبقية الأطفال في العيش بدفء وحنان.
أي دفء وأي حنان تتكلمين عنه ياامرأة؟!! رزق حشرة يخطر ببالي أحيانا دهسه بحذائي المهترئ لأرتاح منه ومن مصائبه. أمامك خياران لا ثالث لهما، أنا أو رزق؟
تعترف رضوى لأم عادل نادمة بأنها ظلمت رزق كثيرا.. أهانته.. ضربته.. جوَّعته.. قيدته.. حرمته دخول المدرسة..
هي الآن تريد التكفير عما فعلته.. سعفان تخلى عنها بسببه وهي لن تتخلى عن رزق.. ستعيد له حصَّة والدته من البيت.. ستدخله المدرسة.. ستهتم به.. لن تكون جاحدة بعد اليوم.. فليرحل سعفان.. لم يعد ذا أهمية بالنسبة لها بعد أن تأكدت بأنها عقيم لن تنجب أطفالا، وأنه لا أمل في إصلاح سعفان الذي سيتركها ذات يوم بعد نفاذ نقودها، وسيعود إلى بيته وأولاده.. سيكون رزق منذ اليوم ابنها المدلل.. ستحبه كما لو كان جنينا تربى في رحمها.. سمعت دقات قلبه.. أحست بتحركاته رأسا، يدأ، وقدما.. ليست الحياة امرأة ورجل فقط.. الحياة أصبحت بالنسبة لها مبدأ وهدفا.. قيمة ورحمة.. همة وكفاحا.. عملا وأملا.. حقائق وبدائل..
رزق ليس حشرة يدهس بحذاء.. رزق مخلوق من صنع الخالق على الجميع احترام إنسانيته.. لم يخلقه الله ليهان ولا ليبخس حقه في الحياة..
يتيم لطيم هو، هذا صحيح، ظلمته هي، هذا صحيح، سرقت ماله، سوَّدت حياته، هذه حقائق بدأت تراها مجسمة أمامها.. مخيفة بعد قشر الظلم عن نفسها، ومعرفة الحق، فقررت إعادته لأصحابه رغم قسوة سعفان الظالم عديم الرحمة والمروءة، ليته يفكر ولو لمرة إن كان يقبل أن يجري على أولاده ما يجريه على رزق من تعسف وعداء يغضب الله، وأهل المروءة والشهامة.
في الصباح كان بعض الرجال الذين أحضرهم كريم بن شيماء الرابح يبنون في بيت رضوى غرفة صغيرة لرزق، بينما ذهبت هي برفقته للقاء أم عادل وإخبارها بما قررت القيام به بشأن سعفان وابن زوجها.
قالت لها أم عادل: سيعوضك الله خيرا من سعفان مادمت صادقة النية.
لأول مرة في حياتها تشعر رضوى بسعادة حقيقية تُلقى في صدرها.. تنبت بذرتها.. تكبر.. تعرِّش في كيانها.. تملأ روحها نورا..
أقرت بأنها لم تكن تحس بإنسانيتها فيما مضى من عمرها.. ليس رزق هو السبب في ذلك.. بل إحساس خفي في صدرها جعلها تتغير لم تستطع تحديده بعدُ.. فرأت ما لم تكن تراه سابقا..
قالت لرزق: لا تنادني بخالتي، قل لي أمي.. سأجد فيك ابني، وستجد فيَّ أمك.
رزق مازال صغيرا على فهم ما يدور حوله، لكنه منذ أن أعادته أم عادل إلى بيت والده بدأ يحس بأن هناك شيئا ما قد تغير في حياته، وظل عاجزا عن إدراك فحواه إلى أن قالت له رضوى ” نادني بأمي” .
أحس الآن بأن يد أمه امتدت من قبرها دافئة، حانية بيد رضوى تنتشله من يتم ولطمٍ ما أنشب أنيابه بطفل إلا أشقاه وأضناه ما لم يجد القلب العطوف الذي يجمع شمله، ويرحم كسره بكلمة طيبة، ولقمة هنيئة، مأوى يليق به إنسانا.
وهي في الطريق قبيل انتهاء ساعة المشي اليومية في الجزيرة، أحست سراب بإرهاق شديد، وألم في أسفل بطنها، طلبت من عادل أن يعودا إلى البيت لعدم استطاعتها متابعة السير ولو لخمس دقائق.
استلقت في فراشها بعد تناول كأسا من مغلي الكمون أحضرته لها درة التي اطمأنت عليها، وتأكدت بأنها بخير، وأن الإرهاق ليس نذيرا بقرب موعد الولادة، فمازال أمامها أيام لحين ذلك الموعد.
استسلم عادل لنوم عميق وغفت سراب بينما كانت حماتها على وشك الاستغراق بالنوم عندما سمعت الباب يقرع بشدة.
نهضت مفزوعة.. اتجهت إلى الباب .. فتحته.. فوجئت بالقادمة الصغيرة في هذه الساعة المتأخرة من الليل..
ـ مروة ما بك يا ابنتي؟
تجيبها باكية
ـ أبي يا خالة يحتاج طبيبا.
وعندما خرج الطبيب من غرفة أبي سراب قال لعادل:
ـ اطمئن، عمك بخير، لم يفقد الذاكرة، ما حصل له اليوم من نسيان بعض الأمور كان بسبب ارتفاع ضغط الدم المفاجئ.. سيتحسن عندما نخفض نسبة ارتفاعه.
ـ تقول امرأة عمي إن نومه بات قليلا وأحيانا يبدو مكتئبا، وكما قالت بدأت تظهر عليه عادات جديدة، كالنوم المتقطع لفترات قصيرة في النهار.
ـ هذا بسبب التقدم بالسن، ويصيب الكثيرين من الشيوخ.
ـ ما علاج ذلك؟
ـ سأصف له الدواء المناسب وعليكم مساعدته بممارسة بعض التمارين الرياضية المناسبة لسنه، وانتظامه بأوقات ثابتة للنوم والاستيقاظ خاصة.
ـ سيتم ذلك ب‘ذن الله
ـ وأنصح بتعرضه للضوء، وللشمس بعد العصر، والتقليل من المنبهات خاصة في المساء، وعدم استخدام الحبوب المنومة التي قد توقف تنفسه وهو نائم.
عندما فتحت له الباب رأته مهموما سألته:
ـ ما به عمك يابني؟
أخبرها بكل شيء..
ـ مسكين أرجو أن يجتاز محنته بإيمان وثبات، وسيشفى بإذن الله إن هو التزم بتعليمات طبيبه.
ـ أين سراب؟
ـ لم تزل نائمة، لم أوقظها... غدا نخبرها بالأمر.
ـ خيرا فعلتِ، بارك الله فيك يا أمي.
ـ اسمع قبل أن أنسى.. زيت السمسم مفيد لارتفاع ضغط الدم إن هم استخدموه في طعامه لشهرين، ويقلل نسبة الكولسترول في الدم.
ـ أم عادل.. هل أصبحت طبيبة؟
ـ هذه خبرة أجيال يا بني.. هكذا كان آباؤنا وأجدادنا يفعلون وكانوا يعمرون كثيرا.
قبل مغادرة سراب المنزل إلى بيت أهلها ناولتها درة قنينة فيها زيت السمسم، وأوصتها بأن يطبخ طعام والدها به، وألا يدخل السمن والدهون في طعامه متمنية له الشفاء العاجل.
لم تستسغ والدة سراب وصفة درة فوضعت قنينة الزيت في إحدى خزن المطبخ بينما رحب والدها باقتراح أم عادل، ولكن الكلمة النهائية في هذا الشأن تظل لزوجته خاصة فيما يتعلق بصحته ما لم يصف الطبيب الدواء ويشترى من الصيدلية.
جلست سراب مهمومة، حزينة لما أصاب والدها.. طمأنها عادل وهو يمسح دموعها بأصابع يده، وحذرها من شدة الانفعال حزنا كي لا يؤثر ذلك عليها وعلى الجنين فهي مقبلة على الولادة التي قد تحدث في أي وقت..
حاولت سراب الترويح عن نفسها خوفا على جنينها الذي سيرى النور قريبا، لكنها فشلت فهي تحب والدها ولا تستطيع رؤيته مريضا رغم أنه طمأنها:
ـ أنا بخير ياابنتي، اهتمي بنفسك، أريد رؤية حفيدي بصحة جيدة، فلا تزعجيه وإلا اشتكاك لجده.

ليلة عاصفة انتزعت النعاس من عيني سراب بينما لاذ عادل وأمه بدفء لحافهما وغطَّا في نوم عميق.. نهضت من سريرها.. مشت إلى فناء الدار.. كانت الأشجار تهتز فوق رأسها بجنون وأوراقها تتساقط على الأرض التي ملأتها الغبار..
اقتربت من النافذة المطلة على البحر.. فتحتها بهدوء.. نظرت إلى الأجواء خارج البيت.. كان الظلام يخيم على ما وصل إليه نظرها بينما ظهرت الصخور الضخمةـ الرابضة حول أطراف الجزيرة منذ زمن عتيق لا يعلم مداه إلا اللهـ كأنها أشباح تختبئ خلف ملاءات الظلام.. اتسعت عيناها باتساع الفضول في البحث عن شيء قد يهدِّئ من استفحال أرقها.. عواء الريح جعلها تحس بارتعاشة يديها اللتين سكنتهما البرودة طلبا للدفء من حرارة جسم الحامل.
ارتدت إلى الوراء بضيق أحسته في صدرها.. أغلقت النافذة.. مشت إلى المطبخ.. حضَّرت كأسا من مغلي اليانسون الذي وصفته لها درة للنوم رغبة باسترضاء النعاس الهارب منها بصوت العاصفة.
وهي ترتشف ما صنعته ساخنا، سمعت صوت حبات المطر تنهمر بهدوء بديع، ما لبثت أن ازدادت شدة انهمارها وهي تقطع الطريق إلى غرفتها، تفوح منها رائحة الشجر والأتربة التي أنعشت نفسها، فراحت تستنشقها بملء رئتيها.
أحست بشيء من الراحة، وكثير من النشاط ناسية كل ما كانت به قبل قليل من خوف وارتعاش، فوقفت بباب الغرفة تنعم النظر بخيوط هطول المطر وصوت انسيابه الساحر تقابله دقات قلبها بسعادة عارمة تملأ صدر طفلة بجسد امرأة، بينما كان القمر الذي لم يكتمل بعد مختبئا خلف ستار سميك من الغيوم الداكنة عن عيونها المتطلعة إليه برجاء الظهور ولو لبعض وقت.
سمعت صوتا خلفها
ـ ماذا تفعلين هنا؟
التفتت إلى الوراء مبسملة بخوف:
ـ ما الذي أيقظك أنت الآن؟
ـ افتقدتك في السرير فقمت أبحث عنك.
ـ أنظر ياعادل إنها تمطر.
ـ مابك، كأنك ترين المطر لأول مرة؟!!
ـ فعلا، هذا إحساسي الآن، قبل قليل كنت خائفة لكن انهمار المطر أطفأ جذوة خوفي.
ـ الحمد لله الذي أطفأها قبل أن تحرقنا جميعا.. عودي إلى سريرك فالبرد يؤذيك ويؤذي الجنين.
ـ عادل لماذا يختبئ القمر خلف الغيوم ؟
ـ سؤال غريب، أحقا لا تعرفين لماذا؟
ـ بل أعرف، ولكن ألا يحق له الظهور رغم الاحتجاب؟
ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ما الذي أصابك يا سراب؟
ـ لم يصبني شيء، أسئلة تخطر ببالي .. هل السؤال حرام؟
ـ لا.. لم أقل ذلك
ـ أجبني إذا؟
ـ حسنا.. عودي إلى النوم، وغدا تسألين وأجيبك.
عادت إلى سريرها والأسئلة تلح عليها، هي تعرف الإجابة لكنها رفضتها، وراحت تبحث عن إجابات جديدة لم تعثر عليها، فاعتقلها النوم، وألقى بها فريسة بين فكيه حتى الصباح.
كان منظر حماتها وهي تنظف بهو الدار صباحا من أوراق الأشجار والأتربة التي سقطت معها بحبات المطر، يوحي لها بنشاطها وقوتها التي تحتفظ بها حتى الآن، فكبَّرت بسرِّها وحصَّنتها بالله.
سألتها درة دون أن تنظر إليها
ـ كيف كانت الليلة؟
ـ حاصرني الخوف فيها ثم حررني المطر.
ـ تنطقين جواهر..
ـ تعلمت منك.
ـ تعلمي أيضا ألا تخافي ، فإن خفتِ ولم تمطر قضى الخوف عليك.
ـ أخفتني يا امرأة عمي..
ـ لن يقضي خوفك عليك الآن، لأن كلامي مطر خير لن ينالك به سوء بإذن الله.

تعودت درة ألا تنام بعد صلاة الفجر.. تشغل وقتها بالعبادة حتى تطلع الشمس.. ساعات الصباح الأولى تسحرها فهي تحب أن تشهد مولد المضيئة كل يوم بلونها الذهبي البديع على أصوات شقشقة العصافير فوق أشجار دارها.
تحتسي قهوتها الصباحية.. تنهض لأعمال المنزل كعادتها كل يوم رغم محاولة عادل وسراب إقناعها بأنه لا ضرورة لكثرة العمل اليومي، فالبيت صغير وليس فيه ما يستدعي ما تقوم به يوميا عدا الجمعة حيث تأتي وجيهة وأولادها فيقوم البيت ولا يقعد.
في الآونة الأخيرة لم تعد تترك كنتها تساعدها في أشغالها خوفا عليها من إسقاط الجنين.. بدت الآن أكثر سعادة من قبل، فقد اقترب وصوله وهي على أهبَّة الاستعداد لاستقباله أجمل استقبال.
بناء غرفة رزق أسعدها بعد أن وُضعت فيها المفروشات المناسبة لعمره ولراحته.
في زيارة خاطفة اطمأنت عليه.. أخبرتها رضوى بأنها ستعمل على تسجيله في المدرسة في العام القادم، وحدثتها عن سعفان الذي يهددها بالإساءة إليها إذا لم ترسل له مبلغا كبيرا من المال، وسيدعي أنه تركها لأمور أخلاقية.
قالت لها مطمئنة:
ـ لاتعطيه شيئًا وليقل ما يشاء.. الجميع يعلم من هي رضوى ومن هو سعفان.
ـ لسانه سليط يا خالة.
ـ إن تكلم يقطعه القانون.
اطمأنت رضوى كما اطمأنت وجيهة.. لم يعد زوجها يفكر بالتعدد بعد اعتذار أهل الفتاة، وغدرهم به كما ادعى عندما قرروا تزويجها بابن خالتها (وافد الربيع) الذي كان غائبا لسنوات في الخليج وعاد منذ يومين، تقدم لخطبتها قبل السفر.. رفض أهلها لعدم رغبتهم في سفر ابنتهم إلى خارج الجزيرة، وقد انتهى المانع لديهم بعودته وهو أولى بها كما قالوا من رجل متزوج وله أولاد، وإن كانت قد تخطت الثلاثين من العمر. فرحت وجيهة بالخبر.. قالت لأمها :
ـ رجع عقله لرأسه ورمى بفكرة الزواج خارجه.
ضحكت سراب عندما أخبرتها حماتها بما قالته وجيهة.. سألتها:
ـ أحقا يذهب عقل الرجل إذا أراد التعدد؟
ـ كلام نسوان، الزوجة تقول طار عقله لأنه طار منها، والثانية تقول عنه رجل عاقل لأنها ستصبح عقيلته.
ـ أيهما على حق؟
ـ الحق يظل حقا، ولكن في هذه الحال كل منهما تعتبر الحق معها.. تندلع الحرائق بينهما.. تدخل الزوجة الثانية من باب، وتخرج السعادة وراحة البال من باب آخر.
ـ الحمد لله رجال الجزيرة لا يتزوجون على نسائهم.
ـ هنا نادرا ما يتزوجون، ولكن للبعض منهم زوجات خارج الجزيرة.
ـ المهم ألا ترى المرأة ضرتها.
ـ ولكنها تبقى ضرة رأتها أم لم ترها.. تشاركها الزوج والمال، باختصار الضرة مرة ولولا أن أحل الله التعدد ما رضيت به أنثى.
ـ صدقت، فالله سبحانه وتعالى أعلم منا بالناس وبظروفهم، وكل ما شرعه لنا هو في مصلحتنا، ولكن النفس الإنسانية ترفض بكبر الانصياع لأمر الخالق، إلا من رحم ربي.
ـ لا أخفيك سرا ، كنت سأزوج عادل قبل أن تحملي ..
ـ علمت بذلك.. تضايقت.. بكيت، ولكن الله لم يشأ له التعدد، وسيرزقه الولد مني.
سراب تحب عادل.. سعيدة بحياتها معه رغم بساطته وضيق أحواله المادية.. بعد حملها ازدادت سعادة لأنها ستحقق لزوجها ولنفسها ولحماتها الحلم بطفل يملأ البيت حياة.. وهاهو الحلم سيتجسد حقيقة خلال أيام..
كان الجو الليلة هادئا عندما خرجت مع زوجها للمشي.. كانت تحس بالتعب فآثرت الرجوع إلى المنزل.. في طريق العودة عرَّجت على بيت أبيها للاطمئنان عليه، فالهاتف يظل قاصرا عن الإيفاء براحتها النفسية تجاهه.. أسعدته زيارتها.. أبدى لها تشوقه لرؤية حفيده الأول.. همس في أذنها عندما انفرد بها :
ـ لهاشم هدية مني ستذهل الجميع.

لم تصدق درة ما رواه لهما عادل بدايةـ إثر عودته من الخارج وثيابه ملطخة بالدماءـ عن العراك الذي جرى في أحد أزقة الجزيرة القديمة بين عوني السهام ومحروس النفيش بن فكيرة عجاير بسبب أخته واعدة زوجة عوني.
خُلع قلبها من جذوره الضاربة في أعماقها عندما دخل البيت.. كادت تسقط فوق الأرض.. اتسعت عيناها بوسع الخوف الذي احتل كيانها مشعلا فيه هيجان الخيال بوثبة فاقت قدرتها على التصبر إلى أن يفصح لها عما به، لحظات خاطفة تلك التي مرت بها، أحستها في سطوة الرعب على مشاعرها دهورا طويلة، مظلمة، ملؤها النعيق والزعيق، الألم والعذاب. نظرت إليه برجاء أن( تكلم مابك؟).. تكلم لكنها ربما لم تلم بما سمعت..
تطاول عوني على والد زوجته بالكلام بعد أن جاء برفقة والدته إلى باب بيتهم، وراحا يكيلان الشتائم لأخته ومن يقربها أمام الجيران والمارة.. خرج والده لتهدئتهما، فلم يسلم من قذفهما له ولابنته بكلمات نابية تأنف من سماعها الآذان الطاهرة.. لم يستطع ابنه محروس الشاب المهذب تحمل إهانة والده وأخته من قبل صهره، فهجم عليه، وأشبعه ضربا ولكما، فما كان من عوني إلا أن أسرع بشهر سكينٍ كانت مخبأة داخل جيبه، وراح يضرب بها محروس أنى اتفق، فانتزعها منه بخفة ملفتة، وكال له بها الصاع صاعين، فأصابه بجروح كثيرة أغرقت ثيابهما بالدماء.
لم يستطع أولاد الحلال ومنهم عادل فك الاشتباك بينهما خشية الإصابة بطعنة طائشة حتى تدخل رجال الأمن بدعوة من إحدى السيدات التي شاهدت النزاع من نافذة بيتها المطلة على الزقاق، فاتصلت هاتفيا بالمخفر مستنجدة بهم، فحضروا خلال دقائق، وذهبوا بهما لتسجيل ضبط بالحادثة.
ظلت درة مطرقة برأسها أرضا، وارتعاشة مفاجئة تغزو أناملها المجعدة والعرق يتصبب من جبينها.. ناداها عادل.. لم يلقَ ردا..
ـ أمي.. أم عادل
ـ ….
ـ أمي
ـ …
ـ سراب أحضري كأسا من الماء.. أمي..
بحركة لاشعورية أسرعت سراب تقطع المسافة بين الغرفة والمطبخ وغمائم سوداء تغطي أفق ذاتها الواجفة بالحدث.. تسرع فتحس بتعثر قدميها في طريق غير معبدة في فلكها المضطرب..
تخترق عينا درة المنصبتان فوق الأرض جدارَ الزمان بشرود تام تبتعد فيه عما حولها قلبا وأذنا وشعورا..
تغرق حتى الأعماق فتراه غارقا بدمائه.. تمتد يداها نحوه.. تمسك برأسه.. تضمه إلى صدرها.. تبتل ثيابها بالدم.. تشده إليها أكثر.. لماذا ياهاشم.. أرجوك لاترحل.. لا ترحل.. لا ترحل..
يناديها عادل:
ـ أمي.. أمي
ـ اشربي الماء.. رحمه الله.. رحمه الله..
ـ لا ترحل.. لا ترحل.. هاشم
ـ أمي.. هاشم رحل ولكن الله باقٍ.. انتقم له من القاتل بيد مجرمة..
يمسح دموعها بأنامله، يضمها إلى صدره.. تمتزج دموعهما وشهقة حرى يطلقها صدر درة يحرق لهيبها وجه عادل.
كان صغيراها يبكيان.. وجيهة وعادل.. سمعت صوت نحيبهما.. وضعت رأسه في حضنها.. ضمتهما إليها.. ابتلت ثيابهما بدماء أبيهما..
ناداها:
ـ أمي اهدئي.. اشربي الماء
أمسك بيديها.. صب فوقهما قليلا من الماء.. شهقت.. فتحت عينيها.. رأته رجلا بثياب خضراء، نظيفة.. ابتسمت، والدموع تتلألأ فوق جفنيها بوهج الشمس.. تندلقان فوق خديها.. تمسحهما بأصبعيها وعيناها معلقتان بثوب سراب فوق بطنها الذي يحمل هاشم.
أحبت درة أن تستغل غياب سراب مع عادل خارج البيت وهما يتمشيان حول الجزيرة في صنع نوع من الحلوى يحبانها معا.
دخلت المطبخ.. صنعت صينية من الفستقية الشهية التي اشتهرت بها الجزيرة، وقبل مغادرتها المطبخ سمعت صوت دقات خفيفة على الباب.. لم تخمن من يكون الطارق، فهي لاتنتظر أحدا سواهما وما زال الوقت مبكرا لعودتهما، وعندما فتحت الباب ارتفع صوتها بالترحيب بالقادمة شيماء الرابح..
وهما تتحدثان بأمور كثيرة حول اللجنة التي أنشئت لمكافحة التدخين بين النساء، وغيرها من المواضيع التي ستطرح على السيدات في اللقاء القادم الذي طلبت درة تأجيله تحسبا للظروف المحتملة بشأن ولادة سراب قالت درة لشيماء.:
ـ حماتك تحبك ياشيما
ـ لست بحاجة لحبها الآن بعد أن أصبحت عظامها مكاحل، فتأخذني إليها..
ـ أطال الله في عمرك.. لكنها كانت تحبك وهي على قيد الحياة.
ـ مادليلك في ذلك يا درة؟
ـ الفستقية التي صنعتها قبل قليل.
ـ الله.. الله.. فعلا كانت تحبني رحمها الله وأحسن إليها. حموات زمان غير يا أم عادل..
ـ كل زمن توجد فيه الحماة الرحيمة والحماة الشريرة، دنيا يعمرها الجميع..
ـ حكت لي إحدى السيدات التي ظلمتها حماتها وزوجها شيئًا لا يصدقه العقل. حقيقة أمر غريب عجيب أن يوجد حتى اليوم نماذج بشرية بهذا اللؤم والوحشية في التعامل مع الناس خاصة إن كان مع شابة بعيدة عن أهلها..
ـ هذا لايجوز.
ـ تصوري منعوها من رؤية عائلتها سبعة أعوام لا يسمحون لأحد منهم بزيارتها أو محادثتها هاتفيا، فكانت أختها تذهب إليها وتقف بعيدا عن البيت علها تلمحها وهي تنظف النافذة كي تطمئن عليها وتطمئن والديها.
ـ قسوة يمقتها الله
ـ كانت حماتها لا تخاف الله، ظلمتها كثيرا، وكان زوجها رهن إشارة والدته الشريرة، ليس له رأي ولو خالف بأوامر أمه تعاليم الله.
ـ أعوذ بالله من غضب الله.
ـ وعندما ماتت العجوز.. وضعت في غرفة خاصة، وكان على الكنتين المظلومتين في بيتها أن تسهرا قربها حتى الصباح.
ـ ياساتر..
ـ هكذا أراد ولداها..
ـ ونفذتا طلبهما؟
ـ مرغمتين.. والله ياأم عادل قالت لي سلمى بأنهما كانتا ترتجفان طوال الليل وهما خائفتان وغير مصدقتين بأنها ماتت.
ـ ياالله..
ـ حتى أنهما كانتا تكشفان بين الحين والحين عن وجهها للتأكد من أنها ماتت خشية أن تنهض من نومها وتريهما نجوم الظهر.
ـ وهل قامت؟
ـ أم عادل أراك بت مثلهما!!
ـ قصة غريبة ياشيما
ـ تصوري يادرة لقد ترك ظلمها في نفس سلمى شرخا لولم يعالجها أهلها لأصيبت بالجنون.
ـ دنيا فيها العجيب والغريب من الناس.. على أية حال كلي الآن الفستقية ولننسَ ظلم الحموات قليلا كي نستطيع ابتلاع اللقمة، وإلا علقت في حلقينا ولحقنا بحمواتنا…
وهما تأكلان الحلوى أخرجت شيماء من حقيبة يدها مبلغا من المال.. قدمته لدرة بشيء من الحياء وقالت لها:
ـ أرجو أن توصلي هذا المبلغ لأم أحمد دون أن تذكري لها اسمي.
ـ بارك الله فيك ياشيما
ـ أنا أعرف شآمة نفسها ورفضها قبول المساعدة من أحد.
ـ قد ترفض قبوله مني أيضا.
ـ قولي لها بأن عادل استدان المبلغ من أحمد وهما في السفر.
ـ أتريدينني أن أكذب ياشيماء؟!!
ـ ليس كذبا هذا بل مداراة لفعل الخير، فقد سمعت من مصدر موثوق بأنها قد عرضت طنجرة نحاسية قديمة للبيع ولم يشترها أحد، وعندما حاول رجل من أهل الخير شراءها بمبلغ كبير رفضت ذلك لأنها فهمت قصده بالتصدق عليها، وكما تعلمين فقد رفضت أن تأخذ تعويضا من صاحب السفينة التي كان يعمل بها ابنها بحجة أنها لن تقبض ثمن مصيبتها، لم تقبل بأخذ أي مبلغ منه إلا ما استحقه خلال عمله، وقد صرفته على الجنازة وملحقاتها، وما تبقى منه كانت تعيش به حتى نفد ولامعين لها سوى رب العالمين، وكما يعلم الجميع لم تقبل استرجاع المصاغ الذي اشتراه أحمد لخطيبته لمى رغم محاولة الفتاة وأمها ذلك.
مؤخرا بدأت سراب تحس بآلام خفيفة في أسفل ظهرها وبطنها.. أخبرتها القابلة القانونية بأن هذه الأعراض تنتاب الحامل في الشهر التاسع، ولم يحن بعد وقت الولادة.
حمل ثقيل ألقت به "شيماء الرابح" فوق أكتاف "درة" وذهبت تاركة قلبها في خضم بحر هائج تضرب أمواجه العاتية فؤادها بكفوف توبيخ الضمير.
صدق معها اليوم المثل القائل" بعد الكبره جبة حمرا" وأي جبة حمراء تلك التي ستجعلها تستخف بنفسها إن هي اقترفت الكذب بعد أن ابيض شعرها، وتساقطت أسنانها، ولم تعد تريد من الحياة سوى رؤية الطفل هاشم، وختامها برضا من الله.
لن تسأل شيخا خجلا من السؤال رغم علمها تماما أنه لا حرج في الدين، ولكنها تخشى أن يظن أحد بها السوء، فقررت البحث في كتاب رياض الصالحين عن حديث يبيح الكذب في عمل الخير، وكانت قد سمعت بأن الضرورات تبيح لمحظورات، ولكنها تريد أن تطمئن أكثر، فهي تمقت معرف الكذب فكيف باقترافه؟! وهناك أمر آخر زاد الطين بلة فقد تطلب منها أم أحمد أن تقسم بالله أن لابنها دينا على عادل، وهي لن تقسم اليمين كذبا مهما كان الأمر.
وضعت كيس النقود في رف خزانتها.. بحثت في المكتبة الصغيرة التي توجد في غرفة المعيشة عن الكتاب.. لم تجده.. سألت سراب عنه.. أحضرته لها من غرفتها.. كانت تقرأ فيه قبل أيام ولم تعده إلى مكانه.
درة تجيد القراءة، فقد ختمت مع أترابها وهي صغيرة قراءة القرآن في الكتَّاب.. سألتها عما تريد منه ، أجابتها:
ـ المؤانسة بحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام.
أغلقت باب الغرفة خلفها بعد أن ذهب ابنها وزوجته للنوم.
وهي تفتح الكتاب كانت تتردد في رأسها آية حفظتها من سورة غافر -: (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) [غافر: 28وفي جانب آخر ترن آية لو وقعت على جبل لزلزلته قال ـ تعالى -: (لعنة الله على الكاذبين) [آل عمران: 61.
اقشعر بدنها وسرت فيه برودة ولدت رعشة يديها وهي تقرأ مارأته من رواية ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:-: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اللَّه كذابًا». [البخاري 6094، ومسلم 2607
ارتدت على أعقابها.. خرجت من الغرفة وهي تستعيذ بالله من الكذب.. مايدريها كيف يأتيها عقاب الله إن هي فعلت ذلك.. لا.. لن تكذب ولتجد شيماء طريقة أخرى توصل فيها المال إلى أم أحمد.. دخلت المطبخ.. حضَّرت فنجانا من القهوة عادت به إلى غرفتها فقد أحست بصداع مؤلم في رأسها.
مازال الكتاب أمامها... تهيأ لها أنه يدعوها إليه لمزيدٍ من القراءة علها تجد ما يريح نفسها.. لبت النداء.. قرأت.. قرأت.. إياكم، إياكم والكذب.. تحذير مخيف يؤدي بالكاذب إلى النار.. الكذب خيانة كبيرة: عن النواس بن سمعان ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم -: «كبرت خيانة أن تُحدث أخاك حديثًا هو لك مصدق وأنت له كاذب».
ياالله كم هو ذنب الكاذب كبيرا.. في خضم قلقها واتساع همها بما حملتها شيماء من أمانة، كادت تغرق ببحر هم لا قرار له، وقعت عيناها على حديث أحست من خلالها بيد أمان تنتشلها من غرقها .
ـ روى الترمذي عن أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أيها الناس ما يحملكم أن تتابعوا على الكذب كتتابع الفراش في النار، الكذب كله على ابن آدم حرام إلا في ثلاث خصال: رجل كذب على امرأته ليرضيها، ورجل كذب في الحرب فإن الحرب خدعة، ورجل كذب بين مسلمين ليصلح بينهما ".
بدأ خوفها ينسحب تدريجيا.. وكلما تقدمت بالقراءة خطوة تراجعت جحافل قلقها خطوات.. لكن ماجاء في الحديث لايشملها فهي لن تحارب ولن ترضي زوجا بكذبة فقد مات هاشم ولم يعد بحاجة لرضاها، ولن تصلح بين مسلمين نشب بينهما خلاف.. أين تجد ما يخصها في الأحاديث الشريفة ؟ ظلت تقرأ حتى تعبت وغطت في نوم عميق .
ربما كان حلما ذاك الذي جعلها تهب من فراشها على عجل.. توضأت وصلت فرض الفجر..
رأت عادل يستعد للخروج إلى الصيد وقد ارتدى ثيابه الخاصة لذلك.. سألها عما جعلها تتأخر بالنوم حتى الآن فقد تعودت أن تستيقظ قبله.. استوقفته، واستأمنته على السِّرِّ وسألته رأيه به.
دهش من نبل السيدة شيماء، ووعد أمه بأن يأتيها بالفتوى التي تريحها بعد عودته من الصيد، فالصيادون ينتظرونه الآن للمِّ الشباك من البحر، وعليهم أن يصِلوا بالفلوكة إلى شباكهم والعودة بالأسماك قبل الشروق أو بعده بقليل.. ودعها طالبا رضاها، ومضى إلى عمله بينما عادت هي إلى سريرها، كانت تحس بإرهاق شديد ورغبة في النوم.
ركب الصيادون الفلوكة وأبحرت بهم إلى مكان بعيد في البحر حيث توجد الأسماك هناك بكثرة وبأحجام كبيرة وأنواع مختلفة.
كان البحر هادئا.. لطيفا رحب بهم وهم يمخرون عبابه طلبا لرزق عيالهم الذين ينتظرونهم بأمنيات وأحلام براقة.. السعيد من الصيادين من يعود محملا بمال البحر السمكي فيمنع نفسه ذل السؤال.
كانت النجوم تبارك خروج الفلايك وهي تتراقص في السماء قبل أن يلمها الغيب بشروق الشمس. سعادة غامرة يحسها الصيادون في الصباح على متن فلايكهم وهم يشقون طريقم في بحرهم الحبيب.. الكريم بكل ماتعني الكلمة من معنى، القاسي أيضا بكل أعماق المعنى.. آه منك يابحر.. خطفت منهم الشباب.. ثكلت الأمهات ويتَّمت الأطفال، ولا يزالون يحبونك رغم كل شيء، ولا يستطيعون فراقك أو الحقد عليك.. حبهم لك غريب منذ أن امتزجت ملوحة مائك بدماء شرايينهم.. ولمَ لا؟ فقد جرحت الصخور أطراف أكثرهم منذ نعومة أظافرهم وهم يلعبون على شطك الصخري.. ولوحتهم الشمس بحزن القلب لفراق أحبتهم.
آه يابحر، قليل من حنانك يسعدهم كثيرا.
وصلت فلوكة عادل إلى مكان الشباك، فرأوا برميلهم الأخضر طافيا فوق سطح البحر وحوله فلين الشباك..
بدأوا بسحبها بقوة ونشاط، خمسة رجال بعزم عشرة.. شدوا .. وشدوا.. كانت الشباك ثقيلة جدا اليوم.. بداية مبشرة بالخير.. شدوا أكثر..وخرجت من البحر محملة بكنز ثمين استقبله جوف الفلوكة بترحاب يليق بملك.. أسماك كبيرة وصغيرة بشتى الأحجام والألوان.. بينها كانت المفاجأة الرائعة.. وحش بحري كبير كان صيد اليوم المفرح، ولسوف يكفيهم عناء الخروج في الليل من دفء بيوتهم لأيام كثيرة.
حضَّرت سراب القهوة لاحتسائها مع حماتها، لكن درة لم تخرج من غرفتها حتى الآن.. تعودت سراب ألا توقظها إلا لضرورة ملحة.. انتظرتها بعض وقت، فلم تخرج، اقترب موعد عودة عادل.. لم تخرج..
فوق سريرها كانت درة ممددة دون حراك.. عيناها مسمرتان في سقف الغرفة التي شهدت ليلة زفافها قبل أكثر من نصف قرن من الزمن، وهي شابة جميلة تميس حورية فاتنة في زهو ربيعها الذي أذبلته الأيام هما وغما وكفاحا..
في أعلى السقف حيث تسمرت عيناها، امتدت يد خوفها ترسم قنديلا مهترئًا بريشة الوهم، يهتز فيه الضوء بكل الاتجاهات، تخفت أنواره.. تخفت.. يتداعى جسد درة.. تهوج الريح تضرب بأجنحتها السوداء زجاج القنديل الرقيق، يشتد نهش الخوف بأحاسيسها المرهفة.. المتعبة.. تتغلغل عمقا في أغوارها السحيقة.
من شرفة يأس عتيقة تطل على وادٍ غير ذي حياة.. هوة موحشة.. رسمت معالمها الظلمةُ فبدت مخيفة.. برهبة الأنفاس في صدرها.. بحب البقاء.. يتسرب الضوء المبعثر من القنديل المتأرجح في السقف إلى بعض زوايا الهوة العميقة الفاغرةِ فمها بوسع الخيال.. ترى نفسها في ركن بعيد ممددة فوق سرير من هواء تعبث به الريح.. ينبعث من صدرها ضوء خافت.. ينوس.. ينوس.. تحس ضيقا بالتنفس.. تحرك يديها.. قدميها.. ترفع راسها.. تنظر إلى كفيها.. إلى السقف لا ترى قنديلا.. تجلس في السرير.. تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.. تحمد ربها أنها مازالت تستطيع الحركة..
تخرج من غرفتها تقابلها سراب بوجهها البشوش.. تقبل يدها.. تقبل خديها.. تسرع سراب إلى المطبخ.. تحضر فنجاني قهوة.. تجلس مقابل حماتها.. تحتسيانها دون بنت شفة.
عاد عادل إلى البيت بعد بيع الأسماك يحمل في جيبه من المال ما يكفي مصاريف الولادة وتقديم ضيافة المباركة.. لأول مرة لم ير والدته سعيدة بما أحضره.. عرف السر.. أمسكها من يدها مبتسما ومشى بها إلى غرفتها بينما أسرعت سراب لتحضير الفطور..
ـ اطمئني يا أم عادل تستطيعين العمل بما قالته لك السيدة شيماء وأنت مطمئنة، ولا حرج عليك بإذن الله.
ـ كيف؟
ـ سألت من له علم بذلك .. أخرج ورقة صغيرة من جيبه وراح يقرأ ما كتب فيها : “الكذب حرام؛ لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره. ولكن يُباح الكذب وقديجب أحيانا، والضابط فيه: أن كل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه، وإن لم يكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب، ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا كان الكذب مباحا. وإن كان واجبا كان الكذب واجبا. “
ـ لم أفهم تماما ياعادل ، الكلام هذا يحتاج مني لتركيز وأنا متعبة
ـ حسنا، مايهمنا هنا هو أيصال المقصود المحمود الذي يحبه الله وينفع الناس إلى من نريد إيصاله إليهم.
ـ كيف؟
ـ أنت تريدين عمل خير بإيصال المال إلى أم أحمد رحمه الله، أليس كذلك؟
ـ أجل
ـ وهي لا تريد صدقة من أحد، وليس معها ما يعينها على الحياة
ـ أجل
ـ فإن لم يصل إليها المال ربما ماتت لا قدر الله
ـ ـ أجل
ـ فأيهما أفضل أن تموت أم أن تبقى على قيد الحياة؟
ـ بالطبع أن تبقى على قيد الحياة.
ـ أرأيت يا أم عادل ، فأنت عندما تكذبين عليها من أجل إبعاد الشر عنها فإنَّك تنقذينها من الموت وهذا عمل خير.
ـ أجل
ـ وتبعدين عنها الموت وهو الشر.
ـ أجل
ـ فأيهما تختارين يا أم؟
ـ طبعا الخير لها
ـ وهذا يكون واجبا عليك..
ـ يا إلهي .. اقشعر بدني .. ما أعظم رحمة الله بنا.. سأذهب إليها الآن.. لقد أرحتني يا عادل كثيرا..
ـ انتظري سأذهب معك، في رأسي فكرة أرجو أن يتمها الله على خير.

استقبلتهما لمى خطيبة أحمد ريثما دخلت إليهما خالتها.. لم تكن تحسب حسابا لزيارة أحد لها قبل أذان المغرب، فقد تعودت أن تنام بعد صلاة العصر لقلة من يزورها.. تهرب بالنوم من التفكير بابنها.. مازال جرحها نازفا، بينما تجلس لمى في البيت وحيدة تتسلى في بعض الأحيان بمشاهدة التلفزيون وأحيانا أخرى بالتطريز اليدوي، فتصنع لوحات فنية جميلة إحداها صورة خطيبها الراحل .. حبها له جعلها ترفض العودة إلى بيت أهلها كي لا تترك خالتها وحيدة بين فكي حزنها الحارق.. في هذا البيت الذي ولد فيه أحمد وشبَّ ومنه رحل، تحس لمى بوجوده بأي شيء تقوم به بخدمة خالتها.
خرجت الفتاة من الغرفة لتحضير القهوة فاستغل عادل فترة غيابها في الخارج، وبدأ الحديث مع أم أحمد التي استغربت هذه الزيارة المفاجئة منهما خاصة منه بالذات..
بعد أن دعا لأحمد بالرحمة والمغفرة وذكر الكثير من حسناته، قص على أمه بعض الذكريات معه التي يحتفظ بها في قلبه، وأخبرها بأنه كان قد استدان منه مبلغا من المال ووعده بإعادته إليه عندما يتيسر له ذلك، ولكن القدر سبقه إليه قبل أن يرجع المال، وخلال الفترة الماضية التي أعقبت وفاته لم يستطع إيفاء الدين لأمه لعسر كان يمر به، فآثر الصمت ريثما يتوفر له المبلغ، والآن قد فرَّج الله عنه، وها هو قد جاء لإعادة المبلغ كاملا للسيدة والدته، وطلب منها مسامحته على كتمان الأمر، والتأخر بالسداد، ورجاها أن تعتبره كابنها أحمد فهو في خدمتها متى شاءت.
بداية دهشت أم أحمد مما سمعت، ثم انهمرت دموعها لأكثر من سبب.. لم تخف عليهما أنها لم تصدق ذلك عندما سمعته، ولكنها تذكرت بأنه ذكر لها في أحد الأيام عندما هاتفها في سفره الذي قضى فيه نحبه، بأن أحد معارفه قد استدان منه مبلغا من المال ووعده بإرجاعه له قريبا، ولم يذكر لها اسمه.
أصاب عادل الذهول عندما سمع ما تفوهت به الثكلى.. خاف حقيقة أن تكون قد صدقت بأنه هو من استدان المبلغ الذي أخبرها عنه ابنها، فصمت ولم يسألها عن قيمته خشية أن يفتضح سر ما جاء لتأديته إن كانت قيمة المبلغ هي ما أخبرها عنه ابنها أو غير ذلك، وظل فكره مشغولا بالمجهول الذي اقترض المال منه، ولم يُعده لأمه.
استلمت المبلغ من أحمد بينما كانت لمى تقدم القهوة لهم، وعلامات الدهشة بادية على وجهها مما رأت، واستغربت كيف تقبل خالتها مالا من الناس وهي التي ترفض الصدقة.
ابتسمت أم أحمد عندما قبضت المال.. نظرت إليه مليا.. أخذت منه قليلا ثم أعادته لعادل، وطلبت منه أن يضعه في عمل ما يدر عليها ربحا يكفيها لقمة العيش.. فوعدها خيرا.
احتسوا القهوة.. وهي تضع الفنجان فارغا فوق الترابيزة قالت أم عادل للمى:
ـ نشربها بفرحك يا ابنتي.

انتفضت لمى كأن أفعى لدغتها.. قالت وقد احمرت وجنتاها :
ـ بعد أحمد لن أتزوج.
سألها:
ـ لماذا يا أختاه؟ هذا لايجوز شرعا، ولا يرضى أحمد رحمه الله.
ـ يحتاج الجرح لعمري كله كي يبرأ مما أصابه، ولن.
ـ من يدري قد يبرأ قبل ذلك إن رزقك الله بابن الحلال الطيب.
ـ لن يستطيع أي رجل تحمل حزني على أحمد مالم يكن قد مر بحزن مثله.
قالت أم أحمد:
هذا كلام قالته قبلها كثيرات ثم نسين .. دعوها فإن الله كفيل برأب جرحها متى شاء.
ظل عادل مشغول الفكر بالرجل المجهول الذي استدان من أحمد المال، لم يكن في السفينة من يحتاج للمال ليصرفه في البحر، فليس معهم مقامرون، فمن يكون المقترض هذا؟
لم يهدأ انشغال باله بهذا الأمر، فراح يستعرض الأحداث التي مرت بهما منذ أن صعدا السفينة إلى اللحظة التي توفاه الله فيها.
حار في أمره فهو لم يتركه لحظة خارج السفينة.. نزلا معا إلى السوق هناك في الميناء الذي اشترى منه الفستان الأخضر لسراب، واشترى أحمد (الجاكت) للمى، هنا فقط افترقا لوقت ليس طويلا، ثم التقيا في (الكافيتيريا)، وعادا معا إلى السفينة ولم يغادراها إلى أي ميناء آخر..
أوشك أن يصل إلى طريق مسدود في معرفة مقترض المبلغ لولا أن تذكر أن هناك من طلب منه شخصيا المال، ورفض إقراضه لأنه سيعطيه لصديقته الأجنبية هناك لتدخل به ابنها إلى المدرسة.. أجل هو بعينه، ولكن ربما خجل أحمد من إخباره بالأمر بعد أن رأى غضبه وثورته العارمة ضده.
أحس بشيء من الراحة وكثير من الغضب.. حسنا سيعرف كيف يعيد المبلغ من الساكت على الدين بعد التحاق صاحبه بالرفيق الأعلى..
لم تسأل سراب حماتها أين ذهبت مع عادل كي لا تحرجها بالجواب، فخرجت معه لتتمشى كالعادة حول الجزيرة، لكنها هذه المرة لم تستطع متابعة المشي، فقد كان الجو باردا ورياح غربية بدأت تهب على الجزيرة، فعادت إلى البيت واستلقت في سريرها بينما ذهب عادل إلى المقهى بعد أن استدعاه أحد أصدقائه فأخبر والدته بأنه لن يتأخر كثيرا.
بعد أن اطمأنت أم عادل على سراب خرجت من البيت بزيارة خاطفة لشيماء الرابح التي رحبت بها كثيرا، وسألتها إن هي أوصلت المبلغ لأم أحمد.
فرحت شيماء بما سمعت، ودعت لعادل بالخير، واتفقتا على أن تقوما بمثل هذا العمل الخير مع كل من هن بحاجة لمساعدة مادية تقف عفة أنفسهن وشآمتهن مانعا بوجه مساعدتهن، وسوف يساعدهن كل حسب الطريقة التي تناسبها بتقديم المال..
استأذنتها بالذهاب.. طلبت منها المكوث بعض وقت لكنها اعتذرت فقد اشتد هبوب العاصفة، وبدأت الأمطار بالهطول، وسراب وحيدة في البيت، وهي متعبة.
عاد عادل إلى البيت مخطوف اللون مبلل الثياب.. هرعت إليه درة تستفسر عما فعل به ذلك.. تنهد بحرقة وأخبرها بأن فلوكة صارم السناري قد ضيَّعت في البحر عندما خطفتها الأمواج وهو قادم بها إلى الجزيرة.. وبجهد جهيد استطاع بعض الصيادين إعادة الفلوكة إلى السقالة، وعندما وصلت رمتها الأمواج فوق الصخور وكادت تحطمها لولا أن تعاون كل الموجودين على شاطئ البحر وفي المقاهي المجاورة فشحطوها إلى البرِّ..
قالت درة بأسف:
ـ مسكين صارم السناري فقير.. منتوف، عنده عرُّ أولاد.. الكبار بنات والصغار صبيان، لامعين له غير رب العالمين.
ـ ـ والله ياأم عادل كان منظره يقطع قلب الحجر.. مشحر معتر لو تحطمت فلوكته بالصخور لكان سيشحد اللقمة.
ـ قدر الله ولطف، ماأخبار فلوكتك؟
ـ الحمد لله ماعليها شيء.. لكن الأمواج تلعب بها على كيفها، دعواتك يا أم عادل .. هي الحيلة والفتيلة.
وهو يقترب من باب الغرفة سمع صوت توجعها، دخل مسرعا يمتزج فرحه بالقلق.. نادى والدته.. سبقت الخيال بالوصول إليها.. اقترب إشراق هاشم شمسا تنير حياتها.. تدفئ ما تبقى لها من عصارة عمر في دنيا تفننت بإذاقتها البؤس والحرمان رغم ما كانت تخفيه خلف الكلمات عندما كانت تحدث سراب بحكمة تقتنع بها، ولكنها كانت أضعف من الاطمئنان إليها كثيرا، لولا إيمانها بأن الله سيعوضها في الآخرة خيرا مما كان في دنيا الفناء..
ما أجمل البشرى القادمة بتوجُّع سراب.. توجع تتمناه كل أنثى كي تصبح أمَّا مهما كانت شدة الوجع.. سيشب الأمل فوق أطواق الألم والعذاب والحرمان قالعا عيني حقد الآه الحارقة لقلوب اتخذت من الصبر مهنة، ولابد من أن تربح تجارتها يوما..
على جناح اللهفة فرحا اتصلت بوالدة سراب التي حضرت برفقة القابلة القانونية والعاصفة تشتد ضربا بالجزيرة..
مسح بكفه الحانية حبات العرق الباردة عن جبينها ورأسها موسّد صدر أبي هاشم.. أحس بدقات قلبه.. ناغاه بلمسة يده فوق بطن المتوجعة..
ـ لا تعذب أمك يا هشومة.. صبرا يا بني.. كلنا بانتظارك..
سراب تتألم بصمت حينا، فتعض على شفتها السفلى مغمضة عينيها المتشوقتين لرؤية الأمل المنتظر، بينما تضغط يداها على يدي عادل بشدة يتلقاها بأروع إحساس أبٍ ينتظر مولد طفله.. وحينا آخر تطلق تّأوها تحاول كتمه فلا يحالفها النجاح..
تسرع أم عادل إلى مطبخها.. تحضر مغلي الكمون، فهو وصفة مجربة يحمى بها الطلق كما يقولون.. لم تجد سراب في نفسها قابلية لشربه فأعطته لعادل..
قررت علية اصطحاب سراب إلى بيتها لتضع المولود في منزل جده.. سيكون الأمر أكثر راحة لهم جميعا.. أسرت الأمر في نفسها لحينه تاركة زوجها بقلق شديد على ابنته بعد أن حاول مرافقتها إليها.. لم توافقه، فالجمعُ الليلة للنساء، ولا مكان لوجود الرجال عدا عادل إلم يوافق على إحضارها إلى بيت والدها، أعطته حبة تنظيم الضغط، وطلبت منه تهدئة نفسه تجنبا للضرر.
كانت وجيهة أول من وصل إلى البيت ممن هاتفتهم درة.. لحقت بها علية والقابلة القانونية التي طلبت من عادل الانتظار خارج الغرفة..
وقف الجميع بقلق ينتظرون خبرا سعيدا يبشرهم بأن الولادة قد أصبحت على مرمى ساعة أو أقل..
كانت وجيهة تحضر القهوة عندما رأت القابلة تحدث والدتها وعلية بصوت خافت.. تركت الدلة فوق النار، وخرجت إليهم لتسمع ما تقوله..
ـ مازال الوقت مبكرا للولادة.. اتصلوا بي إن شدَّ الطلق.
اعتذرت عن احتساء القهوة التي اندلقت فوق النار.. كانت في عجلة من أمرها.. هناك امرأة قد تضع الليلة مولودها.
عادت وجيهة إلى بيتها للعناية بأولادها، بينما بقيت علية مع ابنتها تخفف عنها آلامها بحديث من هنا وقصة من هناك..
قصت عليهم ماحدث ليلة مولدها، وكم كان الأمس مشابها لليوم، فقد ولدت سراب في مثل هذه الأيام والمطر منهمر فوق الجزيرة بكميات هائلة على يد الداية أم عثمان ، بينما تمت ولادة عادل كما قالت درة صيفا على يد الداية أم أحمد بلقيس.
لم تهتم سراب بما سمعت فقد كان فيها من الألم ماصمَّ آذان وعيها عن كل حديث.
في ساعة متأخرة من الليل نامت سراب بعد طول أنين.. كانت والدتها بالقرب منها تشرف على حالتها، فلم تجد جديدا يستوجب استدعاء القابلة.. حاولت انتهاز فرصة إغفاءتها لتنام قليلا لكن الكرى جافى عينيها، فخرجت من الغرفة لاستنشاق الهواء البارد لإحساسها بشيء من الاختناق وهي تراها بحالة يصعب على قلب الأم تحملها ولو كانت ستلد ملكا.
لم يعد يشغل بال علية هاشم ولا درة.. المهم عندها الآن الاطمئنان على فلذة كبدها.. انهمار الأمطار فوق رأسها وهي تقطع الجزء المكشوف من فسحة الدار إلى غرفة المعيشة اختلطت عذوبة مائه بملوحة ماء عينيها.. فوجئت بوجود أم عادل في الغرفة وهي تقرأ في القرآن الكريم.. جلست بالقرب منها تسبح الله، بينما كان عادل ينام في سرير أمه تاركا غرفته لحماته.
وضعت درة القرآن في كيس من القماش الأخضر مطرز بخيوط ذهبية.. علقته فوق الحائط الغربي بعد أن قبلته، ودعت الله أن يتم الولادة على خير.
ذهبت إلى المطبخ.. عادت تحمل صينية نحاسية قديمة تلمع كالذهب وفوقها فنجانان من القهوة وكأس ماء..
وهما تحتسيان القهوة دارت بينهما أحاديث شتى، أخبرت درة خلالها علية بقصة رزق وسعفان، وخبر اللجنة النسائية لمكافحة التدخين بين النسوة، ومشروع العمل الإنساني لمساعدة المحتاجات من الأرامل والمساكين. أحست برغبتها في الانتساب لهذه اللجنة فوعدتها خيرا، وسرها جدا ما سمعته منها في قدرتها على المساهمة معهن، ودعوة الكثيرات للمشاركة فيما يخدم الجزيرة.
وهما تتحدثان سمعتا صوت سقوط شيء ما في بهو الدار.. أسرعتا لمعرفة ما حدث في الخارج.. لحق بهما عادل الذي هبَّ من فراشه خائفا.. ألف هاجس هاجم رؤوسهم.. استعاذوا بالله من ساعة الغفلة.. أضاءوا النور .. شاهدوا مفاجأة لم تكن بالحسبان.
حمدتا الله وهما تنسحبان من الدار وخشب النافذة التي تطل على البحر مشلوح فوق الأرض بفعل شدة الريح.
رفعه عادل، ووضعه في ركن جانبي.. دخل غرفته للاطمئنان على سراب.. وجدها نائمة ويدها فوق بطنها.. أغلق الباب وراءه وعاد إلى غرفة أمه لمتابعة النوم قبل أن يحين موعد صلاة الفجر.
عندما هدأت أعصابهما راحتا تتحدثان عن الطقس، وعن هبوب العواصف في مثل هذه الأيام حيث (نوَّة الحسون)، وما تلاقي بها الجزيرة من كوارث.. فالريح والأمواج تهيج بشكل مفاجئ تضرب كل ما تصادفه أمامها من بشر وجماد. تحدثتا عن السفن التي غرقت.. والفلايك التي تحطمت وعن الأرواح التي زهقت.. نوَّة الحسون السنوية تدع بانسحابها الدموع في العيون حارقة بفقد المال والعيال .
تذكرتا ما حدث في إحدى السنوات الماضية عندما هاج البحر على الجزيرة، وكيف اخترق الصخور التي تقف بوجهه سدا منيعا.. دحرجها فوق الشط الصخري غرب الجزيرة وألق ببعضها عن الأسوار العالية رغم أوزانها الهائلة.. تخطاها بجنون إلى المقابر المجاورة، حفر التربة.. هجم على المقابر، وخطف جثث الموتى منها ما فني منها، وما لم يفنَ بعد.. لم يترك سوى قبر الشيخ عسيلي رحمه الله.. لم يصبه بأذى. دهش الناس عندما رأوا بأم أعينهم ما حدث من عجب، فكبروا، وهللوا، وترحموا على شيخ جزيرتهم الجليل.
.. أمسى الغروب وشيكا، لكنها ستتمسَّكُ بأطراف آخر خيوط الشمسـ بما لديها من قوة، وما تبقى لها من أنفاسـ لتحس بها دفئا عاشت تنتظر ملامسته لقلب جريح يشكو البرد منذ زمن طويل.
سمعت أنين سراب، هرعت إليها بلهفة الشوق لعيني المنتظر.. كانت أمها تقف بالقرب منها تشد من أزرها.. ووجه الموجوعة يكاد ينزف دما..
هاتف عادل القابلة.. أتت على عجل.. فحصتها سريريا.. قلبت شفتيها. هزت رأسها بالنفي، وقبل أن ترفع عينيها إلى عيني علية المعلقتين بوجهها قالت:
ـ لا داعي للقلق، مازال الوقت مبكرا للولادة.
كالمرة السابقة غادرت البيت على أن تعود عندما تظهر علامات المخاض واضحة، ولن يكون هذا قبل عدة ساعات قادمة.
أمسك عادل بيد سراب وراح يمشي بها في الغرفة ذهابا وإيابا حسب تعليمات القابلة.. مرت ساعة.. ساعتان لا جديد فيهما.
وسط القلق والرهبة المختلطة بالفرح دخلت درة إلى المطبح، وشرعت بإعداد الغداء، سيكون طعاما فاخرا..اليوم ليس كأي يوم مضى.. فرح.. ولادة..ولادة..ولادة.. أكثر من مرة شردت بفكرها بعيدا..
تهيأ لها أن هاشم معها في البيت ينتظر مولد حفيده بفرحة تفوق فرحتها.. كادت تحس بدفء أنفاسه.. تسمع صوت خطواته.. همساته.. ضحكاته.. شطح بها الخيال أكثر.. كادت ترى ثيابه التي يرتديها لاستقبال الحبيب.. عطره الذي مازالت رائحته عالقة في شغاف قلبها.. ذقنه الحليقة.. طربوشه الأحمر مائلا قليلا إلى اليمين.. (ياااه ماأجملك ياهاشم)..
ـ أيعقل هذا يادرة؟!! استهدي بالله.. تماسكي.. لا تتركي الوهم يفترس وعيك.. إياك والاستسلام للشيطان.. قد ينحرف بك بعيدا..
أفاقت من شرودها عندما سمعت صوت علية تلفت انتباهها لللحم الذي كاد يحترق في المقلاة..
ضحكت درة وهي تشكر علية:
ـ ابتعدت كثيرا عن اللحم والسمن والنار..
ـ هنيئا لمن أخذ عقلك..
ـ ليس غيره يا علية.. لم يأخذه بل شغل كل مساحته، ربما لو كان أخذه لكنت الآن مرتاحة منه.
ـ من هو ياأم عادل؟
ولأول مرة منذ عقود تضحك درة بصوت عال من كل قلبها.. قالت والدمع يغرق عينيها:
ـ ومن سوى هاشم؟
ـ الجدُّ، أم الحفيدُ؟
ـ الاثنانِ معا..
اكتفت سراب بالقليل من الشوربة بينما جلس الثلاثة يأكلون فرحين، وكلما سمعوا صوت أنين سراب قالوا " هانت بإذن الله، مضى الكثير ولم يبقَ إلا القليل"
اتصلت درة بشيماء، وبأم أحمد، ورضوى، ووجيهة، وفكيرة، وبعض النسوة المقربات لها ودعتهن لحضور ولادة كنتها، وألحت على أم أحمد بالحضور مع لمى.
في غياب عادل عن البيت جلست درة وعلية في غرفة سراب بانتظار عودته من السوق فقد ذهب لإحضار ما سيقدم للنسوة من ضيافة وهن يشهدن مولد هاشم..
كما أرسلت للحاجة (بكرية ) لتكون على استعداد مع طبلتها لتزف هاشم عندما يأتي إلى الدنيا، ولم تنسَ أن ترسل (لأبي قدور طنَّا) كي يستعد أيضا بطبله للعراضة ولو في منتصف الليل، تريدها عراضة لم تحصل لأحد من قبل في الجزيرة، ألا تستحق ذلك بعد صبر مرير حفر في قلبها وديان حرمان تفجرت ينابيعها حزنا وألما؟
هيأت أم عادل وعلية فراش سراب الذي ستتم فيه الولادة وهما تقرأان بسرهما المعوذتين، والإخلاص، وجهزت درة البقجة الخاصة بديارة هاشم التي حلمت بتجهيزها سنوات مديدة، ولم تنسَ أن تجعل فستان عادلـ الذي ضمه الصندوق العجوز ردحا طويلا من الزمن بانتظار ابنه في بقجة خاصة به مطرزة بالخيوط المفضضة والمذهبة.. لكنَّ عليَّة كان لها رأي آخر بالنسبة لفستان الحلم العتيق الذي أكل الزمن عليه وشرب، فطلبت من أم عادل ألا يكون هو أول ما يرتديه الوليد لقدم موضته، ولعدم لياقته للحاضر، فكل شيء قد اختلف عما كان سابقا، وإلا فسيكون محط انتقاد الحاضرات، ولسوف يصبح مضرب المثل في السخرية بين الناس، ورشحت عوضا عنه ما أحضرته هي له من ملابس جديدة دفعت ثمنها غاليا لحفيدها الأول لم يلبسها قبله أب، ولا جدّ.
أحست درة بكسرٍ في خاطرها، وغصة في حلقها.. فاحتقنت الدموع ملتمعة في عينيها المتعبتين مما وجه إليها، فأسدلت أجفانها بانكسار، وأغمضت مقلتيها ببطء في محاولة للهروب مما هي فيه من إحراج لكتم فوران مشاعرها المهتاجة بتلك الصفعة التي وجهتها إليها علية دون أدنى حساب لأحاسيسها بجهل كان أو بقصد.. لم تستطع بداية، فاستعانت بالله كي لا تقلب جو الفرح إلى جو غمٍّ ونكد تاركة لعلية حرية اختيار ما تراه مناسبا لحفيدها حسب ما ترتاح إليه ذائقتها.
رغم انشغال سراب بآلامها وتأوهها المستمر، وعدم قدرتها على الكلام بسهولة، فقد سمعت ما دار من حديث بين أمها وحماتها.. لم تستسغ ما قالته والدتها فمثل هذا التصرف الفج لايليق أن يصدر عن أمها المعروفة بالحكمة واللباقة، ولا أن يوجه إلى حماتها بهذا الأسلوب بغلظة تمقتها النفس الشفيفة، فطلبت منها على مسمع من أم عادل أن يكون فستان أبيه هو أول ما يرتديه هاشم، لرغبتها وزوجها وأمه في ذلك واتفاقهم عليه، فلم يعد أمام عليَّة إلا الانصياع لمشيئة الجميع رغم أنفها.
قبل قليل كتمت أم عادل دموعها منعا لحدوث أي شيء قد يعكر صفو اليوم داخل البيتـ خاصة وأن علية مهما يكن هي ضيفة عندها – وما يحدث في الخارجـ من ثورة الريح، والبحر، وتساقط الأمطارـ قام بالواجب وأكثر، لكنها عندما سمعت ما كان من موقف سراب وما نطقت به من درر، جعلها عاجزة عن لجم كرم عينيها، فانهمرت منهما دموع السعادة محلاة بقطر الشكر من كلمة حق قالتها سراب جبرت بها كسر خاطرها، ورفعت كثيرا من معنوياتها النفسية.
رفعت درة يديها إلى السماء شاكرة.. حامدة، ولسانها يدعو الله بنبض قلبها الطاهر أن ييسر الولادة لسراب على خير مما جعل علية تبتسم وهي تؤمِّن معها وكأن شيئا لم يكن.
لاحظت علية اشتداد الطلق مع ابنتها، فسألتها إن كانت تود استدعاء القابلة.. أومأت لها برأسها إيجابا ووجهها ينضح عرقا، وهي تتأوه بألم كبير، وتسأل الله سرا وجهرا العون ومساعدتها بالخلاص مما هي فيه على خير.
تأخرت القابلة بالحضور، فازداد قلق وجيهة ودرة على سراب خاصة وقد راحت تتقلب في سريرها بضيق شديد، والعرق يتصبب من وجهها ويديها، وعادل يقف في حيرة من أمره، وعندما وصلت القابلة إلى البيت كان الليل قد أرخى سدوله على الجزيرة، بينما كانت العاصفة تشتد نهشا بها من الجهات الخمس.
هذه المرة قررت القابلة البقاء قرب سراب خشية المفاجآت رغم أنها لم تحدد وقتا معينا لقدوم الوليد.
جاءت وجيهة بفرحة عارمة لاستقبال سمي والدها، كما وصلت إلى البيت أم أحمد بمساعدة لمى، فوجدت عند أم عادل شيماء الرابح، ورضوى، وفكيرة وبعض الجارات المقربات اللواتي سعدن بدعوتهن لحضور هذا الحدث الجميل.
تحلَّقت النسوة حول سراب كأنَّهنَّ أشباح سود، وهي ممدَّدة فوق فراش أزرق وسط الغرفة التي فرشت بالسجاد الأحمر، ورحن يتجاذبن أطراف الحديث لمؤانستها والتَّخفيف عنها مما تلاقيه من آلام المخاض.
سراب تتالم .. تصرخ.. تضع يدها على بطنها وتقرأ()اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا)..
تقترب منها أمها وتقرأ المعوذتين والفاتحة، بينما كانت النسوة يتحدثن وهن يتسلين بما قدمته لهن وجيهة من ضيافة..
تجلس القابلة قرب سراب تفحصها بين وقت وآخر.. وسراب لا يعلم بحالها إلا خالقها.. تقرأ ويدها فوق بطنها(ـ يا خالق النفس من النفس يا مخلص النفس من النفس يا مخرج النفس من النفس خلصني)
تناديها إحداهن وهي تلوك قطعة من الحلوى:
ـ ساعدي ولدك يا سراب، مسكين هو في ضيق أكثر منك.. ..
تقرأ سراب بتوجع:
) ـ اللهم يا مسهل الشديد، وياملين الحديد، ويامن هو كل يوم في أمر جديد، أخرجني من حلق الضيق إلى أوسع الطريق، بك ادفع ما أطيق ومالا أطيق، وصلَّ الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم )
في هذه الليلة كان الجو بارداً، والريح تعصف بجنون، وغيوم داكنة تسقط أحمالها مطرا غزيرا بفواصل زمنية تكاد تكون متشابكة، بينما كان ارتفاع الأمواج يزداد علواً كلَّما اشتدت الريح عصفاً وسراب صراخا.
ظل عادل واقفا خارج الغرفة خلف الباب قلقاً، لم يثنه تساقط المطر عن إصراره في الوقوف قرب الباب، وكلَّما كان يأتيه صوت سراب بالصراخ يقرعه، ويسأل عن حالها.
اتَّسع الليل لسماع روايات النسوة عن ولادات كل واحدة منهن بالتَّفصيل الممل، وسراب تلوب من الألم ودموعها تغسل وجنتيها، تتخبَّط فوق الفراش.. تستنجد بالله، وهاشم مازال في دور الظَّلام، عاصفة تزأر في الخارج، وغزالة تتلوَّى في داخل الغرفة، وجنين يدافع كي يرى النور.
طلق بارد.. صراخ حاد.. نسوة يسبحن الله، طفل يكاد يختنق، وسراب في وضع لا يبشر بالخير.
رحل الليل وما رحل الألم، والعاصفة تضرب شواطئ الجزيرة بوحشيَّة مفرطة.
تعسَّرت الولادة، وأعلنت القابلة عجزها في فك أسر الجنين، وعن خطورة الوضع العام بالنِّسبة للأم، فطلبت استدعاء طبيب الجزيرة علَّه يفعل شيئاً.
طبيب الجزيرة ليس طبيبا نسائيا ولا جرَّاحاً.. هو طبيب صحة تخرج هذا العام، وسراب بحاجة لعملية قيصرية، ولن يخاطر بحياتها ولا بسمعته فالوضع سيء للغاية.
كادت أم عادل تصاب بجلطة عندما سمعت ما قاله الطبيب..
ضجَّت الصدور بالخوف، وتعلَّقت العيون في السَّماء ، وتحشرجت الكلمات في الحناجر، ماالعمل؟ من أين لهم بطبيب أو مستشفى والبحر يزداد هيجانا؟
الحالة خطيرة تستوجب الإسعاف الفوري ولا أحد يجازف بحياته بركوب البحر.
تتنفس أم عادل بصعوبة.. ملء المدى خوفها.. متمكن من أعماقها.. رعشة عُظمى تحتل كيانها المتهالك انهزاما.. ترجو الله ألا يطيب لجنونها المقام بين شغافها.. كتمت عن آذان الحضور بحرا ملتهبا من الآهات الحرة تطوف أمواجه بين شطآن قلبها هادرة.. منذرة بما تخشاه.. ما عادت تحس بندى الحلم الشذي فوق جبين الوعد.. جف جلده ويبس.. بات محفوفا بأشواك الخداع.. ممهورا بالحرمان.. منقوشا بالبؤس..
مسامات جسمها المجعد تنزف عرق الحزن ملحا.. تدلقه عيناها دمعا.. تستنشقه رئتاها غبارا..
ـ هاشم.. كأس الفرح بات سما.. لا تجرعني الموت قهرًا.. اسمع نواح الروح.. لا يمكن أن تكون قاتلي..
تمسك بيدي سراب وقد جلست خلفها تهدهدها على صدرها بحنان.. بل تهدهد هاشم بسراب.. أتراها تودع الحياة بوداع الأمل للقاء هاشم هناك خجلة منه، فقد عجزت عن تحقيق أمنيته بحفيد يحمل اسمه.. حاولت كثيرا لكنها لم تستطع.. بأي عين ستنظر إليه؟
.. سراب تستغيث بالله.. عادل يحار.. يعجز عن التفكير.. يطلب من الطبيب مساعدة زوجته حسب مقدرته.. يصر الطبيب على موقفه.. يغادر البيت موقعا محضر الجلسة ( بآسف). تصرخ إحدى النسوة:
ـ اسقوها مغلي الكراوية ، لقد ساعد في تيسير ولادة حسيبة عامر..
تهرع درة إلى الداية أم عثمان، وإلى الداية أم أحمد بلقيس تطلب منهما مساعدة سراب..
ـ كنتما لنسوة الجزيرة وجهَي خير.. قل من تعسرت ولادتها عندكن.. أنقذا هاشم وسراب أقبل يديكما..
تعتذران فالوضع يحتاج إلى مستشفى مجهزة بغرفة عمليات خاصة للولادة لإنقاذ سراب والجنين.. الوضع مخيف. تزداد قلقا وهي تعود إلى البيت مهرولة.
نظرت إلى السماء مبتهلة بحرقة عسى الله يدحر الغمة، ويبعث الروح في الحلم المرتقب، فتكبر نزعة الأمل وتشب فوق الحصار.. تعرِّش سنديانة عصية على معاول اليأس وفؤوس الانهزام.. فوق أغصانها تشقشق العصافير، وتهدل اليمامات فوق أشجار الكباد والنارنج، تهدي صغارها تباشير الفرح.. وعلى حبات التوت و سنابل القمح تشرق الشمس دافئة تقبل وجناتها بالمحبة والعطاء.
كبر الحلم بهاشم.. تطاول كثيرا مادًا رأسه فوق النجوم.. أتراه يسقط فوق الأرض مهشما؟
لم يعد يهمها اليوم إن كان في رحم سراب هاشم أو أنثى.. أقسمت أنها ستسميها أمل إن جاءت فتاة، فقط تريدها أن تلد بالسلامة.
ـ يارب لا اعتراض على ماتشاء.. اجبر كسرنا.. أنقذنا من همٍّ عظيم.
أيقنت درة بعد مشيب أنها قربان الهم لقلبها المجروح المتفرد بالحزن على مدى حياتها التي ظلت تقتات من أناتها صمتا وآها.
بخفق قلبها الملتاع تبحث عن شيء عن لاشيء عن بصيص ضوء ولو كان بعيدا.. بعيدا علها تجد فيه مخلصا يعيد لها رمق الرضا.. بهجة الوعد.. صدق الأمل..
تحس بارتعاش يد سراب الساخنة.. تبحث عن علية بين النسوة الباكيات.. لاتجدها بينهن.. تسأل عنها بنظرة عينين تورمتا من لسع الدموع. تناديها سراب
ـ امرأة عمي .. سامحيني إن صدر مني يوما شيء أزعجك .
ـ بل أنت سامحيني ياحبيبة..
تصرخ علية التي دخلت الغرفة للتو فسمعت ماقالتا:
ـ ماهذا الكلام، لاأحب سماعه منكما.. ستلدين ياسراب بخير بإذن الله.
ـ سامحيني ياأمي.. إني أموت.. سأموت ياأمي..
يخترق هدير البحر عواء الريح.. تسمعه الآذان نحيبا.. صراخا ونعيقا..
تختبئ المنى في سراديب الفجر المرتبك قدومه بوحشة الطقس.. المنهك نوره بمشاهد الغضب الثائرة فوق الجزيرة بنفخ العاصفة.
تخيم على النفوس ظلال الردى قاتمة.. تطحن فسحة الضوء بعناد الهوج بحرا وجوا.. كالطفل كان عادل يبكي.. يداري دموعه عن حبيبته بالوقوف خارج الغرفة تحت المطر، يفكر في طريقة ينقذها بها من الموت.. عادل يريد حبيبته، يريد فلذته.. لكنه عاتب عليه.. يرجوه بومض الحنين، وبرق الشوق.. يرسل إليه عبر أحاسيس صامتة، يخيل إليه أنها تصله، فينتظر الجواب بالخروج إلى الدنيا:
ـ ياوجه الخير لاتنهك قلبي بالتهام فم القهر فرحي.. لا تكسر ظهري بقلع عيون الضوء حولي.. دعني أراك أيا هاشم.. أغنيك أهزوجة حمى حرقت داخل درة بنار فراق جدك، فكنت أمنية البرد والسلام لقلبها المحترق شوقا إليك.
ـ ينتظر عادل الجواب.. يطول انتظاره، ويطول، ولا جواب..
يسمعها تناديه:
ـ عادل.. عادل
يفتح الباب.. يدخل إليها وعيون النسوة تنظر إليهما بحزن وألم.. يرد عليها
ـ سراب أنا هنا.. لاتخافقي ياأم هاشم.. اطمئني سيكون كل شيء على مايرام..
ـ أتظن ذلك؟
ـ أجل .. أجل
ـ عادل.. سامحني.. لاتنسني ياعادل.. سامحني..
يرن جرس الهاتف.. يهرع ودرة وعلية إلى غرفة المعيشة، يسبقهما إليه.. تقف المرأتان أمامه لمعرفة من المتكلم من وراء الأسلاك.. ربما كان الطبيب قد غير رأيه وسيساعد سراب.. ربما وربما وربما..
تمر لحظات حرجة يهز في نهايتها رأسه، ويختم المحادثة بالشكر والدعاء.. يعطي السماعة لأم سراب.. يأتيها صوته من الجهة الأخرى متهدجا.. تخاف عليه من انتكاسة صحية إن هو علم بحال ابنته.. تطمئنه وتغلق السماعة بهدوء بينما يغادر عادل البيت على جناح السرعة بعد أن أخذ من الخزانة مبلغا من المال.
سترك يارب.. ضاقت الحيلة.. أحسَّ الجميع بأنَّهم حقيقة يعيشون في المنفى خلف الأمواج الغاضبة.. هاهو البحر يحاصرهم بقسوته المعتادة وجبروته الذي لا يرحم، بينما رحم سراب يحاصر الأمل بظلام اليأس رغم محاولة التحرر من قيده المطبق على عنقه.
آه منك أيتها الحبيبة.. جزيرة القسوة أنت والرَّحمة معاً.. الحب والكراهية.. الفقر والغنى.. أبداً تظلِّين بوجهين.. طاهرة كالبحر.. طاغية مثله.
السماء تمطر.. البحر يموج بالزَّبد متمردا على الصبر والهدوء.. وسراب تنزف بالوجع رمق الحياة، وجنين يُحتضر بحنان الرَّحم المشتق من الرحمة.
صرخت أم سراب والحسرة تلتهم قلبها خوفاً على ابنتها: ياناس، ياهو.. .. ياأنس.. ياجن ياسامعين الصوت.. يا أولاد الحلال أنقذوا ابنتي.. حرام عليكم.. افعلوا أي شيء.. أحضروا طائرة مروحيَّة تسعفها.. أرجوكم لا تدعوها تموت..
بالأمس في سهرة مع نساء الجزيرة، أطلقت علية نكتة ساذجة أضحكت الساهرات حتى هرت الدموع من عيونهن، عندما قالت بأنهم بحاجة لطائرة تحضر المعلمات والمعلمين، وتموِّن البلد بالطعام في الأحوال الجوية السيِّئة، واليوم أصبحت النكتة بحاجة للتطبيق في واقع مأساوي رهيب.
قالت لمى بحماس:
ـ أجل نحن بحق بحاجة لطائرة حوامة تساعدنا وقت الشِّدة.. قد تنقذ طفلاً من موت.. تلتقط غريقاً.. تعيد فلوكة ضيَّعتها الريح في البحر.. تسدُّ جوعاً عندما ننقطع عن البر.. تكون طائرة إسعاف في حالة ولادة عسيرة كتلك التي تواجهها اليوم سراب..
أحست رضوى بقشعريرة تسري في جسدها.. ترعش أطرافها بخفق قلبها المتسرع.. أحست بتبدلات ما تحدث داخلها.. ربما ما تشاهده أمامها جعلها تفهم الحياة أكثر.. تعيد الأبيض لمكانه وترجع الأسود إلى مكانه.. كرهت الرمادي.. لن تخادع نفسها بعد اليوم.. هي تريد أن يكون لها طفل.. جاهدت في سبيل ذلك كثيرا.. تتمنى أن تجرب آلام المخاض ولو مرة واحدة في حياتها تحقق بها إحساسها بالأمومة، لكنها بعد الليلة لم تعد تريد ذلك.. ولن تفكر به ثانية.. لن تحس بالحزن والألم لحرمانها من طفل يولد من رحمها يناديها "ماما"..
حمدت ربها على أنها عقيم، وحمدته كثيرا أن منَّ عليها برزق طفلا لم تحمل به تسعة أشهر، ولا عانت قسوة الوحام، ولم تتعرض لآلام وضعه، ومن يدري فربما كانت ستموت أثناء الولادة فأنقذها الله بالعقم من الموت.
أقسمت رضوى أنها ستحب رزق أكثر من أي وقت مضى، وستعمل بكل ما بوسها لإسعاده، فهو نعمة أكرمها الله به من حيث لم تحتسب، وقد تجد فيه قلبا حانيا يهتم بها عندما تتقدم بالسن ربما أكثر من ولد أنجبته قد يكون عاقا بها، فقد سمعت عن أبناء طردوا أمهاتهم من بيوتهم فلمهن أصحاب الخير.
صمت شيماء الرابح كان معذبا لها.. صمت خارج عن إردتها.. أحست الليلة بالضعف.. بالعجز.. بالقهر.. كل شيء كان يبدو لها مؤلما.. حتى الصمت كان حارقا.. ليتها تستطيع أن تقدم مساعدة لهذه الغزالة التي تحتضر أمام عيون الجميع.. يرونها عن كثب لكن لا يمدون لها يد العون، لعجزهم أمام جبروت البحر.. ما أمرَّ طعم طعنة العجز في الخاصرة..
سراب تواجه الموت وحيدة رغم كل من حولها.. تذكِّر أمَّ أحمد بموت ابنها وحيدا هناك خلف البحار في سفينة امتطى صهوتها لكسب الرزق الحلال، وسراب امتطت صهوة الحمل لإنجاب طفل الحياة.. دعت الله أن ينقذها لشبابها ولمحبيها.
كانت بين الحاضرات صبية حفر الموت في قلبها اسم أحمد بأظافر الحزن.. شوه صفاء الخفق برعشة الألم.. لأول مرة تحضر لمى حالة ولادة.. مازال هذا يعتبر عيبا بالنسبة للبنات.. وجدت نفسها الليلة مجبرة على الحضور لظروف خالتها الصعبة خاصة وأنها المرة الأولى التي تخرج بها من البيت بعد وفاة ابنها، وما مجيئها إلا كرمى لابنها التي أحبت أن يشارك بها عادل بوجودها معهم..
عندما رآها عادل أحس بأن أحمد في هذه الليلة قريب منه وسعيد جدا.. هي الذكرى تتسرب من مخدعها برؤية محب لأصحابها.. تفور.. تندلق شلال عسلٍ أو بركان ألم.. ما أروع الجداول عندما تنساب على وقع ترانيم الفرح.. فهي برغم انشغال النفس بأمور أهم فإنها تظل مبعث إحساس داخلي مريح، تجعل القلب مطمئنا لشيء لاتميزه أثناء الانشعال بالأهم. وعندما تغدق المحاجر الدموع على الخدود فرحا، أو حزنا، يطيب للباكي مسحها بمنديل المحبين، فالكلمة الطيبة قد يكون لها تأثير فعال في شفاء مريض أكثر من أقوى دواء كيميائي يباع في الصيدليات، وما أقلها صيدليات القلوب الطيبة في زمن النفايات النفسية المتزايدة انتشارا بين الناس.
لأنه لم يعتد مد يده لغير الله طلبا للعون ، صعبت عليه نفسه وهو يسأل أصحاب الزوارق واحدا واحدا أن يطلعوا به وزوجته إلى البر بأي أجر كان..
لم يلق من أحدهم قبولا.. ركوب أمواج البحر اليوم بثورته الهادرة تعني الانتحار.. الروح غالية.. الأطفال بحاجة لآبائهم أكثر من حاجتهم لمال عادل.. اليتم وحش مفترس ينهش أكباد الصغار ، وقلوب الأرامل الراعيات لهم طوعا أو قسرا..
رصيف الميناء الصغير متشح بالوحشة.. غارق بالذهول.. مفعم بالقلق.. كسر البحر أوانيه الكرستالية المغرية بلمعانها تحت أشعة الشمس الذهبية أيام الصحو ومياهها المالحة تبرق بألوان قوس قزح.
عاش كريم النفس ، مرفوع الرأس منذ الطفولة.. لم يحنه لغير مولاه ولأمره بخفض جناح الذل من الرحمة لدرة.. من أجل سراب تخلى اليوم عن شيء من إرث كبريائه.. ألح بالطلب ولم يعتده.. ترجى.. توسل.. كادت دموعه تفضحه لجرحين في صدره ، فأمسك بها رحمة بشآمة ماضيه.. سراب تستحق التضحية.. أجل هي تضحي اليوم بحياتها لتهب له هاشم.. لتسعده وأمه فماذا قدم هو لها؟ أيتركها لقمة سائغة للموت دون أن يعمل المستحيل لرد الأذى عنها؟
نظر إلى السماء بحزن.. بحرقة.. برجاء.. طلب العون من الله.. توكل عليه.. سأله أن يجعله راضيا.. قانعا بمشيئته ، فللشيطان في حال العسرة دروب ممهدة إلى قلوب وعقول المحبطين من الناس مهما كانوا أقوياء إلا من رحم الله ، وهو اليوم في أشد ظروفه عسرة وأحلكها ليلا ، وأكثرها مناعة على الحل المريح ، فدعاه بقلب سليم أن يجعله من الذين شملتهم رحمته ، فيطمئن قلبه ، وظل يذكر الله خفقا بنبضه المرهق.
يقر عادل بضعفه.. انكساره.. أمور كثيرة ألفها مع أمه وأخته في صحن الزاد منذ أن وعي الحياة.. جبر الله قلبه بزوجة صالحة.. محبة.. صبورة.. رتقت جراح يتمه بلمسات قلب حنون.. طالت أعماق أعماقه شفته من الحزن.. كان يريد منها طفلا بكل ما لديه من شوق لمكاغاة تملأ البيت تغريدا ، لكنه لم يشأ يوما استبدالها بولادة رغم قحط السنوات العشر الماضية ، وإلحاح أمه عليه ، فامتنع.
اكتفى بواحدة استطاعت اختصار نساء الأرض جميعا ، حبا ، فكرا ، وحنانا. حبها كان معجزة أتاه على حظ من نعم.. علمه أصول الحياة بما يتناسب مع واقعه المحيط به.. عاش مرتاح البال ، لايتطاول ولا يتقاصر عما يستحقه. رضي بأقداره وأرضى من حوله ، فعاش سعيدا.. آمنا.. لم يتسكع يوما في شوارع الحيرة وطرقات الضياع.. لم يشغل باله بما لاينفعه.. واثق الخطى يمشي فوق أرض صلبة بالرضا دون خنوع.. تمسك بيده زوجة همها سعادة بيتها بمن فيه.. هما مقتنعان بأن سعادة المجتمع تبدأ من سعادة بيوته ، ووعي أفراده ، وتفاهمهم كعائلة واحدة مع حفظ الخصوصيات..
لم يجرب الدخول في أمور لا تعنيه كي لا يسمع مالا يرضيه.. لك الحمد والشكر يا رب.. دائما يصدح بها قلبه.. اليوم يناديه أن ساعد سراب حبيبته..
وضع رأسه على صدر رجائه خاشعا لله ، وهو يطرق باب "فاضل حمدي" عله يقبل الإبحار بهم إلى البر قبل حدوث كارثة قد يلقى بها حتفه حزنا على حوريته الحبيبة.
كان يتوقع الرفض من فاضل ، فهو زوج وأب لسبعة أطفال.. ويعيل والدته العجوز.. أحواله المادية أقل من المتوسطة لكنه أيضا لايشكو العوز إلا لله.. الرجل معروف بشهامته ، ولكن للشهامة حدود ، ولن تكون شهامة إن ألقت بحاملها إلى التهلكة بل ستكون وسيط انتحار مع سبق الإصرار.
كم يلزمنا من الطمأنينة لنحس بالأمن ، ومن الأيمان لنصدق الوعد ، ومن الإيمان لنسمو بالنفس ، ومن الكثير لنعرف قيمة القليل..
سل شجاعته ببسالة هذه المرة دون تردد.. ألقى بغمدها بعيدا عنه.. لايريد أي موانع صادة لها.. هذا وقت الإقدام.. وقت استعراض ماخبأه لحاجة لاتحتمل تأخيرا.. قرع باب فاضل وصدى صوت الجرس يقرع أذنيه بمطارق من حديد تمنى أن يعود صداها إليه نغما.. انتظر بندى الصبر فوق جبينه أن يرى على شفاهه بسمة رضا حرة.. أن يسمع منه همسة دفء تشرق في روحه بصيص أمل..
سريعة تمر الدقائق.. الساعات.. السنون وينتهي العمر.. اخترق حاجز الزمن بلحظات انتظاره رد فاضل عليه.. امتطى صهوة الفكر.. سأل نفسه كيف يمر الوقت دون أن نشعر به.. كيف يهرب منا.. يقهرنا ، فلا نستطيع الإمساك بلحظة واحدة منه؟ كيف يعمل العقل بأشياء كثيرة خلال لحظة واحدة.. يرى ويفكر ويقدر ويقرر ، كاد عقله يفلت منه.. شريط حياته يمر أمامه متمردا على القمع الرزين.. طفل.. فتى.. مراهق.. شاب.. رجل وزوج لسراب والآن أب رهن قيد الولادة.. عجيب أمر الرؤى.. لماذا هجمت عليه عند باب فاضل محملة بكل ماضيه وحاضره.. أتراه هرب من تفكيره بما يحمل المستقبل له من مفاجآت لايحب حدوثها؟
عند باب فاضل كان المنعطف ، فازداد قلقه وخوفه جهلا بالجهة التي سيعود منها إلى البيت بزاد لايدري ماهية طعمه.
تراجعت نبرة شجاعته خطوة إلى الوراء.. أعاد قرع الباب بشيء من الضعف.. بينما داخله يغلي ويفور.. يطف بركانا.. يحرق جوارحه بلهفة تمردت على قمع السجان. تجرأ بالنداء :
-ـ فاضل.. فاضل..
سمع صوت باب داخلي يفتح.. صوت خطوات بعيدة تقترب.. يعيد النداء :
-ـ فاضل..
يفتح الباب.. يخيل إليه أن باب النجاة قد فتح لسراب وسيدخلانه معا.. يبتسم في وجه القادم ابتسامة مسكين يرجو العون وهو يلقي عليه التحية.. يرد عليه بابتسامة فيها الكثير من التساؤل عما جاء به في هذه الساعة المبكرة من الصباح وقد بلله المطر.. أحس عادل من خلالها بصدق حدسه عندما صافحه بدفء يده مرحبا به ، فهللت عيناه مكبرتين ببريق الشكر..
التفت فاضل إلى داخل داره ، فرأى والدته تقف بباب الغرفة تستمع لما يدور بينهما ، وقد ظهرت على وجهها علامات الغضب.
أحرجه لجوء عادل إليه في ظرف يستوجب المروءة والشهامة في مساعدة الملهوف ، ولكنه لم يكن ملك نفسه ، فحرية اتخاذ القرار اليوم لاتخصه وحده ، ولابد من استشارة من يشاركونه حياته ، أم صعبة المراس.. زوجة وأولاد.
لم يعطه جوابا متسرعا.. دخل إلى البيت بينما ظل عادل بانتظاره تحت المطر ، والنار تزداد في قلبه اتقادا.
سمع صوته وهو يحاول تهدئة والدته.. تصرخ بصوت عال رافضة أن تتركه يخاطر بحياته مهما كانت الأسباب ، وعندما وجدت ابنها قد قرر ركوب البحر ، راحت تسب وتشتم بكلام لايليق بها كسيدة ، ولا بابنها الشهم ولا بعادل أيضا..
اختلط صراخها بالبكاء مما أيقظ أهل البيت ، فسمع عادل أصوات الضجيج ، فخيل إليه وهو يغادر المكان محتسبا بالله ، كي لايحرج فاضل بأن هذه المرأة المتباكية بومة تظن نفسها يمامة ، وصوتها نعيق تحسبه هديلا.
تحدر الدمع من عينيه غزيرا.. لم يمسحه بكم قميصه خجلا ممن قد يراه مصادفة في طريقه.. خالف الليلة تعاليم أمه كثيرا.. قالت له ذات يوم :
-ـ الرجال لا يبكون..
لم لا يبكون ، أوليسوا بشرا من دم ولحم؟ أوليس في صدورهم قلوب إنسانية تحس.. تحزن ، وتفرح ، تحب وتكره؟ أم أنها قلوب فقدت هويتها الإنسانية ، وانتسبت لعالم آخر لا يعرف شفقة ولا رحمة؟! قال لها :
-ـ الدمع رحمة ياأم يطفئ نارا تتقد بها القلوب.
-ـ قد يصبح زيتا يؤجج النيران..
سراب حبيبته تستحق بحورا من الدموع ، وجداول من العطر.. ليته يستطيع استعارة قلوب كل الناس للحظة واحدة يمزج أحاسيسهم بإحساسه المشتعل ليحسوا به.. ليتذوقوا معنى الألم على حبيب يموت أمامهم وهم مقيدون لا يستطيعون إنقاذه.. صدقت درة عندما كانت تقول له :
-ـ ضع أصبعك في عينك.. ما يؤلمك يؤلم الناس..
لم يفهم كثيرا يومها هذا القول.. فهمه الآن وبعمق ، ولكن من يتألم لأجله؟ أم فاضل منعت ابنها من مساعدته.. هي أم ومن حقها المحافظة على حياة ابنها مثله تماما ، فهو يسعى للمحافظة على حياة سراب وابنه فلماذا يلومها؟ أيريدها أن تخرج إلى الشاطئ تودع فلذتها وهي ترسله إلى الموت؟ أتراها تكون عاقلة إن فعلت هذا ، أم قاتلة؟
-ـ لكنها سراب ، وتستحق المخاطرة..
بالنسبة لك تستحق المخاطرة ، أما بالنسبة لسواك فلا يستحق أمرها عندهم المخاطرة بحياتهم.
لا يريد أن يسمع من عقله هذا الكلام رغم اقتناعه به.. ركض في الطريق على غير هدى.. إلى أين تهرب من الحقيقة؟ يركض.. يركض ، وعصا الريح تجلد وجهه وظهره فيئن باقي الجسد.
ظن أنه يسمع صوت وقع أقدامه فوق المياه التي تتدفق في الطريق باتجاه البحر ، خطوات هادرة توقظ أذن الليل.. يزداد الصوت وضوحا وداخله قهرا.. توقف.. انتبه بكل حواسه الشارد منها والهائم في طرقات البحث عن حل لما هو فيه.. التفت إلى الوراء.. رآه يركض باتجاهه وهو يناديه..
صحا من ذهوله وهو يصافح فاضل بكلتا يديه.. ضمه إلى صدره ، والدمع ينساب فوق خديه مع حبات المطر.
-ـ أين ذهبت يارجل ، لم أجدك هناك فلحقت بك.
-ـ خذ كل مالي يا فاضل أجرا لزورقك.
-ـ إنقاذ زوجتك هو أغلى من كل المال.
قبل قليل كاد اليأس يرحل به في متاهات القلق بأنفاس حرى تنزف من جرح الروح المضمخة بالحزن المرير.. حاول التبرؤ من اليأس فوجد نفسه يغرق في بحر تبرأت منه الشهامة واستعمرته الأنانية بأبشع صورها.. تحت المطر ركض مشرد الفكر تائه الخطوات.. سجين القتام ، فامتدت نحوه يد العناية تنتشله من هياج النفس الغارقة في خضم الضياع.
بعد أن ظن بأن ظلامه أبدي دامس ، وقد فات أوان الشروق وسيمضي عمره بسهاد وذبول ، هاهي الشمس من جديد ترفع عن وجهها من وراء أفق ظنونه طرف خمارها على استحياء قبل وقت الشروق ، فأي صباح سينعم به ويد الأمل تمتد نحوه بيد فاضل؟
أتراه ودع جرحه بقطرة بلسم في بحر ألم؟ أم مازال الجرح مفتوحا بتمرد وحشي يريه خثرة دم صغيرة طافية فيظنها غطاء بوسع ثغر الجرح؟
تجاهل الحقيقة بامتلاك مفتاح الأمل.. الزورق الآن على أهبة الاستعداد وهو في طريقه لنقل سراب إليه.. سيحملها على أكف حنانه.. يغطيها برموش وفائه.. اقترب من البيت لكنه يحس بأنه مازال بعيدا عنه.. بعيدا.. يركض والآمال تركض معه.. يريد قطافها قبل الوصول إليها.. سيجمعها كلها في طاقة ورد بيضاء يقدمها لحبيبته عند ما يراها.
في حيرة من أمرها كانت وجيهة تدخل وتخرج من غرفة أم هاشم والدموع تلوب في عينيها ، فلا هي قادرة على إطلاقها خشية أن تراها سراب ، فتزداد خوفا على ألم ، ولاهي قادرة على كبح جماحها الثائر فتحرقها ، وأحداقها بها تغلي.
كانت تحس بقلبها يذبح كلما سمعت أنين سراب واستغاثتها بربها ، فترفع يديها إلى السماء وتلهج بالدعاء لها تارة بصمت ، وتارة بصوت تسمعه النسوة فيؤمن على دعائها برجاء وانكسار.
بارتباك راحت تصول وتجول في البيت ، ومما زاد الطين بللا تلك الاتصالات الهاتفية الكثيرة التي تلقتها من زوجها وأولادها مما سبب لها ألما في رأسها وحيرة في أمرها ، فكانت ترجوهم أن يرحموها ، فالوضع في بيت أمها مأساوي ، وطلبت منهم ألا يتصلوا بها ثانية إلا لضرورة.
في بوتقة قلقلها تمنت أن يأتي الغد بوجه باسم ، وأن يصبح كل ما مر بهم في تلك الليلة مجرد ذكريات للتندر بها بعد أن تمطر غمامة خوفهم خيرا فوق قلوبهم المتلهفة لفرج قريب.
هي تحب سراب رغم الغيرة التي تنهش صدرها أحيانا ، ليست غيرتها كسبا حراما بل هي مشروعة على حب ولد معها وتريده أن يرافقها مدى الحياة.. لا تحب أن يشاركها به أحد أيا كان ، لكن سراب اليوم تستأثر بحب أمها وأخيها وهما أهلها هي.. تحبهما أكثر ربما من أولادها وزوجها.. تبخسها حقها بالدلال والحب الكبير.. لم تعد هي وأولادها محط اهتمامهم وانشغالهم بها كما كانوا قبل زواج عادل.. كرهت هذا التحول الكبيرعنها باتجاه زوجة أخيها ، وبخسها حقها بما كان لها ملكا كما تعتقد.. فسلب الملك عنوة من صاحبه هو سلب الرضا من نبض القلب ، وتأجج الثورة لاسترجاعه.
لم تعد وجيهة الليلة كما كانت قبل غروب الشمس.. تبدلت أحاسيسها تجاه سراب التي لم يعد لها حول ولا قوة ، فأحست بالشفقة عليها ، والكثير من المودة.. تمنت أن تقول لها سامحيني ، ولكن ظل لنفسها حظ من الكبر ، فامتنعت..
دخل عادل بيته.. نادى أمه ووجيهة :
-ـ جهزن سراب سنطلع بها الآن إلى البر لتلد في المستشفى.
خلال لحظات تحول البيت إلى خلية نحل.. ذابت ثلوج الرعب التي شلت حركاتهن ، ودبت الحياة في جميع من فيه بعد موات اضطراري بيأس مقيت.. بروعة الخبر الذي جاء به عادل انزاحت صخرة ضخمة كانت تجثم فوق صدورهن ، فغردت الروح فوق أفنان التفاني..
أمسك بها مبشرا..
-ـ الزورق بانتظارك..
كانت تئن بعينين نصف مفتوحتين ، لم تبد اهتماما بما سمعت وكأنها في عالم آخر وهي تردد بأنين :
-ـ اليوم فرحة.. فرحة.. فرحة.
مسح بيده فوق جبينها.. نظرت إليه بخمول ملؤه الاعتذار.. أمسكت بيده.. قربتها من فمها المرتجف.. قبلتها.. طلبت منه السماح... ضمها إلى صدره وابتسامة مضطربة ترافق كلماته :
-ـ أجل اليوم فرحة.. ستكونين بخير.. لا تضعفي.. قولي الله..
-ـ الله.. الله.. الله..
يداها ترتجفان.. تنزفان عرقا رغم برودة الطقس.. أسبلت جفنيها بصمت.. أحس بها تتخبط في الظلام.. دارت به الدنيا.. نادى أمه أن تسرع فالوقت يمر خطفا.. يريد أن يسبقه.. أن يقطعه قبل أن يستفرد بهم.

نظر في وجهها المشتعل بحمى ألمها ، فاشتعل قلبه عندما رأى جمال الحزن قد تفتح وردا فوق وجنتيها.. أحب قطاف غصن أمل من رياض المستحيل.. امتطى صهوة الشوق متحررا من سجن اللحظة.. موغلا في عمق الذات الموجوعة، فالتقى بها طفلة تسبح في الجرينة بشعر شقرته الشمس، ووجه ملأته نمشا.
ظل يراقبها من بعيد قبل أن يتجرأ ويكلمها.. ابتسامة عميقة ارتسمت فوق ثغره وهو يرى الفتى عادل يركض صوبها ليخرج من رجلها قطعة زجاج جعلت دمها يختلط بمياه البحر ، فارتشفه قلبه حتى آخر نقطة.
يبتسم بألم.. سيخرج هاشم إلى النور.. سترينه.. سنحبه ، وسيسبح في الجرينة.. يسمع أنينها.. يخرج من أعماق ذاته يطمئنها.. ينادي درة
ـ أم عادل أسرعي..
تركض على عجل.. تحمل البقجة فوق ذراعيها.. تغيب بها عن الضجيج.. عن عادل وحتى عن سراب وعن نفسها إلى نفسها.. تسمع هاشم يبكي.. تركض صوبه بخفق القلب.. تحمله.. تقبله.. تشبع عينيها من جمال طلعته وقد ارتدى فستان أبيه المطرز بالخيوط المذهبة والمفضضة.. ألبسته له رغما عمن لاتحب ذلك.. هو ابن عادل.. حفيد هاشم، وفستان أبيه أولى به من ديارة علية وإن كانت جديدة على الموضة..
ـ يااه ماأجمل الأصالة ياتيتا حتى بملابس المواليد.
يزداد هاشم بكاءً.. تهزه بين يديها.. تغني له وهي تؤرجحه في الهواء..
ـ لاتبكِ.. لاتبكِ.. ياهشومة لاتبكِ..
تمسح دموعه بأناملها المجعدة.. دموع ساخنة تحرق يدها.. تنظر منها إلى البعيد.. ترى البحر نارا ثائرة بين شطين في مد وجزر.. تمشط الرؤية بأصابع الدمع علها تستطيع إطفاء جذوة الحريق لحين إشراق الأمل باسما لقلوب أضناها الانتظار.. تحترق أصابع الرؤية..
تنظر إلى السماء.. كل كواكبها قد خبت وملأ دخان الحريق مابين البحر والسماء.. تتراجع عما ترى.. هي ابنة الحين لاتريد إرهاصات الماضي.. لاترحب بانكسارات آتية.. هاهو بين يديها تغني له:
ـ لاتبكِ.. لاتبكِ.. ياهشومة لاتبكِ..
لن تسجن نفسها في أفقها الآني.. ستمد رؤاها إلى آفاق جديدة لافرق عندها قريبة كانت أو بعيدة ، معقولة كانت أو مستحيلة.. لن توغل بآلام اليأس.. لن تشظي روحها باستفزاز القلق.. من حقها الآن أن تحدد خياراتها النفسية.. تعبت كثيرا على امتداد مساحة عمرها الحزين.. لن تضع رأسها في مقصلة الصمت بعد الآن ستغني لحفيدها فهو قادم :
-ـ لاتبك لاتبك.. ياهشومة لاتبك..
بالصمت تحدت الصمت.. بالصمت أطلقت لروحها العنان فاجتازت كل الحواجز.. أحست بنضوج الأمل في تلافيف دماغها.. هي حرة تمارس الآن طقوس أمانيها دون مراقبة يحرسها الصمت ويحرقها بشهقة الحرمان.. حققت الآن المعادلة بين الخيال والمحسوس.. اختلقت له قوانين جديدة لن تغضب أحدا.. استعارتها من حمى القلق المشتعلة في ذاتها المتشوقة لبكاء ومكاغاة هاشم.. أحلامها الآن وهي تحمل بقجة ثيابه ليست ممنوعة.. ليست حراما فهو في الطريق إليها.. الزورق أدار محرك الماكينة تأهبا للإبحار إلى شط الأمان.. شط السعادة، حيث يطلق هاشم أول صوت بكاءٍ، وتطلق هي أجمل زغاريد الفرح.
كل شيء أصبح جاهزا للانطلاق بسراب إلى الزورق.. تعاون عادل وحماته.. ألبساها ثياب الخروج من البيت وهي شبه نائمة لا تستطيع حراكا.. بين وقت وآخر كانت تطلق أنَّةَ توجُّعٍ تخلع قلب عليَّة من جذوره.. تلقي بها في غياهب ألم يهد كاهلها.. يسد عليها طرق التصبر.. يستاف من قلبها بقايا القدرة على احتمال رؤية فلذتها بين فكي الوجع.. تبحث في دهاليز الذات عن قطرة صبر تخدر بها مشاعر أمومتها.. تسجن خلف أسوارها وساوس مخيفة تهاجم فكرها الواني مبتلعة بنهم ما تراه ببصيرتها من بصيص أمل..
لا لن تستسلم لمخاوفها فما زال قلب سراب نابضا بالحياة ، وجنينها يتقلب في رحمها ، والطريق إلى المستشفى باتت ممهدة للمبحرين رغم وحشية الأمواج..
اتهمت نفسها باليأس والقنوط.. أنبتها واعتصمت بالله الموجد من بعد عسر يسرا.
حاولا رفعها لتمشي.. لم تستطع الوقوف وقد اشتد بها النزف.. صرخت بصوت أفزع الحضور جميعا.. مددها فوق السرير وفي صدره وخز الضمير لما سببه لها من ألم..
ماالعمل.. لاتستطيع المشي.. كيف ستصل إلى الزورق وليس في الجزيرة سيارة إسعاف تنقلها إلى هناك براحة ، فالطرقات فيها أضيق من أن تسير فيها دراجة دون أن تصطدم بحائط أو بمار يعبر الزقاق؟!
رغم ارتباك درة بهواجسها وانفعالاتها وتشظي وعيها بالحدث ، فقد أضاءت من جديد نور بصيرتها التي ناس سراجها وكاد يخبو ، وهيأت بمهارة محملا من خشب النافذة الذي خلعته الريح ليلا.. وضعت فوقه بطانيتين من الصوف ، ومخدة صغيرة ، وأخرجت من خزانتها القديمة غطاء كبيرا من المشمع السميك ، ووضعت تحته حراما بطبقتين لتدفئة سراب وسترها في الطريق ، فأصبح نقالة مناسبة لحملها.
تطوعت وجيهة لمساعدة أخيها بحمل النقالة ، بينما أصرت علية على الإمساك بسراب من الجهة اليمنى مبعدة رضوى وشيماء الرابح عنها ، وأمسكت درة بها من الجهة اليسرى بعد أن سلمت بقجة ثياب هاشم للمى ، وبدأت النسوة بالانسحاب من البيت بمرافقة سراب إلى السقالة لركوب الزورق.
كانت الريح تشتد هيجانا.. تزمجر بصوت مفزع ، أكثر من مرة خطفت أيديها الغطاء عن سراب التي كانت ترتجف بردا ، فتعيده امها إليها تارة ، وتارة أخرى حماتها ، وهم يقطعون الطريق باتجاه البحر.
قبل وصولهم إلى هناك سمعوا أذان الفجر ، فراحوا يدعون الله أن ينقذ سراب وجنينها مما هما فيه من حصار.
وصل الموكب إلى نهاية الزقاق ، فبدأ الممر يضيق على سراب ومن هما عن يمينها وعن يسارها ، والريح تضربهم من كل الجهات ، فكانوا يمشون خطوة للأمام وأخرى للوراء ، ولن يستطيع عادل ومن معه حمل النقالة ، والتصدي لشدة الريح ، فقال لهن :
-ـ لنضع النقالة على الأرض ولنجرها حتى نهاية الزقاق.
جر عادل نقالة سراب فوق الأرض عدة أمتار ، والألم ينهش حشاشته لما وصل إليه حال سراب ، ولكنه ظل يكابد الوجع مكابرا كي لايحس به أحد ، وعندما أصبح في باب الزقاق المنفتح على البحر انهالت الريح عليه بشكل مرعب كادت تطير به بعيدا عن سراب التي كانت بحال مؤلمة لايعلم مداها إلا الله ، بينما تمسكت النسوة بعضهن ببعض ، والريح الهوجاء تدفعهن إلى الوراء بأيد لاتعرف الرحمة.
لم تكن هذه المرة هي الاولى التي يرى بها عادل البحر هائجا، فقد سبق له خوض غمار البحر الأبيض والبحر الأحمر، والبحر الأسود، والمحيط الهندي، وخاضت السفن التي كان على متنها معارك طاحنة مع الأمواج الطويلة والمرتفعة، ولكنها المرة الأولى التي يخاف فيها من البحر لقلقه على زوجته.. يراه الآن وحشا بشعا بأنياب وأظافر.. ما هذا؟!! سأل نفسه كيف تمت الوحدة الليلة بين غضبين ثائرين، غضب البحر، وغضب الريح؟
البحر يضرب شواطئ الجزيرة وصخورَها بكل ما أوتي من قوة وجبروت بيد من غلٍّ وحقدٍ لئيم.. تشد أزره ريح هوجاء تآمرت معه على براءة طفلةِ البحر المدللة، فيقسوا عليها برهبةٍ ربما لم تشهد لها مثيلا على مدى حياة أكبر معمريها سنا.
هجوم البحر الليلة على الميناء الصغير كان مختلفا.. كسر أرضية مناطق كثيرة منه.. خطف بعض فلايك الصيد الصغيرة رغم سهر أصحابها على الرصيف الحزين لحمايتها، ولكن هيهات أن تقاوم العين المخرز.. حطمت الريح الخيام المنصوبة فوق المقاهي، والاستراحات المنتشرة على طول امتداد الكورنيش الضيق القصير، التي يقصدها السياح من كل بقاع الأرض ليتذوقوا السمكة الحرَّة، والصيادية التي اشتهرت بها الجزيرة، وليروا معالم تلك السابحة فوق البحر.. الجميلة بكل ما فيها من آثار تاريخية تحكي حضارة بلدنا، وأصالته الريادية منذ أقدم عصور التاريخ.
تضاءل حماس بعض النسوة بالبقاء في مهب الريح تحت انهمار المطر، فغادرت أم أحمد الكورنيش لألم أحسته في ظهرها، وغثيان مفاجئ، تمسك بها شيماء الرابح تاركة لمى حاملة بقجة هاشم على أن تلحق بها بعد إبحار الزورق بمن سيرافق سراب، وبقيت القابلة مع سراب تراقبها دون ان تظهر على وجهها بشائر مفرحة.
تعاون عادل ووجيهة ووالدته في حمل النقالة، ووضعها قرب حائط أحد المقاهي ريثما يتفقد زورق فاضل، والاتفاق على طريقة نقل سراب إليه، فهو لا يريد أن يشاركه أحد في ذلك، رغم أنه قد يضطر أمام انفلات الريح والبحر للاستعانة بفاضل أو ربما ببعض العائدين من صلاة الفجر، ولكن كيف سيكون ذلك والزورق بحاجة لقائده للمحافظة عليه من الأمواج؟
للحظات خيل لعادل أنه سيفقد عقله.. يتماسك مثبتا قدميه في أعماق الصبر، فحبيبته على شفا هلاك.. لن تعوضه عنها ألف ألف أنثى بل كل النساء.. هي بين يديه في شبه غيبوبة عدا عن أنين يجرح قلب الصخر.. يشتاق لبسمة تتلألأ فوق ثغرها.. لدمعة فرح تنهمر من مقلتيها.. لهمسة تملأ الكون تغريدا..
ـ آه منك يابحر، وآه منك ياريح ألا تسمعان صوت تألمها؟ ألا تعرفان الرحمة؟ بالله عليكما خذا قلبي.. أحاسيسي.. تذوقا ما ألاقي من ألم، فربما يتولد فيكما شيء من شعورٍ إنساني يقيني شرَّكما .
حلم يولد وأمل يخمد نوره.. تناوشه الآلام.. يتركها برعاية أمها وأمه ويذهب للبحث عن فاضل.. خيوط المطر المتشابكة تحجب عنه الرؤية والشمس مازالت في خدرها تتزين للشروق.
من بعيد يسمع صوت امرأة .. يصغي سمعا.. يقترب الصوت ويغيب مع صوت قصف الرعد وعواء الريح.. ينصت اكثر.. يتجه إلى مصدر بعيد حدده رادار أذنيه.. قرأ هوية الصوت.. يحس بانقباض في صدره.. إنها هي والدة فاضل .
بحر هائج يتشهى الفتك بمن تطاله أمواجه الهادرة من أرواح وجماد، وعجوز ثائرة يخشى عليها من فتق السّرّة وارتفاع السكر، وضغط الدم، ومن ذبحة صدرية مفاجئة تتجسد بضربة قاضية تنهي حياتها على شاطئ البحر، وشابة في خضم مخاض عسير تتلوى وجعا بين الحياة والموت.
نهب الخوف تماسكه المزمع صموده والليلُ يلفظ أنفاسه الأخيرة، فارا به نحو المجهول على جنح نعيق أم فاضل الذي علا شاقا أستار العتم بهدير ازعاج مقلق، ناشبا في قلبه مخالب خطب مفزع قد يحل بغزالته الوديعة.. المستسلمة للقدر.. الراقدة تحت المطر تعبث بها الريح بفوضى عصفٍ طائش بغيض.
ـ لماذا يا أم فاضل أتيتِ الآن؟ حرام عليك يا امرأة.. سراب تموت وهاشم يختنق، ألا تحبين أن ترينه يسبح في بحر الجزيرة، وأمه تناديه خوفا عليه من الغرق؟
تقدم منها.. ليقول لها ما دار في خلده.. استجمع شجاعته كلها في لحظة واحدة والمطر ينصب فوق رؤوسهم بلا حدود.. قرر أن يلبس كلامه في عزِّ البرد ثوبا حريرا غاليا بألوان زاهية تحبها النسوة حتى العجائز منهن.. لن يخسر شيئا.. سعر الكلام معنوي مهما كان بليغا.. مؤثرا، وفي مثل هذه الحال يرخص كل شيء أمام الحاجة الملحة إلا الكرامة..
رأته قادما صوبها وابنها في زورقه يطلب منها العودة إلى البيت.. استدارت نحوه. وقفا وجها لوجه.. ثبتت عينيها في وجههـ كنمرة تستعد للهجوم على فريستها الواجفة.. المرتعدة خوفا من مصير محتومـ والشرر يتطاير منهما كتلك الصاعقة التي ضربت بالأمس قاربا صغيرا على الشط فأحرقته، وأصابت من كان قربه بحروق بليغة.
للوهلة الأولى ظنها صاعقة محرقة.. بل أفعى برأسين.. بل جنية خرجت من الظلام لتقتل سراب وهاشم. سمع عن جنيات يقال لهن التابعات يقتلن الأجنة قبل اكتمال نموهن في الأرحام.. أتراها تكون إحداهن بثوب أم فاضل؟
نفذ وقود شجاعته التي جمعها قبل قليل.. خاف منها.. من نفسه أن تقترف خطأ بكلمة جارحة يرد بها على هجومها الكريه.. فالشَّرُّ تعرف بالمقدمات نتائجه، وهي مسلحة بسلاح أمومي للمحافظة على حياة ابنها دون الحاجة لكتائب وفيالق، فحبها له أقوى من كل الجيوش وسلاحه أمضى من أيِّ سلاح.
الوقت يمر والغزالة تئن، والريح تعوي وأم فاضل تكيل لعادل الشتائم دون تورع، يغادر ابنها زورقه على استحياء مما سببته له من إحراج أمام الرجل المسكين الملوع على أهله.. يمضي بأمه إلى البيت، وعينا عادل تتفجر دمعا وغضبا.
لم يعد أمامه خيار آخر.. قرر العمل بسرعة قبل أن يفقد حبيبته وابنه.. أسرع إلى سراب.. طلب من النسوة مساعدته للوصول بها إلى زورق فاضل.. اجتمعن حولها.. حملنها بعزم اللهفة لإنقاذها، وعادل يقود الموكب إلى الزورق.. لم يعد يخشى شيئًا فالوقت يضيق، والموت يقترب منها إن لم يكن قادرا على مد شراع شجاعته.. يتحدى بها الريح، والمطر، وجنون البحر، ونعيق أم فاضل..
وصل الموكب إلى السقالة يتهادى مسرعا نحو قدر مجهول حيث مربط الزوارق، والأمواج ترشقهم ببرودة أحمالها المالحة.. ضيق عرض المكان جعلهن يضعن سراب فوق الأرض خشية أن تقذفهن الريح ومن يحملنها إلى البحر.. طلع عادل بصعوبة بالغة إلى الزورق المتأرجح بعنف الريح وأجنحة الموج السوداء.. أدار المحرك بمهارة، فهو يجيد القيادة كبحارٍ متمرس، ولكن ليس كفاضل الخبير بركوب الأمواج، وتفادي الاصطدام بها.
شعر الجميع بأنهم الآن في أشد لحظات الموقف خطورة، فالأمواج تضج بثورة عمياء، وهم بحاجة لرجال أشداء لنقل سراب بسلام إلى الزورق الواقع رغما عنه في قبضة صخب البحر ، يعبث به أنى شاء وكيفما اتفق..امتنعن عن حمل سراب، ورفعها إليه بعد أن تأكد لهن بأنهن أضعف من أن يقمن بمهمة تحتاج زنودا وسواعد حديدية تعرف كيف تتعامل مع مد وجزر عبثي المزاج لبحر عديم الرأفة والرفق بأحب الناس له وقت الغضب.
انزلق لسان علية رغما عنها بكلمات كثيرة طفح الكيل بصدر قائلتها، فخرجت بها عن حدود المسكوت عنه، وكادت تشعل حريقا لو شبَّت ناره بين النفوس المضطربة بالشجن والخوف فلن تستطيع كل أمطار اليوم إخمادها.
من يلوم علية بكلمة أو بظنٍ وهي ترى ابنتها تتأرجح بكف المجهول كهذا الزورق بين الأمواج العاتية؟ تريد إنقاذ فلذتها بأسرع ما يمكن، هذا حقها، فأي تأخر قد يضيع عليها فرصة النجاة. صرخت بعادل بصوتٍ غاضب نزل عليه صاعقا:
ـ استعن يا أخي بالرجال الذين خرجوا من صلاة الفجر ، ماذا تنتظر يا رجل، تكاد سراب تموت..
أحس بشيء من الإهانة جسَّم حجمها صراخ حماته في وجهه أمام النساء.. حاول كتم غيظه بجهد كبير، فهو لم يتعود منها مثل هذه اللهجة القاسية من قبل، ولايحب أن يسمعها مهما كانت الظروف، لكنه كان حقيقة في مأزق صعب، فوجد نفسه مضطرا لاستدعاء بعض الرجال للقيام بما عجزت عنه النساء، ولو خالف هذا التصرف مبادئه في الحياة “مجبرٌ أخوك لا بطل”.
نزل من الزورق مسرعا واتجه نحو بضعة رجال كانوا يراقبون ما يجري عن كثب دون أن يقترب أحدهم من تجمع النساء.. تكلم معهم.. عرض عليهم قضيته باختصار مكثف، وهو يشير بيديه إلى الزورق تارة وإلى البر المقابل تارة أخرى بينما كانت أم عادل في حال من الذهول مطرقة برأسها أرضا دون أن تبدو على وجهها أي علامة للخوف أو للقلق بعدما سمعت ما قالته علية لابنها عادل بأسلوب فج لم تستطب سماعه، وهو يكاد يسقط أرضا مما يعانيه من حزن وتعب لأجل زوجته.. ظلت مطرقة لا تستمع إلى ما تردده علية رغم سماعها لصوتها الذي خُيِّلَ لها أنه طنين ذباب لم يرِّف لسماعه لها جفن.
ما الذي أصاب درة فتغيرت مئة وثمانين درجة بدقيقة واحدة من الزمن.. كيف حدث هذا ولماذا وبما؟
ظلت صامتة تقاوم دفع الريح لها إلى الوراء وقد غرقت كالبقية بمياه المطر ورشق البحر لهن، بينما كانت لمى تسندها بيد وباليد الأخرى تحمل البقجة التي بلل المطر غطاءها الخارجي.
لم تعد لمى قادرة على مقاومة دفع الر يح لها وهي تسند درة بيد واحدة.. ناولتها البقجة ووقفت خلفها تسندها بكلتا يديها خوفا عليها من الوقوع فوق الأرض.. أفكار شتى جالت في رأسها وهي في موقف لم تحسب له يوما حسابا..
سألت نفسها عما خرج بها الليلة من البيت مع خالتها، لم تجد ضرورة لذلك، وتمنت لو أنها رافقتها إلى البيت عندما ذهبت بها شيماء الرابح، فهذه أول مرة تحضر بها حالة ولادة، ولسوء حظها تعسرت جدا، فدعت الله ألا يكون ذلك بسبب وجودها، فهي جاءت مع خالتها لعدم قدرتها على المشي وحدها في الليل، ولكن الأمور تجري بترتيب من الله، فهل كان وقوفها خلف درة في هذه اللحظات سببا لمجيئها؟
هي تعرف أن كل شيء يتم في هذا الكون بترتيب مسبق من الخالق عزَّ وجلَّ..
أحست برعشة تسري في جسدها غير رعشة البرودة الحاصلة من تأثير الريح وتساقط الأمطار، وتمنت أن يعود عادل بأسرع وقت ليريحها مما هي فيه، فقد بدأت تعطس وتسعل وهذه أعراض غير مبشرة بالخير بالنسبة لصحتها، ومما زاد في ضيقها ما كانت تسمعه من كلام تتفوه به عليَّة بغضب، وأيضا تلك الرعشة التي حلت بجسد العجوز أم عادل، وصمتها المفاجئ، فخافت عليها من أذى قد يلحق بها بتأثير شدة البرد والقلق.
مازال عادل يتكلم مع الرجال.. لم تسمع النسوة ما يدور بينهم.. كان أحدهم يتكلم بانفعال تبين لهن من حركات يدي الرجل ومن حوله يوافقونه بهز رؤوسهم بالإيجاب، بينما كان عادل يبدو في أشد حالاته انفعالا وضيقا..
لم تستطع عليَّة الصبر فانطلقت نحو الرجال وهي تبكي قائلة:
ـ هل تنتظرون موت سراب.. أسرعوا بنقلها إلى الزورق.. إنها تموت.. أنقذوها يا أهل النخوة والمروءة.
أجابها أحدهم مهدئا:
ـ وحدي الله يا أختي.. حرام أن يخاطر أحد بركوب البحر في هذا الطقس..
ـ لكن ابنتي..
ـ من سيخرج بها سيموت.. لا يجوز المخاطرة بأرواح الناس..
ـ أنا سأطلع معها…
ـ هذا انتحار يا أختي.. حتى المجانين لا يفعلونه..
ـ لا نطلب منكم الانتحار.. شكرا لكم.. فقط ساعدونا بنقل سراب إلى الزورق.. لن نستطيع القيام بذلك دون مساعدتكم لنا.
قال رجل آخر معتذرا:
ـ لن نساعد بارتكاب جريمة.. سيكون ضحيتها كل من يطلع بالزورق.
ـ إن لم تفعلوا فأنتم مجرمون.. قتلتم سراب.
قال رجل آخر:
ـ استغفري ربك يا أختي.. نحن حريصون على حياتكم وحياة ابنتك، ولكن الوضع صعب كما ترين، ولا يسمح بالتضحية بكم جميعا من أجل ابنتك، ولن يسمح لكم المخفربذلك، فهذا يخالف القانون.
علية تبكي، وهي في طريق عودتها إلى النسوة تقول:
ـ لا سامحكم الله.. لا سامحكم الله..
يلحق بها عادل وقد بدا عليه الإرهاق والحزن، تلتفت إليه حماته مؤنبة على مسمع من الجميع:
ـ أنت السبب فيما يحدث لابنتي، كان عليك أن تطلع بها إلى البّر ِّقبل العاصفة.. إن حدث لها مكروه فأنت المسئول عنه..
كانت كلماتها تنزل في قلبه حارقة، لكنه آثر الصمت احتراما لنفسه ولسراب.. لفت انتباهه مرور عدة شبان ربما كانوا من أصحاب الفلايك جاءوا للاطمئنان عليها، فهي كل ما يمتلكون من رأسمال.. أسرع إليهم يسألهم مساعدته في نقل سراب إلى الزورق مما جعل علية تلوذ بالصمت، ويداها مرفوعتان نحو السماء، بينما كانت أم عادل ما تزال مطرقة الرأس بصمت عجيب.
كانت درة تسمع كل ما يدور حولها دون أن يرف لها جفن.. ظلت صامتة حتى عندما استأذنتها بعض النسوة بالذهاب إلى بيوتهن، فالأحوال الجوية العامة تجبرهن على مغادرة المكان، ونصحنها بالعودة بسراب إلى البيت قبل أن تصاب بالتهاب صدري من البرد، فالأمر لله من قبل ومن بعد..
لم تنبس ببنت شفة بينما علا صوت علية باستنكار ما سمعت من تخاذلهن، ورددت بصوت مسموع:
ـ كل الناس لاتهمهم سوى أنفسهم، ومصالحهم الشخصية .
أحيانا يكون الإنسان بحاجة لهزة عنيفة مفاجئة يصحو بها من حالة سلبته التفكير السليم كبيرا كان أو صغيرا، فيجد نفسه في هوة عميقة لا يستطيع الخروج منها.. يقبع فيها جاثيا دون حراك، وقد يستلطف ما هو فيه من هم وغم لتعوده عليه، فلا يفكر لحظة بالخروج منه إلى النور لأن بصيرته قد أصابها العمى فسكنت وذلت، بل قد يصبح همه منصبا في المحافظة على ما هو فيه.
سألت درة نفسها باستنكار:
ـ أيمكن أن أكون أنا هذا الإنسان؟
ـ كل إنسان يمكن أن يكون هو ما دام إنسانا..
ـ آلآن يادرة بعد هذا العمر تتلقين الصفعة، وأنت على حافة قبرك؟
ـ الحدُّ وأدٌ للخطايا، فيهِ إصلاحٌ وحمدٌ.
اقتنعت تماما بما حدثتها به نفسها.. سبَّحت الله الذي انتشلها من بوتقة الظلمة.. اعترفت بأن قلبها كان مغيبا عن اليقين الحق حتى كاد يطبع عليه.. أين هي من اطمئنان الروح لخالقها؟ من الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره إيمانا يقره القلب وتعمل به الجوارح؟
يبدو أنها كانت من أهل الكلام فقط.. تتبجح بما يفتن النفس بمعسول المعاني، وما أكثر الكلام المدبج بالبيان الساحر، والكلمات المنمقة بنت اللسان الذي يزخرف القول ويجمله بما لايخطر على بال.. هراء.. كله هراء بهراء تنتهي فعاليته بلفظ الروح.
نظرت إلى علية.. أطالت فيها النظر.. التقت بينهما المقل.. كادت تبتسم فأمسكت شفتيها عن الانفراج، ولجمت لسانها عن شكرها فهي التي وجهت لها الصفعة، فأيقظتها من سبات الروح في ظلمات فوقها ظلمات، فالوقت الآن غير مناسب للشكر والعرفان.
ـ أمن أجل هاشم كل مايجري؟ تنسين ربك بانتظار وارث اسم جده؟ تعرضين ابنك للخطر ونفسك وسراب، أم فاضل أعقل منك، وأكثر حبا لابنها من حبك لعادل.. أين العقل والإيمان؟ قد تموتين غرقا.. توبي إلى الله ولا تلقي بنفسك وبمن معك إلى التهلكة.. وماذا يعني إن أتى هاشم أو لم يأتِ؟
ـ ما دهاكِ يا امرأة أتزهدين في هاشم بهذه البساطة؟
ـ وأزهد في أبي هاشم وجده أيضا.
ـ لا أصدقك، أنت تخادعينكِ..
ـ بل أذهب بي إلى النور.. لست بمخلدة في الدنيا.. لم يبق لي الكثير.. لن ينفعني غيره..
ـ وهاشم؟
ـ ابن الحياة إن جاء دارها، وإلم يأتِ فسأراه هناك في دار الخلود، فهو ابن تسعة.
ـ وسراب يادرة؟
ـ لها رب لا يبخسها دقيقة من عمرها، ولا أقل من ذلك.
ـ البحر هائج يادرة..
ـ بأمر ربه يهوج.. وبأمره يهدأ..
نظرت في وجه سراب.. طبعت فوق جبينها قبلة.. أمسكت بيدها المرتجفة.. فتحت سراب عينيها.. انهمرت منهما الدموع.. وضعت رأسها فوق يد حماتها.. قبلتها.. قالت لها درة:
ـ اطمئني يا ابنتي إن الله معك.. ولن يكون إلا ما يريد أن يكون.
ـ هزت سراب رأسها بالموافقة وهمسة بصوت خافت:
ـ أريد العودة إلى البيت، أكاد أموت.
أحست درة بعطش روحها للنور المعشق بالفرح على ضفاف الخير.. المعطر بالطهور من الشذا.. أحست برغبة عارمة في السجود والرعد يقصف في السماء، والسحاب ينهمل مطرا فوق رأسها المثقلة بالهموم..
سبحان الخالق موجد الأجسام والأرواح.. لن تشغل بعد اليوم تفكيرها بالغد، فهو في علم الله.. يكفيها ما تشهده برضا الله.. وغدا يأتي معه قضاؤه وقدره، شأن كل يوم في شان. ولا مبدل لما يريد الله.
تغيرت نظرة درة في الحياة بين لحظة وأخرى، ربما غيرها الخوف.. ربما شعورها بقرب الأجل.. ربما ما قالته علية لعادل، وربما غير ذلك، فقد واجهت خلال الأيام القليلة الماضية أمورا كثيرة لم تترك لها فرصة للهروب من ضبط النفس والعودة إلى ما يليق بها من رقي قبل أن لا تجد الطريق معبدة لعودة قد تكون قسرا فلا تلقى فيها نفعا ولا جمالا..
هناك في عالمِ الذاكرةِ صباحاتٌ مشرقةٌ وليالٍ مبكيةٌ يبخلُ بها القلبُ.. يوصدُ دونَها الأبوابَ، فتبقى مؤنسةً لهُ في وقتٍ يتلاشى فيه كل شيء.. تكاد النفس تفقدُ هويتَها.. يغمض عينيهِ مستسلماً لوبلِ الذاكرة بإحساس الروح.. يستحم بانهمال الضياء مطهرا ذاته من أدران الحاضر والماضي بما يشبه الوضوء، فوضى أحاسيس قد تكون منظمة، وأحيانا عبثية تؤلم رأس حاملها..
تغرق درة في ذكرياتها حتى الأعماق.. تفتش فيها عن بقعة رمادية.. تهرع إليها.. تستظل تحت عريشها.. تبكي.. تنتحب.. هنا ظلَّ ذنبها رابضا فوق صدر ها.. لم يبرحه منذ انسكابه فوق أديم روحها دمعا أبحر فوق بساط عمرها سنوات طويلة.. إثم لم تكن تظنه ذنبا عندما قيدت حياتها به بقيد من حديد.. ضاربة بعرض الحائط كل ما يخالف قناعتها بهذا الأمر..
مرات كثيرة أبكت والدتها وأغضبت والدها برفضها الزواج بعد رحيل هاشم.. تطاول حزنها معرِّشا فوقها غيومَ خريفٍ لا أجنحة لرحيلها عن سماءِ نفسها..
لم تكن درة امرأة غبية.. كانت ذكية.. حكيمة لكنها كانت عاشقة.. مخلصة.. لم تدع لطارقِ نسيانٍ فرصة لقرع باب ذاكرتها.. أحيانا كانت تغفو عنها باهتمامات عائلية تنصب نهاية في بوتقة حبها الأبدي..
جناحاها في الحياة كانا عادل ووجيهة تطير بهما إليه كلما هاجمها الشوق له.. تزوجا.. ظلت رغم وحدتها تعيش حبّه بفلذتيهما.. وماذا بعد.. حفرة كما يقولون متر بمتر.. وماذا بعد الحفرة.. انتهت الحياة، وبات اللقاء مع الموجد وشيكا..
تبكي تسأله العفو والغفران.. ذنبها أنها حرمت نفسها الحياة برحيل هاشم.. وقد يأتي الحفيد فتراه أو لا يأتي.. أهذا ذنب يادرة؟!!
حارت بما هي فيه.. هكذا هي النفس تارة فوق قمة الوعي تكون، وتارة أخرى في وادٍ لا قرار له وفي لحظات متقاربة..
– حائرة أنت الآن.. تتوبين وأنت المرأة الطيبة الحكيمة الصادقة الناصحة؟ حتى الآن مازالت النفس تلهو بك كتلك الأمواج الهائجة التي توشك أن تبتلع كل شيء.. يظل الإنسان أيا درة ضعيفا مهما علت سطوته، واتقد ذكاؤه، وقويت عزيمته، وصدقت عاطفته ودام إخلاصه، فهو إنسان في النهاية خلق من ضعف وإليه يعود..
خافت.. ارتعشت.. سألت نفسها هل أصابها الخَرَفُ فاختلطت برأسها الأفكار، وامتزج الخوف بدمائها، فنبض به القلب هذيانا تحت المطر، ووطأة حال سراب، وتفجر الذاكرة؟
– درة أنت الآن في موقف كل شيء فيه يحسب لك أو عليك.. تماسكي يا امرأة.. سراب قربك تتألم.. لماذا تطلب العودة إلى البيت؟ هل فكرت بهذا؟
هبَّت واقفة.. انطلقت صوب عادل.. مازال يحدث الشبان.. أيقنت أنهم لن يوافقوا كما فعل الرجال إلا إذا كانوا متهورين.. أي قرار الآن سيكون صعبا قبولا كان أو رفضا..
– ما العمل يا درة أنت الآن أكبر الجميع سنا.. أين الحكمة؟ لا تقفي كالبلهاء.. قبل قليل كنت تطلبين التوبة عن ذنب لا يعده الناس ذنبا بل كفل اليتيم حض الدين عليه.. أما الآن فأنت فعلا أمام ذنب كبير جدا إن وافقت على ركوب البحر وهو ساخط.. أتقدمين أعمار هؤلاء الشبان ومعهم ابنك، وأنت، وسراب هدية رخيصة لغضب البحر؟ !!
تلحق لمى بأم عادل، بينما تقف أم سراب قربها في محاولة لإبعاد المطر عنها دون فائدة، فقد أغرقت المياه الجميع وكأنهم قد خرجوا للتو من بين الأمواج.
خلف إحدى النوافذ المطلة على البحر، كانت هناك ثمة امرأة في العقد السادس من العمر تدعى(حسيبة عبد المؤمن) تراقب عن كثب ما يجري بالقرب من بيتها المجاور للبحر.. كانت بين الفينة والأخرى تضرب كفا بكف محسبلة، محوقلة..
سمعها زوجها المريض المستلقي فوق سريره في الغرفة المجاورة.. شغله أمرها.. لم يعتد منها هذا إلا في الأمور الكارثية.. ناداها.. ذهبت إليه.. حدثته بما ترى.. أنصت باهتمام.. حاول النهوض لرؤية مايجري بالقرب من بيتهم الذي لم يسلم من رشق الأمواج له بالغزير من حمولتها.. لم يستطع.. طلبت منه البقاء في سريره تجنبا لوقوعه فوق الأرض، فهي لاتستطيع حمله وإعادته إلى الفراش، فجميع أولاده مازالوا نائمين. عمل بنصيحتها على مضض.
الجزيرة صغيرة.. عدد سكانها قليل، والناس فيها يعرفون بعضهم بعضا إما قرابة، أو جيرة، أو صداقة.. تعجبت حسيبة كيف تضع النسوة الحمالة فوق الأرض وفيها سراب، ولماذا لم يستعن عادل بالرجال عندما جاء بها إلى البحر فالجزيرة تغص بأصحاب المروءة والشهامة.. لابد أنها غرقت الآن ومن معها بالماء، فقد مرَّ على وقوفهم تحت المطر قرابة ربع ساعة، وحتى الآن لم يمتطوا الزورق..
قال الرجل بأسف:
ـ هذا جنون رسمي.. سيلقون بأنفسهم إلى التهلكة.. غريب أمرهم والله.. حتى المجانين لا يخاطرون بأرواحهم في مثل هذا الطقس.. إن فعلوا ذلك فلتنصب خيام التعزية لكل من يركب معهم الزورق.
ـ يبدو -والله أعلمـ أنهم مصرون على ذلك.. رأيت عادل يتحدث مع بعض الشباب، وقبل ذلك مع مجموعة من الرجال، لكن -الله أعلمـ لم يوافق الرجال على ما كان يريده منهم..
ـ إن وافقه الشبان قضي عليهم.
ـ ليس في صالح أحدٍ منهم مرور الوقت، ما العمل؟
ـ في الأوقات الحرجة يكون الإنسان بحاجة للعقل والحكمة أكثر من أي وقتٍ آخر، وإلا ضاع وضيَّع من معه.
ـ الكل يشهد لأم عادل بالحكمة ونضوج العقل، لاأدري ماالذي أصابها اليوم.
ـ أي حكمة هذه التي يشهدون لها بها وأي عقل ياحسيبة؟ مجيئها إلى البحر في هذه الظروف دليل على جهلها، وعلى جهل من معها.
ـ الجماعة مضطرون لعبور البحر وسراب في خطر كما سمعت زوجها يقول للرجال.
ـ إن كانت في خطر هنا في الجزيرة، فستلقى حتفها في البحر.
ـ ما العمل إذن؟" مقسوم لاتاكل، وصاغ ماتقسم، وكُلْ حتى تشبع".
ـ أفضل العودة بها إلى البيت ولن يصيبها إلا ما كتب الله لها هنا أو هناك.
ـ من الصعب إقناعهم بذلك.
ـ دعيهم.. فحكمتهم تغنيهم عن نصائحنا، ولن ينالنا منهم إلا الصدّ وسواد الوجه.
ـ ليتني أستطيع مساعدتهم بأي شيء.. خطرت لي فكرة.. ما رأيك أن أقدم لهم الخيمة الصغيرة التي اشتراها ابننا ساهري فتكون لهم واقية من المطر ريثما يتدبرون أمرهم، وإن رأيت الظرف مناسبا للكلام، نصحتهم بالعودة إلى البيت فربما يجد كلامي قبولا لديهم؟
ـ افعلي ما شئت.. فالخير لا يضيع ثوابه عند الله.. ولكن لا تغضبي إن سمعتِ منهم ما لا يرضيك أو خطفت الريح خيمة الساهري.
ـ النصيحة لله ومن كان عاقلا يعرف قيمتها.
ـ يبدو لي أن العقول اليوم كلها في إجازة بلا راتب.. أرجو أن تُقطع فورا قبل أن تحلَّ بأصحابها كارثة لايعلم مداها إلا الله.
عدة أمتار قطعتها درة باتجاه عادل ومن يكلمهم من الشبان.. رأتهم كالورود المتفتحة.. بعضهم مازال أمردا.. انهالت على رأسها أفكار شتى من كل صوب.. تذكرت أمها وهي تودع أخاها الأصغر عدنان إلى مثواه الأخير.. كان الفراق مرا.. حارقا.. توفي شابا في الخامسة عشرة من العمر عندما سقطت فوق رأسه عتبة باب الدار وهو يدخل إلى البيت.. كان حادثا مؤلما أودى بحياة والدتها بعده بزمن قصير.
خلال لحظات معدودة استعادت درة زمن الحادثة وكيفية وقوعها بكل تفاصيلها حتى الصغيرة منها، إنها ذاكرة الحزن التي تتكمش بالنفس والقلب والروح حتى النهاية..
كان عدنان عائدا من عرس أحد شبان الحارة.. الجميع كانوا بفرح.. الطبول تقرع، والزغاريد تعلو .. الأطفال والشبان والرجال كلهم يرقصون ويغنون.. انتهى العرس.. عاد الرجال إلى بيوتهم بعد أن أوصلوا العريس إلى دار أهل العروس ليصطحبها إلى بيتها الجديد..
كيف سقطت عتبة الباب فوق رأس عدنان لا أحد يعرف.. العتبة كانت حجرا كبيرا.. ثقيل الوزن أنهت حياته خلال لحظات محوِّلة فرح الجزيرة إلى بكاء وعويل.. مات عدنان تاركا في قلب أحبته جرحا لم يشفه مرور الزمن وتقادم الحدث.
لله در هؤلاء الأقمار وهم يقفون مع عادل بوجوه جمَّرها البرد بحرارة الشباب.. لا لن تسمح لهم بركوب الزورق مهما كانت الأسباب.. حياتهم أهم من الجميع.. لن تثكل أمهاتهم بهم.. فإن كان ولابد من مساعدة فلينقلوا سراب إلى الزورق وليرجعوا إلى أهاليهم فليس لهم في الأمر ناقة ولا جمل.
توقفت مكانها.. التفتت إلى الوراء.. رأت لمى تقف خلفها دون حراك.. اقتربت منها.. لمست يديها.. وجدتهما باردتين والزرقة تصبغ شفتيها.. أمسكت بها، وراحت تدعك بكفيها كفَيْ الفتاة لتدفئهما، ثم مشت بها مسرعة إلى مكان لا تهطل فوقه الأمطار.
غادرت حسيبة بيتها وهي تحمل بكلتا يديها خيمة الساهري الثقيلة لعدم وجود من يحملها معها، فالتقت بأم عادل وهي تطلب من لمى العودة إلى البيت خشية أن تصاب بالمرض بتأثير البرد الشديد. رفضت لمى بشدة وصممت على البقاء معهم إلى أن يبحر الزورق بسراب، فاستحلفتها العجوز بالله أن تلبي طلبها بالذهاب، فانصاعت مرغمة وغادرت المكان.
سؤال غريب خطر في بال درة، ترى لو كان النبل إنسانا كيف سيكون تجسده؟ أتراه يشبه البشر؟ ابتسمت وهي تجيب عن سؤالها الخفي:
ـ النبل كلمة من ثلاثة أحرف، لكنها بوسع الفكر والإحساس والرؤى روعة وجمالا، هو خلة نادرة قل من حملت نفوسهم بها، وأنجبت حسن أعمالٍ، اطمئني يادرة لن يكون النبل على شكل البشر، ولكن ماأنبل لمى وحسيبة يادرة، ماأنبلهما!!!
ما الذي يتفتح هذا الصباح في أكمام نفس درة؟ من المفروض أن تلد اليوم سراب هاشم، الجميع بانتظاره، ولكن أم عادل العجوز وجدت نفسها دون سابق إنذار تلد أمورا كثيرة لم تخطر لها في بال ربما كانت حامل بها منذ زمن دون أن تدري، فاندلقت من بياض نفسها الشفيفة دفعة واحدة في وقت قصير طال مخاضه عمرا بحاله مرت بها سنونه عجافا حبيسة الألم والحرمان.
فتحت فوهة قلبها.. ضغطت فوق زناد البوح.. انطلقت الكلمات رشا ودراكا، فأصابت قلب مستمعتها بموجع.. أفضت درة لحسيبة بكل شيء.. كانت صادقة بما قالته.. تكلمت بوضوح عما كانت عليه من أحلام وردية رعتها عمرا مديدا.. سقتها برحيق شبابها.. قلمت أشواك اليأس من حولها بمقرض الصبر.. ظللتها برموش حنانها.. فربت وارتفعت سوقها عاليا.. اخضرت.. أثمرت، وظلت تنتظر قطافها بلهفة الشوق إلى ما قبل دقائق معدودة.. أتراها كانت تخادع نفسها بأن تلد سراب بسلام، فيأتي هاشم إلى الدنيا.. يحمل اسم جده.
أشياء كثيرة كانت تبرق في مخيلتها متشحة بالأمل.. والآن تقهقرت جحافل الخداع.. انكشفت الرؤية جلية.. ضاعت أحلامها الوردية، بل تبلورت أمامها الحقيقة واضحة كتلك الشمس التي بدأت تتهيَّأ لمغادرة خدرها الشرقي بصحبة عرائس الشفق بهالة سحر فاتنة.. لا مجال بعد الآن للخداع.. البحر هائج، والوصول إلى البر الثاني مستحيل.. سراب لن تلد والعودة بها إلى البيت هو أفضل ما يقدمه لها الجميع.. هي طلبت منها ذلك.. قالت " إنني أموت".
لولا إيمانها لظنت بأن للبحر وللريح تأثيرًا غريبًا على نفسها بما هي فيه من اضطراب.. لم تكن يوما كما هي الآن.. بدأت تشك في نفسها بأمور كثيرة.. تريد مساعدة من أحد يقول لها الحقيقة التي تتخيلها كل لحظة بشكل مختلف عما سبقه.. سألت حسيبة أن ترشدها فهي متعبة جسديا ونفسيًا حدَّ الوهن.. تخشى اتخاذ قرارٍ ما قد يعود عليها بالندم .
شجعتها حسيبة على العودة بسراب إلى البيت وأخبرتها برأي زوجها.. ابتسمت درة بسرها واطمأنت إلى صواب فكرتها.. بقي أمامها إقناع عادل بما ارتأت.. ترى هل سيقتنع برأي والدته وحسيبة وزوجها وقد خالف قبل قليل رأي رجال لايستهين برأيهم إلا مكابر أو مغامرأو أبله؟ وإن اقتنع عادل بقول درة، فهل ستقبل عليَّة بقرار قتل ابنتها؟
عندما تفتح الروح على منافي الوعي نوافذ نور، تجتاز بعين البصيرة عالم الظلمة بكل ما فيه من تخبط بوحل الحياة فكرا وعملا.. تتسلق على سلالم الحق إلى سدرة الرضا وهي ترى اغتيال اليأس بمدية الأمل بعد تشردٍ في أزقته المعتمة زمنا طويلا.. هناك تنادم النفس على بساطِ المحبة.. ترفرف حولهما فراشاتُ ربيع دائم الابتسام بأزهى الألوان وأعطر الأزاهير، وأروع رفيف..
لابد من دموع آتية.. من حزن يجرح القلوب.. يفتت الصدر حسرة وألما.. لن تحمل السلم بالعرض فالطريق ليست ملكا لها.. هي لكل العابرين.. زد يابحر جنونك فلكل شيء نهاية.. أيها المأمور ماأضعفك رغم هياجك المرعب..
أم هاشم يا وجه الصبح المشرق في قلوب أحبتك، لنعد إلى البيت والنبض يلهج بالدعاء لك بالخلاص.. سراب يا فلذة لم تحملها رحمي.. سأظل أدعو لك بالسلامة.. زينب توفيت في المستشفى رغم التفاف الأطباء حولها.. نزفت.. نزفت ومع النزف خرجت الروح، وأخرجت زين من بطن أمها بقيصرية قبل تمام الأشهر السبعة.
ذكرتها حسيبة بقصة زينب لتجدد تذكرها بأن الأعمار بيد الله.. ستلدين هنا في الجزيرة ياسراب دون أطباء، سيأتي هاشم بإذن الرحمن، فلله معجزات لا يعلم سرها إلا هو.
كانت غارقة في بحر أفكارها المتلاطم الأمواج، ويداها تمسكان بخيمة الساهري التي أعطتها لها حسيبة ومضت عندما رأت عادل يأتي نحوها مسرعا.
عادل البلبل الحيران يصدح حزينا في روض حبه لسراب على أفنان المنى.. تسمعه الريح.. تخطف أنينه.. تذروه بطيش في مهبها حَجبا عن الأفهام.. يحتد.. يثور.. يرفض الاعتراف بالعجز أمام جبروت البحر.. يكحل الأمل بمرود الصبر.. يسقيه بماء الروح الطاهر.. يأبى أن تغادر مليكته عرشها العالي الذي شيده لها في خمائل قلبه.. ظل فيه ناسك الحب الوفي، يكوثره كلما أوشكت أن تلمس تدفقه شائبة صفاء.
سيظل جبهة صامدة في وجه العجز مهما عصفت ريحه، يسكت هدير اليأس مهما غلت براكينه وتفجرت حارقة ورود وفراشات ربيعه المنتظر.. مازالت بين يديه تتنفس هواءه.. يراها بعينيه تئن بصمت يذبحه دون بسملة، ولكن قلبها مازال ينبض رغم الوجع.. لا يستطيع أن يرى بيته فارغا من إشراقها في صباحاته شمسَ دفء.. طالعة في مساءاته بدرَ ضياء.
ما عساك يا درة تفعلين، ومن ستقنعين بالعودة إلى البيت؟ الموت أهون عليه مما تقولين.. لمي شباك رأيك واطرحيها في بركة ماء فارغة فقد عقد العزم، وأقنع الشبان بما يريد.
تركها والدموع تجري فوق وجنتيها ممتزجة بماء المطر ورذاذ الأمواج الصاخبة.. أخذ منها خيمة الساهري خطفا.. وجدها في تلك اللحظة كنزا لا يقدر بثمن.. فاته في زحمة انشغاله على محبوبته أن يلوح بهمسة شكر لحسيبة حتى ولو كانت بينه وبين نفسه..
عجنها القلق بكفي الخوف.. أوجعها العجن فكاد يرمي بها في هوة ضياع لن يستطيع أحد أن يخرجها منها لولا أن امتدت إليها يد حسيبة تهدئ من روعها بما يشبه المواساة، لكن خافقها ظل يطرق في صدرها بشدة كطرق بمطرقة حدَّاد يريد قص قطعة من فولاذ لانبض قلب من دم ولحم. تعب قلبها.. ملَّ الألم.. فقد القدرة على الاستمرار في مضغ الهم.. يريد الوصول إلى بر أمان ينسى فيه صدره المرهق وكل من فيه، وما حوله..
نظرت في وجهه وقد ابتعد عنها.. رأته يحاكي لون الشمس التي بدأت بالشروق.. خافت.. ارتجفت.. كبَّرت.. أتشرق شمس وتغرب شموس؟!!
لم يعد أمامها وقت لعمل شيء ينقذ وحيدها ومن معه من كارثة محققة الوقوع إن هم ركبوا الزورق وأبحر بهم في غياهب المجهول..
عاشت عمرها تتحدى اليأس.. والآن هي في أكبر محنة تقع بين فكيها.. كادت تصرخ.. تولول وتنوح.. تمسك حسيبة بيدها.. تهمس في أذنها بكلمات.. لم تستوعب ما قالته لها.. تطلب منها إعادته على مسمعها.. مازالت خارج تغطية الوعي.. تعيد حسيبة كلامها الهامس للمرة الثالثة.. ثمة علامة ارتياح تشرق بمعية الشمس فوق وجنتي درة..
تغادر المكان على عجل وخلفها حسيبة.. تركض.. تركض حسيبة.. يعلو صوت خطواتهما.. يقارع عواء الريح.. الأزقة خالية إلا منهما.. بقي عليهما القليل لتصلا إلى ما هما إليه مسرعتان..
ابتعدتا عن البحر وعن رشق أمواجه لكنهما وقعتا فريستين لانصباب الماء فوق رأسيهما من مزاريب الأسطح التي تملأ الحارات الضيقة.. لم تحسا بما ظل ينهال عليهما لانشغال رأسيهما بالأهم.
وصلتا إلى هدفهما على عجل.. لم تتوقفا لالتقاط أنفاسهما.. اتجهتا نحو باب يعرفه الجميع.. مخفر الجزيرة.
لم يكن أمرا عاديا أن تمشي وحيدة في مثل هذا الوقت من الصباح الباكر. أحست لمى بالحرج وهي تقطع الطريق إلى بيت خالتها أم أحمد راجية الله أن تصل الدار قبل أن يراها أحد، فألسنة السوء لا ترحم بريئا.
لابد أن تكون خالتها الآن مستغرقة في النوم بعد صلاة الفجر لأخذ قسطٍ من الراحة بعد تعب الفكر والجسد.
ظلت مشغولة البال بما يحدث قرب البحر.. أحزنها حال سراب، والوضع الذي هي فيه تحت المطر وبين جوانح الريح، وكان قلقها جليا على العجوز درة، ولم يكن أقل شأنا منه على ابنها عادل وعلى الجميع..
أثار الشفقة في نفسها على عادل عدمُ قبول الرجال مساعدته في نقل زوجته إلى الزورق لتظل معلقة بين الحياة والموت.. ليتها تستطيع تقديم المساعدة لهم مساهمة ًمنها في إخراجهم من مأزق صعب للغاية، ولكن للأسف عضلاتها ليست مفتولة..
تركت وجيهة وعلية وامرأتين بالقرب من سراب عندما لحقت بأم عادل التي أرسلت بها إلى البيت رغما عنها، وكانت القابلة قد غادرت المكان قبل قليل معتذرة لعدم جدوى بقائها، فهي لن تستطيع تقديم أي شيء لسراب كما قالت لأم عادل، وبعد قليل لحقت بها رضوى..
لكل نفس أمنيات تود تحقيقها في حياتها، أمنيات لمى بدأت الآن تنفض عنها الغبار.. تشرئب برأسها عاليا.. تجدها تتمنى لو أنها أكملت دراستها وتخرجت طبيبة نسائية.. جراحة .. أو حتى قابلة قانونية لا فرق عندها مادامت في النهاية تستطيع إنقاذ حياة امرأة في وضع كالذي تشهده اليوم.
انتابها شعور خفي بالنقمة على والدها الذي لم يسمح لها بمتابعة الدارسة لأنها فتاة.. ترجته كثيرا.. أدخلت عمها للتوسط لها عنده، وصديقه الأعز والد أهداب صديقتها التي أصبحت مدرسة، وقد تركت الجزيرة مع أهلها منذ عامين، فلم تستفد شيئا، فقضى برفضه الوساطة على أي فسحةِ أمل في تحقيق حلمها..
حاولت التملص من هذا الإحساس المفاجئ تجاه أعز الناس إليها.. لم تستطع تقبله رغم حفره مساحة واسعة من الحزن في شغافها، كرهت اللحظة التي استيقظ بها حلمها الغافي منذ زمن تحت طبقة شفيفة من التناسي، فتمنت لأول مرة في حياتها لو أنها كانت رجلا رغم اعتزازها بأنوثتها.
قبل أن تدخل منزل خالتها خطر في بالها خاطرغاب عن بال عادل ومن معه، فارتدت على أعقابها مسرعة إلى بيت وجيهة أخت عادل.. ناسية ماحدثتها به نفسها قبل قليل بشأن خروجها وحيدة في الصباح.. قرعت الباب على عجل.. انتظرت ربما دقيقة أو أكثر.. فتح الباب زوج وجيهة.. فوجئ بالقادمة.. لم تنتظر صحوته من المفاجأة.. أخبرته بحياء واختصار بما يواجه أهل زوجته، وطلبت منه الذهاب إليهم عسى أن يفيدهم بشيء، فهم في أزمة تحتاج لوقوفه بجانبهم.
فتحت باب بيت خالتها بهدوء شديد خشية أن توقظها من النوم.. وقبل أن تلتقط أنفاسها وتشعر بالطمأنينة سمعت كلاما في غرفة الجلوس.. خفق قلبها بشدة.. أصوات نسوة.. من عند خالتها في هذه الساعة المبكرة؟
خافت أن يكون قد ألم بخالتها مكروه.. أسرعت باتجاه الغرفة وأذناها تحاولان معرفة صاحبات الصوت.. قرعت الباب قبل أن تفتحه.. نادت بصوت منخفض خالتها.. سمعت صوتها تدعوها للدخول.. اطمأنت قليلا، وعندما فتحت الباب رأتها وشيماء، ورضوى يحتسين القهوة والحيرة بادية على وجوههن.
دعتها خالتها لتناول القهوة الساخنة فالدلة مازالت فوق نار المنقل.. اعتذرت بلباقة وأسرعت إلى الحمام للتخلص من ثيابها المبتلة بالماء المطري والبحري..
ارتدت ملابس نظيفة.. نظرت في المرآة.. حدقت في وجهها.. رأته مصفر اللون، تحيط بعينيها هالتان شوهتا نقاء بشرتها بلونهما الداكن.
تنهدت وهي تتذكر ما مر بها منذ مغادرتها البيت مع خالتها إلى تلك اللحظة التي هي فيها الآن.. توقفت قليلا عندما مرت في ذهنها صورتا شيماء ورضوى وهما تحتسيان القهوة.. تعمقت في الصورتين.. رأتهما ترتديان ملابس خالتها.. لابد أنهما استبدلتا ثيابهما المبتلة بثياب جافة عندما دخلتا البيت.. لكن أمر رضوى غريب، فهي لم تذهب مع خالتها عندما اصطحبتها شيماء الرابح إلى البيت.. ظل أمر حضورها لغزا محيرا جعل أفكارها تضطرب كأمواج البحر الهائجة.
على مرمى أحداث اليوم ظلت لمى تتردد.. ترصد أوقاتها لحظة لحظة، وبين يدي تعبها أودعت انتباهها يقظا لا تغفو عيناه ومضة سهو، ولا أقل من ذلك حتى عن أصغر حدث شهدته أو أحست به.. تزيح بيد اليقظة عن ذاكرة وعيها أي ستار يحاول النسيان إسداله على ما أرادت استعادته بوضوح تام.. لا تدري ما الذي يجعلها بهذا الاهتمام الكبير بما يحدث.
أحست في داخلها بصوت ناقوس يقرع.. يقرع.. ارتعشت.. لا تريد أن تسمع شيئا.. تماسكت.. خرجت من غرفتها على عجل.. استقبلتها النسوة بالترحاب.. طلبتا منها أن تخبرهن بآخر مستجدات الوضع قرب البحر منذ مغادرتهن المكان.
تكلمت كثيرا.. تكلمن أكثر.. أثنت شيماء الرابح على فكرة إخبار زوج وجيهة بالأمر، فمن الأولى أن يكون موجودا في هذا الظرف المربك خاصة وأن والد سراب رجل مريض، ولا يستطيع القيام بأي شيء بل قد يقضي نحبه إن هو علم بأمر ابنته، فضغط الدم عنده مازال متارجحا.
لم تستطع لمى أن تخفي ابتسامة صغيرة أشرقت فوق محياها عندما علمت بتزحلق رضوى في الطريق، وكيف صرخت بصوت عالٍ إثر وقوعها، فأسرعت شيماء الرابح لمعرفة مايجري قرب بيت أم أحمد، وما لبثت أن عادت برضوى وقد سحجت الأرض ركبتها اليمنى وكفيها عندما تزحلقت بالطين الذي امتلأت به الطريق كما يحدث عادة عندما تمطر السماء.
تأبط قلبها يقينٌ بآت لا تزحزحه الهوج عن ثباته قيد أنملة.. أحست في داخلها بثورة غضب يلفها الحزن بشريط من الساتان الأسود.. مابال النسوة يطحن قلب الصبية برحى اليأس بما يقلن؟
كل ماسمعته فأل ينذر بكارثة قادمة ستحل غيومها بسماء الجزيرة تمطر دمعا من برد ونار..
استبقت الأحداث.. انسكبت فوق خديها دموع شكوى لله بأنين صامت.. سمعته بأذن قلبها يتوسل لمبدعه بالعفو.. بالرأفة بقلوب لوعها الزمن مرارا وتكرارا، فجسدُ الحرقة ملتهب يزيد الجراح نزفا والشغاف نواحا.
كيف لحزنها ان يغور في منبته وسقيا الخوف تغرقه اندلاقا؟ قررت العودة إلى البحر لبث الطمانينة في قلب درة، والدفء في يدي سراب.. ستقف سدا منيعا بوجه المآسي.. علها تورد في مسارب نفوسهم شعاعا بومض ارتياح..
لم يلفت انتباه عادل أنه أصبح وليمة شهية للقلق يتلذذ في تعذيبه.. جعل من قلبه حلبة للصراع بين اليأس والأمل.. ترك له حرية الحركة بين شرايينه دون رقابة تمنعه من خطوة قد يكون فيها دماره.. اختلت عنده الموازين.. رجحت كفة سراب عما سواها.. غاب عنه خطرُ ما هو مقبل عليه رغم التحذيرات الكثيرة.. قال له أحد الرجال:
ـ لا تركب البحر فإني أرى ملك الموت في الزورق..
ـ لم يعطِ للعقل رشفة انتباه لما سمع رغم احتياجه لها، فقد أغرقت أمواج نفسه الهائجة صوت الحكمة.. دفنته برعونة في أعماق اللهفة.. تكسرت أضلاع وعيه.. تخلص منها بثورة الخوف على حبيبته..
اختطف من أمه خيمة ساهري كما تختطف القطط الجائعة قطع اللحم، وأسرع بها إلى الشبان الذين تعاطفوا معه شفقة بزوجته.. ابتعد عن درة.. لم يهمه أمرها في شيء.. لم ينظر إلى الوراء فيفتقد عبير زنابق وجودها البيضاء.. غاب عنه كم كان يروي هذه الزنابق بطلِّ حبه المتدفق دفئا، وكم كان يخشى على مشاعرها من جرحٍ ولو بعطر وردة.
كل ما في نفسه وما حوله كان غائما.. أحس بالكره لكل شيء.. للبحر.. للريح.. للأرض.. للناس.. لنفسه.. أحس بأن الجميع يقفون ضده.. كلهم أعداء له.. يريدون سلبه سراب وقتل طفله.. لو كان يعلم بما سيحدث لها لطار بها إلى أرقى المستشفيات.. لباع البيت الذي يسكنه بكل مافيه.. ثيابه.. لاستدان مالا وعاش العمر في سداده.. أقر الآن بأن حماته كانت على حق ولكن لو ..
ـ لا وقت للو.. أنت الآن في مهب الريح.. لا جناح يدفئك.. لا ثغر يبسم لك..لا وتر يعزف لحن أمل قادم.. حناجرالريح تعوي.. تعوي، وأنت ترقص جريحا.. حزينا.. خائفا.. يائسا.. ليس الرقص للرجال.. افعل شيئا..
تحدى الخوف.. امتطى خيل الشجاعة.. جمع عظام انكساره.. أخاط بإبرة الصمود جراحه..
ترك للريح شعره تعبث به كيفما تشاء، وحجب عنها قلبه.. لم يعد يخشى تعسفها.. استباح القوة في خضم ضعفه.. خلع عنه سترته.. قلده الشبان تخلصا من ثقلها في حال الوقوع في البحر.. لف سراب بخيمة الساهري.. امتطى الزورق بصعوبة.. لم ترحمه الأمواج.. عاندته.. ما الذي أصابك أيها البحر.. كنت حبيبا فلِمَ انقلبت عدوا؟
لم يستطيعوا نقلها إلى الزورق.. حاولوا كثيرا والأمواج تقاومهم بتحدٍ عجيب.. خاف أن يضحي بها فتسقط في البحر.. حار في أمره..
كانت علية ووجيهة تقفان قرب الشبان.. حاولتا مساعدتهم، فطلب منهما أحدهم إخلاء المكان له.. أكثر من مرة ارتطم الزورق بحافة السقالة ارتطاما شديدا كاد يحطمه لولا الإطارات المطاطية التي على جانبيه. المطر والبحر والريح في صراع غير متكافئ مع عادل وبين يديه امرأة تكابد مخاضا بنزف غزير.
أحست وجيهة بالقوة عندما رأت زوجها يركض باتجاه الزورق.. توسمت بقدومه خيرا.. وصل لاهثا.. غاضبا.. ابتعدت عن السقالة فقد أحست بالخوف منه عندما راح يصرخ بصوت عالٍ لمنع عادل من نقل سراب إلى الزورق.. لم يسمع عادل ما قاله صهره لانشغاله وأحد الشبان بتناول سراب ملفوفة بالخيمة في لحظة عابرة أثناء انحسار موجة طويلة عن السقالة في الوقت الذي وصلت فيه لمى ورضوى وشيماء الرابح إلى البحر.
كادت أفئدة النسوة والرجال تخلع من منابتها وهم يرون البحر يبتلع الزورق بوحشية مفزعة.. وقف الجميع بصمت رهيب يراقبون ما يجري أمامهم عن قرب تفصلهم عنهم عدة أمتار، لكنهم عاجزون عن الإتيان بأي عمل من شأنه نفع من هم الآن في قبضة قلب أسود عندما يشتد به الغضب لا يعرف الرحمة، فلاهم يستطيعون إعادتهم إلى الجزيرة، ولاهم لهم بمنقذين.
مُدِّدتْ سراب فوق أرض الزورق المغطى بسقف خشبي وقاها من مياه الأمطار ولسع الريح.. ابتعد الرجال عنها.. وقف عادل في غرفة القيادة يعطي أوامره للآلة الصماء التي يدير بها الزورق، مصرا على أن تكون مطيعة له طاعة عمياء رغم اعتراض البحر والريح.
بين الشبان كان ثمة شاب يعمل في زوارق نقل الركاب مابين الجزيرة والبر.. يعرف كيف يوصل المركب بسلام إلى الميناء لكن ليس في كل الأحوال الجوية خاصة في مثل ماهم فيه اليوم.. التحدي مستحيل.. ثمنه باهظ جدا ربما كلف الحياة.. ناداه عادل ليأخذ مكانه في القيادة، وليبقى هو قرب زوجته التي كانت تصرخ بصوت يفتت الصخر، و البحر قد صمَّ آذانه، وخدَّر إحساسه، أو ربما كان يسمع فيزداد ثورة وهياجا كلما طعنه صراخها الحزين.
استبشرت درة خيرا عندما أسرع أحد رجال المخفر لمنع عادل من التهور بامتطاء صهوة الأمواج، فهذا ممنوع في مثل تلك الأجواء الخطرة.. ركضت المرأتان خلفه باتجاه البحر..
أم عادل تهرول في الأزقة الضيقة، وذاكرتها تسابق الريح بنبش خزائنها العتيقة المقفلة على ذخائر من قصاصات الماضي، ذيلت بتواقيع شتى بعضها كتب بمداد الدموع، وبعضها الآخر زركش بابتسامات دفنت في هوة الزمن السحيق، والبعض منها حفرت برسوم أمنيات عاشت تنتظر شروق شمسها ذات صباح، ولم يأتِ ذاك الصباح..
أحست بها تتدفق في رأسها بفوضى مزعجة كالريح والمطر والأمواج.. وقعت في قبضتها فريسة يصعب التقاطها من بين فكيها وعادل على وشك نزول البحر..
إحدى تلك القصاصات حملتها ريح غليان خوفها على فلذة كبدها.. طارت بها في أجواء نفس درة المرهقة تلاحقها عينا قلبها بقلق ينبعث من جهة البحر..
امتدت يدا مقلتيها.. التقطتا القصاصة بشغف.. أمسكتا بها.. فتحتاها بلهفة وهما تنفضان عنها غبارالماضي السميك.. رأته هناك في غرب الجزيرة طفلا جميلا.. بريء الوجه في الخامسة من العمر.. ركضت إليه كما تركض الآن إليه.. كان يسبح مع رفاقه الأطفال، والشمس تلوح أجسامهم بلونها الذي يعشقه الأرواديون.. لم يكن يجيد السباحة بعد.. رأت نفسها تجلس مع أمهات الصغار قريبا من المكان الذي يسبحون فيه.. يراقبن أطفالهن المبتدئين بتعلم السباحة..
كانوا يخرجون من البحر.. يصعدون إلى الصخور الملاصقة له.. يلقون بأنفسهم في أحضانه، وعيونهم تقطف من وجوه أمهاتهم ابتسامات سعادة. الجميع يضحكون كبارا وصغارا.. ليس هناك أجمل من أصواتهم وهم سعداء يرفرفون فوق سطح البحر كتلك النوارس التي تسبح في الجهة المقابلة لهم ثم تحلق فوقهم بواق واق ماأجمالها واقا.
في البحر يتساوى الجميع.. الغني مع الفقير.. اليتيم مع من يعيش في رعاية والديه.. يلاعبون الأمواج ببراءة.. تمازحهم بلطف حينا وأحيانا بقسوة.. يتسابقون.. من سيقفز أولا من أعلى الصخور الصغيرة.. كم قفزة سيسجل كل واحد منهم دون أن توقِّع تلك الصماء فوق أجسادهم الغضة تواقيع أبدية بوشم يدفعون ثمنه من نزف دمائهم الطاهرة.. جميع أهل الجزيرة يحملون مثل هذه التواقيع التي تذكرهم بماضٍ آبق يرفض العودة إليهم مهما عظم الشوق إليه.
بلهفتيها حاضرا وماضيا كانت تراه قمرا يغطس في زرقة الماء داخل سياج رأسها الصغيرة.. يرفع رأسه الأصغر مفتوح العينين باسم الثغر.. يتعالى تصفيق رفاقه بحرارة.. ماذا يفعل وحيدها ليستحق هذا التصفيق؟
خافت عليه عندما علمت أنه يباري حمدان فيمن يتحمل البقاء تحت الماء أكثر.. همت بتأنيبه خوفا عليه من انقطاع تنفسه في لحظة غدر..
أحست بسكاكين الخوف تحز على قلبها.. تقطعه إربا إربا.. امتشقت قامتها بهمة الشباب، ومضت إليه بحنان الأم.. رآها.. أقبل إليها عندما نادت عليه.. هددته بالعودة إلى البيت إن هو استمر بهذه اللعبة المؤذية.. استجاب لرغبتها كي لايمنع من السباحة في هذا اليوم الجميل.. عاد مع حمدان لتسلق الصخور والقفز إلى البحر.. رجعت هي إلى النسوة يتسلين بمراقبة فلذاتهن وبما أحضرن معهن من طعام وفاكهة ومكسرات..
رأته فوق الصخرة واقفا..أشارت له بأن يقفز بهدوء.. أومأ لها بالموافقة.. قدمت لها أم أحمد كأسا من الشاي.. تناولته منها وهي تسمع صوت الماء عندما ارتطم به جسد عادل الذي رمى به حمدان في البحر دون أن تراه..
قربت الكأس من فمها.. ارتشفت منه قليلا وعيناها تبحثان عن عادل.. لم تجده بين الأولاد.. "أين ذهب؟".. نهضت مسرعة باتجاه المكان الذي كان يقفز إليه .. لم تنتظر ريثما تتأكد من أنه تحت الماء.. ألقت بنفسها في البحر حيث رأته غارقا دون حراك.. أخرجته إلى الشط لتفرغ ما امتلأت به معدته من مياه مالحة..
بكت يومها كثيرا.. دفنت دموعها بشعر رأسه، ونشَّفت عينيها بصدره.. منعته من السباحة شهرا كاملا إلى أن شفي جلد ظهره الذي جمَّره البحر عندما ارتطم به بقوة.. يالتلك الذاكرة التي تسري بها إلى الوراء على جناح الخوف الممتدة ظلاله فوق بساط الأمس واليوم..
تعب صدرها من اللهاث.. لايهم.. تركض .. تركض لتطاله يداها قبل الغرق الذي أنقذته منه صغيرا.. شعورها الرقيق عالم ليس له حدود.. نسر طليق يجوب الفضاء بجناحي أنثى معذبة تسعدها ابتسامة في عيني وحيدها.. زادتها الذكرى خوفا، والغرق اكتئابا.. تسرع أكثر.. تحس بأن قدميها مقيدتان وهما تشقان الطريق في سباق مع الزمن..
الرجل أمامها على بعد أمتار مسرع هو الآخر .. حسيبة لجمها الخوف فآثرت الصمت وشَّدت بالمسير.. سبقتها درة قليلة فهي أقل منها وزنا.. ظهر البحر لهما.. قابلتهما وجوه غطاها القلق.. نظرت إلى السقالة.. لم ترَ عادل ولا سراب.. رأت الدموع تنساب من عيني علية ويداها ممتدتان نحو السماء، وفمها يلهج بالدعاء.. بينما انكمشت وجيهة على نفسها في مكان بعيد عن زوجها مرتعدة منه ومما ينتظر الجميع.. نظرت إلى البحر تتفقد جواريه المتخبطة فوق الأمواج.. رأت الزورق في الميناء قبل خروجه إلى عرض البحر وقد حمي وطيس المعركة بينهما.. كادت تهوي فوق الأرض فأمسكت بها لمى وشيماء دون أن تنبسا ببنت شفة..
اصطف الجميع قرب الحائط وعيونهم معلقة بالزورق..
استنفرت العقول والقلوب والأرواح.. وقفت على أهبة الاستعداد لتلقي خبر مجهول قادم يكدح إليهم كدحا من وراء الغيب لا يدري أحد ما يحمل لهم من أنباء.. الكل يخفضون رؤوس كبريائهم خجلا من الرحمن.. ضعفاء يقرون بذلك في معمعة الحدث.. متمردون بما يحملونه من فكر، وما يتشدقون به من قول لا يغني ولا يسمن من جوع..
كل نفس فيهم تشعر بخوف تجهله لا تدري متى يحط رحاله في طريقها.. تحاول ستره في أعماقها بين صخور هشة مختلَقة من أوهام بالية.. تسخو عليها برشات قوة لتضعف عزمها في التحرر من قيد الستر الواهي.
بين الخوف والرجاء تشرد العقول في عالم غريب .. كئيب تشم فيه رائحة الموت.. ترتعد فرائصها.. تهرب إلى أبعد من حدود البعد الأول .. إلى أين المفر وقد فرَّت منها الاتجاهات تجنبا للقاء؟
الصدور تئن بحذر لا يسمع أنينها إلا جدران متآكلة يتردد بينها صدىً مفزعا.. خجلى بنفسها.. تكتم ضعفها عن آذان سواها.. تتخارس بعقم القوة في مواجهة الحقيقة..
للبحرأمواج، وللصدور أمواج لايعلم هوية جواريها إلا الله.. أمام هياج البحر تثور أمواج الصدور.. ماذا تريد؟
تضرب علية بيد اعتراض على صدرها المائج بالرهبة.. ترتد الضربة منه إلى شعورها المتشح بالقلق والأسى مخترقة ألف جدار وجدار.. سنوات عمرٍ مديد مرت كلمح البصر.. عجزت فيها عن قبض لحظة منها بكف إرادة قوية مازلت تظن بها خيرا.. خافت على زوجها فحرمته رؤية ابنته.. سراب ابتعدت كثيرا رغم القرب..
هاهو الزورق يظهرعلى قمة جبل مائي قاتم اللون.. من أين أتى بالقتام ولماذا؟
لم يغرق بمن فيه.. كم هي طويلة لحظة ظهوره.. آلاف الفكر تجتاح الرؤوس محزنة ومفرحة.. كم يحتاج الزورق من الوقت لقطع المسافة بين الجزيرة والبر؟ ربع ساعة أو ربما ثلث ساعة في الأحوال العادية والطقس وديع، أما اليوم فللبحر مع الزورق شأن آخر..
يقتلع الخوف أمن القلوب.. تنهب الحلكة شعاع الضوء.. يرتد النهار ليلا، والدفء بردًا، والأمل يأسا.. تجري أم عادل على غير هدى إلى السقالة لتكون أقرب إلى عادل.. تناديه بصوت عالٍ متهدج أغرقته دموع الشجن:
ـ عادل.. عادل.. إرجاع يا إمي..
تخطف الريح النداء.. تهرب به بعيدا.. بعيدا عن أذني عادل.. والزورق يدور حول نفسه بين ارتفاعٍ وانخفاض.. الريح تعزف لحن الرهبة، والأمواج تراقص بجنون مركب مغامرة صُبغ جوفُه بلون الجوري الأحمر.
يجلس عادل قرب سراب ممسكا بيديها والدموع تتدفق فوق خديه.. صراخ سراب يمزق ستار الريح الغجرية.. يضع رأسه فوق صدرها تائها يشهق بالبكاء.. الشبان في غرفة القيادة في هلع شديد على المرأة ومن البحر.. الجنين في بطن أمه يتقلب بضيق بين أمواج المخاض المشتدة ضربا بالرحم.
تنظر إليه برجاء.. يطرق رأسه في الأرض عجزا.. تزداد صراخا.. تضرب بيديها صدره.. تغرس أسنانها في يده.. تنزف دما.. لا يحس ألما.. يحضنها بصدره.. تزداد صراخا..
تنادي درة:
ـ ارجاع ياعادل..
وعادل لايسمع سوى أنين سراب وصراخا ينذر بكارثة..
أهكذا نقع في نقطة النهاية رغما عنا.. تُكسر جرار العمر الغالي منها والرخيص.. تتناثر شظاياها فوق اللاشيء بظهر مغبر، وباطن معشق بالنور أو ربما بالسواد؟ أبهذه البساطة تغيب كل المشاعر والأحاسيسـ الهادئ منها والصاخب، الحسن منها والسيءـ بين أجفان أطبقت عليها للأبد؟
ماأهون العمر على لحظة النهاية، وما أشده وقعا على نفس المنتهي بها..
مازالت تناديه:
ـ ارجاع يا عادل...
يسمعها الجميع رغم صخب الجو المحيط بهم إلا عادل الغائب عنها بجهاد مستميت في سبيل إنقاذ وردته التي بدأت تذبل أمام ناظريه بسرعة مذهلة، بينما كان بطنها يعلو ويهبط بسرعة أكثر مدعاة للذهول.. أي موسم حلَّ فيهم اليوم؟
اشتد المخاض حدة، واشتدت الريح زئيرا.. نظر إليها وهي تحرك ساقيها وخوف يتملكها، احمرار في وجهها.. تغمض عينيها.. انتابه رعب مفاجئ.. ما الذي يحدث؟
درة تناديه:
ـ ارجاع ياعادل..
تقترب لمى وشيماء الرابح منها.. تمسكان بها في محاولة لإعادتها إلى جانب الحائط بعيدا عن مياه المطر.. تبعدهما عنها بتمرد ولَّد فيها قوة مفاجئة.. تعود للنداء.. تكاد تسقط في البحر لاقترابها من حافة السقالة التي كسرتها الأمواج.. تمنت أن تكون نسرا بجناحين كبيرين بوسع البحر.. ترفرف بهما فوق الزورق.. تحمل من فيه إلى البر.. ولم لا تكون ما الذي يمنع.. داخلها يريد أن يستنسر فلا عجب من رغبتها الغريبة تلك.
يالنفس درة الممطرة جنونا في هذه اللحظات الكئيبة، النابعة حزنا في كل الفصول.. السامقة حلما في شتى الدروب..
إحساس غريب ينتابها.. يحفر في قلبها بأداة غريبة شيئا غريبا لم تجرب إحساسه من قبل.. تغمض عنه عينَي اهتمامها.. يلح عليها.. تتجاهله.. يحاصرها.. تصغي مكرهة لنبضه الغريب في صدرها اللاهث..
ـ ماالذي يحدث؟
ـ مدَّت يديها باتجاه الزورق.. ستحضنه بزنابقها العشر.. زنابق عطر كانت، غيرتها السنون فبدت مجعدة.. خشنة.. تملؤها النمش.. لايهم ستظل عينا عادل تراها بيضاء.. ناعمة.. طرية.. ستقبض بها على الزورق وتعيده إليها بمن فيه.. ستحضنهما إلى الأبد.. فقط تريد أن تصل إليهما قبل أن.....
ـ اقتربت أكثر من البحر.. تزحلقت قدمها.. مالت بجسمها نحو البحر في اللحظة التي أمسكت بها شيماء ولمى وأرغمتاها على الابتعاد عن حافة السقالة.. ربما لم تحس بما حدث، ولكنها مازالت تسأل بذهول يدعو للذهول:
ـ ماالذي يحدث؟
تسيل دموع الخوف على وجهها كريمة بها مقلتاها، وقد بدأت الرؤية فيهما تنوس رويدا رويدا بقطر الدمع الحزين..
تغير وجه سراب وكأنه أصبح وجه امرأة أخرى.. رآه عادل كما لم يره من قبل، كان محمرا يميل إلى الزرقة، وقد تضخم عنقها، واختنق الصوت في حنجرتها وهي تتخبط بين يديه.. حار وثار.. أحس بضعفه الذي طعن رجولته بخنجر مسموم أمام امرأة لا حول لها ولا قوة.. ارفع رأسك يا عادل لن تطرق به أرضا خجلا من سراب.. لم تعد الآن تحس بك ولا بأي شيء مما حولها.. هاهي قد هدأت واندلق منها طفلك هاشم مع أمواج حمراء..
ماالذي يحدث؟ ارتبك.. صراخ الوليد يعلو وقد ازرق لونه.. تلمس جيبه.. ليقطع حبل السرة بما فيه.
ـ ارجاع ياعادل..
مازالت تناديه وقد بح صوتها..أتراه سمع نداءها فقررالعودة؟ ظن الجميع أن رجاء درة فتت قلب ابنها، فرقَّ مشفقا على عمرها الذي استلقت شمسه فوق سرير غرب الجزيرة مكفنة بشال احتجابٍ طرَّزه الزمن بدم الشفق.
هرعوا إلى السقالة.. وقفوا بالقرب منها، وقلوبهم تقفز في صدورهم بنبض يدافع بعضه بعضا باضطراب مهيب..
توقَّف المركب للحظات غاب بعدها عن أعين المراقبين.. سقطت القلوب إلى الركب.. اتسعت العيون في الوجوه الواجفة.. وقف الجميع على رؤوس أصابع أقدامهم لاستجلاء الأمر.. شرقت عليَّة بريقها.. ظهر الزورق من جديد متوجِّهاً نحو الجزيرة، وهو يتأرجح فوق الأمواج.. تدنيه وتبعده، تعليه وتخفضه.. تغوص أصابع القلق في أعماق الصدور.. تلفظها الأرواح بعيدا عن متناول اللحظة خشية الغرق بدمع العيون..
تكسرت أجنحة الأمل على مرمى حجر من السقالة.. خوفان أحاطا بالنفوس.. خوف مما يحيق بالزورق، وآخر من الرجل الذي جاء من المخفر لمنع عادل من التورط باقتراف خوض غمار البحر..
أرعد الانتظار وأزبد.. هدَّدَ وأوعد، فتناثرت المهجُ شظايا لؤلؤية فوق الخدود.. الزورق يقترب من السقالة متحديا تجهم البحر والجو المحيط به..
أحست درة بضيق في التنفس قبل أن ترى عادل في الزورق.. رفعت يديها إلى عنقها تبعد عنه أصابع أشباح الرهبة التي تحاول خنقها بيدي خوفها..
امتلأت السقالة بالناس الذين أتوا دون دعوة مسبقة.. دفعتهم المروءة والفضول لمعرفة مايحدث أمامهم.. تهيَّأ القادرون منهم للمساعدة إن استدعى الأمر ذلك..
ارتفعت القلوب إلى الحناجر باقتراب الزورق، ولكن ما لبثت أن سقطت ثانية إلى الأقدام عندما توقّف قرب الرَّصيف.
تدافع الجميع لاستطلاع النَّبأ.. ماذا هناك ؟
ما الأمر؟!!!
لماذا عاد الزورق إلى الجزيرة ؟
هل أصابه عطلٌ ما؟
لا..لا ربما تكون سراب قد ولدت هاشم بتحريض الخوف من مجابهة البحر، أو ربما، وربما.. وعندما اقتربوا من الزورق جاء الجواب مؤلماً مبكياً حدَّ الوجع.. إنّها سراب هدأت للأبد.. نامت بسلام لم تعد تصرخ.. رأوها مسجاة بلا حراك، وعادل يحضن طفله الأمل بين يديه ورأسه يغطي رأسها، وعند الظُّهر هدأت العاصفة كأنَّ شيئاً لم يكن.





المنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني
أكاديمية الفينيق للأدب العربي

بانتظار الأمل ـ زاهية بنت البحر
المادة محمية بموجب حقوق المؤلف عضو تجمع أكاديميّة الفينيق لحماية الحقوق الابداعية
رقم الايداع :ز.هـ/ 20/ 2017
تاريخ الايداع : 04/ 07 / 2011















  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:47 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط