الفينيق سميح القاسم يليق به الضوء* سلطان الزيادنة - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: حلم قصير وشائِك (آخر رد :عبدالماجد موسى)       :: رفيف (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: الزمن الأخير (آخر رد :حسين محسن الياس)       :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :أحلام المصري)       :: لغة الضاد (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: إلى السارق مهند جابر / جهاد دويكات/ قلب.. (آخر رد :أحلام المصري)       :: لنصرة الأقصى ،، لنصرة غزة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: السير في ظل الجدار (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إجراءات فريق العمل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: بــــــــــــلا عُنْوَان / على مدار النبض 💓 (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إخــفاق (آخر رد :محمد داود العونه)       :: جبلة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: تعـديل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إنه أنـــــــا .. (آخر رد :الفرحان بوعزة)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ⚑ ⚐ هنـا الأعـلامُ والظّفَـرُ ⚑ ⚐ > 🌿 فينيقيو بيــــديا ⋘

🌿 فينيقيو بيــــديا ⋘ موسوعات .. بجهود فينيقية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 19-05-2011, 09:03 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
سلطان الزيادنة
عضو مؤسس
أكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو التجمع العربي للأدب والإبداع
يحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع الأدبي والعطاء
عضو لجنة تحكيم مسابقات الأكاديمية
الأردن

الصورة الرمزية سلطان الزيادنة

افتراضي الفينيق سميح القاسم يليق به الضوء* سلطان الزيادنة




سلام الله

تعودنا أن نضع نصاً تحت الضوء
ومن خلاله نشتغل
هنا ووفاءً لتجربةٍ فذّة
سنستميح الفينيق سميح القاسم
لنضعه تحت الضوء
إذ به يليق الضوء











نبذة عن حياته:

يعد سميح القاسم واحداً من أبرز شعراء فلسطين، وقد ولد لعائلة فلسطينية في مدينة الزرقاء الأردنية عام 1929، وتعلّم في مدارس الرامة والناصرة. وعلّم في إحدى المدارس، ثم انصرف بعدها إلى نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي قبل أن يترك الحزب ويتفرّغ لعمله الأدبي.
-كانَ والدُهُ ضابطاً برتبة نقيب في قوّة حدود شرق الأردن وكانَ الضباط يقيمونَ هناك مع عائلاتهم. حينَ كانت العائلة في طريق العودة إلى فلسطين في القطار، في غمرة الحرب العالمية الثانية ونظام التعتيم، بكى الطفل سميح فذُعرَ الركَّاب وخافوا أنْ تهتدي إليهم الطائرات الألمانية! وبلغَ بهم الذعر درجة التهديد بقتل الطفل الى آن اضطر الوالد إلى إشهار سلاحه في وجوههم لردعهم، وحينَ رُوِيَت الحكاية لسميح فيما بعد تركَتْ أثراً عميقاً في نفسه: "حسناً لقد حاولوا إخراسي منذ الطفولة سأريهم سأتكلّم متى أشاء وفي أيّ وقت وبأعلى صَوت، لنْ يقوى أحدٌ على إسكاتي".

وآل حسين معروفون بميلهم الشديد آلى الثقافة وفي مقدّمتهم المرحوم المحامي علي حسين الأسعد، رجل القانون والمربي الذي ألّفَ وترجَمَ وأعدَّ القواميس المدرسية وكتَبَ الشِّعر وتوزَّعَتْ جهودُهُ بينَ فلسطين وسوريا ولبنان وأَقامَ معهد الشرق لتعليم اللغات الأجنبية في دمشق.
سُجِن سميح القاسم أكثر من مرة كما وُضِعَ رهن الإقامة الجبرية والاعتقال المنـزلي وطُرِدَ مِن عمله مرَّات عدّة بسبب نشاطه الشِّعري والسياسي وواجَهَ أكثر مِن تهديد بالقتل، في الوطن وخارجه. اشتغل مُعلماً وعاملاً في خليج حيفا وصحفياً.
شاعر مُكثر يتناول في شعره الكفاح والمعاناة الفلسطينيين، وما أن بلغ الثلاثين حتى كان قد نشر ست مجموعات شعرية حازت على شهرة واسعة في العالم العربي.
كتب سميح القاسم أيضاً عدداً من الروايات، ومن بين اهتماماته إنشاء مسرح فلسطيني يحمل رسالة فنية وثقافية عالية كما يحمل في الوقت نفسه رسالة سياسية قادرة على التأثير في الرأي العام العالمي فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية.
أسهَمَ في تحرير "الغد" و"الاتحاد" ثم رَئِسَ تحرير جريدة "هذا العالم" عام 1966. ثُمَّ عادَ للعمل مُحرراً أدبياً في "الاتحاد" وآمين عام تحرير "الجديد" ثمَّ رئيس تحريرها. وأسَّسَ منشورات "عربسك" في حيفا، مع الكاتب عصام خوري سنة 1973، وأدارَ فيما بعد "المؤسسة الشعبية للفنون" في حيفا.
رَئِسَ اتحاد الكتاب العرب والاتحاد العام للكتاب العرب الفلسطينيين في فلسطين منذ تأسيسهما. ورئس تحرير الفصلية الثقافية "إضاءات". وهو اليوم رئيس التحرير الفخري لصحيفة "كل العرب" الصادرة في الناصرة.
صَدَرَ له أكثر من 60 كتاباً في الشعر والقصة والمسرح والمقالة والترجمة، وصدَرتْ أعماله الناجزة في سبعة مجلّدات عن دور نشر عدّة في القدس وبيروت والقاهرة.
تُرجِمَ عددٌ كبير من قصائده إلى الإنجليزية والفرنسية والتركية والروسية والألمانية واليابانية والاسبانية واليونانية والإيطالية والتشيكية والفيتنامية والفارسية والعبرية واللغات الأخرى.







أعماله:

توزّعت أعمال سميح القاسم ما بينَ الشعر والنثر والمسرحية والرواية والبحث والترجمة.

1. مواكب الشمس -قصائد- (مطبعة الحكيم، الناصرة، 1958م).
2. أغاني الدروب -قصائد- (مطبعة الحكيم، الناصرة، 1964م).
3. إرَم -سربية- (نادي النهضة في أم الفحم، مطبعة الاتحاد، حيفا، 1965م).
4. دمي على كفِّي -قصائد- (مطبعة الحكيم، الناصرة، 1967م).
5. دخان البراكين -قصائد- (شركة المكتبة الشعبية، الناصرة، 1968م).
6. سقوط الأقنعة -قصائد- (منشورات دار الآداب، بيروت، 1969م).
7. ويكون أن يأتي طائر الرعد -قصائد- (دار الجليل للطباعة والنشر، عكا، 1969م).
8. إسكندرون في رحلة الخارج ورحلة الداخل -سربية- (مطبعة الحكيم، الناصرة، 1970م).
9. قرقاش -مسرحية- (المكتبة الشعبية في الناصرة، مطبعة الاتحاد، 1970م).
10. عن الموقف والفن -نثر- (دار العودة، بيروت، 1970م).
11. ديوان سميح القاسم -قصائد- (دار العودة، بيروت، 1970م).
12. قرآن الموت والياسمين -قصائد- (مكتبة المحتسب، القدس، 1971م).
13. الموت الكبير -قصائد- (دار الآداب، بيروت، 1972م).
14. مراثي سميح القاسم -سربية- (دار الأداب، بيروت، 1973م).
15. إلهي إلهي لماذا قتلتني؟ -سربية- (مطبعة الاتحاد، حيفا، 1974م).
16. من فمك أدينك -نثر- (منشورات عربسك، مطبعة الناصرة، 1974م).
17. وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم! -قصائد- (منشورات صلاح الدين، القدس، 1976م).
18. ثالث أكسيد الكربون -سربية- (منشورات عربسك، مطبعة عتقي، حيفا، 1976م).
19. الكتاب الأسود -يوم الأرض- (توثيق، مع صليبا خميس)، (مطبعة الاتحاد، حيفا، 1976م).
20. إلى الجحيم أيها الليلك -حكاية- (منشورات صلاح الدين، القدس، 1977م).
21. ديوان الحماسة / ج 1 -قصائد- (منشورات الأسوار، عكا، 1978م).
22. ديوان الحماسة / ج 2 -قصائد- (منشورات الأسوار، عكا، 1979م).
23. أحبك كما يشتهي الموت -قصائد- (منشورات أبو رحمون، عكا، 1980م).
24. الصورة الأخيرة في الألبوم -حكاية- (منشورات دار الكاتب، عكا، 1980م).
25. ديوان الحماسة / ج 3 -قصائد- (منشورات الأسوار، عكا، 1981م).
26. الجانب المعتم من التفاحة، الجانب المضيء من القلب -قصائد- (دار الفارابي، بيروت، 1981م).
27. الكتاب الأسود -المؤتمر المحظور- (توثيق، مع د. إميل توما)، (مطبعة الاتحاد، حيفا، 1981م).
28. جهات الروح -قصائد- (منشورات عربسك، حيفا، 1983م).
29. قرابين -قصائد- (مركز لندن للطباعة والنشر، لندن، 1983م).
30. كولاج –تكوينات- (منشورات عربسك، مطبعة سلامة، حيفا، 1983).
31. الصحراء -سربية- (منشورات الأسوار، عكا، 1984م).
32. برسونا نون غراتا: شخص غير مرغوب فيه -قصائد- (دار العماد، حيفا، 1986م).
33. لا أستأذن أحداً -قصائد- (رياض الريس للكتب والنشر، لندن، 1988م).
34. سبحة للسجلات -قصائد- (دار الأسوار، عكا، 1989م).
35. الرسائل -نثر- (مع محمود درويش)، (منشورات عربسك، حيفا، 1989م).
36. مطالع من أنثولوجيا الشعر الفلسطيني في ألف عام -بحث وتوثيق- (منشورات عربسك، حيفا، 1990م).
37. رماد الوردة، دخان الأغنية -نثر- (منشورات كل شيء، شفاعمرو، 1990م).
38. أُخْذة الأميرة يبوس -قصائد- (دار النورس، القدس، 1990م).
39. الأعمال الناجزة (7 مجلّدات) (دار الهدى، القدس، 1991م).
40. الراحلون -توثيق- (دار المشرق، شفاعمرو، 1991م).
41. الذاكرة الزرقاء (قصائد مترجمة من العبرية- مع نزيه خير)، (منشورات مفراس، 1991م).
42. الأعمال الناجزة (7 مجلّدات) (دار الجيل، بيروت، 1992م).
43. الأعمال الناجزة (6 مجلّدات) (دار سعاد الصباح، القاهرة، 1993م).
44. الكتب السبعة -قصائد- (دار الجديد، بيروت، 1994م).
45. أرضٌ مراوغةٌ. حريرٌ كاسدٌ. لا بأس! -قصائد- (منشورات إبداع، الناصرة، 1995م).
46. ياسمين (قصائد لروني سوميك- مترجمة عن العبرية، مع نزيه خير)، (مطبعة الكرمة، حيفا، 1995م).
47. خذلتني الصحارى -سربية- (منشورات إضاءات، الناصرة، 1998م).
48. كلمة الفقيد في مهرجان تأبينه -سربية- (منشورات الأسوار، عكا، 2000م).
49. سأخرج من صورتي ذات يوم -قصائد- (مؤسسة الأسوار، عكا، 2000م).
50. الممثل وقصائد أُخرى (منشورات الأسوار، عكا، 2000م).
51. حسرة الزلزال -نثر- (منشورات الأسوار، عكا، 2000م).
52. كتاب الإدراك -نثر- (منشورات الأسوار، عكا، 2000م).
53. ملك أتلانتس -سربيات- (دار ثقافات، المنامة-البحرين، 2003م).
54. عجائب قانا الجديدة -سربية- (منشورات إضاءات، مطبعة الحكيم، الناصرة، 2006م).
55. مقدمة ابن محمد لرؤى نوستراسميحداموس -شعر- (منشورات إضاءات، مطبعة الحكيم، الناصرة، 2006م).
56. بغداد وقائد أُخرى -قصائد- (منشورات إضاءات، مطبعة الحكيم، الناصرة، 2008م).
57. بلا بنفسج (كلمات في حضرة غياب محمود درويش) - (منشورات الهدى، مطبعة الحكيم، الناصرة، 2008م).
58. أنا مُتأسّف -سربية-(منشورات إضاءات، مطبعة الحكيم، الناصرة، 2009م).
59. مكالمة شخصية جداً (مع محمود درويش)-شعر ونثر- (منشورات إضاءات، مطبعة الحكيم، الناصرة، 2009م).
60. كولاج 2 -شعر- (منشورات إضاءات، مطبعة الحكيم، الناصرة، 2009م).
61. لا توقظوا الفتنة! -نثر- (منشورات إضاءات، مطبعة الحكيم، 2009م).
62. كتاب القدس -شعر- (إصدار بيت الشعر، رام الله، 2009م).
63. حزام الورد الناسف -شعر- (منشورات إضاءات، مطبعة الحكيم، الناصرة، 2009م).
64. الجدران (أوبريت) -شعر- (منشورات إضاءات، مطبعة الحكيم، الناصرة، 2010م).






الجوائز التي تشرفت به:


حصل سميح القاسم على العديد من الجوائز والدروع وشهادات التقدير وعضوية الشرف في عدّة مؤسسات.
فنالَ جائزة "غار الشعر" من إسبانيا
وعلى جائزتين من فرنسا عن مختاراته التي ترجمها إلى الفرنسية الشاعر والكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي.
وحصلَ على جائزة البابطين،
وحصل مرّتين على "وسام القدس للثقافة" من الرئيس ياسر عرفات،
وحصلَ على جائزة نجيب محفوظ من مصر
وجائزة "السلام" من واحة السلام،
وجائزة "الشعر"الفلسطينية






دراسات ومقالات عنه:


الخوف من الآخر عند سمـيح القاســم/قصة " الصـورة الأخيرة في الألبوم نموذجاً "
بقلم محمد أحمد عبدالرحيم دوابشة


مـــقدمة :

يعد سميح القاسم من الشعراء البارزين في فلسطين المحتلة عام 1948، وهو من الشعراء الذين يشار لهم بالبنان، وقد أبدع سميح القاسم في نثره، كما أبدع في شعره. ويقيم في منطقة الجليل، ويتمتع ببعض الحقوق التي يتمتع بها أي عربي يقيم هناك، وله من الحرية وطلاقة اللسان، ما يتمناه كثير من المثقفين والأدباء العرب؛ بسبب الظروف التي يعيشها، ويعايشها مع الاحتلال، ومع ذلك، نرى في أدبه كثيراً من اللفتات التي تدل على عكس ذلك، ومنها : الخوف وانعكاساته وأسبابه.

وفيما يتعلق بالخوف من الآخر في هذه القصة، نرى هناك عدة انعكاسات له، منها ما هو داخلي، ومنها ما هو خارجي، مثل : خوف اليهودي من العربي أو العكس، وخوف اليهودي من النازي، وخوف اليهودي من اليهودي ,وخوف الألماني من اليهودي. والقصة التي ندرسها تعبر عن قضية اجتماعية إنسانية، تحاول رسم صورة للعلاقة القائمة بين الشعبين – العربي واليهودي – على أرض فلسطين التاريخية.

ملخص القصة:

تعالج القصة قضية الصراع الفكري الثقافي بين شعبين، يعيشان على أرض واحدة، وتنظر إلى العلاقة القائمة بين الظالم المظلوم، أو بين الضحية والجلاد. وهناك أعمال عربية كثيرة تناولت مثل هذه الفكرة، وحاولت معالجتها، مثل : رواية الطيب صالح " موسم الهجرة إلى الشمال"، وكذلك رواية " قنديل أم هاشم " ليحيى حقي " والحي اللاتيني " لسهيل إدريس، فالفكرة ليست جديدة، ولكن ما يميزها في هذه القصة، أن كاتبها يرى الواقع، ويعايشه بكل أبعاده وملابساته.

تدور أحداث القصة حول شاب عربي – أمير – يتخرج في الجامعة العبرية في القدس بدرجة الماجستير في العلوم السياسية، ولكنه يرفض العمل في إحدى السفارات الإسرائيلية؛ لأن انتماءه القومي يحدّ من إمكانية وجود العمل المناسب لتخصصه؛ فلم يجد البديل، إلا العمل في أحد المطاعم في داخل إسرائيل، وهناك، يتعرف على فتاة يهودية " روتي " ، تدرس الأدب الإنجليزي في جامعة تل أبيب، ويقيم الكاتب علاقة صداقة بينهما، تطورت هذه العلاقة مع الزمن، ولكنها " كانت علاقة تناقض متكاملة، تقوم بين شاب، تعمل على سحقه السياسة الإسرائيلية العنصرية، وفتاة تقف على هامش السياسة، وتكتفي بطرح الأسئلة؛ لتستقر الإجابة عليها في وعيها الذي قررته هذه السياسة" ( سميح القاسم في دائرة النقد، 1991: ص 212 ).

وهناك شخصية أخرى، هي شخصية " علي، " الأخ الأصغر لأمير والذي حصل على أعلى الدرجات العلمية في الثانوية العامة، ومع ذلك، لم يستطع الدخول لإحدى الجامعات الإسرائيلية؛ بسبب العنصرية اليهودية، فلم يجد سبيلاً، إلا التسلل لسوريا ومواصلة الدراسة فيها، هكذا كان يخطط، وأثناء محاولته تنفيذ هذه الفكرة، قتله أحد الضباط الإسرائيليين على الحدود الشمالية لفلسطين التاريخية، وكان القاتل، هو والد روتي، وهو شخص متعال، ينظر للآخرين بعين الاحتقار، وروتي، هي صديقة أمير، شقيق علي، فكانت النهاية، أن توفيت روتي متأثرة بصدمة عصبية؛ بسبب ما فعله أبوها بعلي، وطلبت من أبيها أن يضع صورتها في ألبومه، ذلك الألبوم الذي كان يحتفظ فيه بصورة كل ضحية – فدائية – فلسطينية، يقوم بقتلها، قائلة له في نهاية القصة: لتكن هذه الصورة الأخيرة في الألبوم. فالقصة تحاول رسم الطريق للمستقبل بين هذين الشعبين، وعلى أيّ أساس، وماهو الأفق والرؤية القريبة والبعيدة.

الدراسة :

يقول مكسيم غوركي في إحدى كتاباته : " إن على الكاتب الكبير أن يوجه قارئه نحو هدف كبير، هو التحرر من كل قوة ووحشية ومن كل أكذوبه، .... ولن نحرر أنفسنا...ما لم نتعلم كيف نحب الإنسان.....إنه سيأتي يوم، يفهم فيه العالم أجمع، بأن أقدس شيء على الأرض، هو الإنسان". يحاول سميح القاسم تطبيق هذه الفكرة، ويريد أن يثبت أن الخيار الإنساني، هو الذي يجب أن يكون أو يُنتظر، ولكن كيف؟ وما هي وسيلته؟ في ظل الواقع المعاش صباح ومساء، الواقع المليء بالخوف من الآخر والرعب منه واحتقاره ومحاولة طمسه أو عدم الاعتراف بوجوده أو حتى تقبله. ولعل الخوف من الآخر لم يسيطر على فكر القاسم وحده، وإنما كان هاجساً عند كثير من الشعراء والأدباء والمثقفين العرب، وغيرهم من اليهود بشكل خاص والغرب بشكل عام ، يقول توماس بروسج، وهو كاتب رواية ألماني، يقول خلال حضوره معرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي عقد في بداية هذا العام : " إننا نعرف أنكم - العرب - لا يمكن أن تتفوقوا علينا علمياً أو تكنولوجياً أو حضارياً، ومع ذلك، إننا نخاف منكم، ونهابكم من بعيد ". يمكن الانطلاق من هاتين العبارتين ( لغوركي وبروسيج ) ، للحديث عن الخوف من الآخر، وبخاصة عند سميح القاسم، الذي يعيش وسط الآخر ويتعايش معه.

تكمن ملابسات الخوف عند القاسم في هذه القصة في أكثر من بعد، منها : الخوف من الجهل في عدم معرفة الفلسطيني بما يفكر به الآخر، وبخاصة الشخصية الفلسطينية، غير المتعلمة، الساذجة، يقول إبراهيم ( وهو عامل مطعم ) : " اسمع يا أمير، حين نصل تل أبيب، يصبح اسمي " أفراهام " لا إبراهيم، نريد أن نعيش يا أخي، فلا تدعني هناك إلا باسم " أفراهام " (ص18)، وهذه العبارة لها دلالات مختلفة بالنسبة لأمير المتعلم، فالخوف على لقمة العيش عند إبراهيم، بهذه الطريقة، التي تنتهي بأن يغير الإنسان اسمه، لم ترق لأمير،فهو قد نظر إليها من زاوية أخرى، فالشخص الذي يغير اسمه بهذه السهولة، ويتنازل عنه، قد يتنازل عن أمور أخرى أكبر، ويكمن الخوف عند إبراهيم أيضا من السياسة والحديث فيها "... ولكن لا تثرثر في السياسة، تشتغل، وتقبض أجرتك، ولا شيء أكثر في تل أبيب " (ص19)، فشخصية إبراهيم، لا همَّ لها سوى تأمين لقمة العيش، مهما كانت الوسيلة، وبغض النظر عن المبدأ؛ لأن إبراهيم معروفاً عنه، من أولئك الشباب الصايعين، الذين يكثرون من مرافقة اليهوديات"(ص44)، وهو في الوقت نفسه يرضى أن يكون لا شيء..." إذا أردت أن تكون هنا شيئاً، فعليك أن تكون لا شيء (ص24)، يكمن الخوف هنا على هذا الجيل الذي يفكر بنفسه فقط، وبهذه الطريقة الساذجة، التي قد ندفع جميعا ثمنها غاليا؛ بسبب سلوك هذا الجيل وتصرفاته، دون وعي أو إدراك؛ لأن هذا النوع من الشخصيات، يسهل استغلاله من الاحتلال، وتوظيفه لما يريد في تنفيذ مخططاته.

وقد تمثل الخوف عند الشخصية الرئيسة – شخصية أمير -، عندما طلب منهم أحد المسافرين اليهود أثناء سفرهما– هو وصديقه – ، في الحافلة قائلاً:" شيكت.... أتيم مفريعيم "... سكوت...أنتما تزعجاني ( ص 19 )، فهما كانا يضحكان، ولم يتوقفا، إلا عندما طلب منهم اليهودي ذلك، فسكت أمير، ولم يحتج على ما قاله اليهودي، فهل لو طلب منهم- وبخاصة أمير - شخص عربي السكوت بهذه الطريقة ؟ لاستجابا له ؟!.

ويبرز الخوف المتبادل، الخوف من الآخر، عندما طلب أحد اليهود من صاحب المطعم الذي يعمل فيه أمير، قائلاً : ما هذا يا بلابوس – ويعني صاحب البيت –، قل للحمار الذي يشتغل عندك، أن يضع مزيدا من الزيت على صحن الحمص....أنا يهودي مثلك، وتلقي بي في الخارج، ألا يكفي أنك تشغل العرب..... لا شك بأنك تحبهم، تحب العرب... إنهم يقتلون أبناء شعبك، وأنت تحبهم، أحرج البالابوس بعض الشيء، وتلفت حواليه وكأنه يعتذر( ص20،21) ، ويبرز في هذا المقطع، الخوف من العربي، كونه عربياً، على الرغم من أنه يقوم بخدمة اليهود في المطعم، وربما يسهر على راحتهم ، إلا أنهم لا يحترمونه، حتى الذين يستأجرونهم لا يثقون فيهم، وهذا واضح من خلال كلمة " أحرج البالابوس وكأنه يعتذر"؛ لأنه في داخل نفسه يخاف من العربي، ولا يأتمنه، فالعلاقة بين اليهودي وعماله العرب، قائمة على المصلحة المتبادلة فقط، فلا يثق أحدهم بالآخر، وخاصة اليهودي، أما نحن فللعاطفة مكانتها في نفوسنا .

ولعل مظاهر الخوف، الخوف المتبادل، لم يكن فقط بين العرب واليهود، وإنما نجد في هذه القصة، تلك الرواسب التي حملها اليهود معهم من ألمانيا، إبان الحكم النازي، وجاء هذا واضحا على لسان أكثر من شخصية، سواء بشكل مباشر، أو من بشكل سلوكي لا إرادي، فعندما كانت روتي تشاهد فيلماً في السينما مع أمير، تدور أحداثه حول الحرب العالمية الثانية " بدأ المشهد: جند نازيون يلهون في إحدى غرف المعسكر، يأتي زميل لهم بفتاة يهودية، ويدخل معها إلى غرفة مجاورة، بعد قليل يعود، فيسأله أحد زملائه بسخرية :" هل هي عذراء "، فيرد بسخرية مباشرة : " كانت عذراء ". فجأة ، سحبت روتي يدها، فصعد الدم ساخناً إلى صدغي أمير" ( ص 38 )، فروتي هنا، قارنت بين العرب والنازيين، بشكل سريع تلقائي، من خلال الصورة التي رسمت في مخيلتها عن العرب، واسترجعت الزمن الماضي، المرسوم في مخيلتها عن النازيين، وربطته من خلال المشهد، بالصورة المرسومة عن العرب وسلوكهم.

وتمثَّل خوف اليهود هنا – وتمثلهم روتي- من جهتين، الرواسب من الحكم النازي من جهة، الماضي، والعرب الذين يسكنون بجانبها، الآن، الحاضر، زمن معايشتها لأمير، فخافت من أمير وسحبت يدها من يده ، يؤيد هذا أيضاً، ما قاله اليهودي " السكران " الذي طرد من المطعم، وخلال خروجه من المطعم، كادت سيارة أن تداهمه، فقال له تلقائياً : " كدت تدهسني يا ابن....... الألمان بأنفسهم، لم يتمكنوا من قتلي " (ص21).فالخوف لم يتمثل في خوف العرب من اليهود أو العكس فحسب، من خلال الصورة الحالية، وإنما من خلال تلك التراكمات المشوهة ( أحيانا ) عند كل شعب عن الآخر، ونقلها من جيل إلى جيل، بالصورة ذاتها أو تطويرها.

ونلاحظ أيضاً موقف الأم البسيطة، غير المتعلمة، والتي لم يتشكل عندها الوعي باليهود من خلال الفهم السياسي الناضج، وإنما فقط من خلال ما سمعته عنهم عن طريق الرواية والمشافهة، فبنت صورة متخيلة عنهم، وعن أساليبهم ، وجاء موقفها عنهم في حالتين وموقفين، برؤية مرسومة مسبقاً، تقول : " الله يغضب عليهم أولاد الحرام، شهادتك وسع الملحفة، وما من عمل " (ص9)، وتقول عند أول زيارة لروتي لبيت أمير: أهلاً وسهلاً يمة....بيتنا مفتوح لكل الأوادم...ليش لأ..أصابع إيدك مش مثل بعضهم....الدنيا ملآنة ملاح وعاطلين"( ص46).

وهذا الموقف يدل على أن هناك، في المخزون الذهني، صورة مرسومة، مستوحاة ومشكَّلة من قبل عن اليهود العاطلين، ولكنها من واقع كرمها وعروبيتها، لم تُرد أن تعاتب أمير؛ لأنه أحضر فتاة يهودية، فهي كبيرة السن، وسنها قريب من سن " أبي سليم" الذي رأى في روتي، خلال زيارتها للقرية مع أمير، لا هدف لها، سوى أنها ستغوي أمير وتضحك عليه، وفي النهاية، تأخذ أرضه "....عبد الله كان أمير، وضحكت عليه يهودية...أكيد أنها هذه السائبة، حطت عينها على شقفة أرض هذه البلد.."(ص45)،وهنا تتفق الصورة عند أبي سليم والأم في التشكيل، فكلمات الأم : أولاد الحرام – العاطلين – بيتها مفتوح للأوادم ( وفي ذهنها غير الأوادم ) – أصابع اليد ليست متشابهة ( وتقصد السيء منها )، كلها إشارات توحي بأن هؤلاء في مخيلة هذا الجيل، يوضعون في الجانب الآخر، الجانب المظلم السيء، "وهنا تكمل التجربة الحياتية، المتمثلة في أن التقاء العرب واليهود اليومي، يمكن أن يغير كثيراً من الآراء المسبقة، التي اكتسبها كل طرف عن الآخر، من خلال الاستماع أو القراءة "( الأسطة، 1992 :ص 109 ).

بدأت الصورة المشكلة ذهنيا من خلال المدرسة والشارع والجامعة عن العرب، بدأت تتغير عند روتي – في الرواية - ، من خلال مقابلتها للشخصيات العربية المتعلمة، وعلى رأسهم أمير، ولم يكن عبثاً، أو من قبيل المصادفة، أن يقيم الكاتب الحوار بين شخصيتين متعلمتين، وهذا الأقرب إلى المنطقية والواقعية من غيرها، بالنسبة للأجيال التقليدية، التي استندت على أفكار مسبقة ومتوارثة في رأيها بالآخر، واتخذت موقفاً سلبياً منه، ولا تريد أو تحاول تغييره أو النظر فيه أو مناقشته.

وقد بدا هذا التحول واضحاً في قول الكاتب :"... تتضعضع ثقتها بالمسّلمات العديدة التي حشو رأسها بها من البيت إلى حديقة الأطفال إلى الجامعة..." (ص44)، وراحت تناقش والدها ساخرة من ألبومة...فثار ثورة عارمة، واتهمها بالشيوعية، وحذَّرها من العودة إلى مثل هذه الدعاية السامة( ص41).

ويبرز أيضاً خوف اليهودي من النازيين، فعندما جادلت أباها في رفضها العلاقة مع اليهودي " الشكنازي "، وأنها قد انفصلت عنه، ولا تريده؛ لأنه يخدم في الجيش، برزت الصورة التقليدية المكروهة عن العرب في قوله"...لولا الجيش لكنت الآن سبية في حريم الأمراء العرب" (ص56)، ويبرز هنا استرجاع الزمن إلى الماضي البعيد، من خلال كلمة السبي، فاستحضار الصورة التراثية، سبي النساء، ما زالت تخيفهم. ويبرز في القصة أيضا الخوف من اليهود، فيما بينهم، الغربي والشرقي، ظهر ذلك واضحا من خلال كلام والد روتي، عند حديثه عن اليهود ذوي الأصول الشرقية، إذ وصفهم بأنهم ".... لا يحسنون سوى التكاثر كالأرانب...يرتكبون الجرائم" (ص56 )، فهؤلاء عاشو مع العرب، فاكتسبوا شيئا من صفاتهم السيئة، فأصبحوا مجرمين.

هذا الكلام وَلَّد عندها ردة فعل من خلال النقاش والجدال، الذي وضحه لها أمير، إذ أنه لا يكره اليهود؛ لأنهم يهود، بل لأنهم أرادوا حلاً لمشكلتهم مع النازيين، على حساب شعب آخر، وهي مقتنعة تمام الاقتناع، بأن اليهود أيضاً كانوا منبوذين ومتفرقين، وكان لهم أفعال مشينة وسيئة، ربما هي التي سببت كره العالم لهم، وأرادت إثبات ذلك، إذ أحضرت لوالدها كتاب هتلر – كفاحي – وقرأت منه: " يتربص الولد اليهودي ذو الشعر الأسود بالفتاة البريئة، طيلة ساعات، وعلى وجهه سمة من الفرح الشيطاني، إنه يدنسها بدمه، ويسلبها بذلك من شعبها" ( ص57)، ويتجلى هنا الخوف من الآخر، في خوف الألمان من اليهود، وهذا ما أرادت إثباته لأبيها، بمعنى، إذا كنتم تخافون العرب؛ بسبب أعمالهم السيئة، كما تدعون، فالألمان كانوا يخافونكم؛ بسبب أعمالكم السيئة أيضا. ولكنها في النهاية تتراجع عن هذا الاندفاع " لا..لا.. من نحن حتى نتحدى كل هذه الرواسب والتراكمات البشعة"(ص67).

ومن مظاهر الخوف التي برزت في القصة الخوف من المستقبل، وبخاصة المستقبل الغامض المجهول للجيل القادم، جيل علي " علامات ممتازة، صحة جيدة، رغبة جامحة، وطريق مسدود، كل الجامعات التي توجهت إليها رفضتك" (ص58)، وهذا أيضاً جاء على لسان أمير في قوله : " والغلاء يتفاقم يوماً بعد يوم، والقلق يكبر يوماً بعد يوم..."(ص15،16). والخوف بكل أبعاده من الآخر، والمجهول من هذا الآخر ، يتجلى بشكل واضح في القصة، فاليهود كانوا، وما زالوا، يخافون من العرب، والعرب يبادلونهم الصورة ذاتها، والألمان كذلك مع اليهود والعكس، والعرب مع الآخر والآخر مع العرب. وهذه قضية، كما قلت في البداية، قديمة جديدة، تناولها أكثر من كاتب.

وأرى هذا السلوك، وهذا الشعور بالخوف، والخوف المتبادل، أراه قضية منطقية طبيعية؛ بسبب اختلاف الفكر والعقيدة والمبدأ، واختلاف الرؤى والأهداف، واختلاف العادات والتقاليد، ومفهوم الأخلاق؛ ولأن هذه العوامل كاملة، هي التي شكلت الإنسان العربي، هي ذاتها، التي شكلت الآخر، ولكن من زاوية أخرى ومن مفهوم آخر، فتجلى الخوف عندنا وعندهم كل من الآخر.

()()()()()

في حوار مع الشاعر الكبير سميح القاسم:

حوار: الشاعرطلعت سقير

الإنسان الضعيف تسكره النجومية وتفقده القدرة على الا تزان
تتفاوت أدوات التعبير بتفاوت الزمن والتجربة
هناك نقاد ساعدوني على معرفة ذاتي، أعني النقاد الذين لم يقتصر نقدهم على المعنى
آمنت دائماً أن الدراما هي عنصر جوهري وأساسي في العمل الشعري
في طفولتي عايشت مناخات وأجواء متعددة ومدهشة
لايتحول الشاعر إلى رمز إلا من خلال قصيدته
الحضور الأساسي للقصيدة وليس للشاعر
أحبُّ المغامرة الفنية وأمارسها بكامل حريتي
وكان الشعر عنقود فرح.. كان صرخة غضب.. وكان كما قال روزنتال: «إن الحياة التي تخلو من الشعر لهي حياة غير جديرة أن تعاش»، أو كما قال جان كوكتو: «الشعر ضرورة وياليتني أستطيع أن أعرف لماذا» أو على رأي سومرست موم: «الشعر هو تاج الأدب، هو غايته ومنتهاه. إنه أرقى فعل يقوم به العقل البشري».. وكان لابد من لقاء الشاعر الكبير سميح القاسم ـ حاورته يوم الأحد 19/11/2000 ـ الشاعر الذي أعطى الشعر صفوة الروح والعمر، فانتصبت القصيدة شجرة عطاء لاينضب..

ربما يبقى القول الأوجز في تعريف الشاعر الإنسان، والشاعر الصديق سميح القاسم، متمثلاً في أنه لايبرح الشباب وعنفوان الإنسان الممتلئ بالحيوية والمرح والأمل، ليكون شاعر المقاومة ورئة الكلمة الصامدة.. ويطول الحديث مع الشاعر الكبير سميح القاسم..

أقرأ من دفتر شعره:

طعام الشهيد يكفي شهيدين

يا أمنا الريح .. ياهاجر المتعبه

أعدي الطعام القليل لأبنائك العائدين على عربات المنافي

خذي كفني شرشفاً للأواني العتيقة

قومي افرشي للضيوف الأحبة كوفيتي..

إنهم متعبون جياع

أعدي لهم وجبة من بقول الخراب

أعدي كؤوس العذاب

وإبريق أحزانك المرعبه

سيجمعنا الخبز والملح عما قريب

وتجمع أشلاءنا لقمة العودة الطيبه

وأفتح دفتر أمسية شاعرنا سميح القاسم التي امتد فيها الحضور دالية شغف.. ويحدثني عن علاقته الجميلة بالجمهور، عن القصيدة التي تشعل فتيل التواصل، فيكون الشعر أغنية ممتدة من الأعماق للأعماق..

وإذا أردنا أن نوجز في التعريف عن شاعر مثل سميح القاسم نقول إنه عرف بمقاومته الدائمة للاحتلال الإسرائيلي، وسجن مرات عديدة، وفرضت عليه الإقامة الإجبارية والاعتقال المنزلي وطرد من عمله عدة مرات بسبب نشاطه الشعري والسياسي.. اشتغل معلماً وعاملاً وصحفياً.. أسهم في تحرير «الغد» و «الاتحاد» ثم رئس تحرير مجلة «هذا العالم» عام 1966، ثم عاد للعمل محرراً أدبياً في «الاتحاد» وسكرتيراً لتحرير «الجديد» ثم رئيساً للتحرير.. وأسس منشورات «عربسك» في حيفا مع الكاتب عصام خوري عام 1973، وفيما بعد أدار «المؤسسة الشعبية للفنون» في حيفا.. وهو اليوم رئيس مجلس إدارة تحرير «كل العرب» الصادرة في الناصرة، ورئيس تحرير الفصلية الثقافية «إضاءات»..

صدر له أكثر من أربعين كتاباً في الشعر والقصة والمسرح والمقالة.. وصدرت أعماله في سبعة مجلدات عن ثلاث دور نشر في القدس وبيروت والقاهرة.. ترجم عدد كبير من قصائده إلى الانجليزية والفرنسية والتركية والروسية والألمانية واليابانية والإسبانية واليونانية والإيطالية والتشيكية والفيتنامية والفارسية ولغات أخرى.. حصل على الكثير من الجوائز عن شعره منها «غار الشعر» من اسبانيا، وجائزة البابطين للإبداع الشعري.. وأسأل..

l بعيداً عن المقدمات المعروفة في الأسئلة، أدخل مباشرة إلى صلب الموضوع لأطرح موضوعة تقول كيف ينظر سميح القاسم إلى مسيرة شعره.. ليتك تستحضر الناقد عندك؟؟..

ll يجوز القول إن الشاعر هو أفضل ناقد لنتاجه، وهو أسوأ ناقد لنتاجه في الوقت نفسه.. أميل إلى إعفائي من الحالتين.. لكن استجابة لإلحاح سؤال كهذا أستطيع القول أو التحدث عن الأمور العائمة على السطح، كتحول القصيدة من الإيقاعات الحادة والألوان الزاهية والقوية في مرحلة الصبا والشباب، إلى حالة التداخل الإيقاعي والتداخل اللوني.. خفوت الصوت بعض الشيء واقتحام ألوان الشك لمواقع اليقينية المطلقة التي تميز روح الشباب.. لكن يبقى هناك الخط السري الذي يصل بين القصائد الأولى والقصائد الجديدة بدون شك.. بكلمات أخرى تتفاوت أدوات التعبير بتفاوت الزمن والتجربة وتراكم معرفي ووجداني هو من طبيعة الحياة.. ويبقى الهاجس الأساسي، هاجس الحرية والعدل الإنساني، بحيث يشتبك السياسي بالوجداني بالمجرد بالمطلق، والشك باليقين.. هذه سمة تجربتي بخطوط عريضة بين الأمس واليوم..

l تأخذني هنا للسؤال عن النقد والنقاد.. كثيرون تناولوا شعرك.. تجربتك الشعرية درست بغزارة.. هل وصل النقاد إلى العمق.. ماذا أخذت من هذا النقد، مارأيك فيه؟؟

ll هناك نقاد ساعدوني على معرفة ذاتي بدون شك وأعني النقاد الذين لم يقتصر نقدهم على المعنى، ولا على الخطوط العريضة في الشكل، بل تعمقوا في هذه التجربة واستشفوا أموراً تتصل بالذات بالسايكولوجي، باللغة.. وعلى سبيل المثال فوجئت بدراسة كبيرة من ناقدة وباحثة أمريكية هي الأستاذة تيري دي يونك التي كتبت دراسة عميقة وهامة بعنوان «سميح القاسم وتحديث الجناس» حيث نظرت في تحديث الجناس العربي في قصيدتي، وبهذا لفتت نظري إلى مسألة كنت أعيشها دون أن أنتبه لها، وهي مسألة المحاولة المستمرة لتكوين حداثة على أسس تراثية أصيلة، حداثة لاتتنكر للماضي، ولاتتقزم أمام حداثة الآخر الغربي أو الأجنبي، لكن تكون ذاتها من خلال التجربة في سياق عملية الكتابة وبالرجوع بقدر كبير من الحب والحنين إلى مقومات فنية متوفرة في تراثنا بشكل ملحوظ..

l في شعرك دراما.. لنقل هناك إصرار على محاورة الذات الخارجة عن الذات الشاعرة، أي ذات المتلقي.. هذا يشدّ السامع أو القارئ؟؟

ll آمنتُ دائماً بأن الدراما هي عنصر جوهري وأساسي في العمل الشعري، وقد يعود ذلك إلى بدايات ثقافتي الشعرية، قد يعود ذلك مثلاً إلى مغني الربابة الذي سمعته في بيت جدي، وتتبعت أداءه عبر وجو الحضور.. أيضاً أنا أحب المسرح، وقد كتبت المسرح من وقت لآخر. فمن الطبيعي أن يكون العنصر الدرامي قائماً، وهي مسألة أشار لها معظم النقاد الذين كتبوا عن تجربتي.. نعم إنه شديد الحضور في قصيدتي.. والعنصر الدرامي حتى في صيغة المونولوج يفترض ويستدعي الآخر..

l ألاحظ أن قارئك ومستمع شعرك يعيش فسحة الشعور بأنه كاتب القصيدة، مشارك في صياغتها، كأن القصيدة تنبع منه هو.. ألا تطرح هذه النقطة تساؤلاً؟؟..

ll أنا معك في ذلك.. هنا تدخل نظرية التقمص.. وهي نظرية بدون شك تنبع من خلال تراث الموحدين وقد كان لي أن نشأت في بيئة مدهشة في تنوعها وتعدديتها.. نشأت بين جد فقيه علامة في شؤون الدين وجد علماني حداثي بشكل متطرف.. في الحقيقة في طفولتي عايشت مناخات وأجواء متعددة ومدهشة في رحابتها وفي ثرائها، وهذا بطبيعة الحال انعكس أيضاً في تجربتي، وهذا ماساعدني بعض النقاد على رؤيته من أنني أستفيد كثيراً من الرموز الدينية القرآنية والتوحيدية والمسيحية وحتى من البوذية ومن ديانات قبائل الإنكا.. قصيدتي بالطبع لاتستطيع أن تكون إلا علمانية كصاحبها، لكن لم تجد هذه القصيدة غضاضة في وجود هذا التداخل، هذا التنوع الجميل في رأيي بين القرآن الكريم وأبي ذر الغفاري وكارل ماركس وابن خلدون.. جمعت مايبدو مجموعة من التناقضات، لكن هذه التناقضات وجدت صيغة من التناغم، من التعايش، من خلال تجربتي..

l هناك شعراء يتحولون إلى رمز، أنت واحد منهم..

ll لايتحول الشاعر إلى رمز إلا من خلال قصيدته.. في الحقيقة الشاعر يستفيد من «قصيدته» في هذا.. الحضور الأساسي للقصيدة وليس للشاعر.

l ربما أشير هنا إلى هذا التواصل والتماهي الحميم بينك وبين الجمهور.. ومن ثم فالشاعر هو صاحب القصيدة؟؟..

ll أولاً أنا سعيد بهذا التواصل الحميم بين قصيدتي والجمهور.. وهذه المشاركة تنجم أيضاً عما يجوز تسميته بالتماهي بين ذاتي وذات الآخر.. هناك شيء من التماهي لم أخطط له.. لكن كما يبدو من ردود الفعل على هذه القصيدة يبدو أن هناك تماهياً إنسانياً ووجدانياً وفكرياً أيضاً بيني وبين عدد كبير من الناس..

l في سنوات مضت اعتبرت غزيراً في نتاجك، ثم بدأت في الإقلال والتأني.. برأيك ماهو سبب التحول إلى الإقلال؟؟

ll أعتقد أن هناك خطأ بصرياً في الشطر الأول من عمري، ربما كنت أكتب القصائد بالمقاييس العادية وبتوهج الشباب.. كل قضية تصادفني تتفجر من خلال قصيدة.. بمرور الزمن تصورت لدي صيغة السربية أو المطولة حيث ظهرت سربيتي الأولى «إرم» لكن لم أعتمدها شكلاً أساسياً إلا في العقدين الأخيرين.. وهذا الشكل من المطولات الشعرية السربيات التي تقوم على التداعي ولاتقوم على وحدة الشكل، تقوم على تعددية الحالات واللمحات والإيقاعات والأشكال، لكن ينتظمها هاجس واحد أساسي من بدايتها حتى نهايتها مع تشعبات واستطرادات كثيرة في الشكل وفي المضمون وفي الصور. هذا هو الشكل الذي أسميته بالسربية والذي كما يبدو استراح له عدد من الشعراء، من أصدقائي الشعراء، ومنهم شعراء كبار تبنوا هذا الشكل وكتبوا به.. لذلك أصبحت عناويني أقل غزارة.. لكن العمل الشعري حافظ أو ربما صعد من وتيرته..
أقرأ هنا في كتابك الشعري الجميل:

تقدموا.. تقدموا

كل سماء فوقكم جهنم

وكل أرض تحتكم جهنم

تقدموا..

يموت منا الشيخ والطفل

ولايستسلم

وتسقط الأم على أبنائها القتلى

ولاتستسلم..

تقدموا..

بناقلات جندكم..

وراجمات حقدكم

وهددوا..

وشردوا..

ويتموا..

وهدموا..

لن تكسروا أعماقنا

لن تهزموا أشواقنا

نحن قضاء مبرم..

l من قصيدتك «رسالة إلى غزاة لايقرؤون».. أسأل: الانتفاضة كتبها سميح القاسم بتميز.. ماأثرها على أدبك بشكل عام، وعلى أدبنا الفلسطيني بامتداده؟؟..

ll هناك نقاد كثيرون بحثوا عن إرهاصات الانتفاضة في قصائدنا، في الشعر العربي الفلسطيني، وألمحوا إلى مقاطع وإلى أبيات وإلى قصائد كأنما بشرت بالانتفاضة وحرضت عليها، وهذا اقتراح مشروع ومبرر عند الناقد.. لكن الانتفاضة الأولى لم أكن مراقباً فيها بل أتيح لي أن أشارك في بعض فعالياتها. لذلك قصيدة «رسالة إلى غزاة لايقرؤون» كانت من قلب الحدث وعرفت بشكل واسع..

l أعتقد أنها قصيدة الانتفاضة، وأنها أول قصيدة عن الانتفاضة؟؟

ll كانت أول عمل شعري متكامل كتب في قلب الانتفاضة، وبدأت إيقاعاته على إيقاع قنابل الغاز والرصاص المطاطي والشظايا التي كانت تتطاير من حولي في القدس.. إيقاعاتها بدأت هناك.. أخذت إيقاع الشارع وإيقاع المظاهرة ورائحة الغاز المسيل للدموع التي دخلت رئتي.. كأنما كل هذه الأمور كتبت نفسها في هذه القصيدة.. رغم البساطة الظاهرية والمباشرة الفنية الموجودة فيها دون شك..

l إنها من نوع الشعر الذي نطلق عليه تسمية السهل الممتنع؟؟

ll قد تكون تسمية السهل الممتنع هي التسمية الأدق نعم.. بحيث يعتقد كل قارئ أنه يستطيع أن يكتبها، ولكن اكتشفت أنا شخصياً أنني لاأستطيع أن أكتبها مرة أخرى.. لاأستطيع أن أكتب مثلها مرة أخرى.. هذه القصيدة لم تكن من خارج الانتفاضة، بل كانت من داخلها وكانت إيقاعها وكانت لحمها وكانت دمها، لذلك بقيت وترددت كثيراً.. هي قصيدة الانتفاضة بالفعل.. في كل أمسية شعرية أطالب بقراءتها، أحياناً أشعر بضيق، أريد أن أقرأ شيئاً جديداً مختلفاً، ويصر الجمهور على قراءتها.. أحياناً أدعي أنها ليست معي لأتهرب..

l لكن لاتنسى أن الجمهور صار يحفظها.. فهو يردد معك ماتقرأ حين تقرأها..

ll نعم حين أقرأ هذه القصيدة يرددون معي.. نعود لشعر الانتفاضة بشكل عام.. ليس بالضرورة أن كل مايكتب عن الانتفاضة هو شعر جيد، وليس بالضرورة أن يكون الموضوع العادل والجميل والجيد كافياً لتبرير قصيدة. هناك قصائد جيدة كتبت عن الانتفاضة، وهناك قصائد رديئة كتبت عن الانتفاضة. الانتفاضة تحولت إلى هاجس ليس في الشعر الفلسطيني فحسب بل في الشعر العربي ككل، لأنها تحولت من حدث سياسي إلى هم قومي ووطني وإنساني.. فوجئت في بلجيكا بشاعر يقرأ لي قصيدة عن الانتفاضة باللغة الفرنسية، فوجئت بألمانيا بشاعر ألماني يقرأ لي قصيدة عن الانتفاضة بالألمانية.. فوجئت في أكثر من بلد أجنبي بشعراء وشاعرات كتبوا قصائد بعنوان «انتفاضة» لفظ الكلمة بالعربية وبحروف أجنبية..

l قد أقف هنا عند نوع من الأدب الإسرائيلي الذي كتب عن الانتفاضة.. ماذا نقول عن هذا الأدب أو هذا النوع؟؟

ll ليس لدي قدر كاف من العنصرية بحيث أنفي الصدق عن كل ماكتب، قد يكون هناك شاعر عبري شعر بالفعل بالإهانة من تصرفات دولته وجيشه وشرطته واستفذ وكتب قصيدة صادقة، قد يكون ذلك.. لكن على العموم تظل الكتابة العبرية بمعظمها نوعاً من تبرئة الذمة، تسجيل موقف، ولم يزل هناك وقت حتى يتحول الإنسان الفلسطيني والإنسان العربي إلى هم حقيقي أو إلى نقطة قلق عند الكاتب الإسرائيلي.. ما زال يكتب بفكره وبآرائه وأشك في أن يكون الإنسان العربي قد تحول إلى هم وجودي عند الكاتب العبري..

l قيل الكثير عن الأدب المقاوم، لن أدخل في التوصيفات الجاهزة.. لكن هناك من رأى بشيء من الغباء ربما أن الأدب المقاوم كله سيطير بنفخة حين يحل السلام.. أصر على أنه رأي عجائبي.. لكن هنا أريد أن أسألك ماذا تقول عن هذا الأدب حاضراً ومستقبلاً؟؟.

ll لنقل لهذا الرأي العجائبي أولاً ليسترد شعبنا حقوقه وليطر أدب المقاومة في الهواء!!.. نحن لم نطلب النكبة ولم نطلب النكسة ولم نطلب الكوارث لنقاومها ولنكون شعراء مقاومة.. وثانياً نحن لم نطلق على أنفسنا شعراء المقاومة أو أدباء المقاومة التسمية أطلقت علينا من الخارج ونعتز بهذا اللقب، وأولئك الذين يقفون هذا الموقف من أدبنا هم محرجون، نظروا لنوع آخر من الأدب ولم تقدم نظرياتهم إبداعاً استحق الحياة أو استحق الوجود، بالمقابل ظهرت ظاهرة شعرية وأدبية أقبل عليها الشعب العربي والقارئ العربي وعانقها وأحبها واحتضنها وحفظها عن ظهر قلب، لذلك اعتبروا هذا الأدب كأنما هو صخرة تحطمت عليها أمواجهم وتطايرت عليها رذاذاً.. أنا مع تعايش التجارب الأدبية، ليبدع كل من شاء كيف شاء، لاأضع مواصفات للشعر ولا للنثر ولا للنقد، أقول قصيدتي كما يقولها زملائي، بتجربتنا، بطاقتنا الفنية، بوعينا وبوجداننا، ونتابع الحياة كما ينبغي أن نتابعها، ولكن كما يبدو فإن السلام والحرب معاً لا يستطيعان محو وجدان شعب وذاكرة شعب، نرجو أن تنتهي الانتفاضة إلى نصر وألا يضطر شعبنا إلى الانتفاض على الاحتلال طبعاً من خلال زوال الاحتلال.. لكن أعتقد أن جمهور الشعر العربي سيحن دائماً إلى نماذج كثيرة من شعر الانتفاضة وسيحفظها عن ظهر قلب بمثل مايحفظ صورة جده وجد جده، مضى الأجداد من العالم ومازالت صورهم في قلوبنا وفي منازلنا وفي دفاترنا وفي مكتباتنا، لذلك أعتقد أن التعامل النقدي مع هذه التجربة يجب أن يكون أرقى وأكثر صدقاً وبعيداً عن العقد الذاتية والإحباطات والشعور بالقزامة أمام هذه التجربة أو تلك..

l حبك للتجديد واضح جلي في شعرك ونثرك.. مامفهومك للتجديد من جهة وللحداثة من جهة أخرى؟؟..

ll أنا بطبعي ملول، هذا ينعكس على تجربتي.. لاأحب التكرار، أحب المغامرة الفنية وأمارسها على مزاجي وبكامل حريتي وأحترم حس الآخرين بالمغامرة الفنية.. لذلك من الطبيعي أن يلتقي في تجربتي المناخ الكلاسيكي بالمناخ الحديث، السريالية بالواقعية الاشتراكية.. هذه شخصيتي في الحياة..

l أخيراً أنت من الأسماء القليلة جداً التي عرفت بشكل واسع لتكون نجماً.. أسأل ماتأثير النجومية على شعرك وأدبك.. ألا تشعر بأن حب الناس يحاصرك ويطالبك بالمزيد دائماً؟؟..

ll تسمية النجومية تسمية من خارجنا.. أما تأثير هذه «النجومية» ـ أصر الشاعر سميح القاسم على وضعها بين قوسين ـ فربما لاشيء، فهي لاتؤثر على القصيدة وعلى السلوك الشخصي.. برأيي فقط الإنسان الضعيف، ضعيف الشخصية، تسكره النجومية وتفقده القدرة على الاتزان.. الأمر الأساسي عندي هو هذا الاكتشاف الجميل لأصدقاء لقصيدتي، في كل مكان أذهب إليه هناك أصدقاء محبون أوفياء لهذه القصيدة وهذا عزائي الوحيد..

وتبقى القصيدة طائر العمر ونسمع من الشاعر القاسم:

هلا .. ياهلا

إلى عرسنا .. أولاً ..

إلى شمسنا .. أولاً ..

إلى قدسنا .. أولاً ..

هلا .. ياهلا ..

بأبيض

أسود

أخضر

أحمر

طعام الشهيدة يكفي شهيدين

والله أكبر

الله أكبر

الله أكبر..

()()()()()

الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم نضالي سبق جميع الفصائل
غازي ابوكشك - القدس المحتلة

قال الشاعر الفلسطيني المعروف، سميح القاسم، إن اسرائيل 'حالة تاريخية طارئة على المنطقة'، مؤكدا أنه ' غير مغادر لبيته الصغير على سفوح جبل حيدر في الجليل تمسكا بنبوءة ووعد اجداده بان الحياة والموت تتوقف في هذا المكان'.

ورفض القاسم أن يبدي تأييدا أو معارضة لأحد الفصيلين الفلسطينيين فتح وحماس. وقال إن تاريخه الشعري والفكري والسياسي والنضالي سابق لهذين الفصيلين. ويعد سميح القاسم من أبرز شعراء فلسطين، وقد ولد لعائلة درزية فلسطينية في مدينة الزرقاء الأردنية عام 1929، وتعلّم في مدارس الرامة والناصرة. وعلّم في إحدى المدارس، ثم انصرف بعدها إلى نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي قبل أن يترك الحزب ويتفرّغ لعمله الأدبي. سجن القاسم أكثر من مرة كما وضع رهن الإقامة الجبرية بسبب أشعاره ومواقفه السياسية.

نضالي يسبق فتح وحماس وحول تاريخه النضالي وموقفه من الصراع بين حركتي فتح وحماس، قال القاسم إنه 'لا يبدي تأييدا أو معارضة لأحد الفصيلين الفلسطينيين، وإنه دخل سجون إسرائيل من أجل الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية قبل ظهور تلك الأسماء والمسميات'.

وأضاف: 'أنا لست مع فتح ضد حماس ولست مع حماس ضد فتح ولكن كل ما آمله أن تكون فتح وحماس معي، أي مع الشعب المطمور والمهمش والمغلوب على أمره والمحروم من حقه الطبيعي في الاستقلال والحرية والديمقراطية والبناء والتقدم لذلك أنا غاضب جدا على هذا الوضع ومستاء جدا من هذا الوضع العبثي الاستثنائي في قانون القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني'.

وقال إن اسرائيل حالة تاريخية طارئة على المنطقة وانه غير مغادر لبيته الصغير على سفوح جبل حيدر في الجليل تمسكا بنبوءة ووعد أجداده بأن الحياة والموت تتوقف في هذا المكان.

وحول ما إذا كان هناك شعراء وأدباء إسرائيليون تحدثوا ضد جيشهم ودولتهم وأيدوا الانتفاضة، قال الشاعر القاسم ان هناك شعراء اسرائيليين يهود وبعضهم صهاينة أيضا كتبوا قصائد أبدوا فيها تعاطفا مع الشعب الفلسطيني ومع الانتفاضة وعارضوا سياسة حكومتهم بشجاعة.

ودعا القاسم إلى الخروج من التعامل بعنصرية قائلا: 'نحن لا نستطيع أن نكون عنصريين فهذه ليست حضارتنا ولا هي ثقافتنا، نحن أبناء الثقافة العربية الإسلامية، أبناء حضارة منفتحة، وأنا أرفض الدعاوى العنصرية'. 'لست طهوريا' وعن وجود المرأة في أشعار سميح القاسم، قال الشاعر: ' قصيدتي هي حياتي وهي أنا، المرأة موجودة بكثافة في قصيدتي لأنها موجودة في حياتي أيضا ، لست طهوريا ولست ممن يقولون أنا تزوجت الثورة وأنا تزوجت الوطن، هذا كلام إنشائي وغير صادق فأنا رجل وأنا إنسان لذلك من الطبيعي أن يكون حضور المرأة مكثفا في قصيدتي وفي حياتي'.

وفيما يتعلق بالدين وانعكاسه على أشعار سميح القاسم خاصة أنه يمتد من أصول درزية، أكد الشاعر أنه ليس قبليا وليس من الجاهليين الجدد رغم اعتزازه بعائلته العريقة والكريمة وذات التاريخ المشرف حسب وصفه.

وأضاف 'أعتز بالانتماء لعائلة عريقة وكريمة، تاريخها مشرف وجدها الأول من فرسان صلاح الدين الأيوبي كما أعتز بالطائفة المعروفية في بني معروف بتاريخهم المناضل والمشرف وفي مواقفهم القومية دفاعا عن العرب والمسلمين عبر تاريخهم الكلي ولكن هذا لا يضعني في قوقعة العائلة أوالطائفة أو المذهب أو الدين أو حتى القومية'.

اسرائيليات تتكلم بالعربية وعن نظرته لدولة إسرائيل، قال الشاعر القاسم إن إسرائيل حالة تاريخية نشأت في ظرف تاريخي محكوم بفضيحة 'سايكس بيكو' التي تبناها المسؤولون العرب لافتا إلى أنه وفي هذا 'الإطار السايكس بيكوي' وفي هذا المناخ من الوضاعة والحقارة والدناءة ليس غريبا أن تنشأ عجائب في الجغرافية وفي السياسة أيضا. وتابع 'كل حدائق سايكس بيكو هي اسرائيليات تتكلم بالعربية إلى جانب إسرائيل تتكلم العبرية'.

وحول آراء بعض المتشددين الإسرائيليين أمثال ' أفيكدور ليبرمان' الذين دعوا إلى إقامة دولة يهودية وطرد العرب من إسرائيل، قال القاسم إنه ' على مدى التاريخ واليهود يتحدثون عن خراب الهيكل الأول وخراب الهيكل الثاني وأحلام إقامة الهيكل الجديد على أنقاض قبة الصخرة والأقصى كما يتحدثون عن الكراهية الذاتية' ولكن السؤال الذي يجب أن يطرح نفسه حسب الشاعر القاسم 'ليس ماهية مصير شعبنا الآن بل ما هو مصيرهم هم؟ إن كانوا قادرين على طردنا من الوطن وإذا أصروا على أن يكونوا الجزيرة المجنونة التي تعادي المحيط فسيفقدون ذاتهم مرة أخرى'.

قصيدة الانتفاضة وحول قصيدته 'الانتفاضة' قال الشاعر سميح القاسم إن كلمات تلك القصيدة تندرج تحت إطار السهل الممتنع وأنه بذاته لن يستطيع أن يكرر كلماتها مرة أخرى مبررا ذلك بأن الحالة التي كتبت بها تلك القصيدة لا تتكرر.

وقال القاسم: ' أن القصيدة هي نشيد الانتفاضة الأول وقد يكون الأخير أيضا لأنني لا أستطيع أن أكرر الحالة' مشيرا إلى أن بداية القصيدة تشكلت بمظاهرة ضخمة .. 'مظاهرة السلسلة البشرية' حول القدس العربية. وتابع 'تعرضت المظاهرة لإطلاق نار مطاطي وحي وقنابل غاز وكنت بين هؤلاء وكان مصابون من حولي وأنا شخصيا تعرضت لجرعة قوية من الغاز ومن هنا جاءت كلمات القصيدة.. لعلها كتبت نفسها، وأنا بطبيعة الحال لا أكرر نفسي'.

وفي رده على سؤال حول إنتاجه الشعري الذي كان في الماضي أكثر غزارة والسبب وراء تحوله إلى الإقلال في الشعر، أكد القاسم أنه ليس مقلا على الإطلاق بل هو الشاعر الأكثر غزارة بالعالم حسب تعبيره. وأشار إلى أن المشكلة تكمن في أنه مقيم في وطنه حيث تنقطع وسائل الإعلام العربية ما يجعل الآخرين يعتقدون أنني مقلا في أشعاري. وأضاف: ' أعمالي تطرح في الناصرة وفي حيفا وفي عكا وفي القدس وهناك صلة بيني وبين جمهوري وقصيدتي الآن بخير'. وعن الحب في حياته الشخصية، قال الشاعر الكبير إن الرجل لا يستطيع أن يحب الوطن بصدق إن لم يحب المرأة بصدق وإن لم يحب التاريخ والشجر والأطفال.

وأضاف ' تلك هي الحياة فأنا لست من أدعياء الطهورية والنسك المستعار'. وعن تقييمه لنفسه ومسيرته الشعرية قال الشاعر القاسم إنه سعيد بما قدمه النقاد سواء كانوا عربا أم أجانب من دراسات عميقة ورصينة وقوية وجيدة بعدة لغات.

وتابع ' أستطيع الآن أن أموت قرير العين لما حظيت به قصيدتي بما تستحق على المستوى النقدي عربيا وعالميا'. وحول محل إقامته وظروف معيشته، قال الشاعر إنه ومنذ النكبة عام 1948 يعيش في 'الرامة' على سفوح جبل حيدر في الجليل مشيرا إلى أن شيوخ عائلته اتخذوا قرارا بأن يكون موتهم أو حياتهم في الوطن.. ' إما الموت في الوطن أو الحياة في الوطن'. وأكد أنه لن يستبدل بيته الصغير على سفوح جبل حيدر في الجليل بأي قصر في أي مكان في العالم. أما حياته الخاصة وكيف يعيش قال الشاعر القاسم ' لا توجد لدي حياة خاصة لأنني لست شخصا منهمكا بذاتي، فحياتي مرتبطة بما يجري للشعب الفلسطيني وبما يجري في لبنان والعراق وأفغانستان..فأنا قلق جدا على لبنان وما يدور فيها و قلق على ما يحدث في العراق وفي أفغانستان فلا أستطيع أن أدعي أن حياتي الخاصة هي مركز حياتي'

()()()()()

حوار مع الشاعر سميح القاسم
اعتقال الطائي

عندما أخرجت اللقاء الذي أعددته مع الشاعر الفلسطيني سميح القاسم في عام 1980 من الدرج، والذي ـ لم يُنشر لحد الآن ـ أعدت قراءته ورحت أفكر: تُرى بعد كل هذه السنين هل تغير ما تحدّثَ عنه الشاعر جوهريا؟ وهل تغيرت آراء شاعرنا الفلسطيني الذي مازال ينتظر حل القضية الفلسطينية وعودة اللاجئين إلى أرضهم؟ وهل صار منبع قصيدته الفرح يفجر الفن بدل الألم؟ وهل تطور النقد العربي وازدهر الشعر؟ لن أقول رأيا خاصا، سأترك المقارنة للقراء وللشاعر نفسه . أحييه وأعيد إليه كلامه الذي احتفظت به بعد كل هذه السنين.
******



على خشبة مسرح إحدى قاعات بودابست وقف الشاعر الفلسطيني سميح القاسم ليخاطب الحاضرين قائلا: أنا لست خطيبا. جئتكم لأقول شعرا.
انتهزتُ فرصة وجوده وأجريتُ معه هذا اللقاء وقبل أن أسأل....


بادرني بالقول:

ـ جيلنا لم ينشأ من فراغ، بدأ معنا عدد كبير من الشباب. وبمرور الزمن تحول البعض إلى أطباء، مهندسين، محامين وتجار. وأصبحت الحياة عادية. تلفزيون ملون، سيارة. وتخلوا عن رسالة الشعر، أما الذين استمروا من خمسة عشر عاما فما زالوا يواصلون الكتابة.
برأيي الشعر العربي عموما يعاني من أزمة فنية وأزمة علاقة بجماهيره، وكثير من الشعراء المعروفين المحترمين لم يحلوا قضية الاتصال بالجماهير. وحل هذه القضية نستخلص منه نتيجة من اثنتين: أما الشاعر يصبح طبالا ويقرع في الشوارع حتى يكون واضحا للجماهير وبدون أصالة وصدق فني رغم أن شعره يكون مليئا بالصخب والشعارات، لكنه لم يصل إلى الجماهير، لأن الوضوح وحده غير كافٍ. إلى جانب الوضوح هناك التجربة، حرارة القصيدة ثم أصالة الشاعر.
* وفي العراق؟
ـ الجواهري، بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي استطاعوا أن ينظموا شعرا فنيا متطورا وبالطبع إلى حد وتفاوت بين شاعر وآخر، فشعر الجواهري غير شعر البياتي ولكن لشعر الاثنين نفوذ جماهيري.
* وسعدي يوسف؟

برأيي أن سعدي يوسف لا يقل موهبة لكنه لم يصل إلى صيغة يخلق فيها موازنة صحيحة، فهو ليس شاعرا جماهيريا، وتجربته الجديدة سوف تؤثر وتكون أكثر اقترابا من الجماهير، لأن تعبيره صادق وأصيل.
هناك ناس صادقون بالتجربة وسقطوا. لو وصفنا الثورة بالقطار السائر، ناس ينزلون منه ويظل سائرا. هناك شعراء وصلوا محطتين أو ثلاث وكانوا صادقين فيها ثم سقطوا. كان نقاشي مع البياتي عن افتعال التصوف والعمق، البحث عن أجواء الصوفية للضغط على هروبه من المعركة الحقيقية. هو هرب. بدأ سقوطه السياسي من ( رحلتنا إلى بلاد الثلج يا حبيبتي انتحار ) فبالنسبة لناظم حكمت كانت رحلته إلى بلاد الثلج ميلاد جديد.
· برأيك ما الفرق بين قصائد محمود درويش، أهي في الداخل أنضج أم في الخارج؟
ـ قصائد محمود درويش داخل الأرض المحتلة تختلف عن قصائده في الخارج، ربما شكلا في الخارج أنضج وأكثر تطورا، ولكن في الحقيقة أن قصائده في الداخل كانت أعمق وأمتن وأصدق من خلال معايشته للأحداث. هناك نوع من المجاملة وإرهاب فني يمارسه النقاد. برأيي لم يتبلور في النقد العربي لحد الآن ناقد متكامل ذوقا وذهنا، ممكن أن يكون من حيث تفكيره وذوقه الطبقي عضوا في الحزب الشيوعي في قطر معين. ماركسيا لينينيا في أفكاره وممارساته السياسية ولكن عندما يصل إلى الفن يغلب عليه الذوق البرجوازي لأنه تثقف ثقافة برجوازية، تربى على الشعر الأوربي وعلى الثقافة الأوربية. هذا شيء طبيعي وهذه الظاهرة نجدها واضحة مثلا عند من يقرأ لينين ويستشهد بمقولاته حول الثقافة، لكن لينين نفسه كان متخلفا عن مقولاته حول الثقافة. هذا تسجيل للحقيقة وهو أن لينين يحكي عن الثقافة الثورية وثقافة الجماهير، لكن شاعره المفضل بوشكين وليس مايكوفسكي شاعر الثورة. يتحدث عن الموسيقى الثورية وموسيقاره المفضل بيتهوفن.
تفسير ذلك هو أنك تستطيع تغيير النظام السياسي في يوم بثورة، ولكن تغيير الإنسان و ذوقه يحتاج إلى سنوات عديدة ومن ثم تغيير المجتمع.
· وإذا لم يصل الشعر إلى الجمهور، إذن أين يكمن العيب؟

ـ ولا مرة كان العيب في الجماهير، للجمهور مستوى ثقافي معين وأنتِ تتعاملين مع هذا المستوى، لو كان الشاعر يكتب لنخبة من النقاد ومحترفي الشعر لانسلخ تلقائيا عن الجمهور الذي هو جزء منه ويعيش معركته. أرفض القول: يجب أن تكتب للجماهير. لأنك أصلا جزء منها والحس الجماهيري جزء من تكوينك النفسي والفكري والسياسي، أنت تعبر عن نفسك بشكل مباشر إذا كنت فعلا تحس بالجماهير وهي جزء منك.

* وكيف تصف علاقتك بالجماهير؟
ـ اعتقد وبرأيي أني نجحت بإيجاد صيغة فيها موازنة بين حريتي الإبداعية كشاعر ومغامرتي الفنية والبحث في الشكل وفي الصورة الشعرية وتطوير أداتي الفنية مع المحافظة على علاقة معينة بالجماهير ـ أقول علاقة معينة ـ لأنني أستطيع أن أؤكد على أن لدي قصائد كثيرة لا يفهمها الجمهور العادي بسهولة، لكنه يحس بجو القصيدة، بروحها. لا يتعامل معها بالتفاصيل وإنما من خلال الجو الذي تتركه فيه. أعتقد هذه هي الصيغة الأفضل، ليس لنا فقط، بل في العالم الاشتراكي أيضا. سألني هنا في المجر مسؤول لماذا الشعر عندهم لا يلعب دورا كبيرا مثل ما يلعبه الشعر الفلسطيني؟ كان ردي: شعراؤكم انتهوا من المشاكل التي كانت تواجه الشعب. كما أن الألم يفجر الفن نظرية غير صحيحة، الألم يفجر الفن في المجتمع الطبقي الذي فيه الجماهير مسحوقة لذلك ترد الطبقات المسحوقة على الألم. أنتم الآن يجب أن تصلوا إلى مرحلة الفرح يفجر الفن وليس الألم. ولكن هذا لا يتم بسرعة، الأقطار الاشتراكية لها مشاكلها ومآسيها فحتى يصبح الفرح هو المكون الأساس للحياة وليس الألم كما في مجتمعاتنا، وبرأيي سيعود شعر الفرح جماهيريا.

غرباء ..!
و بكينا.. يوم غنّى الآخرون
و لجأنا للسماء
يوم أزرى بالسماء الآخرون
و لأنّا ضعفاء
و لأنّا غرباء
نحن نبكي و نصلي
يوم يلهو و يغنّي الآخرون

***
و حملنا.. جرحنا الدامي حملنا
و إلى أفق وراء الغيب يدعونا.. رحلنا
شرذماتٍ.. من يتامى
و طوينا في ضياعٍ قاتم..عاماً فعاما
و بقينا غرباء
و بكينا يوم غنى الآخرون

***
سنوات التيهِ في سيناءَ كانت أربعين
ثم عاد الآخرون
و رحلنا.. يوم عاد الآخرون
فإلى أين؟.. و حتامَ سنبقى تائهين
و سنبقى غرباء ؟!
******
· وهل على الشاعر أن ينزل إلى مستوى الجمهور الذي أسميته بالعادي؟
ـ ممنوع النزول إلى مستوى الجمهور، يعني هذا مع الجمهور السائد عندنا التخلي عن أي رمز، عن أي صورة معقدة، التخلي حتى عن العربية الفصحى وهذا برأي إسفاف، نجد بكثرة في الصحف العربية مئات القصائد ليس فيها حرارة ولا زخم فني كما في أحزاب الصحافة المصرية وغيرها التي تتحدث الآن باسم القومية، إذا كانت هذه قومية، فأوزان وقوافي المتنبي هي التي يجب أن تسود. باستطاعة الشاعر رفع الجمهور إلى مستوى ثقافته، هذا أيضا نوع من تجاهل الواقع. رفع الجمهور يجب أن يتم من خلال مؤسسات الثقافة.
الشاعر يقترب من الجمهور ولا ينزل إلى مستوى ثقافته، ويتم من خلال مد يده إليه. ولكن توجد هناك المؤسسات، وزارة الإعلام، مناهج التدريس، الصحافة والنقاد.
الشعب الذي 70% منه أميون لا يستطيع النزول إلى هذا المستوى المتدني الذي هو بحاجة إلى فن وثقافة. ولا ينتظر أن يصله السبعون بالمائة. أقولها ثانية " ممنوع ". بإمكانه أن يقترب منهم فقط.
* نعود إلى الألم يفجر الفن. إذا انتهت أو حُلت القضية الفلسطينية، هل يعني هذا انتهاء أدب المقاومة؟
ـ إذا كان انتهاء القضية الفلسطينية يعني لا يبقى شيء من أدب المقاومة، فليذهب هذا الأدب إلى جهنم. القضية الأساسية هي الشعب ومأساته. أما إذا يبدأ الشاعر الفلسطيني يفكر من الآن ماذا سيبقى منه بعد الثورة ونجاحها وعودة الشعب الفلسطيني، أعتقد أنه يسقط في مأساة، لكن هذا الزعم أيضا أنه إذا انحلت القضية الفلسطينية ماذا يبقى من هذا الشعر؟ فهذا زعم غير سيئ بالمرة.
لنأخذ قصائد المتنبي قالها في موضوع أتفه من قضية شعبه. هجاء كافور ومدح سيف الدولة الذي هو واحد من الأمراء بدون نفط. وكافور وعرشه لا غير. ومع ذلك نجد في مديح سيف الدولة حتى الآن قيم جمالية شعرية باقية. هنا يأتي السؤال:
هل توجد في ما يُكتب عن القضية الفلسطينية قيم جمالية وإنسانية؟ عند ذاك تستطيعين أنتِ أن تعيشي القضية الفلسطينية.
*وقصيدتك التي كانت عتابا هل هي موجهة لمحمود درويش بعد خروجه من الوطن؟
ـ القصيدة كُتبت قبل سفر محمود درويش إلى لبنان بسنتين، كانت عن مجرد الفكرة أو المبدأ، وكُتبت لأي إنسان يستسهل الحياة خارجا وينسى.
النقاش مع درويش كان مبدأي والموقف كما هو لحد الآن. التقينا أنا ومحمود وزال الخلاف الشخصي لأنه تحول في الآخر إلى خلاف شخصي. لكن الموقف بالنسبة لي مازال ساريا.
· ألا تعتقد بأن مرارة درويش في شعره ازدادت بعد خروجه من أرض الوطن؟
ـ لمحمود درويش كلمة شهيرة يقول فيها: " لما كنت في إسرائيل كنت أستغرب كيف هزَمتْ إسرائيل في ستة أيام الجيوش العربية. ولكن بعدما خرجتُ ورأيتُ وضع العالم العربي صرتُ أستغربُ كيف استطاع العالم العربي الصمود ستة أيام؟ ".
وهذا هو الواقع.
· لنعد إلى وعي الجمهور ومخاطبته. هناك أساليب مباشرة عديدة أذكر منها على سبيل المثال الخطابة في الشعر، ولاحظنا مثلا استعمال كلمات نابية وشتائم ( ابن ال*** أو ابن ال*****ة.. الخ) إضافة إلى الدين فما رأيك؟
ـ الخطابة السياسية جزء من عملنا اليومي. لو يُعطى الآن خطاب سياسي حماسي لأي واحد منا فنراه أحسن من خطيب. الفرق بين الخطابة كعمل سياسي ثوري وبين العبارات الجوفاء الكبيرة حيث يقف الخطيب لمدة أربع ساعات ويقرأ جملا كلها صحيحة لغويا، كان قد جمع قبلها أبياتا شعرية وآيات قرآنية وكلمات سياسية منتقاة. لكنها لم تصل إلى الجماهير لأنها مجرد خطابة.
أما التعابير التي ذكرتِها، فقد استعملت قديما عندنا في الشعر ولا نشعر بالحرج منها لأن الجمهور لمرات يكون مهيئا للتنفيس بكلمة حادة. ولكن الكلمة النابية ليست الهدف في القصيدة بقدر ما هي وسيلة مؤقتة وليست الجو العام. الجمهور عندنا يتقبلها برحابة صدر.
بالنسبة للأجواء الدينية، أعتقد أن الشعر العربي عاش سنين طويلة على رصيده من الثقافة الأوربية. يعني اليوت، سان جون بيرس، جاك بريفير، بودلير، رامبو، شكسبير وبيكاسو عاشوا على مخزون الثقافة الأوربية. فيه أصالة ولكن تمزقهم كامن بين إحساسهم الأصيل وبين ثقافتهم التي هي أوربية. برأيي محاولة التقليد أحيانا تُمسَخْ بالعبودية للنماذج الأوربية الذي تثقف عليها. خذي مثلا الأجواء الصوفية في الشعر العربي تلاحظين أجواء صوفية ليست مستقاة من أصولها العربية الإسلامية، إنما هي مستقاة من خلال أوربا. فهي الصوفية العربية كما يراها ويفسرها الأوربيون من مستشرقين وشعراء وفنانين حسوا بها واهتموا لها.
برأي آن الأوان لأن نتعامل مع التراث ليس كصنم. في التراث جوانب سلبية وأخرى إيجابية، علينا الاستفادة من جوانبه الإيجابية الصوفية. ومجتمعنا مجتمع " متدين " بمعنى أنه واقع تحت تأثير النفوذ الديني إلى مدى بعيد.
· نعم هذا واضح في بعض قصائدك أيضا، إضافة إلى عندما سألتك عن تداول المطبوعات العربية الجديدة في الأرض المحتلة أجبت: " نتداولها كما نتداول المصحف أو المنشور السياسي " هل للمنشور السياسي مكانة كما للمصحف عند سميح القاسم؟
ـ نعم هذا صحيح.
برأيي محاربة نفوذ الدين الغيبي لا تتم بالقطيعة التامة فلا يجب أن نقذف بالمصاحف إلى الجحيم والإنجيل إلى جهنم. فهذه الطريقة لا تجنب ولا تحارب الغيبية الدينية بل العكس أنكِ تعطينها مبررا للدفاع عن النفس و تزيدينها شراسة. وأتصور ممكن محاربة الغيبية الدينية خلال الاستفادة من الجوانب الإيجابية في الدين.

· كيف نحكم على القصيدة أنها فنية أم مجرد مباشرة، خطابية؟
ـ خذي القصيدة، دققي في الصور التي فيها، لغتها، موسيقاها، أجوائها وبهذا الشكل تحكمين عليها.
لو أخذنا مثلا الشاعر " نزار قباني " فهو مباشر جدا ويمكنني القول إنه أكثر شاعر عربي مباشرة، لكنه فنان كبير وكل الذين كتبوا قصائد عن " المرأة الزرقاء كالليمونة الأرجوانية" لم يستطيعوا بالرغم من محاولة التستر " بالضباب الفني" الوصول إلى ما وصل إليه " نزار قباني".
برأيي المحك في أصالة الشاعر هو قدرته الفنية في القصيدة المباشرة أكبر منها في " القصيدة الغيبوبية".
رسائل ملغومة إلى جميع عناوين العالم

قدمت أوراق اعتمادي مرة أخرى
ولكن القضاة الطيبين
رفضوا جهودي
قلت: هل أستأنف؟ ابتسم
فهمتُ وعدت معتذرا
مشيت على رؤوس أصابعي
يرجى الحفاظ على النظافة والهدوء
في آخر الدرج التقينا صدفة
كم صدفة خير لنا من ألف ميعاد
دعوت الله للمقهى القريب
وشربت قهوة سيدي جلت جلالته
ولم ألحح عليه لأن مولاي اعتذر
العفو يا ابني أن داء السكر الملعون لا يعفو
وكانت علبة السخارين في جيبي
ولكني خلعت المعطف الشتوي
إن الطقس افهم
غير أني صرت يا مولاي جالية لدى كل الشعوب
فما تقول؟
ونسيت يا ابني دفتر الشيكات
تدفع أنت. ثم غدا
وودعني على أمل اللقاء.


· هل استطاع النقد العربي أداء مهمته في توطيد العلاقة بين الشاعر والجمهور؟
ـ لم يتبلور لحد الآن في النقد العربي ناقد متكامل ذوقاً وذهناً. ممكن أن يكون الناقد من حيث تفكيره وذوقه تقدمياً. ماركسيا لينينيا في أفكاره السياسية وممارساته، لكنه عندما يصل إلى الفن، يغلب عليه الذوق البرجوازي لأنه تثقف على الشعر الأوربي وعلى الثقافة البرجوازية.
· وحدّة الموقف من المباشرة في النقد العربي؟
ـ الموقف من المباشرة في النقد العربي برأي موقف برجوازي خاطئ لأن قضيته ليس الفن بحد ذاته وإنما المؤسسة التي شجعت " يونسكو " ـ برأيي ـ هذا المسرح التافه الذي ينال على جائزة نوبل بنظري يبقى تافهاً وهم ناسا تافهين أيضا ًوكل مسرح أوربا ما وصل إلى حذاء " برخت " ومسرحه المباشر.

المؤسسة الثقافية الرأسمالية معنية بتحديد هذا السلاح الثقافي لأنها تدرك خطورة الشعر فتريد تجريده من فعاليته بإعطاء مثلا جائزة الدولة التقديرية لا لشاعر يكتب عن الفقراء المشردين، وإنما لشاعر يكتب عن غموض غير موجود في المجتمع وقضايا بعيدة عنه، يغرق في رموز لها أول وليس لها آخر. شجعوا هذا الاتجاه وحتى يحاربوا الاتجاه الثوري طرحوا مقولات: السياسة تتنافى مع الفن، الفن للفن، والفن النقي. هذا في أوربا.
· علينا أن نفهم، لماذا انتشر في أوربا ومتى، أليس كذلك؟
ـ بعد هزيمة الحضارة الأوربية ككل. الحرب العالمية الأولى والثانية وإفلاس الحضارة الأوربية الرأسمالية، نشأت هذه المدارس لخلفية أخرى مناقضة لعالم مازال يعاني من معركته على لقمة الخبز. وهذا ـ الافتعال ـ الذي قلته في البداية إن النقاد والمفكرين الماركسيين أيضا وقعوا ضحايا في التطبيق لهذا الإرهاب الفني.

يسمون النقد البرجوازي حول الفن وربط الصيغة بالشكل ب ـ البنيوي ـ تسميته تدل على مضمونها البنيوي. هذا أيضا سقوط. وهذا التيار انتصر في الحقيقة. سبق وقلت للصحفيين والنقاد: " هناك مناطق محررة من الشعر العربي تبنى فيها جمهورية شعبية ".
وردّي على النقاد البرجوازيين : لستم فنانين ونحن لسنا ذلك، بل أنكم فنانو البرجوازيين. فنانو الصالونات وتنتمون إلى طبقة عبيد لطبقة معينة. وانتصار توجهنا للفن مرهون أيضا بالنماذج التي نقدمها مثل القصيدة التي كلها شعارات وأوزانها وقوافيها ممتازة، تظل ليست شعرا.. لكنك من خلال تبنيك لقضايا شعبك من خلال تجربتك ومعاناتك الذاتية ومدى استعدادك الفني تستطيعين إعطاء البديل.
هذا ما أقصده عندما تحدثت عن مناطق محررة في الشعر العربي.
· ألا تجد المباشرة مكثفة في الشعر الشعبي المصري ( الزجل ) مثلا؟
ـ الشعر الشعبي المصري استفاد من تجربتنا بقدر ما استفدنا من تجربته. يعني هي عملية تقارب بيننا وبين ثقافة المسحوقين سواء في مصر أو العراق وفي كل مكان.

لدي تحفظ في الشعر بالنسبة لتعبير المباشرة أشرت إليه في حديثي عن النقد العربي. لا أعتقد أن المباشرة عيب، فهناك نوعان من المباشرة. النثرية والتي تفتقد إلى حرارة الشعر، للصورة الشعرية وللزخم الشعري وفي نفس الوقت فيه المباشرة الفنية. إن سألتني أعتقد أن القصيدة المباشرة فنيا والتي أتعامل معها من خلال كتابتي هي أصعب وأخطر بكثير من القصيدة التي يغلب عليها التوغل في الذات، أي القصيدة الذاتية. مثلا ليس بالصدفة أنني بدأت قصيدة الأندلس وهي قصيدة لا أستطيع نعتها بالمباشرة ولا أعتبرها أفضل من القصيدة التي توجد فيها المقاطع العامية المصرية. إلى درجة أريد أن أقول " أنها أتعبتني أكثر وتتعبني " القصيدة المباشرة الموزونة المقفاة التي على أوزان الخليل بن أحمد. تتعبني أكثر من القصيدة الغارقة في الرموز التي يستر الشاعر فيها عيوبا كثيرة. لذلك فقصيدة " أدونيس " فنيا صعبة على القراء وسهلة جدا على الشاعر. أسهل على الشاعر كتابة قصيدة من طراز قصائد أدونيس من أن يكتب قصيدة مباشرة وتكون ناجحة فنياً أيضا وتفرض احترامها.
· هل تخشى النقاد وما هو موقفك منهم ؟
ولا مرة أرهبني النقاد البرجوازيون، كُتبتْ عني أشياء تبلغ حد التأليه وأخرى بلغت حد الشتيمة. لا التأليه ولا الشتيمة أثرت في. كتب "غالي شكري" عني: (سلفي ومباشرة ومن هذا الكلام..) هناك نقاد يعانون من خوف أسميته سابقا بالإرهاب الفني.
دور الناقد خطير جدا. عليه أن يكون حلقة وصل بين الشاعر والجمهور. برأيي حتى الآن وبشكل عام مازال دور النقاد في النقد العربي سلبياً. النقد العربي بحاجة إلى ثورة تصحيحية.
* كلمتك الأخيرة.
وأنا لما أكون بحالة كتابة، في حالة نشوة ولا رب الكحول بتزودها.

()()()()()


سميح القاسم والمتنبي

بقلم عادل الأسطة


ربما تبدو أبرز قصيدة لسميح القاسم وظف فيها الرموز التراثية الأدبية العربية هي قصيدة " انتقام الشنفرى " التي درسها نقاد كثيرون ( أنطون شلحت، مصطفى زين، عادل الأسطة، خالد الكركي ).
ولسميح غير قصيدة أتى فيها على المتنبي. ومن المؤكد أن القاسم قرأ أبا الطيب وأفاد من صوره وتعبيراته وبناء قصائده، بخاصة في أشعاره الكلاسيكية – أي العمودية. والسؤال الذي يثار هنا هو: هل استلهم سميح شخصية المتنبي كما استلهمها شعراء عرب معاصرون؟
في كتابه " الصائح المحكي " صورة المتنبي في الشعر العربي الحديث " ( بيروت، 1999 ) لم يأت خالد الكركي على هذا، ما يعني أنه لم يلتفت إلى استلهام سميح للمتنبي، علماً بأنه – أي خالد الكركي – تناول في كتابه " الرموز التراثية في الشعر العربي الحديث "(1989) قصيدة سميح " انتقام الشنفرى " وقرأها وعلق عليها.

ثمة قصيدة لســميح عنوانها " ماذا حدث للمتنبي حين دخل مقهى في شِعْب بوّان " (أ.ك، مجلد2، ص535 )، ويذكر عنوانها بالقصيدة التي مدح المتنبي فيها عضد الدولة وولديه أبا الفوارس وأبا دلف، ويذكر طريقه بشِعْب بوّان، ومطلعها:

مغاني الشِـعْب بالمغانــي
بمنزلة الربيع من الزمـان
ولكنّ الفتى العربي فيهــا
غريب الوجه واليد واللسان
يقول بِشِعْب بوّان حصانـي
أَعَنْ هذا يُسار إلى الطعان
ولعل البيت اللافت فيها للمتنبي، البيت الذي يكرره كل عربي يشعر بالغربة في مكان ما، هو البيت الثاني. وأظن أنه هو الذي أوحى لسميح بكتابة قصيدته، يوم مرّ بتجربة شعر فيها بالغربة، وهو في بلاد أجنبية. وأظن أن الضمير – ضمير الهو – في قصيدة سميح الذي يعود ظاهراً على أبي الطيب، يعود على سميح نفسه.

والقصيدة التي يغلب عليها طابع السرد القصصي تبدأ بوصف الشاعر / السارد، ما يقوم به المتنبي. ينقل المتنبي في القصيدة / الإنسان العربي المعاصر أو سميح، ينقّل خطاه حذراً متردداً عكس حركة السير، لا يحادث الآخرين ولا يطرح التحية عليهم، مع أن لغات العالم كلها تهدر حوله. صدر المتنبي قاتم يتخفى فيه حرف الضاد مثل شيفرة الجاسوس. يذهب هذا إلى المقهى متسللاً ويشعر بغربة عن الآخرين ولا يصدق أن النادل يبتسم له. وحين يحضر هذا له فنجان القهوة وينسحب، يتوحد المتنبي لقهوته ويتحد مع شظاياه، ويرى فيه حوتاً هائلاً يأتي من أعماقه صوت يونس داعياً المتنبي ليدخل أيضاً إلى جوف الحوت، وهكذا يفعل. وربما تساءل القارئ عن مغزى هذه القصيدة، وما الذي أراده سميح من ورائها. أيريد أن يقول إن العربي المعاصر يشعر في أوروبا بالغربة، كما شعر المتنبي بالغربة في شٍعْب بوّان؟ ربما.

والذي يهمنا أن الشاعر المعاصر لم يحدد موقفاً سلبياً أو إيجابياً من المتنبي. ربما شعر بشعوره فقط، فحين شعر الأول في شِعْب بوّان بالغربة، وألمه أن يكون الفتى العربي غريب الوجه واليد واللسان، شعر أبو الطيب المتنبي المعاصر أيضاً بالغربة في بلاد غريبة، وآثر الاختفاء في بطن الحوت، مثل يونس. على أن سميح القاسم، لم يكتب قصيدة يستلهم فيها تجربة المتنبي كاملة، كما فعل محمود درويش في " رحلة المتنبي إلى مصر "، وربما يعود السبب في ذلك إلى أنه لم يمر بتجربة مشابهة لتجربة المتنبي، كما مرّ درويش. ( انظر دراستي المفصلة عن درويش في مجلة الشعراء، رام الله، عدد 15، شتاء العام 2001 ).

سيأتي سميح على ذكر المتنبي في قصيدة ظهرت في مجموعة " سأخرج من صورتي ذات يوم " ( عكا، 2000 )، عنوانها " إعلان نوايا " (ص20-26 )، وسيربط المتنبي وامرأ القيس معاً، مشيراً إلى طلب الأخير المساعدة من ملك أجنبي.

في " إعلان نوايا " نصغي إلى أنا الشاعر تتكلم عن علاقتها بالعالم. وحين أقول أنا الشاعر، فلأنه ليس هناك في القصيدة ما يقول إنّ أنا المتكلم هي غير أنا الشاعر. وليس لأنا الشاعر في ذمة العالم غير موته مرتين، وغير موته وانبعاثه. وليس للعالم عنده أي دين، غير ما يضمره الشاعر من شك وما يعلنه من حزن وحسرة، وغير ما ينزفه القلب وما يعزفه الحب وما ينسفه الرعب. ويعترف أنا المتكلم بأنه آخر أبناء عشيرة عربية انتهت في قبضة الرومان والفرس أسيرة، عشيرة قضت فوق الشعارات وما بين البيانات ومن تحت الخطب، عشيرة ذهبت فيمن ذهب، اسمها: قيل ... " عرب " (ص22).

ويستطرد أنا المتكلم مفصحاً عن أحواله، فهو مغتسل من وسخ السيرك وفسق الصياغة في مواخير البلاغة. إنه لا يشارك في اللعب، وهو يرفض أن يستر عريه أي ثوب غير ثوبه، ويسأل ربه ألا يقابله إذا جاء بثوب مستعار، وهنا يأتي على ذكر المتنبي، مفصحاً عن رأيه فيه:

" وأنا أرفض تهريج أخينا المتنبي
ورياء المتنبي
ونفاق المتنبي
ولجوء الملك الضليل والوغد امرئ القيس
إلى أقرب غربي " (ص23، 24 )
ويفصح عن علاقته بهذين:
" نحن من نبع
ولكنا افترقنا .. من مصب لمصب " (ص24 ).
ويخاطب أنا المتكلم أصدقاءه – إن يكن له أصدقاء – موضحاً أنه لا يتقن الرقص احتفالاً بسقوط الشهداء، فالصفقة تاريخ وشعب وبلاد ومصائر. هنا يتضح موقف أنا المتكلم من المتنبي وتتضح الصورة التي يرسمها لنفسه وللمتنبي أيضاً. وإذا كنا رأينا الصورة التي أبرزها أنا المتكلم لنفسه، فقد رأينا أيضاً بوضوح، من خلال النص الشعري، الصورة التي يرسمها للمتنبي: إنه مهرج ومراء ومنافق. والخلاف ليس خلافاً شخصياً، أو على أمر تافه. إنه خلاف على تاريخ شعب وبلاد ومصائر، يبدو أن المتنبي، كما يقول أنا المتكلم، يتاجر بها، في حين يرفض أنا المتكلم نفسه هذا، لأن حبه لبلاده كبير:

وأنا أشهر حبي
مرة أخرى
شهودي الخلق والخالق
في عرس دمي أشهر حبي
لشبابيكي وأشجاري وأنهاري وشعبي
ولأطفالي وموالي وآمالي ودربي "(ص25)
وربما وجب أن يتساءل المرء هنا عن المغزى الذي ترمي إليه هذه القصيدة. من هو المتنبي فيها؟ هل هو أبو الطيب الذي عاش في القرن الرابع الهجري؟ وهل هذا هو رأي سميح القاسم فيه؟ أم أنه شاعر معاصر باع بلاده وشعبه وأشجاره التي لم يبعها أنا المتكلم؟

ومن المؤكد أن امرأ القيس غدا في الشعر المعاصر رمزاً للشاعر أو المثقف الذي يطلب النجدة من الأجانب، وهذا سلوك لا يرضى عنه سميح نفسه الذي هجا المثقفين العرب في الغرب، مؤثراً البقاء في بلاده ( انظر قصيدة سميح في المجموعة نفسها: " فراقية اللاجئين السياسيين في مقاهي أوروبا، ص104 ). ظاهر اللفظ والعبارة يقول إن المتنبي مهرج ومراء ومنافق، وقد يكون هذا رأي سميح فيه، وربما يقصد شاعراً آخر. وعموماً فإن هذا الرأي برز في نماذج أدبية عربية معاصرة مثل قصة زكريا تامر " نبوءة كافور الإخشيدي "، وهو رأي مغاير لآراء شعراء كثيرين مجدوا الشاعر وبجلوه وأحلّوه مكانة متميزة. ملاحظة: أبدى سميح رأيه في المتنبي مراراً، في مقابلات عديدة، وذهب إلى أن هناك صلة قرابة بينهما. حول ذلك انظر:

1- مجلة الشعراء، ع7، شتاء 1999. ص125، ص144.
2- إبراهيم نمر موسى، آفاق الرؤية الشعرية، رام الله، 2005. ص138-139.
3- وانظر: www. Almustaqbal.con المقابلة التي أجريت مع سميح ونشرت في ثقافة وفنون ص16، الاثنين، 22/11/2004، العدد 22. وفيها يقول سميح: أنا أعرف وجع المتنبي ومحنته حين صدر عنه هذا الكلام.
وهل تصدر عن هذا الوجع؟ نعم، ولكن بقصيدتي وليس بصيغة المتنبي أو بقصيدته. صيغتي وقصيدتي أرقى. المتنبي ليس بقرتي المقدسة، أنا أحترمه شاعراً ولا أحترمه راقصاً بين الهجاء اليوم والمديح غداً. لا أحب هذه السمة وقلت: وأنا أرفض عهر المتنبي، ورياء المتنبي

()()()()()

سميح القاسم : الشاعر والإنسان
فاطمة الشيدي


كنا هناك في مهرجان الشعر السابع العماني 18- 21 / 12/ 2010، تحت أمطار الشعر الدافئة لأربعة أيام متوالية، وبلا مظلات واقية من كل ذلك الفرح والعشق والجنون والجمال، في مكان واحد تجمع الشعراء وعشاق الشعر ومريدوه وأهله وذووه وبنوه والمتطفلون عليه في بعض الأحيان!
كان الشعر سعيدا؛ كنت ألمح ذلك من قهقهاته الكثيرة التي تنطلق بين الفينة والأخرى، ومن بريق نواجذه غالبا، ومن صدى تصفيقه حين تعجبه قصيدة ما، أو صورة شعرية جميلة وجديدة وباذخة الرؤى.
وكان أن عرفت أن سميح القاسم سيكون في هذا المهرجان، سيكون معنا، وبيننا، ونحن نحتفي بتأسيس ملامح القصيدة العمانية القادمة، والذاهبة نحو التجديد والمغايرة، القصيدة التي لا تروم الشكل والنظم فقط، القصيدة الحقيقية التي تستطيع المضي كخنجر في القلوب والضمائر، التي تستل بعمق وشجن ولا إرادية مطلقة كلمة (الله!) أو (نعم هذا هو الشعر)، القصيدة التي تنبع من روح شاعر حقيقي عظيم وجميل، هش ودافئ، صادق ومتواضع، ومؤمن بأن الكلمة روح والروح عطاء وتجدد، والشعر حالة إنسانية راقية، وليست ضربا من الهراء والتقليد والغرور والنرجسية، كما هي ليس تقليدا، إنها المجازفة بالجديد، والسعي نحوه، إنها الحياكة المتأنية على منوال العشق والألم والأرض والإنسان، وإلا فلتنسحب نحو الصمت، ونحو مساحات أقل، وأكثر تواضعا وخيبة من كلمة شعر.
نعم كنا وكان هو بيننا، وما كنت أصدق أن هذا العملاق سيكون بيننا، حتى فاجأني بمعنى الكبير والشاعر معا، إذ بدأ منذ أول لحظة يقول لنا إن الشعر هو الإنسان، وإن شاعرا بلا قيم ولا إنسانية ولا نبل ولا عظمة روح وجسارة خلق، ورفعة كائن لا يستحق هذا المعنى العظيم، وإن شاعرا بلا مبادئ ولا قضية ولا روح نبيلة تبحث عن الحب والمحبة، والجمال والسلام، ليس جديرا بهذا المعنى، نعم هكذا قدّم لنا هذه الدروس الصغيرة والعظيمة حين تواضع أمام زميله الشاعر الأصغر سنا وتجربة "حسن المطروشي" فقام إليه محييا وخالعا عليه كوفيته الفلسطينية ليجعله شريكا في الشعرية والقضية، ثم توالت شعريته خارج النص، حيث كان يجلس لأصغر شعراء المهرجان عمرا، يحدثهم ويشاركهم تجاربهم وأحلامهم وأفكارهم ودخان سجائرهم، وصحبة قصائدهم، وأحاديثهم الطرية عن كل شيء.
كانت أمسية سميح القاسم في الليلة الأولى للمهرجان، وكانت تعويضية بمعنى أنها لم تكن في وقتها المعلن عنه سابقا، حتى إن الكثير من الشعراء في البعيد من المكان تحسروا على ضياع هذه الفرصة للمثول بين يدي شاعر بقامة القاسم، وليست الصديقة "شميسة النعماني" التي أرسلت لي "مسجا" متألما وقد تهيأت كي تسمعه مباشرة، إلا مثالا للغياب وأمنيات الحضور، ومع هذا التغيير لموعد الأمسية، وعدم الإعلان عنها، فقد كانت القاعة الفندقية الكبيرة تضج بمن فيها، وتزدحم بالعشاق والشعراء والمتذوقة من الجمهور.
اعتلى شاعر العروبة والأصالة والأرض والقضية منصة الشعر فكان العطر والشجن والضوء يسّاقط من بين يديه ومن أمامه، كان الجمهور متحدا معه اتحادا كليا، جمهور مختلف الجنسيات والأعمار والأرواح، ولكنه استطاع أن يجمعهم في وطن واحد، وجغرافية واحدة وتاريخ واحد، وكانت مشاعر العروبة والأرض والقضية متجسّدة في شخص واحد وقصيدة واحدة لسبع عقود من الزمن، تاريخ شعري مجيد يسمى "سميح القاسم" .
بدأ يتلو قصائده بصوته المتهدج المتراخية أحباله بفعل الزمن والعذاب في سجون المحتل، وبفعل عناق سيجارته التي لا يخون، بدأ يشدو عن الظلم والقهر والاحتلال، وعن الصمود والتحدي والاعتزاز ، كان يفيض بالشجى والشجن والحنين والحلم، وكانت قصيدته عذبة وصادقة وقريبة كدمعة لا تغادر العين إلا للقلب، وحزينة كزفرة روح تتسلل بدفء للأرواح الأخرى، وعذبة كطفولة لم تغادره وهو على مشارف السبعين، وبين يدي الشعر والجمهور المتحد والمتوحد معه، كان صوته يعلو في نشيد متصل النشيج فتزهر في القلوب أغنيات الشجن، يعلو حتى يتعب، فيتناقص حتى يضيع، وكنا معه نذهب إلى حيث يريد، أو إلى حيث يريد الشعر، وكانت الدموع تقف على مسافة فرح من المحجر، تعانق كل هذا الشجن والجمال والبهاء بعزة وخفر.
وعلى مدى ثلاثة أيام بلياليها كان يغيب فيها من يغيب ويحضر من يحضر، يتغير السمار والجلاس، ويتغير الشعراء والمريدون والمتطفلون أيضا، كان سميح القاسم حاضرا، وشامخا كجبل، وهادئا كطفل، وصامدا كمعجزة، كان يستمع للقصائد – التي ليس عليه أن يستمع لها- بحنان الوالد، وعظمة الشاعر، وقوة القصيدة المتأسسة والمؤسسة لأجيال كثر.
كان أول من يحضر لافتتاح الجلسات، وآخر من يذهب منها، الجلسات الشعرية الفصيحة والشعبية منها، وقد كان يمكننا أن نتلمس له العذر في الثانية لاختلاف اللهجة، وبعدها عن مجال كتاباته الفصيحة والرزينة والرصينة، لكنه أبى إلا أن يحضر ويصفق بحرارة لكل قصيدة يصعد شاعرها للمنصة، ويقرأ نصه أيا كان مستوى ذلك النص وفنياته وجمالياته الشعرية. لقد كان بعظمة الإنسان، وجمالية الشاعر يقدم لنا دروسا في الالتزام والتواضع والنبل، وله الله في ذلك!
وحين قرأت قصيدتي "زنبق الماء إثم اليباس" في رثاء الماغوط، أوقفني ليقول "لقد غرت من الماغوط ميتا" ، فتأثرت حتى خفت أن أبكي أمامه، وأنا أدعو الله أن يحفظه للشعر وللعروبة.
نعم هذا الشاعر الحقيقي، الشاعر الجاد بلا هزل، والعظيم بلا غرور، والواثق بلا نرجسية، إنه القصيدة الإنسان، والإنسان القصيدة.
وطن بأجنحة
وقصيدة بقدمين
تجلس الشمس على كتفه كهدهد ينتظر الرسالة
ويجلس الشعر عند قدميه كنمر مروّض لا يثور إلا إليه
يمشي محفوفا بالقصائد وبهالة من سمو
كملك قديم
ينفر الحب من تحت ثيابه
كارتعاشة عاشق خانته المواعيد
وأسعفته الصدف
ويرتعش صوته إذ تغزله المسافات بالرؤى
وتغازله الأطلال بالحنين لما لا يجيء!
()()()()()

شبوبيـــّة" [1] سميح القاسم في ديوانه أحبك كما يشتهي الموت
د.فاروق مواسي

سميح القاسم يعيش القضية ألفلسطينية بكل خلجة شعورية وكل لقطة شعرية، فيترجمها إباء وعنفوانًا وانفعالاً ورفضًا. يتراوح هذا لشعر في صيغ متباينة: تقليدية تارة [2]، وشعرًا حرًا تارة أخرى [3] ، مرة سربية [4] لا تخضع للوزن ، وأخرى مراوحة بين الوزن والعزوف عنه - كما هي الحال في الديوان الذي نراجعه.

ولعل هذا العمود ألفقري (المضمون) يلبس أردية متنوعة وأجساد قصائد متباينة تعطي الشاعر إمكانات أكثر للتعبير. فلا شك أن القصيدة التي لا تخضع للوزن تستوعب تعابير سميح المنطلقة على غرار (الهوروسكوب)، (أكسيد الكربون)، (أمريكا الشمالية)، ولا شك أن القصيدة العمودية تؤطر الشاعر ضمن قوالب كلاسيكية بأغلبها ، رغم ما يحاوله المضمون من جذبها الى لغة الواقع.

وقد أدرك القاسم أن ألفن الاشتراكي يتطلب التجديد المستمر في وسائل التعبير، وعن هذه الاتجاهات الشكلية يقول برخت:
" من السخف المطلق أن يزعم أحد أنه ليس هناك أهمية للشكل أو لتطور الشكل في مجال ألفن، فبغير إدخال تجديدات شكلية لا يمكن للأدب أن يقدم موضوعات جديدة أو وجهات نظر جديدة إلى ألفئات الجديدة من الجمهور ........
إننا نحتاج إلى وسائل جديدة للتعبير من أجل تصوير الحقائق الجديدة ".[5]
إن سميح القاسم يجذب النظر في تنوع الشكل عنده، فهو حريص على الابتكار في النماذج المعروضة والأحاسيس المجتلاة.
يقول عبد الفتاح الديدي:
" إذا ضاع التنوع في أعمال الأديب اختلطت النماذج واعتجنت الوحدات وصارت على هيئة رتيبة خالية من الشخصية والحياة وشبيهة بالانفصال والعدم، ويؤكد بودلير دائمًا هذه الحقيقة: وهي أن الجميل دائمًا خارق للعادة وخارج عن المألوف" .[6]

وفي ديوان القاسم الذي نعالجه ينثر سميح على العالم رماده الحار في لغة شابة مشبوبة.... قوية جنسية تبحث عن المرأة وعن الوطن.....يرود الشكل حتى إذا انقاد له وانساب كثرت الذبذبات أو التوتر بين الخضوع لمقتضيات الوزن والتحرر منه.
ونلاحظ كذلك هذه التغطية الشكلية بدءًا من أناقة الكتاب وحلته الجذابة - التي تشعرنا قليلاً بالأرستقراطية ، في وقت يبحث فيه الكادح عن لقمة عيشه، هذه الأناقة التي تمثلت في صورة الغلاف الذهبية ، وفي الأوراق الشفافة الإضافية والأوراق السميكة الملونة - من بنفسجية إلى خضراء إلى زهرية ، فغدا الكتاب لوحة فنية قبل أن نشرع في القراءة الجوهرية.
أوليست الرهافة والتأنق من سمات الشبوبية؟؟
ومن هذه الذبذبات التي أشرنا إليها ما ينطلق من قاعدة مستقرة: يستخدم الشاعر أساليب المزاوجات اللغوية في صنعة فنية. فمن التبادل اللفظي:

شبابك شيء وشيء شبابي ( ص 100 )
و
يدك بين يدي
ويدي بين يديك ( ص 26 )
و
يراك في كل شيء
يرى كل شيء فيك (ص94)

وهذه النماذج تلقي أضواء على صورة التقطتها آلة التصوير من موقعين مختلفين. إنه نوع من اللعب. ومنه التكافؤ في طباق بلاغي [7] يقول سميح:
خاتمة
لا خاتمة (ص104)
و
وأعلم أنك
لا لا أعلم (ص114)
و
كأنك كنت دائمًا
كأنك لم تكوني أبدًا (ص30)
و
أكون في الدنيا
ولا أكون فيها (ص45)

وإلغاء المعنى يثريه ويكثفه بقدر ما يوحي إلى تردد في الموقف ثم اندفاع.
وإذا كان المتنبي يقول:
تمرست بالآفات حتى تركتها
تقول أمات الموت أم ذعر الذعر ؟ [8]

مستعملا المجاز العقلي في عجز بيته فإن هذا التتابع اللفظي يستعمله سميح بصورة جديدة واستمرارية:
وفي الماء مائي
أغرق في الحزن حزني (ص101)
و
تخطينا المعجزة في المعجزة (ص35)

فهذه الصورة مضاعفة للحزن ومبالغة لمعاناته. كما نلاحظ أسلوب التناقض الذي عابه نقاد الشعر القديم [9]، ولكنه عند سميح ينمّي المعنى في رأيي:

تفاحتي الجمره
الحلوة المره (ص109)
و
أنت الجرح وأنت البلسم (ص113)
و
وأنا أجهل وأنا أعلم (ص114)

ومن هذه الأمثلة لاحظنا أن الشاعر تعمد القبض على التناقض الذي أشارت إليه خالدة سعيد: "القبض على التناقض هو الهجوم على المستقر الراكد، خرق للعادة، هذه هي لغة السلب، وهذا ما يستنبط الحي الدينامي ويسقط المستنفد.
هذا الحي الجديد ليس مجرد تنويع على القديم بل هو معارضة له ، أو عليه، لكن هذا لا يعني أن المتولد الجديد لم يكن كامنًا في القديم في حالة إمكان ".[10]

وخلاصة القول عندها إن المجددين هم الذين يهبون للتراث الحركة والحيوية لا أولئك الذين يكررون ويقلدون ويحنطون. وإذا كان الشاعر قد تعمد أو اعتمد التلاعب اللفظي بصورة جديدة موحية فإنه يشبع بعض قصائده حركة.... ولنقرأ معًا:
بين يديك ولدت وبين يديك نشأت وبين يديك ُقتلت وعدت بُعثت وعشت ورحت وجئت وكنت وصرت وخفت وثرت. وبين يديك قرأت... (ص102)

وتتسارع الأفعال بين يديه، تتطور تتهيج حتى تصل إلى ذروة صوفية (إكستازا) يسقط بها لفظتي (وبين)، (يديك).

إنه مرة أخرى نوع من اللعب يفرض عليك المشاركة. وهاك قصيدة حركة أخرى:
وكان هناك فنار يشع ويخبو
زمانًا وراء زمان يشع ويخبو وراء زمان
يشع ويخبو
لعل شراعًا يلوح
لعل دخانًا يلوح
لعل دخانًا يصيح
هو الشط
شكرا فنار الأمان
وظل يشع ويخبو
وما من شراع وما من دخان (ص 84)

ثم يتحول الفعل (يشع) إلى (يدق) وكأن الشاعر (مايسترو) أو موزع موسيقي يلزمك أن تشاركه ، وتتخيل الإضاءة والانطفاء ...وكأنك مكلف بالإشراف على الإضاءة.

وثمة مسؤولية شكلية تقع على مخرج هذا الكتاب الأنيق. ففي صفحة (23) يقول الشاعر:
ساعات الفجر الأولى
زرق
العندليب الأول على شجرة الليمون الزرقا
أزرق
أنهار العالم تلتف على عنقي الأزرق
أنشوطة زرقاء زرقاء
جفون عيني
زرقاء زرقاء
أتلاشى في الزرقة
أتلاشى
لم أعد أعرف لون عينيك

والعتاب لأن المخرج جعل الصفحة السميكة المقابلة لها صفحة بنفسجية، وكان حريًا به من الناحية الجمالية إن يجعلها زرقاء تماثلاً مع الجو.
وفي توزيع فقرات القصيدتين (أبجدية العمر) (ص32) و (تلاوات من آي الحب) (ص41) قسم الشاعر حروف لفظة (ميلادي) ليكون كل حرف عنوانًا لفقرة ، فجعلها في القصيدة الأولى على هذا الترتيب: م ي لا د ي
وفي القصيدة الثانية جعلها: م ي ل ا د ي ، ولم يكن ثمة سبب مقنع لهذا التقسيم - اللهم إلا ما أملاه عدد ألفقرات، فبدلاً من أن يستعمل الشاعر الترقيم في التقسيم أكد على ميلاده وبعثه، ومن الغريب أن تكون فقرة (لا)- الموجبة لمعنى الرفض – تشبثًا بالحبيبة:
بين الفجر والفجر نكون وحدنا
يكون معنا خفرك الملائكي إزاء جرأتي
يكون معنا العالم
ونكون وحدنا
إذًا هذا هو الحب

إن الجنس من سمات (الشبوبية) ، لذا فليس عجيبًا أن نرى بروز المراهقة والحب مع أكثر من امرأة ، حتى مع امرأة لم يتعارف وإياها بعد، تبدأ علاقته بها:
هل هذا المقعد خال يا سيدتي (ص115)

وينتهي:
ليلتنا كانت رائعة
لكن معذرة ما اسمك
لم نتعارف بعد

تذكرني هذه القصيدة بقصيدة صلاح عبد الصبور (أغنية من فيينا) - يقول صلاح فيها:
تشابكت أكفنا واعتنقت
أصابع اليدين
في قبلة بليلة منهومة
تفرقت خطواتنا وانكفأت
على السلالم القديمة
ثم نزلنا الطريق واجمين

...........................

وحين شارفنا ذرى الميدان
غمغمت بدون صوت
كأنها تسألني من أنت [11]

لكن سميحًا يجعلها هي التي تسأل (من أنت ؟ ) بدون (كأن) ، فسميح كما قلنا فيه (شبوبية) وحرارة. ونختم هذه المراجعة بقصيدة له تبين مدى الالتصاق واللعب عند شاعرنا:

لو كنت شجرة
سأكون عندليبا يعيش بين أغصانك
لو كنت شجرة
ستكونين فاكهتي الوحيدة
لو كنت كهفا
سأكون راعيًا مبللاً بالمطر يلوذ بك
لو كنت كهفًا
ستكون الصدى الأبدي بين جنباتي (ص81)
.........

[1] - اخترت (الشبوبية) هذه اللفظة العامية لما لها من طاقة إيحائية ، فهي تعني الشباب والشبوب - أي الفتوة والاندفاع ، كما تحمل معنى الحيوية والحركة والجنس.
أحبك كما يشتهي الموت ، منشورات مكتبة ومطبعة ابو رحمون – عكا - 1980.
[2] - انظر مثلا (الحماسة) لسميح القاسم - . دار الأسوار.
[3] - انظر مثلاً ديوانه الموت والياسمين
[4] - انظر مثلا سربيته إلهي إلهي لماذا قتلتني!
50 - أرنست فيشر: الاشتراكية والفن ، كتاب الهلال – 1966 ، ص 169
[6] - عبد ألفتاح الديدي: الخيال الحركي في الأدب النقدي، دار المعرفة، القاهرة- 1965 ص 17.
[7] - عن التكافؤ : انظر كتاب قدامة بن جعفر: نقد الشعر، مكتبة الخانجي – 1963 ص 163.
53 - ديوان المتنبي ج 2 ، شرح البرقوقي، دار الكاتب، بيروت. انظر شرح البيت ص 252.
[9] - انظر مثلاً قدامة بن جعفر نقد الشعر ، ص 232 .
55 - خالدة سعيد: حركية الإبداع، دار العودة- بيروت- 1979. ص 14.
[11] - ديوان صلاح عبد الصبور (المجموعة الكاملة) المجلد الاول، دار العودة- 1972 ص 213 ؛ وانظر الدراسة الرائعة التي كتبها عن هذه القصيدة الناقد الدكتور محمد النويهي في كتابه قضية الشعر الجديد ، ص145.

()()()()()




هناك... شجرة خرّوب --- من رسائل محمود درويش إلى سميح القاسم

وعلى ذِكر "الحق" الذي يمدّ لسانَ السخرية في رسالتك، والحقّ بالحقّ يُذكر أو يُنكر، فضحتْني دمعتي منذ أيام، عندما كنتُ أسجّلُ حديثاً تلفزيونيّاً في مدينة هلسنكي...

انقضّ عليّ أحدُ المحاورين، وهو كاتب فنلندي شهير، بهذا السؤال المدهش: هل تعرف كيبوتس "يسعور"؟

أجبت: نعم، أعرفُ مكانه لأني أعرف أنقاضي. ولكن، لماذا تحرّكُ فيّ هذا العطش؟

قال: أنا من هناك. أعني: عشتُ هناك عشر سنين. ومن حقي أن أعود إلى هناك في أي وقت أشاء...

قلتُ: في أي وقت تشاء، لماذا؟

قال: لأنني يهودي...

قلتُ له، وقد تحوّل إلى مرآة: يا سيد دانيال كاتس، يبدو لي أنك تعرف أنني وُلدتُ هناك، تحت غرفة نومك، وتعرف أن لا "حقّ" لي في العودة إلى مكان ولادتي، بينما أنت الفنلندي، صاحب العشرين ألف بحيرة، تملك "الحق" في العودة إلى بلادي في أي وقت تشاء...

قال: أعرف هذا الظلم. ولذلك أعددتُ لكّ هذه الهدية، هذه الأغنية القصيرة: "انظرْ إلى البلاد التي تسمّيها وطنك – قال لي توفيق أو محمود / عيناكَ تحدّقان في التراب ولا تصلان إلى ما تخبّىء الأرض / القرية التي وُلدت فيها عارية وباكية / متحررة من خاصرة أمي / وأنت... ها أنت ترفع باعتزاز / كوخاً من الصنوبر"...

وروى لي دانيال، يا عزيزي سميح، مسيرته في طريق العودة – فهم دائماً عائدون – كما يرويها من يملكون الحقّ، أينما كان، والضمير عندما يشاؤون. إذ ليس على التاريخ إلاّ أن يتمرّن على حساب مصالحهم وعواطفهم وينضبط! كان مثل جميع المهاجرين لا يعلم. لا أحد منهم يعلم – على ما يبدو – أنّ في بلادنا شعباً. وحين يواجهون عقبات الاندماج في الأرض أو في المؤسسة فإنهم سرعان ما يعلمون، ويستخرجون احتياطيّ الضمير ليختاروا "عودة" أخرى إلى "حقّ" آخر.

من علّمك يا دانيال أن تحت كيبوتسكَ قريتي؟

قال: شجرة الخرّوب الضخمة... سألت أحد زملائي في الكيبوتس عمّن غرس هذه الشجرة، فقال: نحن المهاجرين. ولكنني أدركت من عمر الشجرة أنه يكذب، أدركتُ أن أحد أجدادك هو الذي غرسها، فحملتُ ضميري المُعذّب وعدتُ إلى وطني فنلندا.

لم أقلْ له، يا عزيزي سميح، إنه محظوظ بامتلاكه حقّين، ووطنين، وعودتين. قلتُ له إنه عادل، لأنه يمتلك ميزة إنسانية أكبر هي: الضمير، يحرّكه، يستعمله ويُشهره متى يشاء في وجه أي مشكلة. في وسعه أن يُتوَّج قاضياً ما دام يتمتع بهذه القوى الإنسانية. له حقّ الكلام والمصداقية. أليس هو الشاهد الذي لا يُدحض؟ ونحن الذين نحتاج إليه لنتكلّم عبرَهُ عمّا يصيبُنا. فهل يحقّ للعربيّ أن يتحدّث في الغرب بلا شاهد يهودي؟ لاحظْ، على سبيل المثال، كيف يناقش الإسرائيليون قضايا الاحتلال ونتائجها السكانية. إنهم يبكون كما لو كانوا هم الضحية، ونحن الضحايا نصفّق لمتانة الدليل!

ولكنني أعلّق بطريقةٍ أخرى تشبه معاني الكلمات التالية: وهكذا تدلّنا شهادةُ دانيال على أنّ السلام في الشرق الأوسط ما زال قابلاً للتحقيق، ما دام دانيال يصافحُني، ويرضى أن يكون صديقي، ويكتب لي هذه الأغنية!

وبالأغنية ذاتها التي تخدع ذاتها لتكون ذاتها، يقف الواقعُ على رأسه، ويعتذر عن وعي شقيّ ووعي زائفٍ معاً. ماذا يريدُ الشعر من المستوطنين أكثر من الإشارة إلى طفولتنا التي تنسب جماليّتها إلى المكان ذاته؟ ليكونوا هم المُعبّرين نيابةً عنا. هل يعبّر عني حاييم نحمان بياليك حين يغنّي للطائر العائد من بلاد الشمس إلى نافذته المُطلّة على الجليد الرّوسي؟ وهل يعبّر عنك حاييم غوري في وصف الجليل العائد إلى أهله الغائبين؟ وهل تعبّر عن هشاشة قلوبنا تلك الأغنية الرائجة: يا بحيرة طبريا، يا بحيرة طبريا، لقد هبّت الريحُ؟ وهل نستعيدُ جمالَ القدس، كما استعادوه، في أغنيتهم التي حطّمتْنا: يا أورشليمُ من ذهب، ومن نحاس وضياء؟

ليس هذا سؤالاً، يا سميح، بمقدار ما هو نزيف. وهل انتبهنا إلى شراسة استيطان الأرض ومحاولة استيطان الذاكرة، وظلّ استيطانُ لغةِ الحنين والعودة والتيه مجالاً لعواطفَ مشتركة ممكنة؟ طالما أنّ سُكّان "يسعور" يستمتعون بذهب الذرة الصفراء ذاته، وبالتفاح ذاته، وبالدوالي ذاتها، ويرفعون أكواخاً من الصنوبر كما كنا نرفع ويغنّون – كما كنا نغنّي – هبّ النسيمُ على الحقول؟

لا تصدّقني، فأنا لا أسأل، بقدْر ما أشير إلى حياد الطبيعة الجارح.

ولكنّ شجرة الخرّوب إياها التي دلّتْ المستوطنَ الأجنبيّ "البريء" عليّ وعلى أجدادي، هي هي غلافُ هويّتي، وهي أيضاً جلدُ روحي إذا كان للروح جلد. هناك ولدتُ.. هناك وُلدتُ. وهناك أريدُ أن أُدفنَ. ولتكن تلك وصيّتي الوحيدة!

شجرةُ الخرّوب – أغبطكَ لأنكَ تراها كلّ يوم في طريقكَ من الرامة إلى حيفا، ومن حيفا إلى الرامة. سلّمْ عليها إذا كانوا لم يجدعوها بعدُ. شجرةُ الخرّوب – اختبأتُ في جذعها العملاق المُجوّف من المطر ومن الأهل عندما كنتُ ألعبُ مع السحالي والزيز والزواحف، وعندما كنتُ أتبعُ خطّ الإسفلت الساطع إلى عكا، لأشربَ الماءَ بالطاسات.

ويا سميح، يا سفيرَ قلبي إلى الشجر كلّه، لماذا أشعرُ بكلّ هذا العطش، والعطش الذي لا يرويه غيرُ امتصاص قطرةٍ من الماء على جناح قُبّرةٍ عندكم؟. ولماذا يتجمّدُ الزمنُ عند السنين الأولى... لينفتحَ السهلُ أمامي في امتدادٍ لا يُنهيه حتى البحر، وأرى جنودَ نابليون في حقولي عاجزين عن اقتحام القلعة على السور، الذي حوّلتْهُ شركاتُ السياحة الإسرائيلية إلى سوقٍ تجاريّةٍ وملاهٍ لليلٍ طويل؟



... وينفتحُ الشرقُ أمامي لغاباتِ الزيتون التي تصعد، وتصعدُ بلا تعبٍ وبلا مللٍ إلى تعرّجاتِ جبالٍ كثيرة، متناثرة، لتصلَ قريتي بقريتكَ العالية، عبرَ عشراتٍ من القرى المتناثرة، كالمجاز السهل، في نشيدٍ شديدِ الصعوبة؛ يُدخِلنا في متنهِ شهداء أو شهداء، وهكذا تتحوّلُ شجرةُ الخرّوب إلى مُرتكز جهات، وإلى علامة الفارق بين الأرض والسماء. ومن على غصونها أقطفُ، حتى الآن، حبّاتِ الهواء الطازجة.

لم يكن للشهورِ أسماءٌ لا تُذكرُ متى انقصفَ حبقُ الطفولة. ولكنّ الليلَ لم يكن بارداً كما هو الآن. ولم تكن للقمر أغانٍ عبريّة مُعاصرة. ولكنني أتذكّرُ ساحة الدار التي تتوسّطُها شجرةُ التوت التي تشدُّ البيوتَ لتحوّلها إلى دارٍ هي دارُ جدّي. تركْنا كلّ شيءٍ على حاله: الحصان، والخروف، والثور، والأبواب المفتوحة، والعشاء الساخن، وآذان العشاء، وجهاز الراديو الوحيد لعلّه ظلّ مفتوحاً ليذيعَ أخبارَ انتصاراتِنا إلى الآن. هبطْنا الوادي الحادّ المؤدّي إلى الجنوب الشرقيّ المفتوح على بئر يُشرقُ من سهل يقودُنا إلى قرية "شعب" حيث يُقيمُ أقاربُ أمّي وأهلها القادمون من قرية "الدامون" التي سقطتْ تحت الاحتلال... وهناك – بعد أيامٍ قليلة – تنادى قلاّحو القرى المُجاورة، الذين باعوا ذهبَ زوجاتهم، ليشتروا بنادقَ فرنسيّة الصنع لتحرير "البروة"...

حرّروها في أول الليل. شربوا شايَ المُحتلّين الساخن. وباتوا ليلة النصر الأولى، وفي اليوم التالي تسلّمها "جيشُ الإنقاذ" بلا إيصال، ليُعيدَ اليهودُ احتلالها وتدميرَها حتى آخر حجر... ونحن ننتظرُ العودة على مشارف الوطن.



تعرفُ السيرةَ كلّها، يا سميح، لقد طالت "نزهة" المهاجرين واختُصرت الحرب. وتعرفُ كيف "تسلّلنا" من لبنان حين أدركَ جدّي أنّ الرحلة ستطول، وأنّ عليه أنْ يلحقَ بالأرض قبل أنْ تطير. وحين وصلْنا لم نجدْ غيرَ الخراب. فقدْنا حقّ الإقامة وفقدْنا حقّ الأرض. وحين مارستُ طقسَ الحجّ الأوّل إلى قريتي الأولى "البروة" لم أجد منها غيرَ شجرة الخرّوب والكنيسة المهجورة، وراعي أبقار لا يتكلّمُ العربية الواضحة ولا العبريّة الجارحة: من أنتَ يا سيّد؟ فأجاب: أنا من كيبوتس "يسعور". قلتُ: أين كيبوتس "يسعور"؟ قال: هنا. قلتُ: هنا البروة. قال: أين هي؟ قلتُ: هنا. تحتنا. حولنا. فوقنا. هنا في كلّ مكان. قال: ولكنني لا أرى شيئاً، ولا حتى حجارة. قلتُ: وهذه الكنيسة... ألا تراها؟. قال: هذه ليستْ كنيسة. هذا اصطبلٌ للأبقار. هذه بعضُ آثار رومانية؟. قلتُ: ومن أين أتيتَ يا سيّد؟ قال: من اليمن. قلتُ: وماذا تفعلُ هنا؟. قال: عائدٌ إلى بلادي. ثم سألني: ومن أين أنت؟ قلتُ: من هنا... عائدٌ إلى بلادي..



هكذا، يا عزيزي سميح، يجري الحوارُ منذ أربيعن عاماً تقريباً. لاحظ المعاني العكسيّة، الانقلابية، الاستبدادية، للكلمات! ونحن في أحسن الأحوال حُرّاسُ آثارٍ رومانيّة. لذلك، كان علينا أن نعيشَ في "دير الأسد" قريباً منكم، لاجئين في وطن محفوظ، بقرار إلهي، منذ ألفي سنة لعودة راعي أبقار من اليمن!

فكيف نعيدُ تركيبَ هذا التفكيك، في البداية، بغير الشعر؟ كنا – أنتَ وأنا – نتسلّحُ بالمعلّقات، وبخلاصات المتنبّي، ورهافة الأندلسيّين، ورخاوة المهجريّين. وكنا نخدعُ أنفسَنا، في شبق البحث عن اختلاف، بتقمّص صعاليك وخوارج وبكلّ ما يبدو لنا أنه خروج عن المؤسسة. لم يكن اختلافنا كلّه مع تاريخنا. لأنّ هذا الاستيطان الصليبي يعارض كلّ تاريخنا. لذلك، لم نجد النموذج الجاهز في مرحلة وعي أكثر تطوّراً وتشكّلاً. كان علينا أن نبحثَ عن أصفارنا، وكان علينا أن نخطىء. إذ ليس لمصيرنا، ومفارقتنا الإنسانية، ومأساتنا من إطارٍ مرجعيّ. وليس لنا من مُعبِّر. وليس لنا أن نستعيرَ دموعَ عاشقٍ أندلسيّ يبكي الخروج. ليس وطننا أندلسيّاً إلاّ في الجمال والأندلسُ ليس لنا.

وإذا كان لا بد من أندلس، بتداعياتها الجمالية، فإنّ فلسطين هي الأندلس القابلة للاستعادة.



سلامٌ عليك، يا عزيزي، يا حارسَ الخرّوبة من أغاني الآخرين. أرجوك... أرجوك إنْ مررتَ بها غداً، أن تعانقها وأن تحفرَ على جذعها اسمَكَ واسمي... ولا تتأخّرْ!





أخوك محمود درويش

(باريس – 3/6/1986)

()()()()()

رسالة غير منشورة من نزار قباني إلى سميح القاسم


الحبيب الغالي سميح،
هزتني رسالتُك الرائعة.. القادمة من هناك، حيث تُعلمُنا الأيدي الصغيرة مبادئ القراءة والكتابة بعدما تحوّلنا جميعاً إلى أمّيين..
واخجلة الشعر يا سميح، من هؤلاء الأنبياء الذين كسروا بحجارتهم زُجاج أبجدياتنا.. واغتصبونا حرفاً حرفاً.. وكلمة كلمة.. وحوّلوا دواويننا إلى أحذية عتيقة... وشعراءّنا إلى بغايا...
صدّقني يا سميح، إنني أشعر بالخجل أمام هؤلاء المبدعين الذين أقالونا جميعاً، كتَّاباً، وشعراء، ومفكرين، ومنظرين، ومنافقين، ومنجّرين، واستلموا السلطة.
نحن ملوك مخلوعون.. والملوك الحقيقيون هم هذه السلالة الفلسطينية الطالعة من رحم الحجر..
نحن ملوك "الكُوتشينة".. الذين يمضغون القات.. ويمضغون لحم النساء بالجملة.. ولحم الشعوب بالجملة.. ويغتالون القصائد بالجملة..
نحن ملوك بني عثمان الذين دخلوا الحروب بالطرابيش الحمراء.. والسراويل المقصّبة. وسماورات الشاي.. حتى غرقوا جميعاً في مياه الدردنيل..
نحن "الأنتينات" المرفوعة.. لا السيوف المرفوعة.. من المحيط إلى الخليج...
نتوضأ بالأكاذيب.. ونمتطي خيولنا الإعلامية والديماغوجية والإيدولوجية.. على جميع الموجات الطويلة.. والقصيرة.. والح.ئ
أنا لم أكتب في الحقيقة شيئاً..
فقصيدتي "أطفال الحجارة" ليست سوى محاولة صغيرة لملامسة قامات هؤلاء الأنبياء..
فليعذروني، إذا لم أكن على مستوى بنوّتهم...
أخوك نزار قباني
جنيف 16/1/1988

()()()()()

سميح القاسم في قصيدة "ريتشارد قلب الأسد"

استلهم القاسم في قصيدته التي ألقاها الحملة الصليبية الثالثة، ليؤكد مكانة القدس باعتبارها البقعة التي تتعرض لأبشع مخطط تهويدي عرفه التاريخ، وهي تمثل إدانة للاحتلال عبر رموزه ممن يمنعون هذه المدينة عن مواطنيها الأصليين.

يقول الشاعر في قصيدته:

على ملأ الله أعلن روحي وضوئي
وأشهد، فاشهد
أنا ملك القدس،
نجل يبوس
وريث سلاسة كنعان
وحدي خليفة روح النبي، القديم الجديد..
ويتابع في قصيدته:
آن الأوان لترحل، ريتشارد
ضياؤك يطلب نوراً جديداً،
وأنت تحارب نوري القديم،
أنا ملك القدس فاختر سبيلك
إلى الموت إن شئت ريتشارد
أنا ملك القدس،
دع لي الصليب، ودع لي الهلال
ونجمة داود

()()()()()

- بغداد - معلقة سميح القاسم المعاصرة

د. خيـرالله سـعيـد

في مستهل هذه الدراسة، وسَمنا قصيدة سميح القاسم، بأنها: "المُعَلّقة المعاصرة" وتسمية "مُعلّقة" تنطبقُ عليها من حيث أنها:

1. نحت منحى المطولات الشعرية في الأدب العربي إذ بلغت 79 بيتـًا.
2. أُستخدمت "البحور العروضية" من النسق الشعري العمودي الذي كان
مستخدمـًا في المعلقات، حيث كان بحرها الشعري من "البسيط".
3. إستهلاليتها تحاكي "الطّلليات" في الشعر العربي.
4. ملكت النفس الملحمي.
5. حكت تاريخ بغداد، مُنذ التأسيس وحتى الأجتياح الأمريكي المعاصر.
6. إستخدام الأماكن والأسماء والأعلام، كرموز ذهنية حاضرة في الوعي
العربي، تستجيب لقريحة الشاعر، من حيث التوظيف والدلالة، في بناء القصيدة.
7. ظهور الموقف الشخصي، كنازع ٍ معرفي - في القصيدة - يُحدّد مسئولية
الشاعر أزاء أحداث عصره، ويُملي عليه القول، إبداعًا.
8. التغنّي بالأمجاد لتلك "المدينة" وإدانة الحاضر المتردّي.
9. هي الصرخة، والموقف، والوعي والفن، مُجسّدًا ببناءٍ دقيق الهندسة
والنظم.
10. عَبّرت بمجموعها عن أفكار وتطلعات أكثر من شعب ينشد الحُريّة،
واختزلت رؤى الكثير من المبدعين وأصحاب الرأي، الذين حاولوا
التعبير عن محنة بغداد، في ظرفها العصيب، بشكل إبداعي.
11. حقّقت قفزة ً نوعية في /شعر سميح القاسم/ من حيث كونه التزم بعمود
الشعر العربي، من جهة، ومن جهة ثانية، كانت المصطلحات
المعاصرة، حاضرة ٌ في بُنية القصيدة وفضاءاتها، فالشكل والمضمون
كانا يسيران بهارمونيّة متوازية، خدما مسار القصيدة، وقوَّة بناءها.
12. هي صَدى أشراف العراق، بلا منازع، فقد عبّرت عن خلجات أّنْفُسِهِم،
بشكل حميمي، وكانت صرختـُهم المُثلى والمُعبّرة عن روحهم.

* تحليل القصيدة:

في الصفحات السابقة - قلنا - بأن سميح القاسم، قد كتب "مُعلّقة ً مُعاصرة"، وأوّل ما يجلب الإنتباه في هذه المُعلٌقة هو: وزنها الشعري، حيث اختارهُ القاسم من "البسيط" بعناية العارف لمكنون بضاعته، إذ أَنَّ هذه "البحر" يُسهّل على الشاعر الحاذق، فتحَ مَدَيات أوسع للإستطرادات الموجبة في بناء القصيدة، وخدمة موضوعها، هذا أولا، وثانيا، يتميّز هذا "البحر" بأنه أسرع في الحفظ على قلب المتلقي وسمَعهُ، وأوجعُ في النفس، وأسرع لحالة الإنفعال الشعرية، وهو من الأوزان المُغنّاة، أضف الى ذلك أنّهُ من أسلس البحور وأسهلها في النظم، وبهِ نُظمت الكثير من القصائد العربية المشهورة، بما فيها بعض المعلقات.
وما اختياره من قبل سميح القاسم، إلا تماهيـًا وانخراطـًا في سِمْطِ لآلي المعلقات وعيون الشعر العربي، بمعنى أن "القاسم" أراد الخلود لقصيدتهِ هذهِ، إذ انه قد قَلّبَ الموضوع - في ذهنهِ - على أكثر من وجه - قبل الكتابة، حيث أن "قلق القصيدة" قد تلبَّس كيانه، وبغية الإفلات منه، والتعايش معهُ، تَركَ هذا "القلق" يختمر في الذاكرة حتى درجة النضوج، ومن ثم اختار القافية "د" لتخدم الموضوع والقصيدة واسم الشاعر، إضافة الى إسم المكان "بَغداد" حتى تكتمل رَعَشات القلق الشعري في كيانه، فيندفقُ الوليد كامل الخلقه، ليس فيه من "الخدج" نصيب، وعلى هذا الأساس - كما أعتقد - وُلدت معلقة سميح القاسم - بَغداد - هذا على صعيد - صنعة الشعر. أما على صعيد الموقف المعرفي والسياسي، فتجليه "أبيات المعلقة" والتي سنسيرُ مَعَها بيتـًا بيتـًا:

* يقول سميح القاسم في استهلالية قصيدته:
1. بايعتُ عَيدَكِ واستثنيتُ أعيادي
مُستشرفـًا غَدَ أبنائي وأحفادي
2. وكانَ نُذري دَمي، قُربانَة ً سنحت
على مذابح آبائي وأجــدادي

* الشطر الأول من البيت الأول، يُفصح عن مُحاكاة طَلَليّة، يتساوق بها الشاعر مع إسلوب "الجواهري" في افتتاحيّاته لقصائدهِ الكِبار، ومن ثم التزام بنمط - المعلقات - ذات الفخامة في الإسلوب وجماليات الشكل. وعُمق المعنى، والشعِرُ المُمُوسق. فيما تُفصِح بقية البيت. والبيت الذي يليه، بتفضيل المخُاطب "بغداد" على كيان الشاعر ووجوده، إذ أنَّه يفضلُ - أعيادها على أعيادهِ - بمعنى أنّه يراها - الكُل - وهو - الجزء - وعلى هذا الأساس، أفصح عن تقديم "نُذر دمهِ" قُربانـًا لتاريخ الأجداد الذين بنوا هذا الشاخص الحضاري" إذ أن "مسألة" "النُذر" وهو محمولٌ ديني وثقافي وفولكلوري، متأصّل فيه الكيان العربي. لذلك يلطقـُهُ الشاعر، باعتباره "ثابتـًا" لا يقبل "التحويل" حيث أنه "التعويذة" التي تربط الإيمان بهذا "النذر"، كما إن "المبايعة" تـُلزم - المبايع - بالإيفاء، لذلك قال: "بايعتُ عَيَدِك"، كي يوفي بالتزامه القومي الصحيح (31). "والنذر" إيمان، والإيمان، موقف. ومن هذا الموقف، ينطلق الشاعر لمخاطبة "كينونة الذات" لمعرفة كُنَهها، أثناء التشكُّل والصيرورة:

3 - وقلتُ لإسمكِ "كُن رؤيا" فصار رؤىً
لطارف المجد موصولا بأتلادِ

كُلَّ عربي، مُسلم أو غير مسلم، يعرفُ جيدا، أنّه، أثناء تقديم النذور، هناك كلمات مُصاحبة، يُطلقها "الناذر" قد تكون "مهموسة" وهو الغالب، أو مسموعة، وهو النادر، القصد منها، ربط النذر بنيّة القول، فإن تحقّق، فالنذرُ مُوفى، وهنا، يشير - سميح القاسم - الى تحقيق نذره، بشكل أبهى وأجمل واصدق، إذ أنّه، أراد من "الإسم - بغداد" أن يكون "رؤيا" أي "حُلم ٍ في المنام" فصار "رؤىً" أي أحلامـًا وأفكارًا وطموحات فكرية وغيرها.
وصيرورة هذه "الرؤى" كفلها "التاريخ" إذ هي "كيان مشيّد" وذات صفة حضارية، تُصاحبها إينما حِلت، هي "الصفة العباسيّة".

4 - وأنتِ ما أنتِ عبّاسيّة مَلكَتْ
شَمْسَ الشموس بتاج الله والضادِ

وهذه الصفة "عباسيّة" هي "إسقاط" حضاري مُوظّف، تَعَمَّدهُ الشاعر، كي يصْفعَ به - حكام بغداد المعاصرين - على اعتبار التاريخ، إذ أن "أبا جعفر المنصور" عندما بنى بغداد، عام [145 هـ] إستمّرت بزهوها كحاضرة الدُنيا، وفرضت إسمها على الحضارة العالمية، منذ ذلك الأوان، وعلى هذا الأساس يؤكّد "سميح القاسم" بأنها: "ملكت" "شمس الشموس بتاج الله والضّاد"، أي أن هناك - مباركة ٌ إلهيّة وإجماع عربي، عند بدءِ تشيّدها. (32). ولا يصح الإفراط بهذا التاريخ الحضاري ومن هنا نفهم قول الشاعر:

5 - ووزّعت نورها في كُلِّ غاشيّةٍ
من الظلام بمشكاة الدَم ِ الهادي

أي أن بغداد "مِشعلٌ" يجب أن يظَلَّ متوهجا، باعتبارها أنها "وزّعت" نور أضوائها، ضد كل ما هو حالكٍ ومظلم، ودفعت في سبيل ذلك "دَمها" كمعادل ٍ موضوعي للزيت الذي ينير "المشكاة".

* بهذه الأبيات الخمس، يكون "القاسم" قد حَذَّد البُعد التاريخي لإستهلال "معلّقته"، وجعلها بمثابة - المفتاح التاريخي - للدخول الى موضوع - بغداد - من حيث التكوين، والنشأة، والتأثير، والمآل النهائي، لما عليه في اللحظةِ الراهنة.
ومن - الإستهلال - كمقدمة، الى صُلب الموضوع، بغداد الحضارة - يستدرجنا - سميح القاسم - الى أن نتبعه، وفق الخُطى التي يرسمها لبغدادَ، فيقول:

6 - وشعَّ قرطاسُها روحًا ومعرفة ً
على العوالم، من خافٍ الى بادِ

إذن، النقلة الحضارية - لبغداد - تبدّأت في انتشار مهنة الوراقة في أسواقها، ووجود مصانع الورق، في أرباضها، أيام - هارون الرشيد - حيث أصبحت - كعبة كل العلماء وطالبي المعرفة، وشَعَّ نُورَ هذا "القرطاس" على بقية الحواضر الإسلامية، وتخطّاه الى أوربا، عِبرَ صقلية والاندلس وهنا يكمن مضمون عبارة الشاعر "على العوالمِ من خافٍ ومن بادِ"، أي أنّه أراد الجزم بالقول، بان - بغداد - منبع الحضارة والعِلم، من حيث أنّها أثرّت بعلومها على البَدو ِ والحضرِ، وعلى العَربِ والعجم.
وبغية التدليل على هذا التأثير الحضاري لبغداد على الدُنيا، فإنه يقيم القرينة على شاهد القول فيقول:

7 - هُنا المنابرُ، من عُربٍ ومن عَجَم ِ
هُنا المنائِرُ، هَدْيَ الرائح الغائدي

بمعنى، أن التلاقح الحضاري، بين مختلف الأقوام والإثنيّات، تجد صَداهُ في بغداد، منشورًا على منائرها، للقادم، الذي يروم العِلم، والرائح الذي ملأ جعبته بزاد المعرفة، على اعتبار أن "منائرها" منائرَ علم ٍ، لا منائر غِواية، وحيث أن - بغداد - هي حاضرة الخلافة العباسية، فمن الضروري أن تكون "منارة العِلم" ومن هُنا تلويحة الشاعر الى "المنائر" وربطهِ أيّاها بالدلالة المعرفية والإشارة الدّالة في البيت الذي يليه:

8 - أصابِعُ الناس أقلامٌ، وأحْرُفهم
بَوحُ اللغات بحُلم ِ الصابئ ِالصادي

حيث في تلك الفترة "ق3 - ق4 هـ" كانت بغداد شُعلة العِلم بكل معنى الكلمة (33)، وساد فيها النثرُ والشعر، وبرز التدوين لمختلف العلوم، حتى أن "أبي بكر الصولي الصابئ" وهو دلالة الشاعر في البيت أعلاه، قد تَصدَّر إسلوبَهُ الكتابي في الترسل والبلاغة، حتى غدا القُدوة المتَّبعة، وراحت مسؤولية هذا الشخص "الصابئ" تفرض عليه إرساء قواعد لأساليب الكتابة في عصرهِ "ق4 هـ" فوَضَع كتابه "أدب الكُتَّاب" (34) ليُساهم برفع الوعي المعرفي في الطبقة المثقّفة من الناس، وأخلص لهذا المنحى، حتى أنّه "رفض الوزارة" عندما عُرضت عليه إكرامـًا للعلم، لذلك خَلده الدهر كأحّد أعلام بغداد الثقافية، وأحّد شوامخ العصر العباسي، وليس صُدفة ً أن يستشهدَ به سميح القاسم، بل أراده "القاسم" الدليل التاريخي لمعنى المثقِّف الوطني، المنحاز للثقافة لا لغيرها، والذي يرفض تقبيل يد السلطان، لكنّه ينحنّي ويُقبّل مؤلفات الجاحظ.

وعلى هذا الأساس المعرفي، جاء إيحاء الشاعر بأن "أصابع الناس أقلام" كمعادل ٍ موضوعي إبداعي في الموضوع الشعري، إذ أن الظاهرة الثقافية، في بغداد - آنذاك - شملت مختلف القوميّات والألسن، دون حواجز أو جوازات سفر (35)، بل أصبحت "المعارف" أسفارٌ مُذهبّة" من المشرق الى المغرب، كمراصِدَ علم ِ، كُلَّ يشير الى الآخر، ويشيد بفضله، وهو ما يشير إليه البيت 9 - :

9 - من المشارق ِ أسفارٌ مُذهبَّة ٌ
الى المغارب، مرصادًا لمرصادِ

وتطور كل ظاهرة في المجتمع مرهون باستقرار الحالة السياسية والإقتصادية، لاسيما - الظواهر الثقافية - إذ أنَّ الخلافة العباسية - لاسيّما في عهدها الأول، كانت ناهضة ً بشكل ٍ مُلفت للإنتباه، حيث رغد العيش يفجّر طاقات الإبداع، إذا كانت النفوسُ آمنة، وجغرافية المكان تلهم المخيلة وتُحفز للإبداع، لذلك يستوقف سميح القاسم خيراتُ دجلة، وسمن الفرات، وثمرُ النخيل، وظِلاله التي تتواصل مع التاريخ الحضاري للعراق:

10 - ودجلة عَسَلٌ تُغري لذائذهُ
سَمْنُ الفرات بِنَحْل ٍ بينَ أوراد

11 - وللنخيل ِ عيون التمر ِ شاخصة ً
لسومر، بابل، آشورَ، أكّادِ

إذن نلحظ، في هذه الأبيات توصيفات "الخير" وتواصلاته عَبر الحضارات العراقية المتواصلة، سومر، إذ بها بدأ التاريخ، وبابل مجد الحضارات الرافدية، وآشور، بدء القانون المدني مرسومًا بمسلَّة حمورابي، وأكّاد، بروز قوّة الحضارة العراقية، إذ سرجون الأكّدي يخضع كل الشرق لسلطانه ويأتي بأسرى أورشليم، ليخدموا في بلاطه، واللغة الأكّدية، تصبح لغة الثقافة والشعر، وبها يُدِّون التاريخ الحضاري لبلاد الرافدين.

* قد يقول القارئ، بأن الشاعر سميح القاسم، ابتعدَ عن موضوعه، في البيت الأخير - ب11 - لكننا نرى أن هذه التهويمة الحضارية، هيَ ربط محكم لعوامل التاريخ البشري، ومن ثُمَّ ، سِمة التراكم الحضاري الموروثة لأهل بغداد خاصة، وأهل العراق عامة، ومن ثم هي مفصلٌ حاد للشموخ والعِزّة، وظفهُ الشاعر، كمقدمات تاريخية، لنتائج لاحقة ستظهر في ثنايا مُعلَّقَته. إذن، هذا التوظيف ذو دلالة خاصة يعيها الشاعر ويعرف كيف يستخدمها. ولغرض الإنتقال بموضوعة التاريخ - من القديم الى الوسيط - يظل الشاعر سميح القاسم متمسكـًا بعُرى الحضارة، مضيفـًا إليها ما حقَّقّهُ العرب - في الأوان العباسي، من فتوحات وأمجاد، ورفعة حضارية، تستوجب الذكر، ضمن حدوده الثقافية والقومية، على اعتبار أن - الإسلام - كدين ٍ وحضارة للعرب، كان ذا وجه مشرق، أفادت منه كل الشعوب التي انضوت تحت رايته، بعد الفتوحات:

12 - ليَعْرُبَ جامح ٍ شَدّت نوازعَهُ
بَوّابة الشرق، أمداءً لآمادِ

13 - فَللخُيول ِ صهيلٌ عِبَرِ "أرومية"
وللسيوفِ صليلٌ خلفَ "أروادِ"

14 - والأطلسي، يعيد الوصف "للهادي"

هنا نلمسُ نبرة َ ارتفاع في صوت الشاعر، مبعثها "التاريخ المُشرّف" للعرب عندما كانوا عربـًا!! فجيوش الفتح عبرت الحدود التركية عبرَ "أروميه" وخلف "جزيرة أرواد" عند البحر المتسوط، كان فتح "صقلية" ثم بلاد الأندلس، والوصول الى "بواتيه" على الحدود الفرنسية" في العهد الأموي، وهذه "الوقائع" تستفز الشاعر سميح القاسم بوعيه المعاصر، وهو يشاهد إذلال العرب في كل معركةٍ وموقع، ففلسطين أُخذت بالقوة، وبيروت إستبيحت، وطرابلس قُصفت، والقاهرة قُهرت، ودمشق خنعت، وبغداد سقطت في وضح ِ النهار.

فلا جعجعة ً للسيوف، ولا وقع لسنا بكِ الخيل. و"القاسم" يدركها جيّدًا، فحاول أن يتجاوزَ هذا التردّي، وذلك بلجوءِهِ الى "صفحة التاريخ القديمة" كبديل عن الحاضر، يُُصبِّرُ بهِ روحه المشتعلة، فيتغنّى بحنين جارح:

15 - مصاحفٌ ورماحٌ للمدى نُشرت
إيمانها النورَ في أسدافِ إلحادِ
16 - وشَرَّعت علمـًا واستنهضت أُمّمـًا
وأشهرت قلمـًا في وجَهِ جلادِ

حتى أنه /في هذين البيتين/ يعتبر هذه الفتوحات، فتوحات علم ٍ ومعرفة، لا فتوحاتٍ قهر وإذلال.

* ومن صَدى الحرب الى صَدى الأدب، يُعرّج "سميح القاسم" الى موضوعهِ المركزي /بغداد/ فيستحضر شوامخ الأدب الشعري في العصر العباسي يقول:

17 - وللقصائد كوفيّ ٌ يتيهُ بها
وكم تتيهُ إذا قالوا: مَنْ الشادي؟ّ!

"الكوفي" هو "المُتنبّي" واستحضارهَ هنا، بوصفهِ رمزًا أدبيـًا مقاومـًا لكل تسلُطٍ أجنبي، وذو نزعة عُروبية يعتدُّ بها دومـًا، إضافة لكونهِ لم يخنع قط الى حُكّام ِ بغداد، حتى في أوان ِ عزّها.

حين يُعلّم - سميح القاسم - بشخص المتنبّي، فإنه يَسِمُ العصر العباسي برمته، من الزاوية الثقافية، ضمّن حيّزها الضيّق - الشخصي - لينطلق منه، على اعتبارهِ - دالّة ٌ شامخة - لا يمكن تجاوزها في إطار الإختصاص، الى الأفق الثقافي العام، منظورًا إليه من زاوية الحاكم ِ والمحكوم، في جدلية ذلك الأُفقَ الثقافي، مُجسدًا برمز ٍ دلالي جميل، إسمهُهُ "ألف ليلة وليلة" كَسَمَر ٍ أدبي، تناقلته الثقافات الأخرى، وأفرزتهُ بغداد، كمنجز ٍ ثقافي، ما زال حاضرًا في وعيّي الأمم والشعوب، وعلامة دالّة على الرُقي الحضاري:

18 - وشهرزادُ، صَلاةُ الليل حكَمتُها
19- لخدّها طالما حًنّت مخَدَّتها
وشهريارٌ لإبراق ٍ وإرعادِ

"شهرزاد" بطلة "ألف ليلة" وهي مثال الحكمة لنساء بغداد، وقدرتهن على "ترويض" الطُغاة، و"شهريار" بوصفهِ - الرمز القوي - القابل للأنسنةِ والأُلفة، والإنقياد وللحكمة والمعرفة، وهو بنفس الوقت الحاكم القوي، الذي يهابَه عدوه.

* ثمة ملاحظة نقدية، قد تستوقف "المتلقي" هي، أن الشاعر سميح القاسم، كرّر "ست مرّات" في هذه القصيدة - المعلّقة" أنصاف أبياتٍ في /ب 14 وب 19 وب 26 وب 28 وب 32 وب 39/ هي - بتقديرنا - بمثابة حالة غنائية خاصّة، تعتري الشاعر فيطربُ لها، وينساق لهُ إيقاع الأبيات، دون تكّلف، فتأتي منسجمة مع الإيقاع النفسي والإيقاع الشعري، دون أن تضُرَّ ببناء القصيدة من حيث الشكل والمضمون، لذا وجب التنبيه عليه هنا (36).

* ومن الحاضن الجغرافي لبغداد، يطير تأثيرها الحضاري على بقية الأمصار، إذ يعتبرها الشاعر - سميح القاسم - بمثابة "الكاهنة" ذات العِلم الوارف، وتفيض على البقية، والكُلُّ منها يسمع وينهلُ:

20 - وأنتِ كاهينة ُ الإلهام، شاهدة ٌ
على بدائعَ أمثالٍ وأضادادِ
21- كُنوزٌ كفيّكِ أمجادٌ مخلّدة
زكاتها رَدْفُ أمجادٍ بأمجادٍ

وهذه "الكاهنة" هي التي "رعاها الرشيد" وبها أسَّس - دار الحكمة - لأنه يعرف قيمتها الحضارية والعلمية والثقافية، بعكس - حاكمها المعاصر - إذ "بعثر علومها" كما يقول سميح القاسم: -

22- أعلى الرشيد صروح العِلم وأنكفأت
على المُبعثر ِ من علم ٍ وإرشاد

والمعرفة إذا جافى أهلها - الحاكم - فان الخراب والدمار، سيحلُّ بالبلاد، لأن المعرفة هي ميزان التوازن في تدبير المُلكِ والسياسة، والبيت أعلاه، يحملُ جزءً من الدلالة التاريخية - بالإدانة - على المستعصم بالله العباسي - ت 656 هـ/ حين كانت بطانته وشخصيته بعيدة عن أهل العلم، لذلك كان دخول "المغول" بشكل يسير، ومن هنا نفهم إشارة الشاعر التالية:

23 - وملئَ نَهريكِ حِبرَ الروح سال دمـًا
وسال حبرًا دمي في بحر ِ أحقادِ

حيث كان اجتياح - المغول - لبغداد - عام 656 هـ/ 1258 م، قد دَوّنه نهر دجلة إذ رُميت فيه "مخطوطات العُلماء" وحالَ الماءُ سوادًا، حُزنـًا على بغداد، والشاعر هنا، يُعيد المفارقة التاريخية للإجتياح الأول - المغولي - للإجتياح الثاني - الأمريكي عام 2003 م وكِلا "الغزوتين" كانتا بفعل - الحاكم - وسوء تدبيره، لأنه لا يعي العِلم ولا يصون حُرمة أهله، ومن هنا كان بكاء سميح القاسم الأمر، إذ انّه دوُن - هذا السقوط - بحبر ِ دَمه، إذ استحال لون الدم الى "حبر أسود" لأنّه "مرارته" قد مُلئِت حقدًا على هذه المأساة. وهذا الحقد الدفين على بغداد، يفهمهُ الشاعر، كون - هذا الشاخص التاريخي - الثقافي - قد بَذ الكثير من الأوغاد، وأهلُ - هذا الشاخص - لا حُكّامهِ - أهلُ نجدةٍ وعلم ومرؤة، وأحرارًا في سلوكهم، ويصعب انقيادهم الى طاغ ٍ أو خسيس، وهذا ثابتٌ في سلوكهم، إلا أن /طاغيها الأخير/ أذاقهم الويل ونكَّل بأحرارهم، فلقى ما لقى من " التجافي" وأشاحَ الأهالي عنه وجوههم، لأنه بالأساس أدار لهم ظُهور المجن، ومن هذه المفارقة ينطلق سميح القاسم بقوله:

24 - وكُنتِ ما كُنتْ. من حُرٍّ لطاغيةٍ
عِبرَ العصور، وعُبدانـًا لأسياد

إن المرارة التي اعتلت روح سميح القاسم، مبعثها معرفي، ونزعة غيوره اتجاه أهل العلم والثقافة، فحينما حورب /العقل/ المتمثّل بالمعتزلة في الأوان العباسي، بدأ الوهن في جسم البلاد بكاملها - لا بغداد وحدها - لذلك يبقى هذا الهاجس في وعي الشاعر، حادّ ًا ومتسلسلا، يُصاحبه في كُلِّ طرفةٍ، ويخامرهُ في كُل فِكرة.

وسميح القاسم، كالشعراء الذين سبقوه، يُريد قرع ناقوس الخَطر بأعلى مِمّا كان، لأنه يدرك، أن "السلطان" لا يتعض، لأنه يرى نفسه فوق العامة، لذلك يحاول "القاسم" تعميم الخاص - بغداد - الى بقية البلدان العربية، وليس العواصم وحدها، موجهـًا الخطاب الشعري للعامة لا للخاصة:

25 - تداوَلتْكِ صروف الدهر عاصفة ً

26 - ورنَّحتكِ كفوف الشر خاطفة ً
وطَوّحتكِ من الجزّار للفادي

حين يُسيطر القلقَ المعرفي على كيان الشاعر، فإنّه يجيّش كل الحواسَ فيه، فتعتليه حالة الإرتعاش تلك التي تحدثنا عنها - في صفحة سابقة، لأن الحُزن يُطرب - أحيانا - (37) فتزداد الشاعرية ويبدأ الترنمَ والميَل، لتكرار فكرة تلحُّ على ذهن الشاعر - الأبيات أعلاه - وحين لا يتخلّص منها فإنها تعاود الكرّة عليه، وهو ما يتوضّح جليّـًا في الأبيات: 28 - 29 - 32 - 33/ ، فيما يقول في البيت التالي:

27 - ومن أساور غَرّدت ذهبـًا
28 - الى شفوفِ حرير ٍ زغردت طربـًا
الى مَذلّة أغلال ٍ وأصفادِ

نهاية البيت الأخير مشوبة بالحنضل ِ المُرِّ، يتفوّه بها سميح القاسم، مغصوبـًا عليها، لأنها واقع، في السياق الحياتي، وضرورة في السياق الشعري، فالصورة نابضة الحيويّة، والتناقض فيها يفضح حالة الحُكّام - من العزِّ والرفل ِ بالحرير، الى قيد الذُلِّ والإنكسار، وما أشفى الأوغاد، وما أعلى "قهقهاتهم" وهم ينظرون الى "الحُرّة الأسيرة" بغداد، تكبلها القيود:

29 - وللمغول ِ زُحوفٌ لا لجامَ لها
وللتتار سيوفٌ دون إغمادِ
30 - وللعلوج من الاجلاف زعنفة ً
تبدِّلُ الحال إفسادًا بإفسادِ

31 - وأنتِ عارية ٌ في السّجن داميّة ٌ
32 - وأنتِ كابيّة ٌ في القيدِ باكيّة ٌ
والقهقهاتُ لأوباش وأوغادِ

إذن، كان المُعادل الموضوعي لبغداد، في هذه الأبيات، هي "الفتاة ُ الأسيرة" أو - الحرّة ُ المقيّدة - وهذا يعني إدانة العصر - وشرشحة - قاسية للوعي العروبي، ليسَ فقط في المنظور السياسي، بل يتعداه الى - الجذر الإثني - حيث تصوير الشاعر - للحالة - هو إظهار "عورة الشرف" أمام الأعداء، دون أن يتحرّك ساكن من لدن أحفاد "عدنان وقحطان" لذلك تظهر هجومات سميح القاسم، على هذا - الوعي القومي الزائف - إذ يقول:

33 - ما أنجدت يمنـًا قيسٌ، ولا ذرفت
ثمُودَ دمعة َ محزون ٍ على عادِ
34 - والأهلُ أهلُك لم تنبُس لهم شفة ٌ
بغير ِ صمتٍ لدى أجراسَ حُسّادِ

هذه المناقشة الفكرية، يطرحها سميح القاسم على أصحاب "النظريات القومية" في محيطها العربي، ليدينهم بها، ويكشف زيفهم التاريخي، إذ أن سقوط - الرمز الحضاري - بغداد، يعني سقوط هذه الآيديولوجيات، لأن حَدَثَ السقوط أكبر من أيّ زيف آيديولوجي، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، يُعلّم - القاسم - على وجود الشرخ في "الأرومة" العربية، من حيث النسب والإنتماء، فهو ليس فقط يُدين "ولاة الجور" العرب والأعراب، بل أيضـًا يغرز مخرزهُ في وعي الفرد العربي "باعتباره، أصبح مُنقادًا، بشكل أعمى، الى حكومات وأحزاب ومنظمات "مخصّية" إذ أنّه ناقشَ "السُلالة العربية" من /ثمود وعاد، وقيس واليمانية/ وحتى أحفادهم المعاصرين، بمعنى أنَّهُ يستحضر مفهوم "عِزة القبيلة" من خلال الحَدث القائم، وهو بهذا المسلك يُعيد مقولة الشاعر التميمي سَوّار بن المضرّب، القائلة:

"أيرجوا بنو مروان سمعي وطاعتي
وقومي تميمٌ والفلاة ورائيا"

والإستحضار هنا للمفارقة "المقلوبة" حيث سقوط الرمز الحضاري من خلال سقوط الوعي فيه ومن خلاله، وعلى هذا الاساس نفهم الشاعر حين يخاطب "النسب" ومن وَتر ِ إدانة الإنتماء "اليعربي" الى التوقف مع "الخصوصّية المنفردة" التي عاشتها بغداد، على مَدى التاريخ، وعلّمتْ بميسمها على الحضارة، متخطية باقي الأمصار، بأفق حضاري - ثقافي، يفرض حضورُه بقوة على مخيلة الشاعر وذهنيّتهِ، فيستنطق هذا الحضور، من خلال أسئلة يطرحها بخطابهِ الشعري:

35 - لِمَ ازدهرتِ وبيدُ الشرق ِ قاحلة ً
وكيفَ صارَ حريرًا ثوبُ لُبّادِ؟
36 - وما نهُوضُكِ والأجفان مُغمضة ٌ
على الرمال؟ وماذا صوتُكِ الحادي؟
37 - وما طُموحُكِ والآمال خائبة
وما صعودُكِ والأعراب في الوادي؟

إذن، يفهم الشاعر، أن العُلا، معرفة، تنساق نحوها القَدَم، لذلك تزدهر المُدن وتقوى بالمعارف، وتلك هي بغداد - كما يراها الشاعر - وكما هي بالفعل، إذ أنها - تجاوزت الأعراب، وانفلتت من وَتَدِ الخيمة، وسارت نحو العُلا، وبقي الأعراب في الوادي.

هذا الصعود الحضاري لبغداد، بوشمِهِ العباسي الأول، هو الثابت في وعي الشاعر، وهو الأفق الذي يرسمُ خطاه بالتعقُّب، ويرصُدهُ بمنظار التاريخ، كي تبقى - بغداد - حُرّة، كما كانت، وكما يريد، إلا أنَّهُ يلمحُ بشكل واضح "لوثات التاريخ" التي لحقتها من الحُكّام - لاسيما "أوغاد العوجة" وشرورهم ضِدها، إضافة الى تدنيسات "الأجانب" لصهوتها الأصيلة، وهذه المسألة تُؤرّق الشاعر - بشكل حاد - فيتواجد طرِبـًا من الحزن عليها، فيقول:

38 - يا حُرّة ً لَوّثَ الطاغوتُ زَهوتها
39 - ومُهرة ً دَنَّسَ الكابوي صَهُوتها
ما العيشُ، في موتِ فرسان ٍ ورُوّادِ؟

زفرة ُ حرّى ينفُثها الشاعر من داخل ِ أعماقه، فالزهو لبغداد، لَوّثه صدام حسين، كطاغية أهوج، ورُعاة البقر، يدنسون صهوتها، هكذا هي بغداد الآن، قد ارتسمت بذهن الشاعر، وهو يرفض هذه "الصورة" بل يرفض التعايش معها، وهو ما يجليه "عجز البيت 40" إذ ماتَ الفرسان، وذهب الأوائل، من أصحاب الريادة في العِلم والمعرفة، والنجدةِ والأباء.

الوعي السياسي لسميح القاسم، يضغط عليه بقوة. لتحليل واقع - بغداد - السياسي - لاسيما، في الفترة الحالية، اي أن "سميح القاسم" بدأ بمناقشة "التاريخ المعاصر" بمباشرة واضحة، بدأت معالمها في البيت رقم "40" السالف الذكر، بَعدَ أن خرج من إطار "بغداد العباسية" وأسدل الستار، عن ذلك النور الوهاج، واحتفظ بهِ بذاكرته، حتى حين.

وحين يَرى سميح القاسم، أن ساسة بغداد، أودعوا لجامَ سرجها بيد الأجانب، يرفع وتيرة الهجوم عليهم، بشكل سافر، يقول:

40 - لكِ الأجانبُ أسيادًا، متى رغبوا
وكم يجانَبُ من أهل ِ وأولادِ

ولو لا هذه "المجانبة" المتعمدة، بشكل متواصل للأشراف والأجواد، لما وَصل الأمر الى هذا الحَدّ، وثمة دَلالة مضمّرة، يحملها البيت - 40 - بأن - الحكام - يأتمرون بأمرِ الأجنبي، إذ أنَّ تأويل كلمتي "متى رغبوا" تعني ذلك، وأن حكام البلاد مطيّة للأجانب، وهنا سميح القاسم، يتماهى ونص الشاعر عُمرو أبو ريشة حين يقول:

"لا يُلام الذئبُ في عِدوانه
إن يَكُ الراعي عَدوَّ الغَنَم"

والقاسم، يسحب ظلال هذه الإدانة لحاكم بغداد الى بقية "الصف العروبي" حُكّامـًا وأحزابـًا، وجمهور أيضـًا، حين يُقاد بعصا الحاكم فيقول:

41 - تفرَّقوا شيعـًا، وانفرقعوا زُمرًا
وأسرفوا عبثـًا، في شِحّ إرفادِ
42 - ولا تجمعهم في الويل جامعة
نادي عليهم إذن، يا أُختهم نادي!

في هذين البيتين "41-42" يضع الشاعر النقاط على الحروف، بالنسبة الى الواقع العربي المأزوم، والمتفرّق "شيعـًا" ومذاهبَ شتّى، تتحكم، بهذا الواقع، التفرقة الطائفية، والحزازات المذهبية، وليسَ هُناك أفقـًا منظورًا للوحدة، عربية كانت أو إسلامية، سوى "الشعارات"، وحين تشتد الأزمة، فلا فعلَ هناك سوى "الكلام" لذلك يستهزء الشاعر بهم حين يطلب من "أّختهم" أن تناديهم للأكل، لا للحرب، وهو هنا يستعير تعبيرات الجاحظ في "البيان والتبيّن" حين يستشهد على الأسلاف بمثل ِ هذه الأمور، إذ يقول:

"وما أُمّكُم تحت الخوافق ِ والقنا،
بثكلى، ولا زهراء من نسوةٍ زُهر ٍ

أَلَسْتُم أقَّلَّ الناس عِندَ لوائهم
وأكثرهم عند الذبيحة والقِدر!

على اعتبار "أن الويل لا يجمعهم" وهو حقّـًا مصيب بهذه النعوت، وتلك التوصيفات، ولغرض تميّز الأمور بشكل أوضح، فإنه يبدأ بمحاكمة الحُكّام، من خلال غرار الفرد، المتمثل بشخصية "البلطجي" صدام حسين حاكم بغداد المهزوم - والطاغية المأزوم، حين يقول عنه سميح القاسم:

43 - وصاحب الجاه في مستنقع ٍ نَتِن ٍ
يتيهُ بالجاه، فيما يسخُر النادي
44 - عليه من حُلّل الأشباه ضافية ٌ
ودأبه الرقص مشدودًا بأوتادِ
45 - وحين يخطبُ فالأقوال في وادٍ
وحين يفعلُ، فالأفعال في وادِ

هذه "الصورة الكاريكتيرية" يرسمها سميح القاسم للحاكم العربي، من خلال شخصية صدام حسين، إذ أن حاكم بغداد في أوسخ بطانة في الحكم رافقته، ويترنم بخُطبٍ جوفاء، ليسَ لها في الواقع العراقي أو العربي أيَّ صدىً، بل هو - وفق تعبيرات الشاعر، يرقُص في مكانه، أيّ لا يحركُ ساكنـًا، والجموع تسخر منه، فهو يخطب/ اثناء حرب الخليج الأولى - بأن تحرير القدس يبدأ من البوابة الشرقية؟! فيما فلسطين تُنتهك الأعراضُ فيها، مُنذ عام 1947 م وحتى هذه الساعة، وأفعال هذا الحاكم الأهوج لا يمكن أن يقبلها عقل، إذ أنّه يفتعل العداواة مع الجيران والاشقاء ويترك العَدو الرئيسي، أمريكا والصهيونية العالمية، الى أن ألَّبَ الناس جميعـًا ضدّه وضدّ بلدهِ العراق، واستبيحت بغداد بسببه.

يرتعد كيان سميح القاسم، من هذه الأفعال الشنيعة لحاكم بغداد، ويحمّلُهُ كامل المسؤولية عن هذا السقوط المريع، انظر كيف يصفهُ في الأبيات التالية:

46 - حصانُ طروادةٍ صالونَ منزلهِ
وكعبُ آخيلَ في جيش ٍ وقُوّادِ
47 - وصاحب الجاه رَخْوٌ حين تصفَعَهُ
كَفَّ الغريب، وفينا كابنَ شَدّاد
48 - وأيُّ جاهٍ نجا من جاه عصفتهِ
وحَولَهُ حشدُ أزلام ٍ وأكدادِ

توصيفات سميح القاسم، لبيت الطاغية بأنه "حصان طروادة" هو عملية إعادة قراءة لتاريخ الحروب - إن جاز القول - التي فعلها - صدام حسين - دون طائل، إذ أن "نخر السرطان" بجهاز الدولة الفاسد نفسه، ومسألة توظيف الاساطير اليونانية - كحرب طروادة وحصانها الخشبي وكذلك - كعب آخيل (38) هو لتدليل على /زيف خطاب وفعل حاكم بغداد، إذ أن "القلعة" منخورة من الداخل، لأن أشراف العراق ليسوا فيها، بل فيها "السَفلة" المنتقين بعناية، إذ أن هدفهم/ تمجيد الحاكم/ لا رفع شأن البلاد، وهذا "التمجيد، مدفوع الأجر، ساقطـًا عنه "أتاوة الوطنية" فالحاكم هو العراق بمفردهِ، وعليه كان توصيف /سميح القاسم/ للشُلّة الحاكمة بأنهم (أكَدّاد) أي - براذين والبراذين هي البغال، أي أنهم لا يعون من فعل العقل شيء.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحَدّ، بل يرفع سميح القاسم، وتيرة الهجوم والإدانة لجلاد بغداد، نازعـًا عنه أيَّ صفة انسانية، حيث يقول:

49 - جَزَّ الرقابَ، فلم يُشبع هوايتَهُ
جَزُّ النواصي وتعليقٌ بأعوادِ
50 - إستصغرَ الخلقَ معتدّ ًا بسطوتهِ
لم يخلق الله أمثالي وأندادي!

هُنا - في هذه الأبيات (49-50) تحليلٌ دقيق لشخصية صدام حسين، فسلوكهُ معروف بهذه الصفات، وعنجهيته الجوفاء، مكشوفة للخلق، من عربٍ وأعراب وأعاجم، وغروره هذا، كان فقط على أبناء العراق، وعند مواجهة الأعداء هو "أذلُ من فقع ٍ بقرقر"، وقد أحسن "القاسم" وصفه في البيت "48".

وسميح، تخنقهُ العَبرة َ على بغداد وما حَلَّ بها من شرور الطُغاة، فيخاطبها بقلبٍ مكسور، والاه بادية بصوته، وكأنه يخاطب معشوقته:

51 - بغدادُ بغدادَ. حُبّي قاتلي فمتى
يتيحُ حُبّكِ تكفيني وإلحادي
52 - في الكاظمية لي شمسٌ أُغازلها
وفي الرصافةِ شُبّاكٌ لإنشادي

وفي ثَرى هذا الحُبَّ الوجداني، يتمنّى سميح القاسم، أن "يُلَحْدَ فيه" بكفن ٍ فيه عبقَ بغداد، ونسائم بساتين الكاظمية، وأحياء "الكرخ" المجاورة لها، إذ لهُ في الكاظمية "شمسٌ" هي الحريّة بعينها، ومنها ينتقل عِبرَ "جسر الأئمة" الى الرصافة لينشدَ شعرهُ هناك، حيث مرقد الإمام /أبي حنيفة النعمان/ وسوق الورّاقين، والمدرسة المستنصرية وجامع الخلفاء العباسيين. والقاسم هنا، أراد التمازج الثقافي بين "الشيعة والسنة" إذ في "الكاظمية" مرقد الإمام الجعفري "موسى الكاظم" فيما "الرصافة" تحتضن مرقد أبي حنيفة، وهناك أيضـًا بقية أطلال العباسيين الأوائل، وشواهد قبورهم، والتي هي بمثابة الدافع القوي عند الشاعر للإستمرار في رسم أخيلته لهذه المدينة الجميلة الخالدة:

53 - وشاغلي رصدُ أنقاضي مُبعثرة ً
في راحلين عن الدُنيا وأفادِ
54 - غرستُ في تربة الأحزان لي أملا
وما سوى الحُزن، إصداري وإيرادي
55 - يُقثّر الدَهرُ في حظّي وفي هبتي وحظّهُ من هباتي جودُ أجوادي



هذه المُناجاة صادرة من قَلبٍ مكلوم، لكنه عصّي على الإذلال "يخردشهُ" الحزن، ويشدّه التاريخ للصحوةِ، إذ - الهبّات - لذلك الشاخص الحضاري، لا تنعرف متى تنطلق ومتى تثور، إذ العلامات والشواخص ما فتأت حاضرة، في الوجدانِ والوجود، وللنهرين، حضورٌ في الحضارة، وللأسماء دَلالة ورموز، وهذه الرموز هي الباقية، فيما الطُغاة لعنوا:

56 - وللفُراتِ أبٌ، قبلي قضى وجعـًا
في مَنْفييّن، بلا صُحبٍ وعَوّادِ
57 - بريدُ غُربتيه في غربتيه بكى
رسائل البين من بُعدٍ لإبعادِ

هذين البيتين، خَصَّصُهما سميح القاسم للجواهري تحديدًا، باعتباره رمزَ القوافي الشعرية في عمود الشعر العربي، حيث يخاطبهُ بلقبهِ "أبو فرات" واستخدام هذا "المكُنّى" ترميزًا ومعادلا موضوعيـًا لسطوته الشعرية، وبأنه "سيلٌ" من القوافي منحدرٌ أبد الدهر، كسيل الفرات ولذلك أستخدم الشاعر "كنيته" ليدين بها من شرّدوه عن الفراتين.

ثم يستحضر غُربة هذا "المثال" وآلامه، ووجعه، ووجع المنفيين مَعَهُ من مُبدعين وغيرهم، إذ أنّه "صنّاجتهم" في المنفى، وصوتهم الحزين، وصداه البعيد، والمحزن حتى "للبريد" فهو يرددُ رجعَ الصدى لحنينه الى بغداد:

"حَيّيتُ سفحكَ عن بُعدٍ فحيّيني.
يا دجلة الخير يأ أمَّ البساتين ِ

حيّيتُ سفحكَ ضمئانـًا ألوذ بهِ
لوذَ الحمائم بين الماء والطين ِ

يا دجلة َ الخير، يا نبعـًا أُفارقه
على الكراهةِ بين الحين والحين ِ

أَلَمُ الجواهري، في الأبيات أعلاه، هي الصَدى المؤثر في أبيات القاسم السابقة، والثاني يقرأها بعمق وينفعلُ معها بحُزن ٍ والم، فيجاريها بجروح ٍ دامية، ملؤها الحزن واللوعة، ومن هذا الألم الدفين في روح الشاعر، يوجّه العتب الى "بغداد" الناس، والحضارة، والمكان، والشاخص التاريخي العصيّ على النسيان، مُخاطبـًا إيّاه بنفس لوعة الإحتراق:

58 - بَدَّلته جسدًا صلصالَ طاغية
ومَنْ يُبدِّل أرواحـًا بأجسادِ؟
59 - وأنتِ من سَلَفٍ أودى به خلفٌ
وكم شقيتِ وكم حاوَلتِ إسعادي

المفارقة التي يُبديها الشاعر في البيت /58/ هي إدانة واضحة لمقلوبات الأشياء، من خلال ذات الواقع، حيث أن "بغداد" المجتمع، هو الذي قام بهذا الفعل الشنيع، إذ رضى "بصلصال الطاغية" صدام حسين، كجسدٍ من طين ٍ بغيض، لا روح فيه، حيث تلك "الروح" هي "روح الجواهري" أي روح الإبداع، بكامل عُمق المعنى ودلالاته الأخرى، والبيت الشعري، يحمل تساؤلا مضَمّرًا هو: كيف يأ أهل بغداد رضيتم بهذا الطاغي الذي شرّدَ المُبدعين؟! ثم يُردف اللومَ عليهم، بدلالة التاريخ لبغداد الحضارة من خلال البيت "59" حيث نتانة الخلف جَرّت الجريرة على السلف، رغم أن "روح الشاخص الحضاري" تأبى ذلك، وتحاول إثبات ميسمها التاريخي على الدوام، بأنها "تريد السعادة للناس" لكن طغاتها جلبوا التعاسة. لكن شرنقة السمو تبقى كامنة ً في تلك الروح، وسينطلق حريرها ذات يوم، وتعود كما كانت، وهي المعشوقة أبدًا، إذ هي صَدى الإبداع في روح الشاعر، والذي دومـًا يردّدهُ:

60 - وأنتِ لي، أنتِ لي آتيكِ مبتهلا
دربي ترابٌ فلم أطمع بسُجّادِ
61 - وأنتِ زادي على بخُل ِ الحياة وفي
عَسفِ المجاعةِ، يا بوركتَ من زادِ

لذلك كان هذا الإصرار الروحي من لدن الشاعر، بأن بغداد له، بصفتهِ مُبدعـًا وإنسانـًا، يعي معناها الحضاري وشاخصها الرمزي، وهي له بوصفهِ عربيّـًا, ومسلمـًا، ومسيحيـًا، بدويـًا كان أو حضريـًا، إذ أنها - بالنسبة للجميع - "زاد الزؤّادة" في العِسر ِ وفي اليُسر ِ، لذلك يمدحَهُ الشاعر في نهاية البيت - 61 - وإليه يحُنُّ أبدًا، باعتباره - زاد المعرفة الثقافي والإنساني:

62 - وخبزُ روحي في كفيكِ مختمِرٌ
وماءُ عيني من بُستانكِ النادي
63 - وأنتِ مُلهمتي من قبل ملهمتي
لتمر ِ عينيكِ ترتيلي وتردادي

إذن العلاقة بين الشاعر وبغداد، هي علاقة التجاذب الروحي، حيث يبث الشاعر أسرارهُ لها، باعتبارها "الوعاء" الذي "اختمِر فيه" عجين روحه، ومن ندا بساتينها كان ماء عينيه، إذن، هناك توحّد روحي بين المكان - بدلالته الرمزية - والشاعر، بثقافته المعرفية، حيث أن "هذا الشاخص" مصدر إلهام الشاعر، مُذ وُجد، وهو قائم بوعيه، يناجيه على الدوام:

64 - ومن شناشيلكِ أصطاد الشَجا كُلما
صاحت لآلئهُ: بوركتَ صيّادي

هنا، روح سميح القاسم، تدور بأزقِّةِ بغداد القديمة، بشناشيلها (39) الجميلة، ذات الطراز الخاص، والذي يفوحُ منه الهوى والهواء، إذ الصيف القاري يفرض فتحَ هذهِ الشناشيل، لتبان تلك الأجساد الغضّة، والأذرع، البضّة، واختلاسات الهوى وآلام الجوى، وبوح "الفاخت" المنطلق من تلك الشبابيكِ، والعائد إليها دومـًا وقت الغروب، تلك هي الرؤية النرجسية في هذا البيت - 64 - ومن جهة أخرى، أراد سميح القاسم، التذكير بالسيّاب، عاشق تلك الشناشيل، حيث أنه كتب أحَّد دواوينه بإسم "شناشيل إبنة الجلبي أو إقبال".

والتضمين - هنا - لملامح العمارة البغدادية، هو الإشارة الى الأصالة والإبداع في الفن المعماري، الذي أبدعته الروح العراقية وأودعته في تلك الشناشيل، ليزيد من دافع الإلهام عند المبدعين، وعند المحبّين، وهو بنفس الوقت ربط الماضي بالحاضر الزاهي، وليس بالحاضر المظلم، كما هو في عهد /أبناء العوجه/ الذي أحَلَكَ كل شيء، لاسيما نفوس الإبداع.

وبتقديرنا، أن سميح القاسم، أراد بهذه التعريجة "الفولكلورية" لفن العمارة البغدادية كي تُغطّي على بعض /الصحائف السوداء/ التي غَلّفَ البعثيون بها بغداد، وسَوّدوا كل معالمها - الحضارية والإنسانية - لانه - كما أسلف - يرى بغداد - بأنها له /الأبيات 61 - 62 - 63 - 64/ لذلك يتوجّع لها - دون أن يراها بعينه /فهو لم يزر بغداد - على حدّ علمي/ ويخاطبها من بعيد، من القدس - حيث جرح روحهِ الآخر، النازف دمـًا، على طول التاريخ المعاصر - لاسيما بعد النكبة عام 1948 م - يقول في ذلك الخطاب:

65 - وصحتُ من وجع في القُدسِ يشعِلُهُ
إنّي استغثتُ فغضَّ السَمَع نُجّادي
66 - وجرحُكِ الحيُّ من جرحي، ومعتصمي
لا يستجيب، وغَضَّ الطرفَ أشهادي

صرخة الألم، مُضاعفة عند الشاعر سميح القاسم، من جهتين: الأولى، أن العرب، ساهموا بذبح القدس، مُذ صمتوا عن التقسيم المشؤوم، والثانية، أنهم أيضـًا ساهموا، بشكل واضح - عن سقوط بغداد - بيد الأجانب - بمعنى آخر أن هناك - تواطئٌ - مفضوح، من قبل الحُكام العرب، والذي رَمزَ له الشاعر بـ "المعتصم" حيث أراد التذكير بأن "الخليفة العباسي المعتصم بألله" أَنجدَ فتاة َ عربية بأرض الروم صاحت "وامعتصماه" في الوقت الذي تُستباح المُدن، ولم يتحرك معتصمنا المعاصر، بل يغضَّ الطرفَ ويسدَّ السمع، وهو بهذا ينطبقُ عليه قول الشاعر:

"لقد أسمعت لو ناديت حيّـًا
ولكن لا حياة لمن تُنادي"

واستغاثة الشاعر - سميح القاسم - في البيتين أعلاه - 65، 66 - تُدين كل العرب، وليسَ الحكام وحدهم، حيث صراخه سُمع ولم يُنجد، والأعين إحوَّلت عن مشهد الإستباحة والضمير العربي قد أُنِّثْ، بعد أن خُصي بيد الجَلاد العربي، ولم يعد يتحرك لمأثور القول، فأراد سميح القاسم إدانة هذا الواقع المُر، بشكل مفضوح، فما عاد الحياءُ مقبولا، وسبايا العرب تخطرُ بالقيود:

67 - وكم عَددتُ ملايينـًا لها نسبي
فلم تقلني حساباتي وأعدادي
68 - وكم أرّقتُ على نوم ٍ يحاصرني
خَلفَ الحصار، وكم أرّقتُ جَلادي

هناك، تعليمٌ حاد، بالخطِّ الأحمر، على "الملايين العربيّة" لأن جمعها وجموعها لم تُقِل عثرة إنسان واحدٍ، فكيف تقل عَثرات المُدن؟! والشاعر يعتريه القلق، ويلازمه الأَرق، من هذا الخمول العربي، ومن ذاك الحصار الغربي، المُطّوق للقدس وبغداد معـًا. ومع ذلك، هناك بقيّة نَفَس ٍ مقاوم، يُثير - بهذه المقاومة - حفيضة الجلاد - لأن هدف المقاومة نبيل وسام ٍ، وهو نثار روح الشاعر، ينثره على بغداد، بغية الصمود أكثر. لذلك نرى الشاعر ينطلق بموقفٍ فرديّ /خاص بهِ/ ليتميّز عن بقية الأصوات، لاسيما الساكتة، أو التي باركت جلاد بغداد على الإيغال في البطش ِ، حين امتدحتْهُ وأثنت عليه، وهو مسربلٌ بدماء الشرفاء من أهل العراق، لذلك ميّز سميح القاسم صَوته بهذا القول:

69 - ويعلُم الله، لمْ أُغمضْ على مَضَض ٍ
عين الكفاح، ولا أخلفتُ ميعادي
70 - قصدتُ وَجْهَكِ، مسكونـًا بمحنتِهِ
وخاب قصدي، وما خيَّبت قُصّادي

وتجسيدًا لهذا الموقف الفردي، يحنو سميح القاسم على بغداد بأُلْفةٍ، يستمدُّها من أُلفَةِ أهلها، ويداعبها بالقول، بغية أن ترضى عنه، وعن صدودهِ الطويل عنها، وكأنما هي في موقف المعاتبِ له، يقول:

71 - متى التقرّبُ للمحبوبِ محتسبـًا
شُرور صدّى وإفرادي وإبعادي
72 - ويذبُلُ الحبُّ مأسورًا ونضرْتُهُ
طلقـًا، تدوم الى آبادِ آبادِ

خطاب الإفصاح عن الهوى الداخلي، الذي يشعر بهِ الشاعر، يبقى متسرمدًا في روحه الى أبدِ الآبدين، لاأن "نضارة العشق" لا تزول ولا تؤُل، فحبّها - أي بغداد - آسرٌ لكل جوارح الشاعر، لأنه فُطمَ على هذا الهوى:

73 - وأينَ قلبُكِ من كَفٍّ تهدهدهُ
ودونُه مبضَعٌ في كفِّ فصّادِ

حالة التألم مزدوجة في رؤية الشاعر وخطابه الشعري في هذا البيت - 73- حيث أنه يريد الشفاعة لقلبهِ منها، إذ أنّه يُدرك أن قلبها ترصدهُ /مباضعَ/ لجرّاحين أوغاد، ويعلم أنهم سيصيبون منها مقتلا، وهو ما كان. لذلك يؤكد سميح القاسم، هذه المعادلة بقوله:

74 - تقودُهُ طغمة للباطشين بهِ
وكان قلبُكِ غيرُ منقادِ

هذا التصريح، هو حقيقة يدركها الشاعر جيدًا، إذ أنه خَبرَ عن قربٍ وتَلَمُّس ٍ حقيقة هذا القلب، الذي يأبى الذلّة والخنوع، وهو عسير الإنقياد لأيّ طاغية، لذلك يتضامن روحيـًا معها، ويقَدم نفسه، فداءً لها إن رامت فداءا:

75 - شبعتِ أسرًا وإذلالا وتضحية ً
ولافتدائُكِ قلبي غارثٌ صادِ
76 - ومن نعيم الهُدى علمـًا وعافية ً
الى جحيم الرَدى في قبضةِ العادي

هذا الموقف، وتلك الأماني فيه، ما تصدُر إلا من قلبِ محبٍّ عاشق ٍ تستجيب خلاياه الحسيّة جميعها الى تلك الجروح التي عَلِقَت بجسد بغداد، وما زالت بها الندوب سَوداءَ القروح ِ، فلقد أذلّها الأوغاد، وقادوها من "نعيم الهدى" الى جحيم الردى" وهي بين أيديهم أسيرة.

هذا المشهد التراجيدي لبغداد، قاصمٌ للظهر، وجامعٌ للهموم، لا تفارقهُ العين، منذُ أن حَلَّ الطغاة بمرابعها عام 1963 م، نخروا روحها الجميلة وسلّموها أسيرة ذليلة، وتركوها بليلة وضُحاها، دون مُغيث.

وعلى هذا المشهد، ينشُجُ سميح القاسم ببكائهِ المُر عليها فيقول:

77 - بغدادُ، بغداد. ناري ألفُ لاهبةٍ
وبينَ جنبيّ قلبٌ ألفُ وَجّادِ

هذا الوجد المتأجج، ينساب في كل خلايا الروح ِ والجسد، فيثير جروح الاشواق ويلتهب الجسد، والذاكرة تستعيد التاريخ لملامح تلك الفاتنة الأسيرة - بغداد - ومخاطبها بوجع ٍ يقول:

78 - أأستعيدُ بما أسلفتِ خارطتي
وَهَلْ أجدّد باسم الله ميلادي؟

هذه المناشدة حامية الوطيس، لأن تاريخ المدينة أبقى، وأعصى على النسيان، وهو وهّاجٌ برّاق، لكن الظرف الزمني لا يعود الى الوراء، ومن هنا مكمن المناشدة في بيت الشاعر أعلاه - 78 - ومنهُ ينطلق الى البدءِ الأول في التكوين الحضاري لبغداد، بسيمائها الأولى، وحَلّتها الأولى، وإسمها الأول، بغداد العباسيّة:

79 - وأنتِ ما أنتِ. عبّاسيّة ٌ سُبيت
بغدادُ أنتِ، ولكن أين بغدادي؟!
وأنتِ بغدادُ.. لكن أينَ بغدادي؟؟

هذا الإلحاح من الشاعر، على توصيف بغداد، بانها عباسيّة، هو لتدليل على أنها لا تليق إلا بهذا الإسم الحضاري، والإسم الثقافي، والإسم الدلالي لبانيها، ولا يصح أن تسمى بأسماء الطُغاة، إذ هي ثابتة في الوجدان العربي، وفي وجدان الشاعر بالذات، هي بغداد الأولى، وعلى هذا الأساس، رفض تسميتها الثانية، التي أُريد لها أن تكون ملحقة بأسماء "الزُناة". ومن هنا نفهم تكرار الشاعر لعجز البيت الأخير، والسؤال عنها. "لكن أينَ بغدادي" حيث جُرّدت - إبّان حكم الطغاة - من كل ملامحها الأصلية.

* * *

* تلك هي مُعلّقة سميح القاسم، وهكذا فهمناها (40).
د. خير الله سعيد
موسكو
1/اكتوبر/2003

- الإحالات والهوامش -

1 - انظر - ديوان الخريمي "إسحاق بن حسان" ص 27، جمع وتحقيق د. علي جواد الطاهر ومحمد جبار المعيبد - ط 1 - دار الكتاب الجديد - بيروت 1971 م.

2 - أنظر بقية الأبيات في "الديوان" وراجع - للإستزادة - رثاء غير الإنسان في الشعر العباسي - تأليف - عبد الله عبد الرحيم السوداني - ص 32، ص 34. منشورات - المجمع الثقافي - الإماراتي - أبو ظبي - 1999 م.

3 - تاريخ الطبري /8/457 وما بعدها - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - القاهرة - 1969 م والمسعودي - مروج الذهب ومعادن الجوهر/ 4/283 - تحقيق بيريه دي مينار وبافيه دي كرتناي - بمراجعة - شارل بلا - المطبعة الكاثوليكية - بيروت 1973 م.

4 - تاريخ الطبري 8/ 500- 501.

5 - هكذا ورد إسمهُ عند المسعودي في - مروج الذهب 4/ 276-278.

6 - المصدر السابق - نفس المكان، وانظر كذلك - رثاء غير الإنسان في الشعر العباسي/ مصدر سابق - ص 37.

7 - أنظر - ديوان محمد بن عبد الملك الزيّات/ ص 96/ دراسة وتحقيق وليد عبد المجيد إبراهيم العبد الله - مطبوعات - جامعة البصرة - 1988 م.

8 - راجع - محمد بن شاكر الكتبي - عيون التواريخ 20/ 129-130 - تحقيق فيصل السامر ونبيلة عبد المنعم - دار الرشيد - بغداد 1980 م.

9 - إبن الفوطي/ الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المئة السابعة/ ص 329 تحقيق مصطفى جواد - بغداد 1351 هـ.

10 - النجوم الزاهرة في اخبار ملوك مصر والقاهرة - 7/ 53، منشورات المؤسسة المصرية العامة - القاهرة.

11 - للإستزادة في رثاء بغداد - يراجع كتاب - رثاء غير الإنسان في الشعر العباسي - ص 94 وما بعدها، ففيه استطرادات هامة وجميلة، بهذا الصدد.

12 - الكتبي - عيون التواريخ - 20/ 140-141 - مصدر سابق.

13 - المصدر السابق 20/ 138.

14 - راجع تعليقات الأستاذ عبد الله عبد الرحيم السوداني - على هذه القصيدة، في كتابه/ رثاء غير الإنسان في الشعر العباسي/ ص 97.

15 - حسين علي محفوظ - المتنبّي وسعدي - ص 73-74 - طهران 1377 هـ.

16 - ذوي الحجر = ذوي العقول الناضجة.

17 - راجع بقية القصيدة عند حسين علي محفوظ - المتنبي وسعدي/ ص 74 وما بعدها ولاحظ تعليقات عبد الله عبد الرحيم السوداني في كتابه "رثاء غير الإنسان في الشعر العباسي" ص 99 - ص 100. فهي حَريّة بالمتابعة.

18 - عيون التواريخ، 20/ 138-140 - وفوات الوفيات 2/ 231-235 تحقيق إحسان عباس - دار الثقافة - بيروت.

19 - فوات الوفيات، 2/ 233 وما بعدها.

20 - لاحظ إن هذا "البيت" كُرّر في قصيدتين - الأولى لإبن الشروي - الآنفة الذكر - والثانية لشمس الدين الكوفي/ محل نقطتنا المبحوثة/ والبيت مضمّن من إحدى القصائد المعروفة في ذلك الزمان، وكذلك عجز البيت الذي قبله، والذي وضع بين قوسين.

21 - إبن الفوطي - الحوادث الجامعة - ص 334 - ص 335.

22 - هنا نود الإشارة الى ضرورة مراجعة تعليقات الأستاذ عبد الله عبد الرحيم السوداني في كتابه /رثاء غير الإنسان في الشعر العباسي/ ص 103-104، حيث هناك شروحات وافية، وتصويبات هامة للوزن الشعري وغيره.

23 - راجع - ديوان الجواهري 4/ 324 - منشورات دار العودة - بيروت ط3 - 1982 م.

24 - "أبو فرات" لقب الجواهري - حيث إبنه البكر إسمهُ "فرات" كان أحد زملائنا في موسكو، وغيرها من البلاد الأوربية - الشرقية - حيث ذاق الأذى والمنفى كأبيه. وعن القصيدة - يراجع ديوان الجواهري 3/ 22-

25 - ديوان الجواهري 3/ 128-

26 - ثَمة مقاربة صورية ومعنوية، عند سميح القاسم، تكاد تنطق بمنطوق هذه الأبيات الجواهرية، إذ أن "القاسم" تمثَل روح الجواهري وذكرهُ في سياق تلك المعلقة الجميلة. وسوف نذكرها في حينه.

27 - لم يكن ديوان الشيخ عبد المحسن الكاظمي - تحت يدي - وأنا ما زلت في منفاي - "بموسكو" ساعة كتابة هذه الدراسة، لذلك تعذَّر عليَّ إحالة القارئ الى رقم الصفحة في "الديوان" حيث أنّي حفظت هذه الأبيات الشعرية. وقتئذ كنتُ "طالبـًا في الإعدادية" حيث كانت مُقرّرة في المنهاج الدراسي لنا أعوام الستينات من القرن المنصرم، فارجو العذر من القارئ الكريم.

28 - مَرّة أخرى أعتذر للقُرّاء وللشاعر ولذويه، لعدم ذكر إسمه، لأني بعيدٌ عن بغداد منذُ أكثر من 28 سنة، وما زلتُ بعيدا.

29 - نُشرت القصيدة بجريدة عكاظ السعودية - العدد 13395 في 20/4/2003م.

30 - ألزمتنا - هذه الدراسة - لأن نُطّور مضمونها مستقبلا، إذ أن موضوع "الشعراء وبغداد" واسعٌ وكبير، وسوف نفردُ "دراسة" عن هذا الموضوع تحت عنوان " بغـــداد والشــعـراء والقـــدر" فلا بأس من كافة الزملاء، شعراء كانوا أو نُقّادًا، إرسال إلينا، بالقصائد، التي تندرجُ في ذات الموضوع، مع جزيل الشكر.

31 - قد يقول البعض بأن "سميح القاسم" هو أُمّمي الموقف والثقافة، بحكم التزامهُ السياسي، ونحن نرد هذه الدعوى، بكون "القاسم" قَدَّم "وطنيته وقوميّته" بكل نتاجه الثقافي والفكري على "أُممّيته" والذين قرأوا دواوينه يدركون ذلك جيدًا.

32 - يشير إبن الفقيه، الى بناء بغداد من قبل المنصور، مؤرّخـًا ذلك بالعربيّة "الهجرية" وبالفارسية، وبالشمسية قائلا: "وكان تحوّل المنصور من الهاشمية الى بغداد، والإبتداء ببنائها سنة خمس وأربعين ومئة، وذلك في اليوم الثامن عشر من مرداذماه سنة أحدى وثلاثين ومائة ليزدجرد، وآخر يوم من تموز سنة ألف وثلثمائة وسبعين للإسكندر، والشمس في "الأسد" ثماني درجات وعشرُ دقائق". أي هناك حالة من التفاؤل والسعد - وفق منظور "الأبراج". راجع عن ذلك - إبن الفقيه الهمداني/ بغداد مدينة السلام - ص 41. تحقيق د. صالح أحمد العلي - ط 1 - منشورات وزارة الإعلام العراقية - بغداد - 1977 م.

33 - راجع - كتابنا "ورّاقو بغداد في العصر العباسي" - الباب الأول - المقدمات الحضارية والتاريخية من ص 17 - ص 127، منشورات، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية/ الرياض/ 2000 م، حيث هناك تفاصيل وافية عن نهضة بغداد الثقافية في تلك الفترة.

34 - هو "أبو بكر محمد بن يحيى الصولي" صابئي الديانة، وكتابه: "أدب الكُتّاب" حَقَّقَهُ محمد بهجت الأثري، ونشر بالمكتبة العربية ببغداد، والمطبعة السلفية بمصر - 1341 هـ ولا يصح الإفتراض - عند قراءة كلمة "الصابئ" الواردة في البيت، بأنها تشير الى "أبي الحسن الهلال بن المحسن بن ابراهيم الكاتب - المعروف بالصابئ" أو "غرس النعمة الصابئ" فإنّهما من كتّاب الخلافة العباسية، لكنهما لم يرتقيا الى مصاف أبي بكر الصولي - في الترسل ِ والإنشاء. ومن هنا تكون الإحالة عليه.

35 - في 29/أيار/1993، دُعيت الى أحد الأقطار العربية - لإلقاء محاضرة أدبية عن الورّاقين" - بناء على دعوة من رئيس رابطة كُتابها، ولم تسمح لي "نقاط الحدود" بالدخول الى بلدهم، فعدتُ أدراجي الى دمشق، حيث كنت أعيش هناك، وقتها. ؟!!

36 - من الناحية المنهجية - اعتبرنا، أن هذه - أنصاف الأبيات - بمثابة بيت كامل، بغية متابعة المنهج النقدي في سياقاته التسلسلية، ليس إلا.

37 - راجع مادة - حَزَنَ - وطَرَب - في القاموس المحيط - للفيروز ابادي.

38 - حصان طروادة: هو حصان خشبي كبير، استخدمهُ اليونانيون في الحرب ضد "الطرواديين" بمثابة خديعة حربية، إذ تركوه وانسحبوا، بعد أن يئسوا من فتح الأبواب، فأخذه الطرواديون - وكان "محشوّ ًا بالجُند" وحين حَلَّ المساء، فتح هؤلاء الجنود - جوف الحصان الخشبي - وخرجوا وفتحوا الأبواب، فدخل اليوانيون، وأستحلوا مدينة طروادة، بهذه الحيلة. وكعب آخيل: هو الشيء الذي يرمز الى نقطة الضعف، أو بمعنى آخر أن "كل شيء ملغوم" من الداخل، وهو أيضـًا أستخدم "كرمز حربي" في حرب طروادة ذاتها، وآخيل هو أحّد القادة اليونانيين، غَََضَبَ عليه الإله "أبولون" إلا أنه وعَدَهُ بعدم الموت، ومن ثم وجّه إليه "سهم بارسيا" إبن قريام - ملك طروادة، فأصابه في "كعبه" فكان نقطة الضعف القاتلة فيه.

39 - الشناشيل - هي الزخارف الخشبية التي تصنع لغطاء الشبابيك والنوافذ والشرفات المُطلّة على الأزقة، لصَدِّ الشمس والعين، بنفس الوقت، وهي طراز بغدادي خاص بالطبقة المترفة - وقتذاك - أي في زمن العثمانيين - وتلاشت هذه المعالم في زمن البعثيين

()()()()()

سميح القاسم يدين الاحتلال ويناكفه... ويسخر من مَلِك القش
كتب غازي بني عودة:

اختار الشاعر سميح القاسم خلال أمسية نظمت له في نابلس ضمن فعاليات القدس عاصمة الثقافة العربية مناكفة الاحتلال عبر واحدة من قصائده القديمة، وقال مخاطباً الحضور: "هذه لن تكون زيارتي الأولى أو الأخيرة، ولكن وفي سبيل مناكفة الاحتلال الذي منعني من زيارة نابلس سألقي عليكم هذه القصيدة التي كتبت عام 74".
وبدأ القاسم أمسيته بقصيدة "الطريق إلى جبل النار" التي يصف فيها مشاهداته اثناء زيارته نابلس آنذاك بعد ان "توحد الوطن تحت الاحتلال" وعجز المحتل عن محو هوية المكان رغم ما علق بالمدينة من ملامح بفعله حيث يقول "حفظت المسافة عن ظهر قلب وتذكرت كل العيون... تذكرت كل المفارق واستعدت القرى قرية.. قرية".. و"أرى لافتات جديدة.. أرى قرية دمروها.. ومقبرة شيدوها".
ومن نابلس والطريق إليها ذهب القاسم إلى مدينة القدس وخصها باثنتين من قصائده الأولى لأهلها وحماتها والأخرى سخر فيها من "ملك إسرائيل" الذي يرعبه كل شيء ويسعى خاسراً لإخضاع المدينة بكل سلاح وصولا إلى منعها من الاحتفال.. عاصمة للثقافة!!.
وقال: "القدس ليست مجرد أماكن مقدسة فقط، لكن هناك مئات الآلاف من الفقراء، ولا نستطيع ان نحمي القدس دون ان نحمي الإنسان".
وأضاف في تقديم ساخر منه لقصيدته الثانية التي يهزأ فيها من عقم قرار إسرائيل منع القدس من الاحتفال وقال مبتسماً: "ذات يوم كان هناك رئيس لوزراء إسرائيل اسمه ريتشارد قلب الأسد، لا اذكر في أي عام كان رئيساً لوزرائها... وسأل الجمهور: متى كان ريتشارد قلب الأسد رئيساً لوزراء إسرائيل".
ومضى قائلاً: "هذه موعظة تتلى في سبت النور وأحد الشعانين والثلاثاء الحمراء" ومما جاء في هذه القصيدة "أنا ملك القدس، نجم يبوس... أنا ملك القدس لا أنت ريتشارد فاسحب خيولك..."، و.. "يا أسدا من دخان... يا أسد القش، والطيش، والغش، تفضل فارحل... سأعطيك.. بعض زهر الجليل، وخمر الخليل، وخل الخليل... تسهل ولا تتمهل... أنا ملك القدس... ان شئت حياً سترحل وان شئت ميتاً سترحل..".
وأشار القاسم إلى العدوان الأخير على قطاع غزة وما تخلله من اعمال قتل ودمار بشعة وحالة الصمت الدولية إزاء جرائم الاحتلال وأصابع الاتهام التي توجه للضحية وليس للجلاد.
وقال: "نحن نتعرض لتهم جاهزة، فالفلسطيني يولد واسمه إرهابي.. أما اسم الدلع فقد يكون محمد أو حنا..". وأضاف: "ليس فقط الفلسطيني إرهابي بل صار العربي إرهابي وكمان المسلمين، والعالم يغفر لهم وبصفاقة كل ذلك".
وبينما تعمد الشاعر مناكفة الاحتلال في اختيار أولى قصائده في هذه الأمسية فانه ذهب للسخرية من ملك الاحتلال، ملك القش في الثانية ولم يعتذر من الجلاد في قصيدته الثالثة "أنا متأسف" التي يخاطب فيها القاتل ويدينه بعد جولة من الجرائم كانت غزة مسرحا لها على مدار شهر.
وقال: "اثناء العدوان على غزة، ماذا استطيع ان افعل طوال شهر وأنا في الرامة والتلفزيون مفتوح على مشاهد تقشعر لها الأبدان... امام هذا المشهد لم استطع ان أحرك أي طائرة ولم يكن لديّ الا القصيدة..".
وقرأ من "مطولة شعرية" بعنوان "انا متأسف" يخاطب فيها العقل الصهيوني من داخله.
ومما جاء في هذه القصيدة "حياتي العسيرة مكلفة... مكلفة حياتي ومكلف موتي.. أنا متاسف" و "إلى الله ارفع عيني.. ارفع قلبي وكفيَّ.. يا رب أهلكت النار زرعي وضرعي.. يا رب جارت على الشعوب جميع الشعوب.. وسدت عليّ الدروب... بلاد أبي أصبحت مقبرة".
واختتم الشاعر سميح القاسم أمسيته بكلمة مقتضبة وجهها لجمهور نابلس وقال فيها: "سنلتقي قريبا في نابلس محررة.. البعض سيقول هذا خيال شعراء ولكن ليس على الأرض ما هو أكثر واقعية من خيال الشعراء".
وبينما كان اختار القاسم قصيدة "الطريق إلى جبل النار" ليبدأ بها أمسيته فان فرقة جذور الـ "شفا عمرية" التي شاركته في إحياء الأمسية التي أقيمت على مسرح الأمير تركي في جامعة النجاح كانت استهلت مشاركتها باحتفالية القدس عاصمة للثقافة بالغناء للقامة المنتصبة والهامة المرفوعة وهي واحدة من قصائد سميح القاسم توطئة لتقدمه.
وقدمت الفرقة التي أسست قبل نحو عام وشاركت في احياء عدة حفلات ومناسبات في المغرب والأردن وقطر والإمارات العربية باقة من الأغاني الشعبية والوطنية.
وأشار مايسترو الفرقة التي تتبع مؤسسة غربال في شفا عمر حسام عبد الغني في تصريح لـ "الأيام" إلى ما تمتاز به الفرقة من خلال نوع الآلات الموسيقية والإيقاعية التي تستخدمها في تقديمها للاغاني التراثية والشعبية الفلسطينية كالبزق والفيولا إضافة للعود.
ونوه الفنان عبد الغني إلى ما تركز عليه فرقة جذور من توزيع جديد للاغاني الشعبية والتراثية لافتاً إلى انها بصدد إصدار مجموعة جديدة من الأغاني خلال الأيام القليلة القادمة بتوزيع جديد.
وكانت نادية علي حمد، عريفة الحفل قدمت الشاعر سميح القاسم بالقول: "يأتي من الجليل الذي لا تهزه الريح ولا العواصف، الذي عمره إخوان الصفا محمود درويش والقاسم وراشد حسين وسالم جبران الذين مثلوا القلب والجرح الفلسطيني أفضل تمثيل".
وأضافت حمد: "يأتي من الجليل لينشد على مسامعنا ملاحم النسور التي غنينا معه في كفر قاسم، وسنبقى نغنيها حتى يرفع شبل او زهرة علم فلسطين في القدس".
واختتمت حمد تقديمها سميح القاسم بالإشارة إلى إحدى قصائد وإبداعات الشاعر مستعيرة شموخ جبال نابلس لوصفه وقالت: "تتحدث الجغرافيا عن جبلين في نابلس عيبال وجرزيم ونتحدث عن جبل ثالث فأهلا بك منتصب القامة مرفوع الهامة".


تاريخ نشر المقال 06 تشرين الأول 2009

()()()()()




سميح القاسم: قصيدة المقاومة لم تفقد جمهورها
حاوره : جمال الدين بن العربي من الرباط


قال الشاعر الفلسطيني سميح القاسم إن قصيدة المقاومة "لم تفقد جمهورها في
أي وقت من الأوقات وما يزال أدب وثقافة وقصيدة المقاومة ضرورة حياتية".

واستدل الشاعر الفلسطيني، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء على هامش أشغال المؤتمر الدولي لنصرة الأسير الفلسطيني المنعقد حاليا بالرباط تحت شعار "تحرير الأسرى الفلسطينيين .. مسؤولية دولية"، على ذلك بالتفاعل الكبير الذي أبداه الجمهور المغربي مع قصائده وقراءاته الشعرية في العديد من اللقاءات التي نظمت في عدد من المدن.

وعبر الشاعر سميح القاسم عن سعادته بالحضور المكثف والكبير والفاعل والحي والنشط لهذا الجمهور المتجاوب مع قصيدة المقاومة، مما يدل على أن جمهور القصيدة في المغرب، كما في فلسطين ومصر والعراق وتونس وفي كل قطر عربي، "أكثر رقيا مما نتخيل، والجمهور البسيط أكثر نقدية مما يتوهم الأكاديميون".

وأضاف أن هذا الجمهور يبرر وجود هذه القصيدة لأنها تعبر عن حياة وعن واقع سياسي واجتماعي وثقافي وإنساني لا يمكن للفن إلا أن يعبر عنه بصدق وبجمالية "تليق بهذا الوجع الكبير".

وجوابا عن سؤال الجدوى من شعر المقاومة في الظرفية الحالية، أكد الشاعر الفلسطيني أن الحديث عن جدوى هذا الشعر في هذه الأيام، باعتبار أن هناك عملية سياسية واتفاقيات سلام، لا ينسجم مع حقيقة الأمر ومع الواقع، مشيرا إلى أن الاحتلال مستمر في العديد من الأقطار العربية وعلى الخصوص فلسطين والعراق، وفي سبتة ومليلية المحتلتين "إنهما جزء من وطني وهي منطقة محتلة ونطالب بتحريرها".

وأكد، في هذا السياق، أن أدب وثقافة وقصيدة المقاومة ضرورة حياتية و"ليست خيارا لأنه لا يمكن أن يخير الإنسان في دفاعه عن حياته وعن وجوده"، لذلك من الطبيعي أن تحيا قصيدة المقاومة.

وقال "ما ليس طبيعيا هو أن نذهب إلى الهذيان الشعروي الذي يشبه الشعر وما هو بشعر وهو هراء ونسخ لتجارب من الغرب لها قيمتها في مواقعها"، مبرزا أنه "أمام الجرح لا نستطيع أن نتحدث بعبارات سريالية غامضة لا تعبر عن الألم الذي ينتجه الجرح".

وفي ما يتعلق بكيفية مناصرة الشاعر والأديب والكاتب لقضية الأسير الفلسطيني باعتبارها محورية في الصراع ضد إسرائيل، أوضح الشاعر سميح القاسم أن "الشاعر مواطن ككل المواطنين وبين الأسرى من هم أصدقاؤه وأقرباؤه أو أبناء فكره وأبناء قضيته، لذلك لا يمكن الفصل بين الشعر وبين قضية الأسرى، وتجنيد الرأي العام للدفاع عن حرية هؤلاء الأسرى هو واجب فني وثقافي وإنساني وسياسي بالأساس".

واعتبر أن القصيدة أكثر من ذلك تذكر الأمة بأنها ما تزال تحتاج للمقاومة "ومن يقول عكس هذا الكلام هو في الحقيقة لا يعرف الواقع ولا يتعامل مع العقل ومع المنطق"، مشددا على أنه "من واجبنا أن ندافع عن حريتنا وأن نحارب أسرنا والقوى الغاشمة التي تأسرنا".

وفي هذا السياق، قال سميح القاسم، في ما يخص من يقول بأن "المحنة هي التي تنتج الأدب والأفكار التي تعطي القصائد الجيدة"، إن "المحنة هي مصدر الفن والألم، وهي مصدر الشعر"، مرجعا ذلك إلى "أننا لم نجرب الفرح، فإذا أعطيت لنا الفرصة مع الفرح فقد نجد في الفرح مصدرا رائعا للشعر هذه مسألة واقع وتجربة معيشية".

واستشهد الشاعر الفلسطيني الكبير بقولة للوركا الذي كان يردد "أنا أدافع عن ابتسامتي" وأنه استشهد وهو يدافع عن ابتسامته، مضيفا "نحن لدينا دمعة، وندافع عن دمعتنا، ونحن على استعداد للشهادة في الدفاع عن دمعتنا".

ويعد الشاعر سميح القاسم واحدا من أبرز شعراء فلسطين، ولد في مدينة الزرقاء الأردنية عام 1929، وتعلم في مدارس "الرامة" و"الناصرة"، ونشر مجموعات شعرية حازت على شهرة واسعة في العالم العربي، وكتب عددا من الروايات.

ومن بين المؤلفات والأعمال الشعرية لسميح القاسم، الذي يتناول في قصائده وإنتاجاته الأدبية الكفاح والمعاناة الفلسطينية، "مواكب الشمس" و"أغاني الدروب" و"دمي على كتفي" و"دخان البراكين" و"سقوط الأقنعة".
()()()()()






نماذج من شعره:


أشدُّ من الماء حزناً

أشدُّ من الماء حزناً
تغربت في دهشة الموت عن هذه اليابسه

أشدُّ من الماء حزناً

وأعتى من الريح توقاً إلى لحظة ناعسه

وحيداً. ومزدحما بالملايين،

خلف شبابيكها الدامسه..

*

تغرٌبت منك. لتمكث في الأرض.

أنت ستمكث

(لم ينفع الناس.. لم تنفع الأرض)

لكن ستمكث أنت،

ولا شيء في الأرض، لاشيء فيها سواك،

وما ظل من شظف الوقت،

بعد انحسار مواسمها البائسه..

*

ولدت ومهدك أرض الديانات،

مهد الديانات أرضك،

مهدك. لحدك.

لكن ستمكث في الأرض. تلفحك الريح طلعا

علي شجر الله. روحك يسكن طيرا

يهاجر صيفا ليرجع قبل الشتاء بموتي جديدي..

وتعطيك قنبلة الغاز إيقاع رقصتك القادمه

لتنهض في اللحظة الحاسمه

أشد من الماء حزنا

وأقوى من الخاتمه..

*

لك المنشدون القدامى. لك البيد. لاسمك

سر الفتوحات. لاسمك جمر الهواجس تحت

الرماد.. وأنت افتتحت العصور الحديثة بالحلم.

كابدت علم النجوم وفن الحدائق

وأتقنت فقه الحرائق

وداعبت موتك: حرى جهاز التنفس،

للدورة الدموية ماتشتهي.

وأيقنت أنك بدء.. ولا ينتهي

ولاينتهي.. ويضيق عليك الخناق ولاينتهي

وتتٌسع الثغرات الجديدة في السقف

جدران بيتك تحفظ عن ظهر قلب

وجوه القذائف

وأنت بباب المشيئة واقف

وصوتك نازف. وصمتك نازف

تلم الرصاص من الصور العائليه

وتتبع مسرى الصواريخ في لحم أشيائك المنزليه

وتحصي ثقوب شظايا القنابل

في جسد الطفلة النائمه

وتلثم شمع أصابعهما الناعمه

على طرف النعش،

كيف تصوغ جنون المراثي؟

وكيف تلم مواعيد قتلاك في طرق الوطن الغائمه؟

وتحضن جثة طفلتك النائمه؟

*

أشد من الماء حزنا

وأوضح من شمس تموز. لكنٌ نضج السنابل

يختار ميعاده بعد عقم الفصول.

إذن فالتمس في وكالة غوثك شيئا من الخبز.

وانس الإدام قليلا.. تحر التقاويم: يوما فيوما.

وشهرا فشهرا. وعاما فعاما. تحر المناخ المفاجيء،

قبل انفجار ندائك. أنت المنادي وأنت المنادي

وأنت اشتعلت. انطفأت.. ابتدأت.

انكفأت.. وأنت اكتشفت البلاد.. وأنت

فقدت البلادا!

أشد من الماء حزنا.

*

يؤجٌلك الموت . تمسح جسمك بالزيت كاهنة

كرٌستٍها العصور لأجلك أنت. لأجلك تولد

في البحر والبر عاصفة لا تسمى

وتزحف في جسد الأرض حمى

لينهض فيك كسيحاً. ويبصر أعمي

وحولك ما خلق الله من كائنات غرائب

ومن يصنعون العجائب

لهم ٍ قصب السبق دون سباقي. لهم ما تتيح المقاعد

للمقعدين. لهم جنة رحبة في الزحام الفقير وفي ورد

مستنقعات الأزقٌة. تحت صفيح الأنيميا وبين

خيام التخلف والجهل. في رقة القمع. هم نخبة

الرق. أسياد زوجاتهم في المحافل. زوجات أسيادهم

في القرار الصغير الصغير

لهم ما يتيح الجلوس المدرب. ساقا علي الساق.

كفا علي الخد. تحت حزام المدير

وتحت حذاء معالي الوزير

لهم قوتهم دون كد. وميراثهم دون جد وجد.

لهم أن يكونوا العقارب في القيظ،

أو أن يكونوا الأرانب في الزمهرير.

لهم زغب القاصرات وريش النعام الوثير

وأوقاتهم من حديد. وأعباؤهم من حرير

وأنت على ملتقى الليل بالفجر. والبحر بالبر

والجهر بالسر. تقتح باب السؤال الكبير

وتغلق باب الجواب الأخير

أشد من الماء حزنا

أشد من الماء والرمل حزنا.

*

تصلي كثيرا

تصلي طويلا

تصلي

وفي موعد النجمة الضائعه

يضيع نداء المؤذن في جلبة السير،

يعلق غيم الدخان بجلبابه. ويعود إلي البيت،

مختنقا. حانقا من زحام الخلائق. تحتج

زوجته الرابعه

'غسلت ثيابك فجرا. وها أنت ترجع

متسخا بالسناج.. ترفق قليلا. ترفق

بخادمة المنزل الطائعه'!

تصلٌي

ويسقط رأس الموظف فوق ملفاته ميتا.

خانه قلبه. والمرتٌب خان العيال. وخان

المدير الأمانه

وخانت جيوب الرئيس جيوب الخيانه

ودارت. ودارت.. ودارت على نفسها الأسطوانه

تنح إذن. أو تفجر كما ينبغي. لا صراط هناك

ولا مستقيم هنا.. شاهدى أنت.. لكنٍ لمن سوف

تشهد؟ أية محكمة لم تطأها الرشاوي؟ وأي

القضاة البريء؟

تنح تفجر. تنح. تفجر. تفجر. لعل انفجارا

يضيء

وكل انطفاء مسيء مسيء

وكل سكوتي كلامى بذيء!

*

هنا أنت. حولك هذا الجدار الكثيف

وهذا الهمود الكفيف وهذا الخمود المخيف

وحول جنونك تقعي الملايين حول الملايين.

فوق الملايين. تحت الملايين. تمضي إلي الذبح. قطعان ماعز

وتولد للذبح قطعان ماعز

ويعلو بكاء الرجال الرجال،

ويوغل صمت النساء النساء

وفوق صراخ القبور وتحت أنين العجائز

شعوب مسمنة للولائم في العيد

من عاش يخسر سر الحياة

ومن مات بات علي الموت حرا وحيا

وما كان بالأمس عارا محالا

هو اليوم شأن صغير وجائز

فحاذر. وحاذر

زمانك وغدى وغادر

تنح. وغادر

'إلي حيث ألقت..'

فلا الأهل أهلى. ولا الدار دارى. ولا أنت أنت..

وما من أواصر

تدور عليك الدوائر

عليك تدور الدوائر

وما من بشير ولا من بشائر

تنح. وغادر

'إلى حيث ألقت..'

أشد من الماء حزنا.

*

يطول ارتباك المؤرخ في الدغل. أقنعة

تستبيح أدق التفاصيل. فوضى تحيل

طقوسا مرتبة للصدف

وبضع ضباع تحيط بمائدة الطيبات

مناديلها البيض تحضن أعناقها المشعرات.

ضباع تمد سكاكينها وتشرع شوكاتها للطعام الشهي.

وقد أتخمتها بقايا الجيف

ضباع. ضيوف الشرف

ضباع. لماذا أواني الخزف؟

وهذا الترف؟

لماذا؟

*

وتعقد محكمة العدل ظلما. على باب محكمة الأمن غدرا

سواسية أنت والماثلون أمام القضاء بتهمتك

الأزلية. أنت وجلادك الأزلي سواسية.

عند محكمة العدل والأمن. يغفي القضاة على ريش

رشواتهم. ومحامي الدفاع شريك محامي النيابة

في صفقات السياحة والنقل. فانس الشهود.

شهادتهم لا تجوز. هم الصم والبكم والخرس. أقوالهم

لا تقال. شهادتهم لا تجوز

فكيف تفوز؟ وذنبك باسم العدالة واضح

وجرم العدالة دونك.. فاضح

فكيف تفوز؟ وكيف تفوز

ومن سيفك الرموز؟

*

جباه مبقعة بالسجود القديم لفرعون واللات

لا للإله الذي أنت تعبد! لا تصغ للقول: إن البلاد العراق

وإن العراق

بلاد النفاق

مياه المحيط نفاق ورمل الصحاري نفاق

وماء الخليج نفاق. ونفط العروق النفاق

وزرع البلاد وضرع البلاد

لماذا؟ لماذا العراق

وانت ونخل العراق

أشد من الماء حزنا

أشد من الماء والرمل حزنا

أشد من الماء والرمل والنخل حزنا.

*

من الماء كانت هموم السحاب

ومن سمك القرش كانت هموم 'قريش'

وكنت من الماء أنت

ومن سمك القرش كنت

تمهل قليلا. تمهل كثيرا. تمهل

همومك أولها ما احتملت

وآخرها ما جهلت

تمهل.

*

ومن أرض بابل تمضي إلى أرض بابل

وحيدا تشيد أبراج حزنك في برج بابل

وتخرج منك القبائل

وتعبر فيك القوافل

محملة باليتامى.. ومثقلة بالأرامل

وحيدا بعريك تحت السماء البعيده

وحيدا. كثير الأبوات،

لكنٍ لأم وحيده

لهاجر ضائعة في الرمال

مشردة عن حقول السنابل

ونبض الجداول

أشد من الماء والرمل حزنا.

*

على ظهرك الآن ترقد. بين الحياة القليلةً

والموت يأسا.

يطلٌ من السقف 'فاوست' القديم. ويسخر منك.

'تبيع كما شئت. أولا تبيع كما شاء شيطانك الذهبي.

وفرصتك الذهبية.. لا.. لن تكون الأخيرة.

سوق هي الأرض والناس لا تشتري أو تبيع

سوى سقط أرواحها.. ولديها شياطينها المنتقاة

علي كيفها!'.. ويقهقه 'فاوست' الخبيث.

يقهقه مزدريا ما تحب ومحتقرا ما تخاف

ومستمتعا بانهيار الضعاف

ومنتظرا خصب أيامه المقبلات علي عربات الجفاف

وأنت علي ظهرك الآن.. ما بين بين

من الأين توغل في ألف أين

*

وها أنت خلف الزجاج المصفح. مقهاك سيارة

الليموزين الوحيدة. سافر إذن في عروقك.

واتبع دخان سجائرك الفاخره

ولا تتبع الطرق الظاهره

قناع وراء قناع

تحاصر أوجه أحوالك الخاسره

وأسراب نمل تحاصر

أشجارك الخاسره

وأحلامك الخاسره

وليل سميك يحاصر أقمارك الخاسره

وأيامك الخاسره

وحزن أشد من الليل ليلا

يحاصر قهوتك الفاتره

وأنت.. أشد من النمل حزنا

أشد من الليل حزنا

أشد من الماء والحزن حزنا..

*

لغيرك أن يتلهى بسخف التفاصيل.. حسبك أنت اكتمال

الفجيعة. جيماً من الجهل.. جيماً من الجبن. جيماً

من الجوع. تختصر الأبجديه

وتهوي النيازك في ساحة البيتً. تحفر في مسكب الورد

قبرا. وتهتز جدران بيتك خوفا. وتحضن ما

ظل من صور عائليه

وما ظل من قسمات الهويه

لغيرك ما يتراءى على شرفة الأكاديميا ومختبر البحث

والمقعد الجامعي الوثير

وتبقى أخيرا. مع اللحظات الأخيرة. من بعض عمر قصير

أمام التفاصيل. خلف التفاصيل.. تبقي أخيرا وتبقي

بعيدا،

ويبقي..

ملاك مريض يلوب علي سطح بيتك. من وسلوي على نار سيناء. هذا الشٌواء اللذيذ امتحانك. فامضغ

إذا شئت زهدك. وانس القرابين. كل عرائسك

الفاتناتً طعامى لأسماك قرش. فلا النيل يطلب

لحم العذاري. ولا الخصب رهن ابتهالاتك الخاويه

هنا حجر الزاويه

وأنت تلوب ملاكا مريضا على باب شعبك

والريح باردة قاسيه

ولا كلب ينبح

لا باب يفتح

لا إنس. لا جن. القلب يمنح راحة رحمته الحانيه

وأنت غريب هنا. ووحيد هناك

أشد من الماء حزنا.

*

تفقد مع البرق أطراف جسمك. وانهضٍ.. عسيرى نهوض

البراكين بعد الخمود الممل.. عسيرى نهوض الضحايا

ولا تنتظر جسدا في خداع المرايا

ووهم المرايا

تفقد شرايين قلبك

وأرجاء رعبك

وحطم سراب المرايا

وغادر مع البرق أطلال حبك

حزينا. حزينا. أشد من الحزن حزنا.

*

لك الثائرون علي ساعة لاتدور. لك الشهداء.

احترس من هواة الكلام المنمق. حاذر

مراثي الصياغات بالضوء والصوت واللون.

حاذر طقوس البلاغة رقصا علي الدم. أنت تغربت

عن جوقة السيرك. لم يغوك السير فوق الحبال

ولا قفزة البهلوان

وأنت تغرب فيك الزمان

وأنت تغرب عنك المكان

وآب الطغاة

وغاب الحواة

لتمكث وحدك في ساحة الأفعوان

مليكا بلا صولجان

وطفلا.. ولا والدان

وحيدا.. غريبا.. حزينا

أشد من الماء حزنا.

*

لًمن علب الأدويه؟

لمنٍ سترة الصوف والأغطيه؟

لمنٍ هاتف الأمبولانس؟ وعنوان عائلة

الصيدلي المناوب؟ أنت تناور نأي

المدي ودنو الأجل!

لماذا؟ وكيف؟ وأين؟ وهل!

دع الأحجيه

وأسئلة القلق المزريه

فما أبدى في أزل

وألف نبي وصل

وقبلك ألف نبي رحل

أشد من الماء حزنا

أشد من الحزن حزنا

أشد من الموت حزنا.

ہ

فراشة روحك تخفق مبهورة بالرحيقي الشهي

علي فمك الأرجواني.. سيارة تسبق الضوء

في الشارع العام. تضرب عصفورة. يتناثر

في الريح ريش الأغاني القديمةً. فيلم قديم

على شاشة التلفزيون. 'فاتن' تخفق مثل

الفراشة بين ذراعي 'فريد' وأنت مريض

بما يحدث الآن.. أنت مريض. فراشة روحك

تخفق. رفٌ العصافير يخفق. قلبك مازال

يخفق. ما يحدث الآن موتى سريع يمر ببطء.

وقلبك يخفق بين العصافير والريح. ما يحدث الآن

لا يحدث الآن. عرض جديد لفيلمي قديم على شاشة

القلب. يعرض قبل حليب فطورك. فيلم قديم. وأنت

مريض. وأنت حزين

أشد من الماء حزنا.

*

تبوح لفرشاة أسنانك المرهقه

بأسرار عزلتك المطبقه

وتكتب بالمشط شيئا علي صفحات البخار.

تراك تدون فوق المرايا وصيتك المقلقه؟

أتغسل جسمك أم أنت تغسل روحك؟

حمامك اليوم طقس غريب. وروبك

يلقي عليك بنظرته المشفقه

وتزلق بين الأصابع صابونه اليأس.. ينهمر

الماء دون انقطاع علي ظهرك المنحني بالهموم

وتطبق جدران حمامك الضيقه

أتغسل جسمك. أم أنت تغسل روحك؟

وتفتح فيها جروحك

وترسم في رغوة الموت عمرا يضيق،

وترسم فوق البخار ضريحك؟

وينهمر الماء دون انقطاعي.

وأنت. أشد من الماء حزنا.

*

أتعرف؟ أخطأت حين قرأت الحياة بحبك

وأخطأت حين رأيت الوجود بقلبك

ولا. لا تقل لي 'البصيرة'. للمرء عينان

والقلب واحد

فكيف تجيد حساب المواجد؟

وكيف تحب كما ينبغي أن تحب؟ ومن لا يري يتعثر

في تعتعات الرؤى وشعاب المقاصد

فجاهد. كما ينبغي أن تجاهد!

تأمٌل بعينين مفتوحتين وقلبي بصير.

تأمٌلٍ. وكابًدٍ!

كما ينبغي. لا تكرر حماقة! 'سيزيف'. قف

في أعالي العذاب. تأمل. وراجع

وطالع. وتابع.

وشاهد!

وصارع.

حزينا. قويا كصمت المعابد

حزينا. أشد من الماء حزنا.

على الدرج اللولبيٌ غبار يغطي الرخام

المؤدي إلي باحة البرج. صمت الغبار

الكثيف دليل: هنا غربة الروح عن جسمها.

لم تطأ قدم من زماني بعيد مداخل هذا المكان

البعيد

ويا أيهذا المليك السعيد

لبؤسك آثار طيري علي قمة البرج. كيف

تقمصت هذا الغراب الوحيد؟

وها أنت يا أيهذا الغراب الوحيد الوحيد

سرقت لمنقارك الكهل تفاحة من غبار

وأنثاك ترقد في قرنة من صدوع الجدار

تئن معذبة والهه

وتشكو لقرنتها التافهه

وما من عطوري. ولا من بخوري. ولا فاكهه

وهذا الغبار

يقيم الظلام

دليلا: هنا غربة الروح عن جسمها

ومرساك ليلا علي صخرة في خليج الزمان

ومرسي الطلول على وشمها

أشد من الماء حزنا

ومن وحشةً السنديان..

*

ويروي الرواة: نشرت قميصك شمسا علي القطب

راقبت ذعر الثعالب والفقمات. ورعبك

في حضرة الدىب. لكن تجاهلت. أنت تجاهلت

صدٍع الجليد وما يفعل الطقس بالطقسً.. أنت تجاهلت

يأس الأوزون وطيش دخان المصانع. هل تستغيث؟

بمن تستغيث. وشمس قميصك تعلو. وتهوي جبال الجليدً

وتعلو مياه البحار

ويعلو علي المد مد الهلاك

وينأى جناح الملاك

وتدنو رياح الدمار

وأنت علي قمةً الأرض تقبع

لا نوح يشفع

لا فلك ينفع

لا غصن زيتونة في المدار

وأنت علي قمة الموت تذوي

وتطوي القميص على محنة القطب. تطوي

وتهوي

غريبا.. حزينا.

أشد من الماء حزنا.

*

يشاؤك صمتك: وعدا

يشاؤك صوتك: رعدا

يشاؤك وجهك: نورا

يشاؤك روحك: ليلا

يشاؤك ورد الحديقة: طلعا

يشاؤك كهف الجبال: صديقا

يشاؤك سخط البراكين: صنوا

يشاؤك قلبك: سهلا

تشاؤك زيتونة الدهر: حلما

يشاؤك صخر التلال: رفيقا

تشاؤك سنبلة الحب: حقلا

يشاؤك قلب التراب: شهيدا

يشاؤك أهلك: عيدا

وماذا تشاء سوى ضجعةً الموت حرا طليقا

حزينا. أشد من الموت حزنا

أشد من الماء والموت حزنا؟

*

هناك. على سطح ليلاك قناصة معجبون بليلاك

لكنهم يرقبون قدومك في موعد الحب والقنص

(business before pleasure)

وهم معجبون بجبهتك العاليه

مناظيرهم تترصٌد. حمي بنادقهم تتوعد. توق

أصابعهم يتنهد. في لهفة الصلية التاليه

وأنت تلوب عليها

وترفع عينيك كفي صلاة إليها

من الحاجز العسكري القريب

وينقذك الحاجز العسكري وألفاظ حراسه النابيه

وأغلاله القاسيه

من اللحظةً الداميه

يؤجلك الموت. لكن لموتي جديدي على موعد الحب

والقنص.. في فرصة ثانيه

وتبقي على الحاجز العسكري. سجينا حزينا

أشد من السجن حزنا

أشد من السجن والماء حزنا.

*

دع الرقم حرا طليقا. يفيض وينمو علي خانة الصفر.

لاتمتحن دورة الأرض من بادئ البدء. من خانة

الصفر. للكون أرقامه، والمدار

يفضل حسن الجوار

إذن. فاقترب من فضاء تجوب مغاليقه السفن الآهله

برواد لغز الوجود وأسراره الهائله

وبارك ملائكة الإنس والجن.. بارك

مدينة أشواقك الفاضله

وصادق تضاريس أرقامك القاحله

لعل شفيعا من الورد ينمو عليها

وحلما قديما يعود إليها

ضعً الرقم والحلم بين يديها

وغادر هواجسك الآفله؟

وأنت تموت وتذكر

كانت بلادى. وكانت قباب. وكانت قناطر

وكانت خيول. وكانت صبايا.. وكانت بيادر

تموت وتذكر

مرت جيوش. ومرت نعوش. وذابت نقوش

وغابت أواصره

وتذكر. تذكر. فصلا عجيبا

وتذكر. ليس شتاء

وليس ربيعا

ولا هو صيف

وليس خريفا

وما من شروقي. وما من غروبي

وما من وجوهي. وما من كلام

وما من ضياء، وما من ظلام

وتسأل: هل كان ذاك سلام الحروب؟

وهل تلك كانت حروب السلام؟

وتسأل كيف تموت وتذكر

طفلا عجوزا

وشيخا طفولته لم تغادر

عذاب القباب وصمت المقابر

وأنت علي الصبر صابر

وحيدا حزينا.

أشد من الماء حزنا.

*

مفاتيح بيتك أرهقها اللغز.. مفتاح قلبك: هل

يعرف الحب حقا؟ ألم يقتل الحزن حبك؟ ماذا

تكون كراهية المتعبين الذين أحبهم الظلم؟ ماذا

يكون إذن مطهر النار؟ ماذا تقول مفاتيح بيتك

هذا المهدد بالهدم، تحت كراهية الظالمين الذين

أحبهم الحب؟ كيف نحب إذن مبغضينا؟¬

تقول مفاتيح بيتك يصمت مفتاح قلبك: هل

أعرف الحب؟!

تبكي عذابا وخوفا: أحب المحبين حقا ولا أكره المبغضين

أعني إلهي! أعني علي محنة المؤمنين

أعني على لعنة العاشقين

أحب المحبين حقا. ولا أكراه المبغضين

أعني إلهي. أعني علي

وأطلق لساني. وحرر يدي

وحرر مفاتيح بيتي

ومفتاح قلبي

أغثني إلهي. أغثني ضعيفا. أغثني قويا

أغثني حزينا.

أشد من الماء حزنا.

*

بك استأنست نخلة الشغف العاليه

وزيتونه في المدى باقيه

ورشت عليك نساء الزمان

أرز الأغاني

وورد الخصوبة والعافية

وأم طموحك حشد الإرادات

واخضوضرت باسمك الباديه

فماذا عليك إذا غار رمل السراب

من الماء في البركة الصافيه؟

أتحزن؟ والشمس مصباح روحك

في عتمة العتمة الطاغيه

وشمس المسوخ شحوب ضئيل

تنوس شرارته الكابيه..

أتحزن؟ ليس لك الحزن. فاحزن

لأنك تحزن.. واعبر إلي الضفة الثانيه!

لك الآن أن تتحرر منك وتنجو منك

وتغرب عنك. لك الآن أن تستحم بعيدا

وأن تستجم بعيدا وأن تلفظ الزحمة الخانقه

إلى لحظة واثقه

علي شاطئ السخط. تجلس منحني الظل. تشرب

ماء المحيط بمصاصة الكوكا كولا. وتشرب ماء

الخليجً. وتشرب رمل الصحاري. وحيدا غريبا.. علي

شاطئ الخلق. إلا من الحزن والنفط والكوكا كولا!

تمر بك السحب الماطره

وترفع أنظارها عنك.. تحبس أمطارها عن بذور

الشياطين في أرضك الكافره

وتنهض فيك الزلازل. أنت هو الكهف. أهلك

عادوا نياما إليك. تحاصرك السرنمات. وتغفي

الزلازل. مقياس 'ريختر' يسقط في لحظة حائره

على الحد. بين خمود البراكين فيك. وبين شرايينك الثائره

على الحد.. مابين حزني وحزني

أشد من الماء حزنا..

وهذا قميصك رايتك المتربه

وغيمتك الطيبه

وتعرف كل المشاجب ياقة حسرته المتعبه

وتعرف أسراره المرعبه.

قميصك؟ أم جلدك الحي؟.. هذا المعلق

بين السماوات والأرض؟ تلك عروقك أم

هي خيطانه المجدبه؟

قميصك أم جلدك الحي؟... سيان. أدخلك الله

في التجربه!

وأدخلك الله في التجربه!

وطوق النجاة قريب بعيد

وأنت شريد طريد

وربطة عنقك أنشوطة المشنقه

وكل القضاة أدانوك. فالجأ إلي حكم

أفكارك المسبقه

ومتراس خانتك الضيقه!

وحيدا.. حزينا. تسافر في رحلة نادره

وتسقط طائرة في الهزيع الأخير من الليل

ركٌابها يسلمون جميعا وينجو من الموت طاقمها.. أنت وحدك

موتا تموت. نجوم الملائكة البيض حولك

مشفقة. تستغيث بها. لا ترد وتمضي إلي شأنها.

تتساءل في سر موتك: لكن لماذا أنا دون غيري

أموت؟ وتهمس أعماقك الخاسره:

لأنك شخص غريب علي هذه الطائره

ولم تعرف الطائره

ولم تصنع الطائره

وما أنت فيها ولست عليها،

سوي ذرة في المدى عابره..

لأنك شيء بلا آصره

بعيد.. على مقربه

وأدخلك الله في التجربه

وحيدا حزينا

*

يقول صغار الرواة: أصابتك بالعين نورية تائهه

وتروي الأساطير أنك أقلقت قيلولة الآلهه

وأغضبت حاكمك العسكري

وأنت صبي

بصرخةً حريةً تافهه

يقول الرواة وتروي الأساطير.. أصغ ولا تصغ.

كلٌ الممرات تفضي إلي البيت. والبيت يفضي إلي السجن .

والسجن يفضي إلي القبر. لكن نورية الباب

عمياء، كيف تصيبك بالعين؟ والباب ظل كما كان

من قبل أن تقرع الباب. ظل حجابا يجب السماء عن

الأرض لا. لا تصدق كلام الرواة ولا ما تقول

الأساطير. أنت ولدت من الحزن. في الحزن للحزن.

أنت ولدت لتمكث في الأرض. لكن لتمكث فيها قتيلا

حزينا أشد من الحزن حزنا

أشد من الماء حزنا..

أشد من الرمل حزنا

أشد من النخل حزنا

وأدخلك الله في التجربه

أشد من الموت حزنا

أشد من الحزن حزنا

وأدخلك الله في التجربه

أشد من الرمل والنخل والحزن والموت حزنا

بعيدا.. على مقربه

وأدخلك الله في التجربه

أشد من الماء حزنا

أشد من الماء حزنا

أشد من الماء حزنا

أشد من ال

()()()()()

أغاني الدروب


من رُؤى الأثلام في موسمٍ خصبِ= و من الخَيْبةِ في مأساةِ جدْبِ
من نجومٍ سهرت في عرشها= مؤنساتٍ في الدّجى قصةَ حبِّ
من جنون اللّيل..من هدأتهِ= من دم الشّمس على قطنة سُحْبِ
من بحار هدرتْ..من جدولٍ =تاهَ..لم يحفل به أيُّ مَصَبِّ
من ذؤابات وعت أجنحةً= جرفتها الريح في كل مهبِ
من فراش هامَ في زهر و عشبِ= ونسورٍ عشقت مسرحَ شُهب
*** ***
من دُمى الأطفال.. من ضحكاتهم =من دموع طهّرتها روحُ رَبِّ
من زنود نسّقَتْ فردوسها= دعوةً فضلى على أنقاض حرب
من قلوب شعشعت أشواقها= شُعلاً تعبرُ من رحب لرحب
من عيون سمّمت أحداقها =فوهةُ البركان في نظره رعب
من جراحاتٍ يضرّي حقدَهـا =ما ابتلى شعبٌ على أنقاض شعب
من دمي.. من ألمي.. من ثورتي =من رؤاي الخضرِ.. من روعة حبّي
من حياتي أنتِ.. من أغوارها =يا أغانيَّ ! فرودي كل درب

()()()()()

جيل المأساة


هنا.. في قرارتنا الجائعهْ= هنا.. حفرت كهفها الفاجعهْ
هنا.. في معالمنا الدارساتِ =هنا.. في محاجرنا الدامعهْ
نَبوخَذُ نصّرُ و الفاتحون= و أشلاء رايتنا الضائعهْ
*** =***
فباسمكَ يا نسلَنا المرتجى =و باسمكِ يا زوجنا الضارعه
نردُّ الزمان إلى رشده= و نبصق في كأسه السابعه
و نرفع في الأفق فجر الدماء= و نلهمه شمسنا الطالعه !

()()()()()

ما زال
دم أسلافي القدامى لم يزل يقطـــرُ منّي
و صهيل الخيل ما زال ، و تقريعُ السيوفْ
و أنا أحملُ شمساً في يميني و أطــوف
في مغاليــقِ الدّجى.. جرحاً يغنـّي !!


()()()()()

لأننــا

أحسُّ أننا نمــوت

لأننا..لا نتقن النّضال

لأننا نَعيد دون كيشوت

لأننا... لهفي على الرجال!



()()()()()

في القرن العشرين

أنا قبل قرونْ
لم أتعوّد أن أكره
لكنّي مُكره
أن أُشرّعَ رمحاً لا يَعيَى
في وجه التّنين
أن أشهر سيفاً من نار
أشهره في وجه البعل المأفون
أن أصبح ايليّا في القرن العشرين
***
أنا.. قبل قرون
لم أتعوّد أن أُلحد !
لكنّي أجلدْ
آلهةً.. كانت في قلبي
آلهةً باعت شعبي
في القرن العشرين !
***
أنا قبل قرون
لم أطرد من بابي زائر
و فتحت عيوني ذات صباح
فإذا غلاّتي مسروقه
و رفيقةُ عمري مشنوقه
و إذا في ظهر صغيري.. حقل جراح
و عرفت ضيوفي الغداّرينْ
فزرعوا ببابي ألغاماً و خناجر
و حلفت بآثار السكّينْ
لن يدخل بيتي منهم زائر
في القرن العشرين !
***
أنا قبل قرون
ما كنت سوى شاعر
في حلقات الصوفيّينْ
لكني بركان ثائر
في القرن العشرين


()()()()()

رسالة من المعتقل

ليس لديّ ورقٌ، و لا قلمْ
لكنني.. من شدّة الحرّ، و من مرارة الألم
يا أصدقائي.. لم أنمْ
فقلت: ماذا لو تسامرتُ مع الأشعار
و زارني من كوّةِ الزنزانةِ السوداء
لا تستخفّوا.. زارني وطواط
وراح، في نشاط
يُقبّل الجدران في زنزانتي السوداء
و قلتْ: يا الجريء في الزُوّار
حدّث !.. أما لديك عن عالمنا أخبار ؟..؟!
فإنني يا سيدي، من مدّةٍ
لم أقرأ الصحف هنا.. لم أسمع الأخبار
حدث عن الدنيا، عن الأهل، عن الأحباب
لكنه بلا جواب !
صفّق بالأجنحة السوداء عبر كُوّتي.. و طار!
و صحت: يا الغريب في الزوّار
مهلاً ! ألا تحمل أنبائي إلى الأصحاب ؟..
***
من شدة الحرّ، من البقّ، من الألم
يا أصدقائي.. لم أنم
و الحارس المسكين، ما زال وراء الباب
ما زال .. في رتابةٍ يُنَقّل القدم
مثليَ لم ينم
كأنّه مثليَ، محكوم بلا أسباب !
***
أسندت ظهري للجدار
مُهدّماً.. و غصت في دوّامةٍ بلا قرار
و التهبتْ في جبهتي الأفكار
. . . . . . . . . . . . . .. . . . .
أماه! كم يحزنني !
أنكِ، من أجليَ في ليلٍ من العذاب
تبكين في صمتٍ متى يعود
من شغلهم إخوتيَ الأحباب
و تعجزين عن تناول الطعام
و مقعدي خالٍ.. فلا ضِحْكٌ.. و لا كلام
أماه! كم يؤلمني !
أنكِ تجهشين بالبكاء
إذا أتى يسألكم عنّيَ أصدقاء
لكنني.. أومن يا أُماه
أومن.. .. أن روعة الحياه
تولد في معتقلي
أومن أن زائري الأخير.. لن يكونْ
خفّاش ليلٍ.. مدلجاً، بلا عيون
لا بدّ.. أن يزورني النهار
و ينحني السجان في إنبهار
و يرتمي.. و يرتمي معتقلي
مهدماً.. لهيبهُ النهار !!

()()()()()

أمطار الدم

((النار فاكهة الشتاءْ))

و يروح يفرك بارتياحٍ راحتين غليظتينْ
و يحرّك النار الكسولةَ جوفَ موْقدها القديم
و يعيد فوق المرّتين
ذكر السماء
و الله.. و الرسل الكرامِ.. و أولياءٍ صالحين
و يهزُّ من حين لحين
في النار.. جذع السنديان و جذعَ زيتون عتيـق
و يضيف بنّاً للأباريق النحاس
و يُهيلُ حَبَّ (الهَيْلِ) في حذر كريم
((الله.. ما أشهى النعاس
حول المواقد في الشتاء !
لكن.. و يُقلق صمت عينيه الدخان
فيروح يشتمّ.. ثم يقهره السّعال
و تقهقه النار الخبيثة.. طفلةً جذلى لعوبه
و تَئزّ ضاحكةً شراراتٌ طروبه
و يطقطق المزراب.. ثمّ تصيخ زوجته الحبيبة
-قم يا أبا محمود..قد عاد الدوابّ
و يقوم نحو الحوش.. لكن !!
-قولي أعوذُ..تكلمي! ما لون.. ما لون المطر ؟
و يروح يفرك مقلتيه
-يكفي هُراءً.. إنّ في عينيك آثار الكبَر ؟
و تلولبت خطواته.. و مع المطر
ألقى عباءته المبللة العتيقة في ضجر
ثم ارتمى..
-يا موقداً رافقتَني منذ الصغر
أتُراك تذكر ليلة الأحزان . إذ هزّ الظلام
ناطور قريتنا ينادي الناس: هبوا يا نيام
دَهمَ اليهود بيوتكم..
دهم اليهود بيوتكم..
أتُراك تذكرُ ؟.. آه .. يا ويلي على مدن الخيام !
من يومها .. يا موقداً رافقته منذ الصغر
من يوم ذاك الهاتف المشؤوم زاغ بِيَ البصر
فالشمس كتلة ظلمة .. و القمح حقل من إبر
يا عسكر الإنقاذ ، مهزوماً !
و يا فتحاً تكلل بالظفر !
لم تخسروا !.. لم تربحوا !.. إلا على أنقاض أيتام البشر
من عِزوتي .. يا صانعي الأحزان ، لم يسلم أحدْ
أبناء عمّي جُندلوا في ساحة وسط البلد
و شقيقتي.. و بنات خالي.. آه يا موتى من الأحياء في مدن الخيام !
ليثرثر المذياع (( في خير )) و يختلق (( السلام )) !!
من قريتي.. يا صانعي الأحزان ، لم يَسلم أحدْ
جيراننا.. عمال تنظيف الشوارع و الملاهي
في الشام ، في بيروت ، في عمّان ، يعتاشون..
لطفك يا إلهي !
و تصيح عند الباب زوجته الحبيبه
-قم يا أبا محمود .. قد عاد الجُباة من الضريبه
و يصيح بعض الطارئين : افتح لنا هذي الزريبه
أعطوا لقيصر ما لقيصر !!
***
و يجالدُ الشيخ المهيب عذاب قامته المهيبه
و تدفقت كلماته الحمراء..بركانا مفجّر
-لم يبق ما نعطي سوى الأحقاد و الحزن المسمّم
فخذوا ..خذوا منّا نصيب الله و الأيتام و الجرح المضرّم
هذا صباحٌ.. سادن الأصنام فيه يُهدم
و البعلُ.. و العزّى تُحطّم
***
و تُدمدم الأمطارُ..أمطار الدم المهدوم.. في لغةٍ غريبهْ
و يهزّ زوجته أبو محمود.. في لغة رهيبه
-قولي أعوذُ.. تكلّمي !
ما لون.. ما- لون المطر ؟
-. . . . .

ويلاه.. من لون المطر !!


()()()()()

أطفال سنة 1948

كَوَمٌ من السمك المقدّد في الأزقة . في الزوايا
تلهو بما ترك التتار الانكليز من البقايا
أُنبوبةٌ.. و حطام طائرةٍ.. و ناقلةٌ هشيمه
و مدافع محروقة.. و ثياب جنديٍّ قديمه
و قنابل مشلولة.. و قنابل صارت شظايا
***
((يا اخوتي السمر العراة.. و يا روايتيَ الأليمه
غنّوا طويلاً و ارقصوا بين الكوارث و الخطايا ))
لم يقرأوا عن (( دنُ كشوت )) و عن خرافات القتال
و يجنّدون كتائباً تُفني كتائب في الخيال
فرسانها في الجوع تزحف.. و العصيُّ لها بنادق
و تشدّ للجبناء، في أغصان ليمونٍ، مشانق
و الشاربون من الدماء لهم وسامات الرجال
***
يا اخوتي !
آباؤنا لم يغرسوا غير الأساطير السقيمه
و اليتم.. و الرؤيا العقيمه
فلنجنِ من غرسِ الجهالة و الخيانة و الجريمه
فلنجنِ من خبز التمزّقِ.. نكبة الجوع العضال
***
يا اخوتي السمر الجياع الحالمين ببعض رايه
يا اخوتي المتشرّدين و يا قصيدتيَ الشقيّه
ما زال عند الطيّبين، من الرثاء لنا بقيّه
ما زال في تاريخنا سطر.. لخاتمة الروايه !


()()()()()

اعلنها

ما دامت لي من ارضي اشبار
ما دامت لي زيتونه
ليمونه
بئر .. وشجيرة صبار

ما دامت لي ذكرى
مكتبة صغرى
صورة جد مرحوم .. وجدار

ما دامت في بلدي كلمات عربية
واغان شعبيه
ما دامت مخطوطه اشعار
وحكايا عنترة العبسي
وحروب الدعوه في ارض الرومان وفي ارض الفرس
ما دامت لي عيناي
ما دامت لي شفتاي
ويداي !
ما دامت لي نفسي
اعلنها في وجه الاعداء
اعلنها حربا شعواء
باسم الاحرار الشرفاء
عمالا ..
طلابا ..
شعراء ..
اعلنها .. وليشبع من خبز العار
الجوف الجبناء .. واعداء الشمس

ما زالت لي .. نفسي
وستبقى لي .. نفسي
وستبقى كلماتي .. خبزا وسلاحا .. في ايدي الثوار !!

()()()()()

بطاقات معايدة إلى الجهات الست


أُسْوَةً بالملائكةِ الخائفينَ على غيمةٍ خائفهْ
في مَدى العاصفهْ
أُسْوَةً بالأباطرةِ الغابرينْ
والقياصرةِ الغاربينْ
في صدى المدنِ الغاربَهْ
وبوقتٍ يسيرُ على ساعتي الواقفَهْ
أُسْوَةً بالصعاليكِ والهومْلِسّ
بين أنقاضِ مانهاتن الكاذبَهْ
أُسْوَةً بالمساكينِ في تورا بورا،
وإخوتِهم، تحت ما ظلَّ من لعنةِ التوأمينِ،
ونارِ جهنَّمها اللاهبَهْ
أُسْوَةً بالجياعِ ونارِ الإطاراتِ في بوينس إيريسْ،
وبالشرطةِ الغاضبَهْ
أُسْوَةً بالرجالِ السكارى الوحيدين تحت المصابيحِ،
في لندنَ السائبَهْ
أُسْوَةً بالمغاربةِ الهائمينَ على أوجه الذلِّ والموتِ ،
في ليلِ مِلِّيلَةَ الخائبَهْ
أُسْوَةً بالمصلّينَ في يأسهم
والمقيمينَ ، أسرى بيوتِ الصفيح العتيقْ
أُسْوَةً بالصديقِ الذي باعَهُ مُخبرٌ ،
كانَ أمسِ الصديقَ الصديقْ
أُسْوَةً بالرهائن في قبضةِ الخاطفينْ
أُسْوَةً برفاقِ الطريقْ
أُسْوَةً بالجنودِ الصِّغار على حربِ أسيادهم ،
وعلى حفنةٍ من طحينْ
أُسْوَةً بالمساجين ظنّاً ،
على ذمّةِ البحثِ عن تهمةٍ لائقَهْ
أُسْوَةً بالقراصنةِ الميّتينْ
بضحايا الأعاصيرِ والسفنِ الغارقَهْ
بالرعاةِ الذين أتى القحطُ عاماً فعاماً
على جُلِّ إيمانهمْ
وعلى كُلِّ قُطعانهمْ
أُسْوَةً بالشبابِ المهاجرِ سرّاً ،
إلى لقمةٍ ممكنَهْ
خارجَ الجوعِ في وطنِ الفاقةِ المزمنَهْ
أُسْوَةً بالفدائيِّ أَوقَعَهُ خائنٌ في كمينْ
أُسْوَةً بالنواصي التي جزَّها النزقُ الجاهليّ
والرقابِ التي حزَّها الهَوَسُ الهائجُ المائجُ الفوضويّ
أُسْوَةً بالمذيعِ الحزينْ
مُعلناً ذَبْحَ سبعينَ شخصاً من العُزَّلِ الآمنينْ
باسم ربِّ السماءِ الغفورِ الرحيمْ
والرسولِ العظيمْ
والكتابِ الكريمْ
وصراط الهدى المستقيمْ
أُسْوَةً باليتامى الصغارْ
بالمسنّينَ في عزلةِ الزمنِ المستعارْ
بينَ نارٍ وماءٍ.. وماءٍ ونارْ
أُسْوَةً بالجرار التي انكسرتْ ،
قبلَ أن تبلغَ الماءَ ،
في واحةٍ تشتهيها القفارْ
أُسْوَةً بالمياهِ التي أُهرقتْ في الرمالِ ،
ولم تستطعْها الجرارْ
أُسْوَةً بالعبيد الذينْ
أَعتقتْهم سيولُ الدماءْ
ثمَّ عادوا إلى رِبْقَةِ السادةِ المترفينْ
في سبيلِ الدواءْ
وبقايا بقايا غذاءْ
أُسْوَةً بالقوانين ، تقهرها ظاهرَهْ
بالبحارِ التي تدَّعيها سفينَهْ
بالجهاتِ التي اختصرتْها مدينَهْ
بالزمانِ المقيمِ على اللحظةِ العابرَهْ
أُسْوَةً برجالِ الفضاءِ وحربِ النجومِ اللعينَهْ
أُسْوَةً بضحايا الحوادثِ في الطرقِ المتعَبَهْ
وضحايا السلامْ
وضحايا الحروبِ وأسرارِها المرعبَهْ
وضحايا الكلامْ
وضحايا السكوتِ عن القائلينَ بحُكم الظلامْ
وبفوضى النظامْ
أُسْوَةً بالمياهِ التي انحسرتْ ،
عن رمادِ الجفافْ
والجذوعِ التي انكسرتْ ،
واستحالَ القطافْ
أُسْوَةً بالشعوبِ التي أوشكتْ أن تبيدْ
واللغات التي أوشكتْ أن تبيدْ
في كهوفِ النظامِ الجديدْ
أُسْوَةً بضحايا البطالَهْ
يبحثونَ عن القوتِ في حاوياتِ الزبالَهْ
أُسْوَةً بالطيورِ التي هاجرتْ
ثم عادتْ إلى حقلِهَا الموسميّ
في الشمالِ القَصِيّ
لم تجدْ أيَّ حقلٍ.. ولا شيءَ غير المطارْ
والفراشاتُ ظلُّ الفراشاتِ في المشهد المعدنيّ
ظِلُّ نفاثةٍ قابعَهْ
خلفَ نفّاثةٍ طالعَهْ
بعدَ نفّاثةٍ ضائعَهْ
خلفَ نفّاثةٍ راجعَهْ
لم تجدْ غير دوّامةٍ من دُوارْ
أُسْوَةً بغيومِ الشتاءِ على موتها مُطبِقَهْ
بالبراكينِ في آخرِ العمرِ.. مُرهَقةً مُرهِقَهْ
بالرياحِ التي نصبتْ نفسها مشنقَهْ
وتدلَّتْ إلى قبرِهَا
بين قيعانِ وديانها الضيّقَهْ
أُسْوَةً بالشعوبِ التي فقدتْ أرضَها
بضحايا الزلازلِ والإيدز والجوعِ والأوبئَهْ
أُسْوَةً بالبلادِ التي خسرتْ عِرضَها
ومواعيدَ تاريخها المُرجأهْ
في سُدى هيئةِ الأُمم المطفَأَهْ
أُسْوَةً بي أنا
نازفاً جارحا
غامضاً واضِحا
غاضباً جامحا
أُسْوَةً بي أنا
مؤمناً كافراً
كافراً مؤمِنا
أُسْوَةً بي أنا
أرتدي كفني
صارخاً: آخ يا جبلي المُنحني
آخ يا وطني
آخ يا وطني
آخ يا وطني !

()()()()()

()()()()()

بوابة الدموع

أحبابنا.. خلف الحدود
ينتظرون في أسى و لهفة مجيئنا
أذرعهم مفتوحة لضمنا لِشَمِّنا
قلوبُهم مراجل الألم
تدقّ.. في تمزّق أصم
تحارُ في عيونهم.. ترجف في شفاههم
أسئلة عن موطن الجدود
غارقة في أدمع العذاب و الهوان و الندم
***
أحبابنا.. خلف الحدود
ينتظرون حبّةً من قمحهم
كيف حال بيتنا التريك
و كيف وجه الأرض.. هل يعرفنا إذا نعود ؟!
يا ويلنا..
حطامَ شعب لاجئ شريد
يا ويلنا.. من عيشة العبيد
فهل نعود ؟ هل نعود ؟!

()()()()()

غرباء ..!

و بكينا.. يوم غنّى الآخرون
و لجأنا للسماء
يوم أزرى بالسماء الآخرون
و لأنّا ضعفاء
و لأنّا غرباء
نحن نبكي و نصلي
يوم يلهو و يغنّي الآخرون
**
و حملنا.. جرحنا الدامي حملنا
و إلى أفق وراء الغيب يدعونا.. رحلنا
شرذماتٍ.. من يتامى
و طوينا في ضياعٍ قاتم..عاماً فعاما
و بقينا غرباء
و بكينا يوم غنى الآخرون
**
سنوات التيهِ في سيناءَ كانت أربعين
ثم عاد الآخرون
و رحلنا.. يوم عاد الآخرون
فإلى أين؟.. و حتامَ سنبقى تائهين
و سنبقى غرباء ؟!

()()()()()

من أجل

من أجــل
من أجل صباح !
نشقى أياماً و ليالي
نحمل أحزان الأجيالِ
و نُكوكِبُ هذا الليل جراح !
***
من أجل رغيف !
نحمل صخرتنا في أشواك خريف
نعرى.. نحفى.. و نجوع
ننسى أنّا ما عشنا فصلّ ربيع
ننسى أنّا..
خطواتٌ ليس لهنّ رجوع !!

()()()()()

ألا تشعرين ؟

ألا تشعرين؟....
بأنّا فقدنا الكثير.
وصار كلاماً هوانا الكبير.
فلا لهفةٌ .. لا حنين...
ولا فرحةٌ في القلوب، إذا ما التقينا
ولا دهشةٌ في العيون..
ألا تشعرين؟..
بأنّ لقاءاتنا جامدة.
وقُبلاتنا باردة.
وأنّا فقدنا حماس اللقاء
وصرنا نجاملُ في كل شيءٍ.. وننسى
وقد يرتمي موعدٌ.. جثّةٌ هامدة.
فنكذبُ في عُذرنا.. ثم ننسى
ألا تشعرين؟..
بأنّ رسائلنا الخاطفة.
غدت مبهماتٍ .. قصيرة.
فلا حسّ .. لا روح فيها.. ولا عاطفة.
ولا غمغماتٌ خياليةٌ
ولا أمنياتٌ.. ولا همساتٌ مثيرة!
وأن جواباتنا أصبحت لفتاتٍ بعيدة.
كعبءٍ ثقيلٍ..نخلّصُ منه كواهلنا المتعبة.
ألا تشعرين؟..
بدنيا تهاوت.. ودنيا جديدة.
ألا تشعرين ؟..
بأن نهايتنا مرّةٌ .. مرعبة.
لأنّ نهايتنا .. لم تكن مرّةٌ .. مرعبة؟!..


()()()()()

طائر الرعد

و يكون أن يأتي
يأتي مع الشمس
وجه تشَّوه في غبار مناهج الدرس
و يكون أن يأتي
بعد انتحار القحط في صوتي
شيء . . روائعه بلا حدّ
شيء يسمّى في الأغاني
طائر الرعد
لا بد أن يأتي
فلقد بلغناها
بلغنا قمة الموت
()()()()()

القصيدة الناقصة

أمرُّ ما سمعت من أشعارْ
قصيدةٌ.. صاحبها مجهول
أذكر منها، أنها تقول:
سربٌ من الأطيارْ
ليس يهمّ جنسُه..سرب من الأطيار
عاش يُنغِّمُ الحياه
قي جنَّةٍ..يا طالما مرَّ بها إله
***
كان إن نشنَشَ ضَوءْ
على حواشي الليل..يوقظ النهار
و يرفع الصلاه
في هيكل الخضرة، و المياه، و الثمر
فيسجد الشجر
و يُنصت الحجر
و كان في مسيرة الضحى
يرود كل تلّة.. يؤم كل نهرْ
ينبّه الحياة في الثّرى
و يُنهِض القرى
على مَطلِّ خير
و كان في مسيرة الغيابْ
قبل ترمُّد الشعاع في مجامر الشفق
ينفض عن ريشاته التراب
يودّع الوديان و السهول و التلال
و يحمل التعب
و حزمة من القصب
ليحبك السلال
رحيبةً..رحيبةً..غنيّة الخيال
أحلامُها رؤى تراود الغلال
و تحضن العِشاشُ سربَها السعيد
و في الوهاد، في السفوح، في الجبال
على ثرى مطامحِ لا تعرف الكلال
يورق ألف عيد
يورق ألف عيد..
***
و كان ذات يوم
أشأم ما يمكن أن يكون ذات يوم
شرذمةٌ من الصّلال
تسرّبت تحت خِباءِ ليلْ
إلى عِشاشِ.. دوحها في ملتقى الدروب
أبوابها مشرّعةْ
لكل طارقٍ غريب
و سورها أزاهرٌ و ظل
و في جِنان طالما مرَّ بها إله
تفجّرت على السلام زوبعهْ
هدّت عِشاشَ سربنا الوديع
و هَشَمتْ حديقةً.. ما جدّدت (( سدوم ))
و لا أعادت عار (( روما )) الأسود القديم
و لم تدنّس روعة الحياه
و سربُنا الوديع ؟!
ويلاه.. إنّ أحرفي تتركني
ويلاه.. إنّ قدرتي تخونني
و فكرتي.. من رعبها تضيع
و ينتهي هنا..
أمر ما سمعت من أشعار
قصيدة.. صاحبها مات و لم تتم
لكنني أسمع في قرارة الحروف
بقيّة النغم
أسمعُ يا أحبّتي.. بقيّة النغمْ


()()()()()

صوت الجنة الضائع

صوتها كان عجيباً
كان مسحوراً قوياً.. و غنياً..
كان قداساً شجيّاً
نغماً و انساب في أعماقنا
فاستفاقت جذوة من حزننا الخامد
من أشواقنا
و كما أقبل فجأة
صوتها العذب، تلاشى، و تلاشى..
مسلّماً للريح دفئَه
تاركاً فينا حنيناً و ارتعاشا
صوتها.. طفل أتى أسرتنا حلواً حبيباً
و مضى سراً غريبا
صوتها.. ما كان لحناً و غناءاً
كان شمساً و سهوباً ممرعه
كان ليلا و نجوما
و رياحاً و طيوراً و غيوما
صوتها.. كان فصولاً أربعه
لم يكن لحناً جميلاً و غناءا
كان دنياً و سماءا
***
و استفقنا ذات فجر
و انتظرنا الطائر المحبوب و اللحن الرخيما
و ترقّبنا طويلا دون جدوى
طائر الفردوس قد مدّ إلى الغيب جناحا
و النشيد الساحر المسحور.. راحا..
صار لوعه
صار ذكرى.. صار نجوى
و صداه حسرةً حرّى.. و دمعه
***
نحن من بعدك شوق ليس يهدا
و عيونٌ سُهّدٌ ترنو و تندى
و نداءٌ حرق الأفقَ ابتهالاتِ و وجْدا
عُدْ لنا يا طيرنا المحبوب فالآفاق غضبى مدلهمّه
عد لنا سكراً و سلوانا و رحمه
عد لنا وجهاً و صوتا
لا تقل: آتي غداً
إنا غداً.. أشباح موتى !!

()()()()()

قصيدة ( غوانتانامو)

هنا يَفسُدُ الملحُ. يأسنُ ماءُ الينابيعِ. يؤذي النسيمُ. ويُعدي الغمامُ
هنا تثلجُ الشمسُ. مبخرةُ الثلجِ تُشعلُ شعرَ الحواجبِ والأنفِ. تدنو الأفاعي. وينأى الحمامُ
هنا يسهرُ الموتُ في اليومِ دهراً. وروحُ الحياةِ تنامُ نهاراً ودهراً تنامُ
بكاءُ الرجالِ هنا. وبكاءُ النساءِ. ليضحكَ ملءَ البكاءِ لئامٌ لئامُ
هنا غوانتانامو..

وجوهٌ وما من وجوهٍ. وصوتٌ ولا صوتَ. والوقتُ لا يعرفُ الوقتَ. لا ضوءَ. لا همسَ. لا لمسَ. لا شيءَ. لا شمسَ. ليلٌ. وليلٌ يجبُّ النهارْ
وقيدٌ يُسمَّى السِّوارْ
وقيدٌ دماءٌ. وقيدٌ دمارْ
وراءَ الجدارِ. وراءَ الحديدِ. وراء الجدارْ
هنا قلقٌ لا يفيقُ. هنا أرقٌ لا ينامُ
هنا غوانتانامو..

تدفُّ رفوفُ العصافيرِ رُعباً. وتخفقُ أجنحةُ الموتِ في فخِّ أسلاكِهِ الشائكهْ
ويسطو طنينُ الذبابِ على ثَمَرِ الأعينِ الهالكهْ
وتعلو على لهبِ الدمِّ والدّمعِ أبخرةٌ فاتكهْ
ويهوي الظلامُ
هنا غوانتانامو..

أتعلمُ أُمُّكَ أنّكَ تذوي حنيناً إليها؟ أتعلمُ أمّكَ يا أيّهذا الأسيرُ الغريبْ
أتعلمُ أنّك تلمحُ في الموتِ كفَّ الطبيبْ
أتعلمُ أمكَ أنكَ في ربقةِ الأسرِ تحلمُ حرّاً
بدفءِ يديها
وتبكي عليكَ. وتبكي عليها
وأنّك تدعو وتدعو. وأنّ السماواتِ لا تستجيب
لأنك في غوانتانامو
وبعضُ الدّعاءِ مَلامُ..
تضنُّ القلوبُ بأسرارها. ويبوحُ المسدَّسُ. ما الحلُّ؟
يا جنرالَ الظلامِ . ويا سيّدَ النفطِ والحلِّ والرّبطِ . ما الحلُّ
يا سيّدَ البورصةِ الخائفهْ
ويا قاتلَ الوقتِ في رَحْمِ ساعاتِنا الواقفهْ
إلى أين تمضي جنائزُ أحلامِك النازفهْ
إلى أين يمضي السلامُ؟
إلى أين يمضي الكلامُ؟
إلى غوانتانامو..

تعيشُ اللغاتُ هنا. وتموتُ اللغاتْ
على الملحِ والدمعِ والذكرياتْ
وتؤوي بقايا الرفاتِ بقايا الرفاتْ
وأحذيةُ الجندِ لا تستريحُ. وقبضاتُهم لا تريحُ. وما من شرائعَ. ما من وصايا. ولا دينَ. لا ربَّ. لا شرقَ. لا غربَ. ما من حدودٍ. وما من جهاتْ
هنا كوكبٌ خارجَ الأرضِ. لا تُشرقُ الشمسُ فيه. وما من حياةٍ عليه. وما من حروبٍ. وليسَ عليه سلامُ
هنا كوكبٌ خارجَ الجاذبيَّهْ
وما من معانٍ إلهيَّةٍ تدَّعيهِ
وما من رؤىً آدميَّهْ
ظلامٌ
ظلامٌ
ظلامُ
هنا.. غوانتانامو..

جناحُ الفراشةِ ينسى زهورَ الربيعِ. جناح الفراشةِ ينسى الربيعَ القديمَ الجديدَ القريبَ البعيدَ. ويسقطُ في النارِ. لا طَلْعَ. لا زرعَ. كفُّ الأسيرِ جناحُ الفراشةِ. مَن أشعَلَ النارَ في البدءِ؟ مَن أرهبَ النسمةَ الوادعَهْ
ومن أرعبَ الوردةَ الطالعهْ
لتسقطَ كفُّ الأسيرِ. ويسقطَ قلبُ الطليقِ. على لهبِ الفاجعَهْ
ويرحلَ بالراحلينَ المقامُ
إلى غوانتانامو..

كلامٌ جميلٌ عن العدلِ والظلمِ. والحربِ والسلمِ. في مجلسِ الحسنِ والصونِ والأمنِ. في كافيتيريا الرصيفِ. وفي البرلمانِ. وفي المهرجانِ. وبين القضاةِ. وفي الجامعاتِ. كلامٌ غزيرٌ. وحلوٌ مريرٌ. ومَرَّ الكرامِ يمرُّ عليه الكرامُ
ويمضي الصدى. ويضيعُ الكلامُ
ولا شيءَ يبقى سوى.. غوانتانامو..
ويبقى غبارٌ على صُوَرِ العائلهْ
ووجهٌ يغيبُ رويداً رويداً. وتشحُب ألوانُه الحائلهْ
وسيّدةٌ عُمرُها ألفُ عُمرٍ. تقاومُ قامتُها المائلهْ
لترفعَ عينينِ ذابلتينِ إلى صورةِ الأُسرةِ الذابله
"تُرى أين أنتَ؟"
"متى ستعودُ؟"
"وهل ستعودُ قُبيل رحيلي؟"
"لأمِّك حقٌّ عليكَ. ترفَّقْ بأمِّك يا ابني. تعالَ قليلاً. ألستَ ترى أنّني راحلهْ؟"
"تُرى أين أنتَ؟"
وتجهلُ أُمُّ الأسيرِ البعيدِ مكاناً بعيداً
يسمُّونَهُ غوانتانامو

وتبكي.. وتبكي عليها العنادلُ. تبكي النسورُ. ويبكي اليمامُ..
هنا وطنُ الحزنِ من كلِّ جنسٍ ولونٍ. هنا وطنُ الخوفِ والخسفِ من كلِّ صنفٍ. هنا وطن السحقِ والمحقِ والموتِ كيف تشاءُ المشيئةُ موتٌ ترابٌ. وموتٌ رخامُ
هنا غوانتانامو

أراجيحُ ضوءٍ شحيحٍ عقاربُ ساعتِهِ المفلتهْ
ورقّاصُ ساعتِهِ الميّتهْ
هنا غوانتانامو

يغنّي المغنّي الأسيرُ دماً. يا صديقي المغنّي
لجرحِكَ إيقاعُ جرحي
لصوتِكَ أوتارُ حزني
لموتِكَ ما ظلَّ لي من حياتي
وما ظلَّ للموتِ منّي
وكلُّ زمانٍ هُلامُ
وكلُّ مكانٍ هُلامُ
سوى غوانتانامو..

لبرجِ المراقبةِ الجهْمِ أن يستثيرَ الرياحَ وأن يستفزَّ الجهاتْ
وللحارسِ الفظّ أن يشتُمَ الأمَّهاتْ
وللثكناتِ .. وللأسلحهْ
ممارسةُ الحلمِ بالمذبحهْ
وللزيتِ والشَّحم والفحمِ أن تتحدّى طموحَ الزهورِ
وأن تتصدّى لتوقِ النباتْ
وللقبضاتِ. وللأحذيهْ
معاقبةُ الأغنيهْ
وقمعُ الصَّلاةْ
هنا ما يشاءُ النِّظامُ
وفوضى تُرتِّبُ فوضى
ويُسكِتُ جوعاً صِيامُ
هنا غوانتانامو..

ينامون بين الأسرَّةِ والريحِ. أهدابُهم في النجومِ. وأطرافُهم في مياهِ المحيطِ. ينامونَ صفراً عُراةً وسوداً وبيضاً عراةً وسُمراً عُراةً. لحافُ السماءِ غطاءٌ ثقيلٌ. ينامون بين شفيرِ الجحيمِ وحبلِ الخلاصِ. وهل من خلاصٍ سوى ما تُتيحُ حبالَ المشانقِ؟ هل من خلاصٍ سوى ما تُتيحُ حبالُ المشانقِ؟ مَن يُصدرُ الحُكمَ يا حضراتِ القضاةِ الغزاةِ الطغاةِ؟ ينامون أسرى الحنينِ وأسرى الجنونِ. ولا نومَ . لا صحوَ. ما من أسِرَّهْ
سوى شُهُبٍ من شظايا المجرَّهْ
وما من لحافٍ سوى ما يُهيل القتامُ
على غوانتانامو
وأكفانِ حزنٍ. ونيرانِ حَسْرَهْ
هنا غوانتانامو

تقولُ الدساتيرُ ما لا تقولُ البنادقْ
تقولُ المغاربُ ما لا تقولُ المشارقْ
تقولُ الأراجيحُ ما لا تقولُ المشانقْ
يقولُ الأساطينُ في فنِّ قتلِ المحبَّةِ. ما لا
تقولُ أناشيدُ عاشقْ
فماذا يقولُ لنا الاتهامُ؟
وماذا يقولُ لنا غوانتانامو؟

وماذا يقولُ رمادُ المحارِقِ. ماذا يقولُ رمادُ المحارقْ؟
وماذا يقولُ زجاجُ النوافذِ للشمسِ والريحِ؟ ماذا
يقولُ القميصُ العتيقُ لعاصفةِ الرملِ والثلجِ؟ مِن
أينَ تأتي الأفاعي إلى غُرفِ النّوم؟ ما يفعلُ الطفلُ
بالقنبلهْ
وكيف يردُّ الذبيحُ على الأسئلهْ
وماذا تقولُ لصاعقةٍ سُنبُلهْ
وماذا تقولُ الصبيّةُ بعد اقتناصِ أبيها
وكيف يجيبُ الغُلامُ
على غوانتانامو؟

لأنَّ دماءَ المسيحِ تسحُّ على شُرفةِ الأرضِ
من شُرفةِ الآخرهْ
لأنَّ دموعَ النبيّينَ تنفعُ إن لم تعُدْ تنفع الآصرهْ
وتَشفع للأُممِ الصابِرهْ
لأنّ الخليقةَ مؤمنَةٌ أوّلَ الأمرِ بالله. موعودةٌ
آخرَ الأمرِ بالرحمةِ الغامرهْ
لأنّ النفوسَ البسيطةَ طيّبةٌ غافرهْ
فهل تتخلَّى السماءُ؟ وهل يستريحُ الأنامُ
إلى الصمتِ والموتِ في غوانتانامو؟

لإيكاروسِ العصرِ حكمةُ ذيذالوسِ العصرِ..
O.k... فهمنا الرسالةَ. لكنَّ أجنحةَ الطائراتِ الرهيبةِ أقوى من الرّيشِ والريحِ. أسرعُ من نبضةِ القلبِ في قلعةِ البنتاغونِ القصيَّهْ
ويسقطُ إيكاروسُ العصرِ. تسقطُ حكمةُ ذيذالوسِ العصرِ،
بين المارينـزِ وحاملةِ الطائراتِ العصيَّهْ
وتبقى التفاصيلُ. لكنْ تضيعُ القضيَّهْ
ويبقى الحلالُ. ويبقى الحرامُ
ويبقى النـّزيفُ على غوانتانامو..

متى تسقطُ الكأسُ من كفِّ يوضاسَ؟ أين الوصايا؟ وأين المرايا؟ أليسَ هنا أَحَدٌ؟ أين أنتم؟ وهُم؟ أين نحنُ؟ وأين قضاةُ النظامِ الجديدِ؟ ألم يفرغوا من طقوسِ العشاءِ الأخيرِ؟ ومن خطّةِ الضَّربِ والصَّلبِ؟ أين رُعاةُ الحقوقِ؟ وأينَ حُماةُ الحدودِ؟ ألم يشبعوا من طعامِ العشاءِ الأخيرِ؟ ألم يكفِهم جسدي خبزهم ودمي خمرهم؟ يتخمونَ على رسلِهم. يثملونَ على رِسلِهم. يصخبونَ. وشاهدةُ القبرِ بينهم المائدهْ
ووجبتُهم جثّتي الخامدهْ
هنا غوانتانامو

هنا تتهاوى النواميسُ. يسقطُ سرُّ اللّغاتِ. هنا تتشظّى الجراحُ. هنا تتلظّى الرياحُ. متى تنهضُ الشمسُ من قبرِها؟
متى تُسفرُ الأرضُ عن فجرِها؟
متى تتصدَّى حياةٌ لموتٍ؟ متى تتحدّى الحروبَ السلامُ؟
كفى غوانتانامو
كفى غوانتانامو
كفى غوانتانامو
كفى

()()()()()

أنتيــجونا

((ابنة أوديب_ الملك المنكوب_التي رافقته في رحلة العذاب..

حتّى النهاية ! )) (1)

خطـوه..
ثِنْتـان..
ثلاث..
أقدِمْ.. أقدِمْ !
يا قربانَ الآلهة العمياء
يا كبشَ فداء
في مذبحِ شهواتِ العصرِ المظلم
خطـوه..
ثِنْتـان..
ثلاث..
زندي في زندك
نجتاز الدرب الملتاث !
***
يا أبتاه
ما زالت في وجهك عينان
في أرضك ما زالت قدمان
فاضرب عبر الليلِ بِأشأمِ كارثةِ في تاريخ الإنسان
عبرَ الليل.. لنخلق فجر حياه
***
يا أبتاه !
إن تُسْمِـلْ عينيك زبانيةُ الأحزان
فأنا ملءُ يديك
مِسرَجَةٌ تشربُ من زيت الإيمان
و غداً يا أبتاه أُعيد إليك
قَسَماً يا أبتاه أُعيد إليك
ما سلبتك خطايا القرصان
قسماً يا أبتاه
باسم الله.. و باسم الإنسان
***
خطـوه..
ثِنْتـان..
ثلاث..
أقدِمْ.. أقدِمْ !

...........................................

(1) انتيجونا هي بطلة المسرحي الاغريقي سوفرخليس، التي تمثل رمز الوفاء للأب. و التضحية في سبيله. طلت تقود خطوات أبيها الأعمى، الملك أوديب ، إلى أن حكم عليها بالإعدام.

()()()()()

ليد ظلّت تقاوم

بركة دكناء في قلبي
وفي وجهي سحابة
ونجيع ساخن
يصرخ في وحشة غابة
وعلى قارعة الدّرب وعاءات نحاس
أيقظت بضع رصاصات
وألقت في جفون الأخوة القتلى النعاس
وعلى روث المواشي
بقع حمر
وفي الدوار تعديد مآتم:
"كفر قاسم
كفر قاسم!"
وزهيرات من البرقوق في صدر امرأة
وعيون مطفأة
وعويل غارق في رهبة المأساة عائم!
وأنا ريشة نسر
في مهب الحزن والغيظ
إله لا يساوم!
يوم قالوا: سقطوا قتلى وجرحى
ما بكيت!
قلت: فوج آخر يمضي
ومن بيت لبيت
رحت أروي نبأ الغلة في العام الجديد
ومن المذياع، أنباء عن العام المجيد:
"مصر بركان.. وكل الشعب يحمي بور سعيد
أيها الأخوة.. والنصر أكيد!"
يوم قالوا: سقطوا قتلى وجرحى
صحت والأدمع في عيني: مرحى
ألف مرحى!!
يوم قالوا.. ما بكيت
ومضت بضعة أيام على عيد الضحايا
وأتيت
وتلقاني بنوك البسطاء
وتلونا الفاتحة
وعلى أعين أطفالك
يا أم العيون الجارحة
يبس النهر وماتت في أغاني الحمائم
وأنا يا كفر قاسم
أنا لا أنشد للموت.. ولكن
ليد ظلّت تقاوم!
سيدي!
يا واهب النار لقلب وجديلة
سيدي!
يا ساكب الزيت
على موقد أحزاني الطويلة
سيدي!
دعني أهنئك على يوم البطولة
عش لعدل لا يضاهى
أيها القيصر عش
ثمن الخمسين.. قرش؟
أنت يا مولاي رحمن رحيم
والذي يغضب من عدلك يا مولاي
شيطان رجيم
والذين يحزن مخدوع.. ومن
ينزف الأدمع
موتور لئيم..
سيدي يا قيصر العصر الجليل
كل ما قلناه يا هذا قليل
والذي في القلب.. في القلب
ومن جيل لجيل
وإلى أن يبعث النهر
وتشدو في أغانيّ الحمائم
أملأ الدنيا هتافا لا يساوم:
كفر قاسم
كفر قاسم
كفر قاسم
دمك المهدور ما زال
وما زلنا نقاوم!

()()()()()

()()()()()

وتبقى اريحا ...

(مدينتنا العربية الكنعانية الفلسطينية بلغت من العمر عشرة آلاف عام
إنها يريحو _أريحا وهي أول مدينة في العالم)
يخاطب قلبك قلب العثاكيل يا مطلع الحلم
فافتح شبابيك صمتك واسمع نداء محبيك يا مطلع الحلم
من عصرنا الحجري القديم الجديد
وقلبي يخاطب قلبك
ويا مطلع الحلم
أحصي على سعف النخل عشرة آلاف عام
تعبد دربي ودربك
بطهر الشهادة والتمر والذكريات
صعودا" من العتمة الداجية
على هجرة العرب الأولين بأجنحة البادية
وراياتها العالية
إلى دمعة الفرح القانية
ورؤيا تدرب شعبي وشعبك
على البوح حتى يبوحا
وحتى يصيحا:
هنا حجر الزاوية
هنا البدء.في البدء كانت أريحا
وفي البدء تبقى ....أريحا
*************************
أنا تجل كنعان من تسل يعرب
قلت الجزيرة شعرا" وصغت العروبة
في لغة من نخيل وورد
ويممت وجهي شمالا"إلى كلأ حول ماء أمين
على سنة الله في خلقه الحالمين
وفرسانه الجامحين
وصكت سنابك خيلي على صخرة الدهر وشما
ووزعت روحي وجسمي
على الكون روحا"وجسما
وقاتلت شرا" وقاومت ظلما
وأبدعت دنيا ودين
لعشرة آلاف عام تضيء الوضوح وضوحا
وما بين موسى وأحمد تعطي المسيحا
وتنشد يوما"فيوما
وتشهد روحا"فروحا:
هنا البدء.في البدء كانت اريحا
وتبقى.....أريحا.......
***************************
غرست نخيلي وبيتي ووردي
وعطرت موزي بأنفاس جدي القديم
ورنمت للقمح ترنيمة النهر والغيمة الوافرة
وصليت في معبد النجم للقوة الطاهرة
بسحر التجلي المهيب وآياته القاهرة
سجدت لرب الوجود العظيم
وهذبت سخط البراكين...أدبت صخرا
وروضت نهرا" ودجنت ريحا
وأشهرت باسم السماء وباسم التراب
تعاليم ناري ونور الصراط ...صراط دمي المستقيم
وقالت تباشير حلمي وفتوى جموحي:
هنا البدء.في البدء كانت أريحا
وتبقى .......أريحا
***************************
من الزول ؟من ذا الدخيل المفاجئ؟
من ذا المغير على صهوات الجنون ؟
بسبب لئيم زنيم يطل ظلاما"وموتا"
ويستوقف الشمس كي يهلك الزرع والضرع
من ذا الذي يشعل الحرب غدرا
ويحلم أن يستقر .وأقسم لن يستقرا
خديعة "راحاب" أخرى
ويوشع بن نون طيف الدخان وظل الغبار
على ضفة النهر مرا
ويوشع بن نون يأتي ويمضي ويأتي يمضي
ويوشع بن نون يمضي ويمضي
ولن يستقر ولن يستقر ولن يستقرا
وسور أريحا الجديد ضلوعي وحبل الوتين
وسور أريحا الخفي الجلي المتين
عصي على الفاتحين
ويوشع بن نون لن يستقرا
ويوشع بن نزن أطلال ذكرى
طهوت عليها عذابي ..لبانا"ومرا
وعدت جميلا"وحيا" وحرا
أغني هنا البدء .في البدء كانت أريحا
وتبقى على الدهر .تبقى أريحا
وتبقى وتبقى .....أريحا
*****************************
هنا البدء.
في لهجة الجد كنعان كانت " يريحو "
ملاذا" لضوء القمر
وحلما" سعيدا" بظل الشجر
وكنعان في بهوها يستريح
وكانت "يريحو"
كما تشتهي أن تكون "يبوس"
ووجه الحياة المليح الصبيح
وقلب الكفاح الشديد العبوس
وقالت يريحو "سيعشقني شاعر من بلادي"
"وينشدني غير ما أنشدت قبل كل العباد"
فبح بالغرام المعتق
خمرا" إلهية حللتها السماء
وتعشق أنت يريحو
ونارك أنت نشيد الأناشيد حنطة روحك قلب الأغاني
فقل عشقها يا سميح
وغن لها يا سميح
وانشد على سنة الله والحب مجد يريحو
وفي لهجة الجد يعرب قلها ......أريحا
هنا البدء .في البدء كانت يريحو
وفي البدء كانت أريحا
وتبقى على الدهر .تبقى أريحا
وتبقى وتبقى.... أريحا....
********************************
هي الحرب من سيف بن نون ينبت سيف نبوخذ نصر
وينبت نبوت كسرى وخنجر قيصر
ومن خنجر الغزو ينبت خمسون خنجر
ولا بأس.صبر أريحا جميل وقلب أريحا كبير
وصبري جميل وقلبي كبير
ولا بأس.يأتي الغزاة الصغار ويأتي الغزاة الكبار
ولا بأس.لا بأس.....والله أكبر
وبن نون أصغر .........وأصغر
نبوخذ نصر
وكسرى وقيصر
وصهيون أصغر
ونحن لنا الحب والله...الله أكبر
الله أكبر ...........الله اكبر
أطلي على أريحا...أطلي
لأجلك صليت عشرة آلاف عام...فصلي
لأجلي
ألا تذكرين ؟بلى تذكرين .أتيتك أمس
سحابة حلم وتمر وورد
ترش سحابة
على بسملات الصحابة
أتيتك في عنفوان الرسالة
والله يعلي على سن رمحي كتابه
وجئت يسمونني "خالدا"..بارك الله روحي سيفا"
وجئتك باسم "هشام"
أجر ذيول العباءات ملء القلوب ومد الرخام
فلا تستهيني بهذا الركام
سينهض باسمك قصري الجديد
وسوف اسميك عيدي السعيد
وأنفض من شفتيك الغبار .وأمسح عن مقلتيك الظلام
وفي نعمة البسملة
يطوف بروحي ملاك السلام
وأمحو جنازير دبابة عن رؤى سنبله
وأتلو صلاة الطعام
بأرغفة الجلجلة
وقوت بنيك الكرام
وأعلن مجدك عشرة آلاف عام
وعشرة آلاف عام
وأعلن:في البدء كانت أريحا
وفي البدء مسك الختام
وفي البدء كانت أريحا
وظلت أريحا
وتبقى أريحا
وتبقى... وتبقى... وتبقى......أريحا
()()()()()

بابل



أنا لـم أحفـظ عـن الله كتابا =أنا لـم أبنِ لقـديسٍ قبـابـا
أنا ما صليت.. ما صمت.. و ما =رهبت نفسي لدى الحشر عقابا
و الدم المسفوك من قافيتـي =لم يراود من يَدَيْ عَدنٍ ثوابا
فهو لو ساءلتـَه عن مَطْمَـحٍ= ما ارتضى إلا فدى النور انسكابا
*** =***
غضبي.. غضبة جرح أنشبت= فيه ذؤبانُ الخنا طفراً و نابا
و انتفاضاتي عذابٌ.. ودَّ لو= ردّ عن صاحبِهِ الشرقُ عذابا
و أنا أومن بالحق الذي= مجدهُ يؤخذ قسراً و اغتصابا
و أنا أومن أني باعثٌ =في غدي الشمسَ التي صارت ترابا
فاصبري يا لطخة العار التي= خطّها الأمسُ على وجهي كتابا
و انظري النار التي في أضلعي= تهزم الليل و تجتاح الضبابا
شعشعت في آسيا فاستيقظت= و صحت افريقيا.. غاباً فغابا!
*** =***
يا حمام الدوح! لا تعتب أسىً= حسبنا ما أجهش الدوحُ عتابا
نحن لم نزجرْك عن بستاننا =لم نُحكّمْ في مغانيك الغرابا
نحن أشباهٌ و قد أوسعنا =غاصب الأعشاش ذلاً و اغترابا
فابكِ في الغربة عمراً ضائعاً =و ارثِ عيشاً كان حلواً مُستطابا
علّ نار الشجو تُذكي نخوةً =في الأَُلى اعتادوا مع الدهر المصابا
فتهد اللحدَ عنـها جُثــثٌ =و يمور البعث شِيـباً و شبابا
*** =***
يا قرى.. أطلالُها شاخصةٌ= تتقرّى غائباً أبكى الغيابا
يا قرىً يُؤسي ثرى أجداثها =أنّ في النسل جراحاً تتغابى
يا قرانا.. نحن لم نَسْلُ.. و لم =نغدر الأرض التي صارت يبابا
خصبها يهدر في أعراقنا =أملاً حراً، و وحياً، و طِلابا
و الذرى تشمخ في أنفسنا =عزةً تحتطبُ البغي احتطابا !
*** =***
يا بلاداً بلّلت كلَّ صدىً= و صداها لم يَرِدُ إلا سرابا
يا بلادي نحن ما زلنا على= قسم الفدية شوقاً و ارتقابا
يا بلادي! قبل ميعاد الضحى= موعدٌ ينضو عن النور حجابا !
***= ***
نكبةُ التيهِ التي أوردت بنا= فطرقنا في الدجى باباً فبابا
عَمّقت سكِّينها في جرحنا =و جرت في دِمنا سُمّاً و صَابا
و تهاوينا على أنقاضنا= فخرابٌ ضمّ في البؤسِ خرابا
و من الأعماق.. من تُربتنا= هتف التاريخ.. و المجد أهابا
فإذا أيامنا مشرقةٌ= بدمٍ.. من لونه أعطى الترابا
و إذا روما نداءٌ جارحٌ =طاب يومُ النارِ يا نيرونُ طابا!
*** =***
أيها العاجمُ من أعوادنا =نحن ما زلنا على العَجمْ صِلابا
فاسأل الجرح الذي عذّبنا= كيف ألّبنا على الجرح العذابا
نكبةُ التيه التي سّدّت بنا= كل أُفق ضوّأت فينا شهابا
فأفاقت من سُباتٍ أعينٌ =وُلِدَ الدهرُ عليهنّ و شابا
و اشرأبّت في المدى ألويةٌ= خفقت في الأربع الجُرد سحابا
و على وقعُ خطانا التفتت =أمم أغضت هواناً و اكتئابا
و رؤانا أخصبت فاخضوضرت= أعصُرٌ ناءَت على الشرق جِدابا
***= ***
شعَفَاتُ الشمس من غاياتنا= فازرعي يا أمتي الليلَ حِرابا
و إذا الأسداف أهوت جُثثاً= و إذا أحنى الطواغيتُ رقابا
و إذا فَجّرْتِ أنهارَ السنى= و سنون الجدبِ بُدّلن خِصابا
فانشري النور على كل مدى= و ابعثي أمجاده عجباً عجابا
نحن أحرى مستجيباً إن دعا := من يُفَدّي؟ و هو أحرى مستجابا !

()()()()()

قصيدة الخفافيش


الخفافيش على نافذتي،
تمتصّ صوتي
الخفافيش على مدخل بيتي
والخفافيش وراء الصّحف
في بعض الزوايا
تتقصّى خطواتي
والتفاتي
والخفافيشُ على المقعد،
في الشارع خلفي..
وعلى واجهة الكُتب وسيقان الصّبايا،
كيف دارت نظراتي!
الخفافيشُ على شرفة جاري
والخفافيش جهازٌ ما، خبّيءٌ في جدار.
والخفافيشُ على وشك انتحار.
إنّني أحفرُ درباً للنهار!

()()()()()

درب الحلوة.

عيناك!!.. و ارتعش الضياء بسحر أجمل مقلتينْ
و تلفّتَ الدربُ السعيد، مُخدّراً من سكرتين
و تبرّجَ الأُفُقُ الوضيء لعيد مولد نجمتين
و الطير أسكتها الذهول، و قد صدحتِ بخطوتين
و الوردُ مال على الطريق يودّ تقبيل اليدين
و فراشةٌ تاهت إلى خديكِ.. أحلى وردتين
ثم انثنيت للنور في عينين.. لا.. في كوكبينْ
و نُحَيْلةٌ همْتْ لتمتص الشذى من زهرتين
رحماك!.. ردّيها.. و لا تقضي بموتي مرتين
فأنا.. أنا دوّامةٌ جُنّت ببحرٍ من لُجين
أصبحتُ، مذ نادى بعينيك السبيل.. كما ترين
سُكْرٌ غريب الخمر.. منكِ.. اجتاحني قلباً و عين
ماذا؟.. أحُلماً ما أرى.. أم واقعاً.. أم بين بين
يا طلّة الأسحار قلبي ذاب في غمّازتين
و ثوى هنالك ناسكاً، ما حمّلَ المعبودَ دَين
يا حلوة العينين، إنكار الهوى زورٌ، و مَيْن
فتشجّعي .. و بقبلةٍ صغرى أبيعك قبلتين
و تشجّعي .. و الحبّ يخلقُ هيكلاً من هيكلين
إن تعطِني عيناكِ ميعاداً ألمّ الفرقدين
أيكون من حظي لقاءٌ يا ترى ؟ و متى ؟ و أين ؟

()()()()()

سقوط الاقنعة

سقطت جميع الأقنعة
سقطت..فإما رايتي تبقى ،
وكأسي المترعه
أو جثتي والزوبعه
سقطت جميع الأقنعة
سقطت قشور الماس عن عينيك
يا رجلا يصول بلا رجوله
يا سائقا للموت أحلام القبيله
سقطت تماثيل الرخام
سقطت دموعك يا تماسيح التواريخ الطويله
سقطت..
وأبراج الصقور انخدعت عشرين عام:
"أنا يا ضمير الأرض أبراج الحمام"
سقطت أغانيك الحزينه
والأساطير الذليله
يا حالما بالأرض خادمة مطيعه
تعطيك من أختامها ما شئت
تكريسا لشهوتك الوضيعه
سقطت ممزقة على درب الرياح الأربعه
سقطت.. جميع.. الأقنعة!
فلأي رب بعد هذا تلجأ؟
أي رب،
سيبارك الناب ، والنصل الممزق لحم شعبي؟
منذا يبيعك صك غفران
ونابك في ذراعي
يا من تخاف من الشعاع
يا من يعز عليك نبض الخصب،
في أرض الجياع
يا كلب صيد الكرش والغليون
يا سمسار ناطحة السحاب
يا حارس النفط المدلل
بين أحصان الذئاب؟!
جعلوا شراييني أنابيبا
لبترول الغزاة القادمين من الضباب
جعلوا شراييني أفاعي
جعلوا شراييني حبالا
كبلت شعبي الجريح إلى النخاع
وحفرت من ملكوت بئر النفط
دربي للشعاع
يا من تخاف من الشعاع
ونهشت بالأسنان بالأسنان
جدران الظلام
وهتفت بالجيل الممزق عبر بيداء الضياع:
باسم الحياة إلى الأمام
إلى الأمام إلى الأمام.
ويجيء نصلك في الظلام
وأشد خاصرتي ، وتبقى جبهتي،
فوق الرغام
وتظل تصرخ:
"يا ضمير الناس ، من يحمي من العرب الرعاع
بيت الحزانى العائدين من الضياع؟"
وتشد نابك في ذراعي
وأنا أشيّد سدي العالي..وأحلم
بالمدارس والمصانع والمراعي
يا من تخاف من المدارس والمصانع والمراعي
من حفنة القمح المبلل بالدموع وبالدماء
للكادحين من الصباح إلى المساء
للثائرين من الجياع!
سقطت جميع الأقنعة
سقطت..فإما رايتي تبقى ،
وكأسي المترعه
أو جثتي والزوبعه
مجلس وروايتي يا الأمن الموقر
أصبحت عشرين فصلا
وروايتي يا الأمن الموقر
أصبحت عشرين ليلا
عشرين زهرة برتقال
ذبلت على دوّار قريتنا المهينه
عشرين زهرة برتقال
جابت طوال الليل أرصفة المدينه
عشرين قافلة حزينه
خرجت مطأطأة الجباه
للشرق أذكر للجنوب وللشمال
خرجت تفتش عن إله
عشرين زهرة برتقال
ذبحت هناك.. بلا قتال
وأنا ألوب في حمّى عذابي
متمزق القدمين..من باب لباب
وجهي احتقان محارب
أنسوه تاريخ الحراب
ووجوه أطفالي صحون فارغه
ناديت من عشرين عام
يا مجلس الأمن الموقّر – آه –
من عشرين عام
واليوم، عبر صواعق متربّصات بالسلام
صوتي يجيئك بالبريد
من غابة الدم والحرائق والمرارة والخيام
صوتي يجيئك زهرة حمراء
في العام الجديد:
من يأتي بيتي قاتلا
يرتدّ عن بيتي قتيلا!
يا مجلس الأمن الموقر
صوتي يجيئك زهرة حمراء،
من حقل الجريمه
فإلى اللقاء ..إلى اللقاء..
يا مجلس الأمن القديم
أراك في القدس القديمه

()()()()()


رسالة الى بُغاة لا يفقهون !

(مع انطلاقة الانتفاضة الاولى كان انطلاق قصيدتها الاولى، "رسالة الى غزاة لا يقرأون"، التي عُرفت جماهيريا بلفظتها الاولى وايقاعها الاول، "تقدموا ! ".. اليوم، وجنازير دبابات الاحتلال الاسرائيلي تسحق مشاريع الحلول السلمية المتاحة، واحدا تلو الآخر،
نحن، اذًا، مع رسالة جديدة، "رسالة الى بُغاة لا يفقهون ! "، في مواجهة فظاعات "الشتاء الساخن"، والمناخ السياسي القارس، وغباء عباقرة الاحتلال السافل والزائل، رغم الاحساس القاتم بالوحدة المطلقة، الذي يرافق الشاعر منذ اربعة عقود باهظة، يوم صرخ في مراثيه: "وحدي
حدائقي المعلّقهْ
دالية نازفةٌ
على سطوح قريتي وأمّتي
وعِبرتي مختنقهْ
بعَبْرتي
على سطوح غزّتي
وعزّتي
سرّ حرير الشرنقهْ
هُبّي إذًا. أيتها الاسئلة المؤرّقهْ
وانتظري إجابة شافية
من موسم القحط. وطعم النفط في فاكهتي
وانتظري إجابة وافية كافيةْ
من تربتي.. مالحة. يابسة. مشقّقهْ
ولأعترفْ بمحنة الحصار. بيتي هاجس مطوّقٌ
وشُرفتي
بألف جاسوس وجاسوس لهم مطوقهْ
وسادة كلاب صيد. يرصدون خطوتي
وصرختي المنبثقهْ
نَوءًا وإعصارًا
إذًا فلتحتفل قتامة القيعان بالقرصانِ
والأشرعة الممزقهْ
"وحدي على الأسوار".. من زمانْ
أغنية سجينة وزهرة بريّة
"وحدي" على الايمانْ
معجزة سريهْ
من رحمة الرحمنْ
وقوة الانسان في الانسانْ !
"وحدي". وأهل النور في "وحدي"
وما قد خلق الله. وما يشاء لي ان أخلقَهْ
"وحدي". وما تُبدعه نار الحياة المطلقَهْ
وباب قلبي موصد. يا يأسُ لن تدخلهُ !
والروح في وجه القنوط والسقوط مُغلقهْ
ولتحترق أهداب عينيّ
فلن تكون أبدًا ولن تكون أبدًا وأبدا
بغير شمس ربّها وشعبها وحبّها ملتصقَهْ !
وقبضتي صوّانة. بوردتي وجبهتي ملتصقهْ
وثورتي أجنحة نارية
تنبتُ من قصيدتي المحلّقهْ
نجما على المجوس والمسوخ والأزلام
والحثالة المزوّقهْ
وصيحة نقيّة على فحيح الأروقهْ
على لهاثِ الزور والبهتان والأبّهة المختلَقهْ
ومن هنا. ومن هناك. تستدير الحلقهْ
وحولكم يضيق طوق الحلقهْ
يا أيها الذين
إبليسكم لعين
وباطل تلفيقكم
وخاطل تدليسكم
وسافل صدّيقكم
وهامل قدّيسكم
وفاصل قول دمي بشأنكم وشأنهم
"وافق شنّ طبَقهْ ! "
وأيها الذين
ملاكهم حزينْ
وقلبهم حزين
وعقلهم حزين
وحزنهم حزين
لا تهِنوا. لا تيأسوا. لا تحزنوا
وفاوِضوا
وعارِضوا
وقايضوا
وقوّضوا
وناقضوا
وناهضوا
واستنهضوا
وفاوضوا
وفوّضوا
آذانهم موقورة
اذهانهم موتورة
وشهوة السراب والخراب في اعصابهم موفورة
وأعين العالم في اكفّهم محدّقهْ
ولا ترى جراحنا
ولا ترى دموعنا
ولا ترى دماءنا
ولا ترى كفاحَنا
ولا ترى رمادنا
ولا ترى غير "رماد المحرقهْ"
كأننا لم نلفظ النازيّ والفاشيّ
والعقائد
المكائد
المصائد
المهرطقهْ
كأنما آباؤنا أحفاد سام أشعَلوا
في قلب اوروبا لهيب المحرقَه !
يحرجني البركان في لحمي وفي حلمي
ويرجو شفتي ان تعتقهْ
يحرجني. يجرحني. مقترحا لونَ دمي
لصورة الخريطة البسيطة المنمّقهْ
في المنطق البور.. وبور المنطقهْ !
وآخ يا زيتونتي. وآخ يا ليمونتي
مشفقة أنتِ عليّ مشفقهْ
والعذر يا حبيبتي
فلاا أحبّ الشفقهْ
والعفو يا صديقتي
فلا أُطيق الشفقهْ
لا غصنَ زيتون ولا حمامة مطوّقهْ
هو الغراب وحده. ينعق كيف يشتهي
في الغابة المحترقهْ !
وما تبقّى من حياتي.. صدَقهْ
ولا أريد صدَقهْ
من فضل جزّارٍ خُرافيّ،
وأفضال العبيد الصمّ. في جلبة موتي المحدِقهْ
وحسبيَ التراب قوت العمر،
فليلعق سوايَ الملعقهْ !
وحسبيَ اللهُ وكيلا،
في زنازين الليالي المطبِقهْ
يا أيها الذين
للحشر يوم الدين
ها أنذا معترف..
صدّقتُ كل ما مضى. صدّقتهُ
فليأت ما يأتي بما يأتي.. ولن اُصدّقهْ
أعرف.. لن اصدّقهْ
أحلف.. لن اصدّقه !
يا أيها الذين
ضاقوا بيوم الدين
مرتّق جلدي على عباءتي المرتّقهْ
وجبهتي تعلو على ظلامكم
شمس نهار مشرقهْ
على ركام القادة المرتزقهْ
والعسكر المرتزقهْ
والساسة المرتزقهْ
والشعراء الادباء الخطباء الفقهاء الخنّع المرتزقهْ !
يا أيها الذين
يهجون يوم الدين
خذوا دمي. خذوا اشربوا خمركم المعتّقهْ
وخبزكم ضريبة على الشعوب المملقَه
ووردكم على الرؤوس،
في مراسيم الكلام.. مطرقهْ
والكفر في إيمانكم. والزندقهْ !
وأنتَ. أنتَ. أنتَ. أنتَ.
سرحتي وحسرتي
وصخرتي وصرختي
وروعتي ولوعتي
ونعمتي ونقمتي
يا وطني
تقتلني بوردة
يا وطني
تذبحني بزنبقهْ !
يا وطني قل لي: أأنتَ وطن ملفّق؟
يا أمّتي قولي: أأنتِ أمّة ملفّقهْ؟
ويا سماءُ. أنذا مهيّأ. على وضوء ناجز،
وعنقي جاهزة،
فأمطري منّا وسلوى. لسواي أمطري
منّا وسلوى. وعليّ أمطري
لو شئتِ.. حبل المشنقهْ !
ها أنذا مبتهل. وعنُقي راضية مرضيّة
وجسدي مؤهّل للمحرقهْ
وجسدي في المحرقهْ !
يا أيها الذينْ
للنار يوم الدينْ
لا تشتموا – لن تشمتوا
لا تقرصوا – لن ترقصوا
لا تبطروا – لن تطربوا
لا تسكروا – لن تكسروا
لا تبطشوا – لن تشطبوا
لا تسكبوا – لن تكسبوا
في جسدي الرماد عنقائي.. ومن رمادها
أجنحة للنار والنور على سمائنا منطلقهْ
من موتنا منطلقهْ
ببعثنا منطلقهْ
بحبنا وحزننا وحلمنا منطلقهْ
ألمجد للعنقاء. ورد المجد للعنقاء. قمح المجد للعنقاء.
غارُ المجد للعنقاء. مجد المجدِ للعنقاء.. مِن
رمادنا منطلقهْ
منطلقهْ
منطلقهْ..


()()()()()

خذني معك

تَخلَّيتَ عن وِزرِ حُزني
ووزرِ حياتي
وحَمَّلتَني وزرَ مَوتِكَ،
أنتَ تركْتَ الحصانَ وَحيداً.. لماذا؟
وآثَرْتَ صَهوةَ مَوتِكَ أُفقاً،
وآثَرتَ حُزني مَلاذا
أجبني. أجبني.. لماذا؟.

• • • • •

عَصَافيرُنا يا صَديقي تطيرُ بِلا أَجنحهْ
وأَحلامُنا يا رَفيقي تَطيرُ بِلا مِرْوَحَهْ
تَطيرُ على شَرَكِ الماءِ والنَّار. والنَّارِ والماءِ.
مَا مِن مكانٍ تحطُّ عليهِ.. سوى المذبَحَهْ
وتَنسى مناقيرَها في تُرابِ القُبورِ الجماعيَّةِ.. الحَبُّ والحُبُّ
أَرضٌ مُحَرَّمَةٌ يا صَديقي
وتَنفَرِطُ المسْبَحَهْ
هو الخوفُ والموتُ في الخوفِ. والأمنُ في الموتِ
لا أمْنَ في مجلِسِ الأَمنِ يا صاحبي. مجلسُ الأمنِ
أرضٌ مُحايدَةٌ يا رفيقي
ونحنُ عذابُ الدروبِ
وسخطُ الجِهاتِ
ونحنُ غُبارُ الشُّعوبِ
وعَجْزُ اللُّغاتِ
وبَعضُ الصَّلاةِ
على مَا يُتاحُ مِنَ الأَضرِحَهْ
وفي الموتِ تكبُرُ أرتالُ إخوتنا الطارئينْ
وأعدائِنا الطارئينْ
ويزدَحمُ الطقسُ بالمترَفين الذينْ
يُحبّونَنا مَيِّتينْ
ولكنْ يُحبُّونَنَا يا صديقي
بِكُلِّ الشُّكُوكِ وكُلِّ اليَقينْ
وهاجَرْتَ حُزناً. إلى باطلِ الحقِّ هاجَرْتَ
مِن باطلِ الباطِلِ
ومِن بابل بابلٍ
إلى بابلٍ بابلِ
ومِن تافِهٍ قاتلٍ
إلى تافِهٍ جاهِلِ
ومِن مُجرمٍ غاصِبٍ
إلى مُتخَمٍ قاتلِ
ومِن مفترٍ سافلٍ
إلى مُدَّعٍ فاشِلِ
ومِن زائِلٍ زائِلٍ
إلى زائِلٍ زائِلِ
وماذا وَجَدْتَ هُناكْ
سِوى مَا سِوايَ
وماذا وَجّدْتَ
سِوى مَا سِواكْ؟
أَخي دَعْكَ مِن هذه المسألَهْ
تُحِبُّ أخي.. وأُحِبُّ أَخاكْ
وأَنتَ رَحَلْتَ. رَحَلْتَ.
ولم أبْقَ كالسَّيفِ فرداً. وما أنا سَيفٌ ولا سُنبُلَهْ
وَلا وَردةٌ في يَميني.. وَلا قُنبُلَهْ
لأنّي قَدِمْتُ إلى الأرضِ قبلكَ،
صِرْتُ بما قَدَّرَ اللهُ. صِرْتُ
أنا أوَّلَ الأسئلَهْ
إذنْ.. فَلْتَكُنْ خَاتَمَ الأسئِلَهْ
لَعّلَّ الإجاباتِ تَستَصْغِرُ المشكلَهْ
وَتَستَدْرِجُ البدءَ بالبَسمَلَهْ
إلى أوَّلِ النّورِ في نَفَقِ المعضِلَهْ.


()()()()()

بغداد


بايعتُ عيدكِ واستثنيتُ اعيادي = مستشرفاً غدَ ابنائي وأحفادي
وكان نذري دمي ، قربانة سنحت = على مذابح أبائي وأجدادي
وقلُ لأسمكِ كن رؤيا فصار رؤىً= لطارفِ المجدِ موصولا ً بأتلادِ
وأنتِ ما أنت ؟ عباسيةٌ ملكتْ= شمسَ الشموس ِ بتاج الله والضادِ
ووزعت نورها في كل غاشيةٍ= من الظلامِ بمشكاةِ الدم الهادي
وشع َ قرطاسها روحاً ومعرفة ً= على العوالمِ من خافٍ إلى باد ِ
هنا المنابر من عربٍ ومن عجمٍِ= هنا المنابر هدي الرائحِ الغادي
أصابع الناس اقلام وأحرفهم = بوح اللغات بحلم الصابيء الصادي
من المشارقِ اسفارٌ مذهبةٌ= إلى المغارب مرصاداً لمرصادي
ودجلةُ عسلٌ تغري لذائذه = سمنُ الفرات بنحلٍ بين اورادِ
وللنخيلِ " عين التمر " شاخصة = لسومر، بابل ، آشور اكادِ
ليعرب جامح شدت نوازعه = بوابةَ الشرقِِِ أمداءٌ لآمادِ
فللخيولِِ صهيلٌ عبر " أرومية " = وللسيوفِ صليلٌ خلف " ارواد "
مصاحف ٌ ورماح ٌ للمدى نشرت = ايمانها النور في اسداف الحادِ
وشَّرّعْتِ علما ً واستنهضتِ أمما ً = وأشهرتِ قلماً في وجه جلادِ
وللقصائدِ كوفي يتيه بها = وكم تتيه إذا قالوا مَن الشادي ؟
وشهرزاد صلاة الليلِ حكمتها
لخدها طالما حنت مخدتها = وشهريار لأبراقٍ وﺇرعادِ
وانتِ كاهنة الالهام ،شاهدةً = على بدائع أمثالٍ وأضدادِ
كنوزُ كفيكِ امجادٌ مخلدة = زكاتها ردف أمجاد ٍ بأمجادِ
اعلى الرشيد صروح العلمِ = وانكفات على المبعثرِ من علمٍ وأرشادِ
ومليء نهريك حبر الروح سال دماً =وسال حبرا دمي في بحرِ أحقادي
وكنتِ ماكنتِ من حرٍ لطاغيةٍ = عبر العصورِ وعُبْداناً لأسيادِ
تداولتكِ صروف الدهر عاصفة
ورنحاتك ِ كفوف الشر خاطفة = وطوحتكِ من الجزارِ للفادي
ومن أساور غردتْ ذهبا
إلى شفوف حرير ٍ زغردت طرباً = إلى مذلةِ اغلالٍ وأصفادِ
وللمغولِ زحوفٌ لا لجام لها = وللتتار سيوفٌ دون اغمادِ
وللعلوجِ من الاجلاف ِزعنفةٌ = تبدل الحالَ إفساداً بأفسادِ
وأنت عارية في السجنِ دامية
وأنت كابيةٌ في القيدِ باكية = والقهقهاتِ لأوباشٍ واوغادِ
ما أنجدتْ يمناً قيسٌ ولاذرفتْ= ثمودَ دمعةَ محزونٍ على عادِ
والأهلُ اهلكِ لم تنبس لهم شفةٌ = بغير صمتٍ لدى أجراس حسادِ
لِمَ ازدهرتِ وبيد الشرقِ قاحلة ؟ = وكيف صار حريرُ ثوبٍ لبادِ ؟
وما نهوضكِ والأجفانُ مغمضةً= على الرمالِ؟ وماذا صوتكِ الحادي ؟
وما طموحكِ والآمالُخائبةً؟ = وماصعودكِ والأعراب في الوادي ؟ !!!
ياحرةً لوثَالطاغوتُ زهوتها
يامهرةً لوثَ الكاوبوي صهوتها = ماالعيشُ في موتِ فرسانٍ وروادِ؟
لكِ الجانب اسياداً متى رغبوا = وكم يجانب من أهلٍ وأولادِ ؟
تفرقوا شيعاً وافرنقعوا زمراًً = وأسرفوا عبثاً ، في شح إرفادِ
ولاتجمعهم في الويلِ جامعة
وصاحب الجاه في مستنقعٍ نتن = يتيه بالجاه فيما يسخر النادي
عليه من حلل الأشباه ضافية = ودأبه الرقص مشدوداً بأوتادِ
وحين يخطب فالأقوال في وادي = وحين يفعل فالأفعال في وادِ
حصان طروادة صالون منزله = وكعب اخيل في جيشٍ وقواد ِ
وصاحب الجاه رخو حين تصفعه = كف الغريب ، وفينا كابن شدادِ
وأي جاه نجا من جاه عصفته = وحوله حشد أزلامٍ وأكدادِ
جز الرقابِ فلم يشبع هوايته = جز النواصي وتعليقٍ بأعوادي
استصغرَ الخلقَ معتداً بسطوته = لم يخلق الله أمثالي وأندادي
بغداد ، بغداد ،حبي قاتلي فمتى = يتيح حبكِ تكفيني وﺇلحادي ؟
في الكاظمية لي شمس أغازلها = وفي الرصافة شباك لأنشادي
وشاغلي رصد انقاضي مبعثرة = في راحلين عن الدنيا وأوفادِ
غرستِ في تربةِ ألأحزانِ لي املاً=وما سوى الحزن إصداري وﺇيرادي
يُقترُ الدهر في حظي وفي هبتي = وحظي من هباتي جودُ أجوادِ
وللفراتِ أبٌ ، قبلي قضى وجعا = في منفيين ، بلا صخبٍ و عوّادِ
بريدُ غربته في غربتيه بكى = رسائل البين من بعدٍ لأبعادِ
بدلته جسداً صلصال طاغية = ومن يبدل أرواحاً بأجسادِ
وأنت من سلفٍ أودى به خلفٌ = وكم شقيت وكم حاولت إسعادي
وأنتِ لي،أنتِ لي آتيك مبتهلاً= دربي ترابٌ فلم أطمع بسجادِ
وأنت زادي على بخل الحياة وفي = عسف المجاعة يابوركت من زادِ
وخبز روحي في كفيك مختمرٌ = وماء عيني من بستانك النادي
وأنت ملهمتي من قبل ملهمتي = لتمر عينيك ترتيلي وتردادِ
ومن شناشيلك أصطاد الشجا كلماً= صاحت لآلئه : بوركت صيادي
وصحت من وجع في القدس يشعله= أني استغثت فغض السمع نجادي
وجرحك الحي من جرحي ، ومعتصمي= لايستجيب ، وغض الطرف أشهادي
وكم عددتُ ملاييناً لها نسبيب= فلم تقلني حساباتي وأعدادي
وكم أرقتُ على نومٍ يحاصرني = خلف الحصار ، وكم أرقتُ جلادي
ويعلم الله لم اغمض على مضضٍ= عين الكفاح ، ولا اخلفت ميعادي
قصدت ُ وجهك مسكونا ً بمحنته = وخاب قصدي وماخيبتِ قصادي
متى التقرب للمحبوب محتسباً = شرور صدي وإفرادي وإبعادي
ويذبل الحب مأسوراً ونضرته = طلقاً ، تدوم إلى آباد آبادِ
وأين قلبك من كفٍ تهدهده = ودونه مبضع في كف فصّادِ
تقوده طغمة للباطشين به =وكان قلبك غير منقادِ
شبعتِ أسراً وإذلالاً وتضحيةً =ولافتدائك قلبي غارثٌ صادي
ومن نعيم الهدى علماً وعافية = ألى جحيم الردى في قبضة العادي
بغداد ، بغداد ناري ألف لاهبة = وبين جنبي قلب ٌ الف وجادِ
أأستعيد بما أسلفت خارطتي ؟= وهل أجدد باسم الله ميلادي؟
وانتِ ما أنتِ عباسية سبيت = بغداد أنت ، ولكن أين بغدادي ؟

()()()()()

القصيدة العمّانية
"إلى الأخوين مصطفى العقاد وصلاح الدين وذوي الشهداء والضحايا في مذبحة عمان"


قتلتك أم أحيتك أم سيان=يا صاحب الحسرات والأحزان؟
وتصد عنها أم تطيق عناقها=مستأنساً بمشيئة الرحمن؟
حدّث بلا حرج فأنت سليلها=وخليلها.. في الربح والخسران
حملتك في رحم الفجيعة نطفة=وحملتها في زحمة الميدان
حدّث بصمتك يوم يطفح كيلها=وبجلبة التطفيف والنقصان
يا طالما أسرفت في كتمانها=لتبوح عنك بثورة البركان
يا ابن الردى يوم الولادة للفدى=تختار أول ما يشاء الثاني
وتمد كف الحر في أصفاده=وتصد كفك لعنة القضبان
وتشن سلماً في الحروب وشأنهم=شن الحروب على السلام العاني
حدث بلا حرج ولحمك نازف=بين الخرائب في مدى النيران
ترعى حظيرة يعرب وعلى المدى=صهلت خيول الفرس والرومان
وعلى جبينك نجمة شعت من التـ=توراة والإنجيل والقرآن
وتضيء في دمك الملوّع حكمة=صوفية عزت على القمصان
ويندّ عنك البرق في زيتونة=هلعت عليها زهرة الرمان
فتصيح من وجع الصليب: إلهنا=نسي الورى وجعي. فهل تنساني؟
يا رب، والأشواك تدمي جبهتي=وعلى فمي ترنيمة الريحان
لو بحت يا ربي فبوحي فاضح=وإذا كتمت فقاتل كتماني
للقدس يذبحني الغزاة فمن ترى=يا رب يذبحني على عمّان؟
والعرس عرسي، كيف صار مناحة=تبكي على القاصي ضمير الداني
العرس عرسي كيف أصبح مأتما=واستبدل الحناء دمعي القاني؟
ومدينتي الزرقاء حلت شعرها=والسلط والرمثا.. بحزن معان
يا رب هل كفرت بنا أوطاننا=أم نحن أهل الكفر بالأوطان؟
والجاهلية جددت غزواتها=فاجتاح قيسيٌ حياض يماني؟
وأسر للملك العزيز بشعبه=وعلى يدي شقائق النعمان
لا تأس، عبدالله جدك هاشم=كم شيع القربان بالقربان
لا تأس أفواج النشامى عمدت=شرف العروبة في دم الفرسان
شعب ذوو الأردن.. لا شعبان=عرب بنو الأردن.. لا عربان
وأسر للشعب السخي بحبه=لا تأس كل فجيعة بأوان
وأنا شريكك محنة ومثابة=ومعا نتوق لوردة الصوان
واذا كيانك كدرته مرارة=سرت المرارة في عروق كياني
لا تأس سنبلة العذاب ثرية=بسنابل الرؤيا.. وبعض زؤان
صبراً، وطال الصبر مفتاحاً ولا=فرج يفرج كربة الحرمان
طالت مسيرتنا على آلامنا=لتطول سيرتنا مع الخذلان
من خيبة عبرت تعاود خيبة=تحثو الرماد على عمى الألوان
والسوس ينخر في عظام رقابنا=والعري يفضح حشمة الرهبان
أهل يقول الرحم، ما أهل بلا=رحمى؟ وما التصديق في النكران؟
وإذا الشعوب تشعّبت أسبابها=وشعابها فالعذر للقطعان
أهل، بلى، أهل وشهوة نصلهم=ذبحي من الشريان للشريان
وأنا أسير ضبابهم وغيابهم=عن نكبتي ومذلتي وهواني
القتل باسم الله مهنة شيخهم=والله عز وجل عن طغيان
ما أفلت الجلاد من إثم ولا=أجدى اللسان حصافة الملذان
فقه الجريمة أن كل جريمة=ترتد طعنتها لنحر الجاني
فبأي سر يعبثون بجثتي=ويمجدون السر بالإعلان؟
أهلي، ولا أهلي، فلا أصلابهم=صلبي، ولا إيمانهم إيماني
آمنت بالله المضيء رسالة=بمحبة الإنسان للإنسان
وبرحمة ومودة آياتها=ما شاء ديان من الأديان
وبأي شرع تستفز شرائع=ومذاهب من ذاهب الأزمان؟
وبأي شرع تستثار حزازة=حزت وريد المسلم النصراني
والغاصبون على الأهلة جثم=والناهبون منكسو صلبان
عز التعاون في المبرة بيننا=وتعاونوا في الإثم والعدوان
الأقوياء بضعفنا والأغنياء=بفقرنا يا قاتلي صنوان!
وأصيح من شظف الحياة معاتبا=شظف الممات على يد الشيطان
وأصيح بالسفاح حسبك ما جبت=فتوى الجنون من الدم العقلاني
يا من تموت على حزام ناسف=عش للكفاح بثورة الشجعان
شرف الشهادة أن تنال ثوابها=لا أن تنال الموت بالمجان
وإذا طلبت الثأر من أبخازيا=ما شأن أهل الصين واليابان؟
وبأي شرع تستبيح بظلمة=في القلب قلب العالم النوراني؟
والله يهدي من يشاء فمن ترى=ولاك عرش الحاكم الرباني؟
دلس على البسطاء واخدع طهرهم=بالزهو انك مخلص متفان
لا، لن تجوز إمامنا وأميرنا=ومصرف الارواح والابدان
يا قاتلي وأخي عذابي انني=موتي وموتك هيّجا اشجاني
موتي وموتك يا أخي يا قاتلي=لم ينعما بطهارة الاكفان
أرخيصة فينا الدماء مباحة=ومن الهوان مصيرنا لهوان؟
عين اليقين شكوكنا، ويقيننا=عين الشكوك، فأنت كيف تراني!
يا قاتلي، وأخي، وموتي اننا=موتي وموتك في الورى سيان
أمن الرسول رسالة وتصدها=وتردها: اخطأت بالعنوان!
وبنعمة التذكار تكفر لائذا=بملذة من نعمة النسيان
يا قاتلي وأخي ظلمت اخوة=غشيت شجاعتها ظنون جبان
يا قاتلي وأخي بهجرك هاجرا=اخلفت وعد المصطفى العدناني
ونقضت عهد شقيقك الغساني
هذا طلاؤك من دمي فارسم به=ما شئت من صور على الحيطان
واذا انتسبت فلا تسم عشيرتي=فأعيف كوني من بني قحطان
لو صح ان الجذع يجمع بيننا=فأصح ان يتفرق الفرعان
أنا غايتي ملء اللسان، ورايتي=ملء الصراط وأنت للزوغان
وشهادتي صدق، وأنت مكذبي=بشهادة للزور والبهتان
بيني وبينك هوة في هوة=ما أنت من وطني ومن إخواني

()()()()()

"خذني معك" قصيدة سميح القاسم في رثاء محمود درويش

تَخلَّيتَ عن وِزرِ حُزني
ووزرِ حياتي
وحَمَّلتَني وزرَ مَوتِكَ،
أنتَ تركْتَ الحصانَ وَحيداً.. لماذا؟
وآثَرْتَ صَهوةَ مَوتِكَ أُفقاً،
وآثَرتَ حُزني مَلاذا
أجبني. أجبني.. لماذا؟.
• • • • •
عَصَافيرُنا يا صَديقي تطيرُ بِلا أَجنحهْ
وأَحلامُنا يا رَفيقي تَطيرُ بِلا مِرْوَحَهْ
تَطيرُ على شَرَكِ الماءِ والنَّار. والنَّارِ والماءِ.
مَا مِن مكانٍ تحطُّ عليهِ.. سوى المذبَحَهْ
وتَنسى مناقيرَها في تُرابِ القُبورِ الجماعيَّةِ.. الحَبُّ والحُبُّ
أَرضٌ مُحَرَّمَةٌ يا صَديقي
وتَنفَرِطُ المسْبَحَهْ
هو الخوفُ والموتُ في الخوفِ. والأمنُ في الموتِ
لا أمْنَ في مجلِسِ الأَمنِ يا صاحبي. مجلسُ الأمنِ
أرضٌ مُحايدَةٌ يا رفيقي
ونحنُ عذابُ الدروبِ
وسخطُ الجِهاتِ
ونحنُ غُبارُ الشُّعوبِ
وعَجْزُ اللُّغاتِ
وبَعضُ الصَّلاةِ
على مَا يُتاحُ مِنَ الأَضرِحَهْ
وفي الموتِ تكبُرُ أرتالُ إخوتنا الطارئينْ
وأعدائِنا الطارئينْ
ويزدَحمُ الطقسُ بالمترَفين الذينْ
يُحبّونَنا مَيِّتينْ
ولكنْ يُحبُّونَنَا يا صديقي
بِكُلِّ الشُّكُوكِ وكُلِّ اليَقينْ
وهاجَرْتَ حُزناً. إلى باطلِ الحقِّ هاجَرْتَ
مِن باطلِ الباطِلِ
ومِن بابل بابلٍ
إلى بابلٍ بابلِ
ومِن تافِهٍ قاتلٍ
إلى تافِهٍ جاهِلِ
ومِن مُجرمٍ غاصِبٍ
إلى مُتخَمٍ قاتلِ
ومِن مفترٍ سافلٍ
إلى مُدَّعٍ فاشِلِ
ومِن زائِلٍ زائِلٍ
إلى زائِلٍ زائِلِ
وماذا وَجَدْتَ هُناكْ
سِوى مَا سِوايَ
وماذا وَجّدْتَ
سِوى مَا سِواكْ؟
أَخي دَعْكَ مِن هذه المسألَهْ
تُحِبُّ أخي.. وأُحِبُّ أَخاكْ
وأَنتَ رَحَلْتَ. رَحَلْتَ.
ولم أبْقَ كالسَّيفِ فرداً. وما أنا سَيفٌ ولا سُنبُلَهْ
وَلا وَردةٌ في يَميني.. وَلا قُنبُلَهْ
لأنّي قَدِمْتُ إلى الأرضِ قبلكَ،
صِرْتُ بما قَدَّرَ اللهُ. صِرْتُ
أنا أوَّلَ الأسئلَهْ
إذنْ.. فَلْتَكُنْ خَاتَمَ الأسئِلَهْ
لَعّلَّ الإجاباتِ تَستَصْغِرُ المشكلَهْ
وَتَستَدْرِجُ البدءَ بالبَسمَلَهْ
إلى أوَّلِ النّورِ في نَفَقِ المعضِلَهْ.
• • • • •
تَخَفَّيْتَ بِالموتِ،
تَكتيكُنا لم يُطِعْ إستراتيجيا انتظارِ العَجَائِبْ
ومَا مِن جيوشٍ. ومَا مِن زُحوفٍ. ومَا مِن حُشودٍ.
ومَا مِن صُفوفٍ. ومَا مِن سَرايا. ومَا مِن كَتائِبْ
ومَا مِن جِوارٍ. ومَا مِن حِوارٍ. ومَا مِن دِيارٍ.
ومَا مِن أقارِبْ
تَخَفَّيْتَ بِالموْتِ. لكنْ تَجَلَّى لِكُلِّ الخلائِقِ
زَحْفُ العَقَارِبْ
يُحاصِرُ أكْفانَنا يا رفيقي ويَغْزو المضَارِبَ تِلْوَ المضارِبْ
ونحنُ مِنَ البَدْوِ. كُنّا بثوبٍ مِنَ الخيشِ. صِرنا
بربطَةِ عُنْقٍ. مِنَ البَدْوِ كُنّا وصِرنا.
وذُبيانُ تَغزو. وعَبْسٌ تُحارِبْ.
• • • • •
وهَا هُنَّ يا صاحبي دُونَ بابِكْ
عجائِزُ زوربا تَزَاحَمْنَ فَوقَ عَذابِكْ
تَدَافَعْنَ فَحماً وشَمعاً
تَشَمَّمْنَ مَوتَكَ قَبل مُعايشَةِ الموتِ فيكَ
وفَتَّشْنَ بينَ ثيابي وبينَ ثيابِكْ
عنِ الثَّروةِ الممكنهْ
عنِ السرِّ. سِرِّ القصيدَهْ
وسِرِّ العَقيدَهْ
وأوجاعِها المزمِنَهْ
وسِرِّ حُضورِكَ مِلءَ غِيابِكْ
وفَتَّشْنَ عمَّا تقولُ الوصيَّهْ
فَهَلْ مِن وَصيَّهْ؟
جُموعُ دُخانٍ وقَشٍّ تُجَلجِلُ في ساحَةِ الموتِ:
أينَ الوصيَّهْ؟
نُريدُ الوصيَّهْ!
ومَا أنتَ كسرى. ولا أنتَ قيصَرْ
لأنَّكَ أعلى وأغلى وأكبَرْ
وأنتَ الوصيَّهْ
وسِرُّ القضيَّهْ
ولكنَّها الجاهليَّهْ
أجلْ يا أخي في عَذابي
وفي مِحْنَتي واغترابي
أتسمَعُني؟ إنَّها الجاهليَّهْ
وَلا شيءَ فيها أَقَلُّ كَثيراً سِوى الوَرْدِ،
والشَّوكُ أَقسى كَثيراً. وأَعتى كَثيراً. وَأكثَرْ
ألا إنَّها يا أخي الجاهليَّهْ
وَلا جلفَ مِنَّا يُطيقُ سَماعَ الوَصيَّهْ
وَأنتَ الوَصيَّةُ. أنتَ الوَصيَّةُ
واللهُ أكبَرُْ.
• • • • •
سَتذكُرُ. لَو قَدَّرَ الله أنْ تَذكُرا
وتَذكُرُ لَو شِئْتَ أنْ تَذكُرا
قرأْنا امرأَ القَيسِ في هاجِسِ الموتِ،
نحنُ قرأْنا مَعاً حُزنَ لوركا
وَلاميّةَ الشّنفرى
وسُخطَ نيرودا وسِحرَ أراغون
ومُعجزَةَ المتنبّي،
أَلَمْ يصهَر الدَّهرَ قافيةً.. والرَّدَى منبرا
قرأْنا مَعاً خَوفَ ناظم حِكمَت
وشوقَ أتاتورك. هذا الحقيقيّ
شَوقَ أخينا الشّقيّ المشَرَّدْ
لأُمِّ محمَّدْ
وطفلِ العَذابِ محمَّد
وسِجنِ البلادِ المؤبَّدْ
قرأْنا مَعاً مَا كَتَبنا مَعاً وكَتَبنا
لبِروَتنا السَّالِفَهْ
وَرامَتِنا الخائِفَهْ
وَعكّا وحيفا وعمّان والنّاصرَهْ
لبيروتَ والشّام والقاهِرَهْ
وللأمَّةِ الصَّابرَهْ
وللثورَةِ الزَّاحفَهْ
وَلا شَيءَ. لا شَيءَ إلاّ تَعاويذ أحلامِنا النَّازِفَهْ
وساعاتِنا الواقِفَهْ
وأشلاءَ أوجاعِنا الثَّائِرَهْ.
• • • • •
وَمِن كُلِّ قلبِكَ أنتَ كَتبتُ
وَأنتَ كَتبتَ.. ومِن كُلِّ قلبي
كَتَبْنا لشعْبٍ بأرضٍ.. وأرضٍ بشعبِ
كَتَبْنا بحُبٍّ.. لِحُبِّ
وتعلَمُ أنَّا كَرِهْنا الكراهيّةَ الشَّاحبَهْ
كَرِهْنا الغُزاةَ الطُّغاةَ،
وَلا.. ما كَرِهْنا اليهودَ ولا الإنجليزَ،
وَلا أيَّ شَعبٍ عَدُوٍ.. ولا أيَّ شَعبٍ صديقٍ،
كَرِهْنا زبانيةَ الدولِ الكاذِبَهْ
وَقُطعانَ أوْباشِها السَّائِبَهْ
كَرِهْنا جنازيرَ دبَّابَةٍ غاصِبَهْ
وأجنحَةَ الطائِراتِ المغيرَةِ والقُوَّةَ الضَّارِبَهْ
كَرِهْنا سَوَاطيرَ جُدرانِهِم في عِظامِ الرّقابِ
وأوتادَهُم في الترابِ وَرَاءَ الترابِ وَرَاءَ الترابِ
يقولونَ للجوِّ والبَرِّ إنّا نُحاولُ للبحْرِ إلقاءَهُم،
يكذبُونْ
وهُم يضحكُونَ بُكاءً مَريراً وَيستعطفونْ
ويلقونَنَا للسَّرابِ
ويلقونَنَا للأفاعِي
ويلقونَنَا للذّئابِ
ويلقونَنَا في الخرابِ
ويلقونَنا في ضَياعِ الضَّياعِ
وتَعلَمُ يا صاحبي. أنتَ تَعلَمْ
بأنَّ جَهَنَّم مَلَّتْ جَهّنَّمْ
وعَافَتْ جَهَنَّمْ
لماذا تموتُ إذاً. ولماذا أعيشُ إذاً. ولماذا
نموتُ. نعيشُ. نموتُ. نموتُ
على هيئَةِ الأُممِ السَّاخِرهْ
وَعُهْرِ ملفَّاتِها الفاجِرَهْ
لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟..
ومَا كُلُّ هذا الدَّمار وهذا السقوط وهذا العذاب
ومَا كلُّ هذا؟ وهذا؟ وهذا؟
• • • • •
تذكَّرْ..
وقدْ يُسعِفُ اللهُ مَيْتاً بأنْ يتذكَّرَ. لله نحنُ.
فحاول إذن.. وتذكَّرْ
تذكَّرْ رضا الوالِدَهْ
لأُمَّينِ في واحِدَهْ
ونعمةَ كُبَّتِها.. زينة المائِدَهْ
وطُهرَ الرَّغيفِ المقمَّرْ
تذكَّرْ
أباً لا يُجيدُ الصّياحْ
ولا يتذمَّرْ
تذكَّرْ
أباً لا يضيقُ ولا يتأفَّفُ مِن سَهَرٍ صاخِبٍ للصَّباحْ
تذكَّرْ كَثيراً. ولا تتذكَّرْ
كَثيراً. فبعضُ الحِكاياتِ سُكَّرْ
وكُلُّ الخرافاتِ سُمٌّ مُقَطَّرْ
ونحنُ ضَحايا الخرافاتِ. نحنُ ضَحايا نبوخذ نصّرْ
وأيتام هتلَرْ
ومِن دَمِنا للطُّغاةِ نبيذٌ
ومِن لَحمِنا للغُزاةِ أكاليلُ غارٍ ووردٍ
ومِسْكٌ. وَعَنبَرْ
فَلا تتذكِّرْ
قيوداً وسجناً وعسكَرْ
وبيتاً مُدَمَّرْ
وَليلاً طَويلاً. وَقَهراً ثقيلاً وسَطواً تكرَّرْ
وَلا تتذكَّرْ
لا تتذكَّرْ
لا تتذكَّرْ.
• • • • •
لأنّا صديقانِ في الأرضِ والشّعبِ والعُمرِ والشِّعرِ،
نحنُ صريحانِ في الحبِّ والموتِ.. يوماً غَضِبْتُ عليكَ..
ويوماً غَضِبْتَ عَلَيّ
وَمَا كانَ شَيءٌ لدَيكَ. وَمَا كانَ شَيءٌ لَدَيّ
سِوَى أنّنا مِن تُرابٍ عَصِيّ
وَدَمْعٍ سَخيّ
نَهاراً كَتبْتُ إليكَ. وَليلاً كَتَبْتَ إليّ
وأعيادُ ميلادِنا طالما أنذَرَتْنا بسِرٍّ خَفِيّ
وَمَوتٍ قريبٍ.. وَحُلمٍ قَصِيّ
ويومَ احتَفَلْتَ بخمسينَ عاماً مِنَ العُمرِ،
عُمرِ الشَّريدِ الشَّقيّ البَقيّ
ضَحِكنا مَعاً وَبَكَيْنا مَعاً حينَ غنَّى وصلّى
يُعايدُكَ الصَّاحبُ الرَّبَذيّ:
على وَرَقِ السنديانْ
وُلِدْنا صباحاً
لأُمِّ الندى وأبِ الزّعفرانْ
ومتنا مساءً بِلا أبوَينِ.. على بَحرِ غُربتِنا
في زَوارِقَ مِن وَرَقِ السيلوفانْ
على وَرَقِ البَحرِ. لَيلاً.
كَتَبْنا نشيدَ الغَرَقْ
وَعُدْنا احتَرَقْنا بِنارِ مَطالِعِنا
والنّشيدُ احتَرَقْ
بنارِ مَدَامِعِنا
والوَرَقْ
يطيرُ بأجْنِحَةٍ مِن دُخانْ
وهَا نحنُ يا صاحبي. صَفحَتانْ
وَوَجهٌ قديمٌ يُقَلِّبُنا مِن جديدٍ
على صَفَحاتِ كتابِ القَلَقْ
وهَا نحنُ. لا نحنُ. مَيْتٌ وَحَيٌّ. وَحَيٌّ وَمَيْتْ
بَكَى صاحبي،
على سَطحِ غُربَتِهِ مُستَغيثاً
بَكَى صاحبي..
وَبَكَى.. وَبَكَيْتْ
على سَطحِ بَيْتْ
ألا ليتَ لَيتْ
ويا ليتَ لَيتْ
وُلِدنا ومتنا على وَرَقِ السنديانْ.
• • • • •
ويوماً كَتَبْتُ إليكَ. ويوماً كَتَبْتَ إليّ
أُسميكَ نرجسةً حَولَ قلبي..
وقلبُكَ أرضي وأهلي وشعبي
وقلبُكَ.. قلبي.
• • • • •
يقولونَ موتُكَ كانَ غريباً.. ووجهُ الغَرابَةِ أنّكَ عِشْتَ
وأنّي أعيشُ. وأنّا نَعيشُ. وتعلَمُ. تَعلَمُ أنّا
حُكِمْنا بموتٍ سريعٍ يمُرُّ ببُطءٍ
وتَعلَمُ تَعْلَمُ أنّا اجترَحْنا الحياةَ
على خطأٍ مَطْبَعِيّ
وتَعلَمُ أنّا تأجَّلَ إعدامُنا ألف مَرَّهْ
لِسَكْرَةِ جَلاّدِنا تِلْوَ سَكْرهْ
وللهِ مَجْدُ الأعالي. ونصلُ السَّلام الكلام على الأرضِ..
والناسُ فيهم ـ سِوانا ـ المسَرَّهْ
أنحنُ مِن الناسِ؟ هل نحنُ حقاً مِن الناسِ؟
مَن نحنُ حقاً؟ ومَن نحنُ حَقاً؟ سألْنا لأوّلِ مَرَّهْ
وَآخرِ مَرَّهْ
وَلا يَستَقيمُ السّؤالُ لكي يستَقيمَ الجوابُ. وها نحنُ
نَمكُثُ في حَسْرَةٍ بعدَ حَسْرَهْ
وكُلُّ غَريبٍ يعيشُ على ألفِ حَيْرَهْ
ويحملُ كُلُّ قَتيلٍ على الظَّهرِ قَبرَهْ
ويَسبُرُ غَوْرَ المجَرَّةِ.. يَسبُرُ غَوْرَ المجَرَّهْ.
• • • • •
تُعانقُني أُمُّنا. أُمُّ أحمدَ. في جَزَعٍ مُرهَقٍ بعذابِ
السِّنينْ
وعِبءِ الحنينْ
وَتَفْتَحُ كَفَّينِ واهِنَتَينِ موبِّخَتَينِ. وَتَسأَلُ صارخةً
دُونَ صَوتٍ. وتسألُ أينَ أَخوكَ؟ أَجِبْ. لا تُخبِّئ عَلَيَّ.
أجِبْ أينَ محمود؟ أينَ أخوكَ؟
تُزلزِلُني أُمُّنا بالسّؤالِ؟ فماذا أقولُ لَهَا؟
هَلْ أقولُ مَضَى في الصَّباحِ ليأْخُذَ قَهوَتَهُ بالحليبِ
على سِحرِ أرصِفَةِ الشانزيليزيه.
أمْ أدَّعي
أنَّكَ الآن في جَلسَةٍ طارِئَهْ
وَهَلْ أدَّعي أنَّكَ الآن في سَهرَةٍ هادِئهْ
وَهَلْ أُتْقِنُ الزَّعْمَ أنّكَ في موعِدٍ للغَرَامِ،
تُقابِلُ كاتبةً لاجئَهْ
وَهَلْ ستُصَدِّقُ أنّكَ تُلقي قصائِدَكَ الآنَ
في صالَةٍ دافِئَهْ
بأنْفاسِ ألفَينِ مِن مُعجَبيكَ.. وكيفَ أقولُ
أخي راحَ يا أُمَّنا ليَرَى بارِئَهْ..
أخي راحَ يا أُمَّنا والتقى بارِئَهْ.
• • • • •
إذنْ. أنتَ مُرتَحِلٌ عن دِيارِ الأحبَّةِ. لا بأسَ.
هَا أنتَ مُرتَحِلٌ لدِيارِ الأحبَّةِ. سَلِّمْ عَلَيهِم:
راشد حسين
فدوى طوقان
توفيق زيّاد
إميل توما
مُعين بسيسو
عصام العباسي
ياسر عرفات
إميل حبيبي
الشيخ إمام
أحمد ياسين
سعدالله ونُّوس
كاتب ياسين
جورج حبش
نجيب محفوظ
أبو علي مصطفى
يوسف حنا
ممدوح عدوان
خليل الوزير
نزيه خير
رفائيل ألبرتي
ناجي العلي
إسماعيل شمُّوط
بلند الحيدري
محمد مهدي الجواهري
يانيس ريتسوس
ألكسندر بن
يوسف شاهين
يوسف إدريس
سهيل إدريس
رجاء النقاش
عبد الوهاب البياتي
غسَّان كنفاني
نزار قباني
كَفاني. كَفاني. وكُثرٌ سِواهم. وكُثرٌ فسلِّم عليهم. وسَوفَ
تُقابِلُ في جَنَّةِ الخُلدِ سامي . أخانا الجميلَ الأصيلَ.
وَهلْ يعزِفونَ على العُودِ في جَنَّةِ الخُلْدِ؟ أَحبَبْتَ
سامي مَع العودِ في قَعدَةِ العَينِ .. سامي مَضَى
وَهْوَ في مِثلِ عُمرِكَ.. (67).. لا. لا أُطيقُ العَدَدْ
وأنتُمْ أبَدْ
يضُمُّ الأبَدْ
ويَمْحُو الأبَدْ
وَأَعلَمُ. سوفَ تَعودونَ. ذاتَ صباحٍ جديدٍ تعودُونَ
للدَّار والجار والقدس والشمس. سَوفَ تَعودونَ.
حَياً تَعودُ. وَمَيْتاً تَعودُ. وسَوفَ تَعودون. مَا مِن كَفَنْ
يَليقُ بِنا غيرَ دَمعَةِ أُمٍّ تبلُّ تُرابَ الوَطَنْ
ومَا مِن بِلادٍ تَليقُ بِنا ونَليقُ بِها غير هذي البلادْ
ويوم المعادِ قريبٌ كيومِ المعادْ
وحُلم المغنّي كِفاحٌ
وموتُ المغنّي جهادُ الجِهادْ.
• • • • •
إذاً أنتَ مُرتحلٌ عَن دِيارِ الأحِبَّةِ
في زّوْرَقٍ للنجاةِ. على سَطْحِ بحرٍ
أُسمّيهِ يا صاحبي أَدْمُعَكْ
وَلولا اعتصامي بحبلٍ مِن الله يدنو سريعاً. ولكنْ ببطءٍ..
لكُنتُ زَجَرْتُكَ: خُذني مَعَكْ
وخُذني مَعَكْ
خُذني مَعَكْ.

()()()()()

"احكي للعالم "

احكي للعالم احكي له
عن بيت كسروا قنديله
عن فاْس قتلت زنبقة
وحريق اْودى بجذيله

اْحكي عن شاة لم تحلب
عن قهوة صبح لم تشرب
عن عجنة اْم ما خبزت
عن سطح طيني اْعشب
اْحكي للعالم اْحكي له
يا بنت الجار المنسية
الدمية عندي فتعالي
في باص الريح الشرقية
حنا لا اْذكر قسماتك
لكني اشقاكي اذكر
في قلبي خفقة خطواتك
عصفور يدرج اءو ينقر
كنا ويا اْجمل ما كنا يا بنت الجار يا حنا
كنا فلماذا اعيننا صارت بالغربة مجبولة
ولماذا صارت يدينا بجبال اللعنة مجدولة
احكي للعالم ........احكي له

()()()()()

" زنابق المزهرية "

من أين يا صديقة حملت المزهرية ؟ والنظرة الشقية ؟
من القدس العتيقة ..
ومن ترى رأيت في عتمة القناطر من شعبنا المهاجر ؟
وما ترى سمعت ؟
رأيت بنت عمك في طاقة حزينة..
تبوح للمدينة بهمها وهمك ..
رأيت في الشوارع ليلا من العيون
واخوة يبكون والف طفل ضائع ..
رأيت في المداخن عصفورة جريحة
وطفلة كسيحة تبكي على المآذن..
من أين يا صديقة حملت المزهرية ؟ والنظرة الشقية ؟
هناك يا أبن عمي حملت المزهرية والنظرة الشقية ..
وقصة عن أمي عن أمي الضحية..
لدي يا صديقة زنابق حمراء الوانها دماء..
من القدس العتيقة ..
زنبقة حزينة من دم بنت عمي وجدتها مذبوحة..
.. في طاقة مفتوحة.. تصيح بالمدينة ..
قولوا لإبن عمي زنبقة بريئة من مقلة مفقوءة لكنها تنادي ..
.. أراك يا بلادي .. أراك يا بلادي ..
زنبقة ريّانة .. من طفلة محروقة .. تصيح ...... يا خليقة ؟
مهلا انا عطشانة .. مهلا انا عطشانة ..
إليك يا صديقة زنابقي الحمراء زنابقي الدماء ..
كي تكمل الهدية ..
ورد ومزهرية ..
ورد ومزهرية ..
من القدس العتيقة…

()()()()()

إلى صاحب ملايين

نَمْ بين طيّاتِ الفراش الوثيرْ
نَمْ هانئَ القلب، سعيداً، قريرْ
فكل دنياك أغَاني سرور !
***
المال في كفّيـك نهـر عزير
و القوت، أغلاهُ، و أغلى الخمور
و ألفُ صنفٍ من ثياب الحرير
و الصوف و السجاد، منه الكثير
(( و كادِلاك )).. في رحاب القصور
و الغيد، و اللحن و سحر الدهور !
نَمْ خالياً.. لا قارَبَتْك الشرور


و كلّ ما تبغيه.. حتماً يصير
إن شئت.. فالليل صباح منير
أو شئت.. فالقفر ربيع نضير
و القبر إن ترغبْ.. حياةٌ و نور
و اطلب.. ففي الجلمود يصفو غدير
و الآن ! يا نجلَ العلى يا أمير
يا عالي المقامِ.. يا .. يا خطير
يا تاجَ رأسي.. يا زعيميَ الكبير
إسمحْ لهذا الشيء.. هذا الفقير
إسمح له بكلمةٍ لا تضير
عندي سؤالٌ مثل عيشي حقير
أرجوك أن تسمعه، ألاّ تثور
من أين هذا المال.. يا (( مليونير )) ؟!

()()()()()

تعالي لنرسم معاً قوس قزح

نازلاً كنت : على سلم أحزان الهزيمة
نازلاً .. يمتصني موت بطيء
صارخاً في وجه أحزاني القديمة :
أحرقيني ! أحرقيني .. لأضيء !
لم أكن وحدي ،
ووحدي كنت ، في العتمة وحدي
راكعاً .. أبكي ، أصلي ، أتطهر
جبهتي قطعة شمع فوق زندي
وفمي .. ناي مكسّر ..
كان صدري ردهة ،
كانت ملايين مئه
سجداً في ردهتي ..
كانت عيوناً مطفأه !
واستوى المارق والقديس
في الجرح الجديد
واستوى المارق والقديس
في العار الجديد
واستوى المارق والقديس
يا أرض .. فميدي
واغفري لي ، نازلاً يمتصني الموت البطيء
واغفري لي صرختي للنار في ذل سجودي :
أحرقيني .. أحرقيني لأضيء
نازلاً كنت ،
وكان الحزن مرساتي الوحيدة
يوم ناديت من الشط البعيد
يوم ضمدت جبيني بقصيدة
عن مزاميري وأسواق العبيد
من تكونين ؟
أأختاً نسيتها
ليلة الهجرة أمي ، في السرير
ثم باعوها لريح ، حملتها
عبر باب الليل .. للمنفى الكبير ؟
من تكونين ؟
أجيبيني .. أجيبي !
أي أخت ، بين آلاف السبايا
عرفت وجهي ، ونادت : يا حبيبي !
فتلقتها يدايا ؟
أغمضي عينيك من عار الهزيمة
أغمضى عينيك .. وابكي ، واحضنيني
ودعيني أشرب الدمع .. دعيني
يبست حنجرتي ريح الهزيمة
وكأنا منذ عشرين التقينا
وكأنا ما افترقنا
وكأنا ما احترقنا
شبك الحب يديه بيدينا ..
وتحدثنا عن الغربة والسجن الكبير
عن أغانينا لفجر في الزمن
وانحسار الليل عن وجه الوطن
وتحدثنا عن الكوخ الصغير
بين احراج الجبل ..
وستأتين بطفلة
ونسميها " طلل "
وستأتيني بدوريّ وفلـّه
وبديوان غزل !
قلت لي - أذكر -
من أي قرار
صوتك مشحون حزناً وغضب
قلت يا حبي ، من زحف التتار
وانكسارات العرب !
قلت لي : في أي أرض حجرية
بذرتك الريح من عشرين عام
قلت : في ظل دواليك السبيه
وعلى أنقاض أبراج الحمام !
قلت : في صوتك نار وثنية
قلت : حتى تلد الريح الغمام
جعلوا جرحي دواة ، ولذا
فأنا أكتب شعري بشظية
وأغني للسلام !
وبكينا
مثل طفلين غريبين ، بكينا
الحمام الزاجل الناطر في الأقفاص ، يبكي ..
والحمام الزاجل العائد في الأقفاص
... يبكي
ارفعي عينيك !
أحزان الهزيمة
غيمه تنثرها هبة الريح
ارفعي عينيك ، فالأم الرحيمة
لم تزل تنجب ، والأفق فسيح
ارفعي عينيك ،
من عشرين عام
وأنا أرسم عينيك ، على جدران سجني
وإذا حال الظلام
بين عيني وعينيك ،
على جدران سجني
يتراءى وجهك المعبود
في وهمي ،
فأبكي .. وأغني
نحن يا غاليتي من واديين
كل واد يتبناه شبح
فتعالي . . لنحيل الشبحين
غيمه يشربها قوس قزح !
وسآتيك بطفلة
ونسميها " طلل "
وسآتيك بدوريّ وفلـّه
وبديوان غزل !!

()()()()()

من أجــل

من أجــل
من أجل صباح !
نشقى أياماً و ليالي
نحمل أحزان الأجيالِ
و نُكوكِبُ هذا الليل جراح !
***
من أجل رغيف !
نحمل صخرتنا في أشواك خريف
نعرى.. نحفى.. و نجوع
ننسى أنّا ما عشنا فصلّ ربيع
ننسى أنّا..
خطواتٌ ليس لهنّ رجوع !!

()()()()()

عروس النيل

أسمعُهُ.. أسمعُهُ !
عبرَ فيافي القحط، في مجاهلِ الأدغال
يهدرُ، يَدْوي، يستشيط
فاستيقظوا يا أيها النيام..
ولْنبتنِ السدود قبل دهمة الزلزال
تنبهوا.. بهذه الجدران
تنزل فينا من جديد نكبة الطوفان !
***
لمن تُزَيّنونَها.. حبيبتي العذراء !
لمن تبرّجونها ؟
أحلى صبايا قريتي.. حبيبتي العذراء !


حسناؤنا.. لمن تُزَفّ ؟
يا ويلكم، حبيبتي لمن تُزَفّ
لِلطّمْيِ، للطحلب، للأسماك، للصّدف ؟
نقتلها، نُحْرَمُها، و بعد عام
تنزل فينا من جديدٍ نكبةُ الطوفان
و يومها لن يشفع القربان
يا ويلكم، أحلى صبايا قريتي قربان
و نحن نستطيع أن نبتنيَ السدود
من قبل أن يداهمنا الطوفان !
***
بَدارِ.. باسم الله و الانسان
فانني أسمعُهُ.. أسمعُهُ :
و لي أنا.. حبيبتي العذراء !!

()()()()()

أكثر من معركة

في أكثر من معركةٍ دامية الأرجاءْ

أشهر هذي الكلمات الحمراء

أشهرها.. سيفاً من نارِ

في صفِّ الإخوة.. في صفِّ الأعداء

في أكثر من درب وعْرِ

تمضي شامخةً.. أشعاري

و أخافُ.. أخاف من الغدرِ

من سكين يُغمد في ظهري

لكني، يا أغلى صاحب

يا طيّبُ.. يا بيتَ الشعرِ

رغم الشكّ.. و رغم الأحزانِ

أسمعُ.. أسمعُ.. وقع خطى الفجرِ!

رغم الشكّ.. و رغم الأحزانِ

لن أعدم إيماني

في أنّ الشمس ستشرقُ..

شمس الإنسانِ

ناشرةً ألوية النصرِ

ناشرةً ما تحمل من شوقٍ و أمانِ

كلماتي الحمراء..

كلماتي.. الخضـراء !

()()()()()

أغاني الدروب

من رُؤى الأثلام في موسمٍ خصبِ ومن الخَيْبةِ في مأساةِ جدْبِ

من نجومٍ سهرت في عرشها مؤنساتٍ في الدّجى قصةَ حبِّ

من جنون اللّيل..من هدأتهِ من دم الشّمس على قطنة سُحْبِ

من بحار هدرتْ..من جدولٍ تاهَ..لم يحفل به أيُّ مَصَبِّ

من ذؤابات وعت أجنحةً جرفتها الريح في كل مهبِ

من فراش هامَ في زهر وعشبِ ونسورٍ عشقت مسرحَ شُهب

*** ***
من دُمى الأطفال.. من ضحكاتهم من دموع طهّرتها روحُ رَبِّ

من زنود نسّقَتْ فردوسها دعوةً فضلى على أنقاض حرب

من قلوب شعشعت أشواقها شُعلاً تعبرُ من رحب لرحب

من عيون سمّمت أحداقها فوهةُ البركان في نظره رعب

من جراحاتٍ يضرّي حقدَهـا ما ابتلى شعبٌ على أنقاض شعب

من دمي.. من ألمي.. من ثورتي من رؤاي الخضرِ.. من روعة حبّي

من حياتي أنتِ.. من أغوارها يا أغانيَّ ! فرودي كل درب


()()()()()

شعبي حَيّ !

كَذَبَ زَعمُ الزاعم أنك صفحة تاريخ مطويّة
خَرَصٌ قول الشانيء إنك مسكون بالموت
حيّ أنت
حي في ساعد عامل
حي في جبهة فلاح
حي في عزم مقاتل
يغزل من أوردة الليل الرابخ أوردة لصباح ..
كذب زعم الزاعم أنّك مسكونٌ بالموت
يا شعبي
حيٌّ حيٌّ أنت ..
يَدُك المرفوعة في وجه الظالم
راية جيل يمضي
و هو يهز الجيل القادم :
" قاومتُ .. فقاوم ! "
صوتُك يا شعبي أغنيتي الشعبيّة
من بيت تمتد إلى بيت
و تزلزل جدران سجون القاتل و السارق
في الرملة .. في المجدل .. في شطَّة
في الدامون و عكا و الجلَمه
و تزلزل جدران "المسكوبية " ..
دمك النازف . يا شعبي . رايتك اللينينيّة
و الأرض بطاقتك الحزبية
و الأرض . . شيوعيّة !
إنهضْ فوق ركام الموت
و لتسمع كل جهات العالم هذا الصوت
يا شعبي الغاضب .. حيّ أنت !
أَقدِمْ يا إعصار الموت الزاحف
أَقدِمْ
لستُ بخائف
أقدم يا إعصار
قد تحني قامتها شجرة
لكن لن تحني قامتها كل الأشجار !
أقدم يا إعصار
و اشهدْ رايتك المنكسِرة
تحت إرادة هذا السد
كتف تسند كتفاً
ويَدٌ راسخةٌ في يد !
أَقدم يا نتن الأزمنة المحتضرة
كي يفهم أعداء الشمس
من نهبوا خيرات الشرق
بزجاجة كوكا كولا
و بربطة عنق
كي يفهم أعداء الشمس
هذا الدرس :
أرتال الدبابات الجرّارة
أقوى منها قصّاصةُ طفل
أسراب الفانتوم ،
مهما كانت عاليةً
أعلى منها خصية طفل
و جيوش العدوان و آلات الحرب الهمجيّة
السافر منها . و الكامن في سوء النية
تقهرها بسمةُ طفل!
و ليفهم كل الجنرالات الحمقى
أن النصر الأكبر
معقود للجنرال الاكبر
اكتوبر !
و ليفهم كل السادة
و كلاب السادة :
مهما طال الليل
نحن نُقصّر عمر الليل
فانهض فوق ركام الموت
يا شعبي حي أنت !
إنهض في دمك النازف ( رايتك اللينينيّة )
في غضب الأرض ( بطاقتك الحزبيّة )
و الأرض ... شيوعيّة !!
()()()()()


مقهانا


قبل يوم ساعه ثانيه كان مقهانا جناحا حالما بين السحاب

ولنا في زحمة الرواد كرسيان ورد وشباب

قبل يوم ساعه رفة هدب قبل عشرين سنه

عرشت في ركن مقهانا ورشت عطرها في راحتينا سوسنه

وفرحنا بالغياب بين كاسين واغصان دخان وفراشات ضباب

بعد عشرين سنه خطفتني من تفاصيل الحياة المزمنه

ذكريات اللحظه المحتقنه خطفتني صوب مقهانا فلم اعثر عليه

ليتني يا ليت لم ارجع اليه

لم يعد عشا على غصن السحاب صار بوتيك ثياب


()()()()()

بطاقة هوية

سجل
أنا عربي
و رقم بطاقتي خمسون ألف
و أطفالي ثمانية
و تاسعهم سيأتي بعد صيف
فهل تغضب
سجل
أنا عربي
و أعمل مع رفاق الكدح في محجر
و أطفالي ثمانية
أسل لهم رغيف الخبز
و الأثواب و الدفتر
من الصخر
و لا أتوسل الصدقات من بابك
و لا أصغر
أمام بلاط أعتابك
فهل تغضب
سجل
أنا عربي
أنا إسم بلا لقب
صبور في بلاد كل ما فيها
يعيش بفورة الغضب
جذوري
قبل ميلاد الزمان رست
و قبل تفتح الحقب
و قبل السرو و الزيتون
و قبل ترعرع العشب
أبي من أسرة المحراث
لا من سادة نجب
وجدي كان فلاحا
بلا حسب و لا نسب
يعلمني شموخ الشمس قبل قراءة الكتب
و بيتي كوخ ناطور
من الأعواد و القصب
فهل ترضيك منزلتي
أنا إسم بلا لقب
سجل
أنا عربي
و لون الشعر فحمي
و لون العين بني
و ميزاتي
على رأسي عقال فوق كوفية
و كفى صلبة كالصخر
تخمش من يلامسها
و عنواني
أنا من قرية عزلاء منسية
شوارعها بلا أسماء
و كل رجالها في الحقل و المحجر
يحبون الشيوعية
فهل تغضب
سجل
أنا عربي
سلبت كروم أجدادي
و أرضا كنت أفلحها
أنا و جميع أولادي
و لم تترك لنا و لكل أحفادي
سوى هذي الصخور
فهل ستأخذها
حكومتكم كما قيلا
إذن
سجل برأس الصفحة الأولى
أنا لا أكره الناس
و لا أسطو على أحد
و لكني إذا ما جعت
آكل لحم مغتصبي
حذار حذار من جوعي
و من غضبي


()()()()

ما دامت لي

ما دامت لي من ارضي اشبار
ما دامت لي زيتونه
ليمونه
بئر .. وشجيرة صبار
●●●
ما دامت لي ذكرى
مكتبة صغرى
صورة جد مرحوم .. وجدار
●●●
ما دامت في بلدي كلمات عربية
واغان شعبيه
ما دامت مخطوطه اشعار
وحكايا عنترة العبسي
وحروب الدعوه في ارض الرومان وفي ارض الفرس
ما دامت لي عيناي
ما دامت لي شفتاي
ويداي !!
ما دامت لي نفسي
اعلنها في وجه الاعداء
اعلنها حربا شعواء
باسم الاحرار الشرفاء
عمالا ..
طلابا ..
شعراء ..
اعلنها .. وليشبع من خبز العار
الجوف الجبناء .. واعداء الشمس
●●●
ما زالت لي .. نفسي
وستبقى لي .. نفسي
وستبقى كلماتي .. خبزا وسلاحا .. في ايدي الثوار !!

()()()()()






سميح القاسم في مكتبتنا عمون:


1.سأخرج من صورتي ذات يوم


تحميــــــــــل


2.مقدمة ابن محمد لرؤى نوستراسميحداموس


تحميــــــــل


3.الإدراك

تحميــــــــل

4.الممثل

تحميــــــــل

5.عجائب قانا الجديدة


تحميــــــــل

6.حسرة الزلزال


تحميــــــــل

7.الشهادة على أبواب الأقصى


تحميــــــــل

8.شخص غير مرغوب فيه

تحميــــــــل



9.الأعمال الكاملة -2- القصائد


تحميــــــــل

10.الأعمال الكاملة -3- القصائد

تحميــــــــل


11.الأعمال الكاملة -4- السربيات

تحميــــــــل

12.الأعمال الكاملة -6- مداخلات

تحميــــــــل


13.ديوان سميح القاسم

تحميــــــل


14.المدينة في شعر سميح القاسم لـ إيمان مرقة

تحميــــــــل





صوتيات سميح القاسم

1.سقطت جميع الأقنعة

مشاهدة وتحميل

2. من قصيدة بغداد(شهداء الحب)


مشاهدة وتحميل

3. الشاعر سميح القاسم يُنشد الوجع الفلسطيني في العاصمة السويسرية برن


سماع وتحميل

4. إلى الله


سماع وتحميل

5. تحية لدرويش

سماع وتحميل

6. التغريبة

مشاهدة وتحميل

7. غوانتانامو

مشاهدة وتحميل

8. موت ذاك أم خدر

مشاهدة وتحميل

9. وتبقى أريحا

مشاهدة وتحميل

10. مجدل شمس

مشاهدة وتحميل

11. رثاء سميح القاسم لـ محمود درويش

مشاهدة وتحميل

12. خذني معك

مشاهدة وتحميل

13. موعظة لجمعة الخلاص

مشاهدة وتحميل

14. مرثاة من برج الثور

مشاهدة وتحميل

15. الغول والعنقاء

مشاهدة وتحميل

16. سميح القاسم في عمان

مشاهدة وتحميل

17. البيان قبل الأخير

مشاهدة وتحميل

18. خذلتني الصحارى

مشاهدة وتحميل


19. أنا متأسف

مشاهدة

20. لن يقوى أحد على إسكاتي


مشاهدة







أغاني من كلمات سميح القاسم:


1.قطر الندى - مارسيل خليفة


سماع وتحميل


2.تقدموا-فرقة العاشقين


سماع وتحميل

3.احكي للعالم - كاميليا جبران

سماع وتحميل

4.ربما - جوليا بطرس

مشاهدة وتحميل

5.منتصب القامة أمشي - مارسيل خليفة


مشاهدة وتحميل

6.زنابق المزهرية - خالد الشيخ ورجاء بلمليح


سماع وتحميل









إعداد:

زياد السعودي /الأردن
عبير محمد/ مصر
هبة الشايب/الأردن
نسرين شاكر /الأردن
نفيسة التريكي/تونس
سلطان الزيادنة /الأردن








  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:00 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط