الرمزية في الأدب العربي / غادة قويدر - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: حلم قصير وشائِك (آخر رد :عبدالماجد موسى)       :: رفيف (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: الزمن الأخير (آخر رد :حسين محسن الياس)       :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :أحلام المصري)       :: لغة الضاد (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: إلى السارق مهند جابر / جهاد دويكات/ قلب.. (آخر رد :أحلام المصري)       :: لنصرة الأقصى ،، لنصرة غزة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: السير في ظل الجدار (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إجراءات فريق العمل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: بــــــــــــلا عُنْوَان / على مدار النبض 💓 (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إخــفاق (آخر رد :محمد داود العونه)       :: جبلة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: تعـديل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إنه أنـــــــا .. (آخر رد :الفرحان بوعزة)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ⚑ ⚐ هنـا الأعـلامُ والظّفَـرُ ⚑ ⚐ > ☼ بيادر فينيقية ☼

☼ بيادر فينيقية ☼ دراسات ..تحليل نقد ..حوارات ..جلسات .. سؤال و إجابة ..على جناح الود

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 16-12-2018, 10:03 AM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
غادة قويدر
عضو أكاديمية الفينيق
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل وسام الاكاديمية للعطاء والابداع
سوريا

الصورة الرمزية غادة قويدر

افتراضي الرمزية في الأدب العربي / غادة قويدر

مقدمــــــــة :
بعد التطور السريع والملحوظ الذي طرأ على الآداب الغربية وبدء نضوج معالمها مع بداية عصر النهضة في جميع المجالات الفنية والأدبية وفق مسارات معينة فقد اقترحوا تسمية هذه المسارات بالمذاهب الأدبية . والمذهب الأدبي هو اتجاه في التعبير الأدبي يتميز بسمات خاصة ويتجلى فيه مظهر واضح من التطور الفكري ، وهو لا ينشأ عادة من تباين الآراء حوله عبر حقبة من الزمن , وإن كان ذلك من شأنه أن يؤدي إلى بلورة هذا الاتجاه الجديد في التعبير , وإنما يكون وليد ما يضطرب في عصر بعينه من تغيرات في أوضاع المجتمع وطابع الحياة في عصر معين كثمرة لظروف ومقتضيات خاصة فيطغى على غيره من المذاهب ويظل سائدا حتى إذا فترت دواعيه ومسبباته ، رأيناه يتخلى تدريجيا عن سيطرته أمام مذهب أدبي جديد تهيأت له أسباب الوجود , وإن كان ذلك لا يعنى بحال أن آثار المذهب القديم تختفي كلية من الأدب ... والمذاهب الأدبية على اختلاف ألوانها هي تعبيرات أدبية متميزة تقوم على دعائم من العقل والعاطفة والخيال ، وقد يتاح لإحدى هذه الدعائم في عصر من العصور غلبة وسلطان , فإذا هي مذهب أدبي سائد يستعلي على غيره من مذاهب التعبير , وعلى هذا تتعاقب المذاهب الأدبية بتعاقب العصور ، ويأخذ اللاحق ما ترك السابق مع النقص منه أو الزيادة عليه تبعا لأوضاع المجتمع في عصره والتطورات الاجتماعية والنفسية والسياسية ...
وتعد المذاهب الأدبية هي التعبير الأمين الذي يجسد الحالات النفسية العامة التي أوجدتها حوادث التاريخ وملابسات الحياة. ونعني بالمذاهب الأدبية من الناحية النظرية هي تلك المذاهب التي وضع أسسها الشعراء والنقاد والكتّاب, وبينوا الأصول النظرية التي تقوم عليها سواء فلسفية كانت أم فنية.
ويجدر بنا هنا أن نوضح المعنى الشمولي لتلك المذاهب وللابتعاد عن اللبس الذي قد يقع في فهم الفرق بين الأدب والنقد والفلسفة المثالية ،وان كانت العلاقة بينهم متينة من حيث التوجه العام إلا أن الفصل في التوجه يساعدنا أكثر على إدراك محتواها، وعدم الخلط في مفاهيمها ، ذلك الخلط يلام عندما يتحدث الدارسون عن المذهب الأدبي، والمنهج النقدي دون تمييز، أو عندما يتحدث آخرون دون تفريق بين المنهج والاتجاه، وقد نلتقي بمن يخلط بين الفلسفة والأدب، فتجعل من الفلسفة المثالية هي الاسم الذي يطلق على مذهب من المذاهب . إن الميدان الأدبي ينزل الأفكار التجريبية بالوسائل الفنية إلى عالم التجسيد، فكلمة مذهب تعني «المعتقد الذي يذهب إلية وذهب فلان لمذهبه أي للمذهب الذي تذهب فيه محصلة الآراء والأفكار والجدليات في عصر ما " ،أو أو لنقل بأنه «مجموعة مبادئ وآراء متصلة ومنسقة لفكر أو لمدرسة وضع أسسها مهتمون في هذا المجال ، وخاصة المذاهب الفقهية والأدبية والعلمية. فلسفية من هنا فكلمة مذهب تستند في جذورها علي مرجعية فكرية وأطر معرفية مسبقة منسقة، ودعني أقول أن المذهب في الأدب غير المذهب في النقد وذلك رغم الالتقاء الواسع بينهما، ففي النقد نلتقي بالمذهب التاريخي والمذهب الاجتماعي، والمذهب النفسي والمذهب ألتأثيري، والمذهب الجمالي، والمذهب التكاملي وإن اختلفت المسميات، أما في الأدب فنلتقي بالمذهب الكلاسيكي، والرومانسي، الواقعي، الرمزي، البر ناسي، الوجودي، العبثي وما انبثق منها أو زاد عليها. وقد يزداد الخلط بين منهج البحث في الأدب والنقد ألتنظيري ، أما المنهج فهو عبارة عن «قواعد وثيقة وسهلة تمنع مراعاتها الدقيقة من أن يؤخذ الباطل على أنه حق ، وتبلغ بالنفس إلى المعرفة الصحيحة بكل الأشياء التي تستطيع إدراكها دون أن تضيع في جهود غير نافعة، وهي تزيد ما في النفس من الثقة بالتدرج الصحيح للمفهوم بدلا عن العبثية والالتباس . وتنقسم المناهج إلى مناهج خارجية (تاريخي مقارن ) ومناهج داخلية (وصفي تحليلي)، وأما الاتجاه فهو «رؤية أو فكر نظرية تجريدية إذا طبقت من خلال خطوات إجرائية تصبح منهجاً، وقد يضعنا ذلك التوضيح البسيط في الطريق الصحيح للبحث . ويبقي حديثنا عن المذاهب أو الدروس الأدبية في أصولها ونشأتها وسماتها الفنية، ولا نغفل أن الحديث عن مدرسة في الأدب يعني قبل كل شيء نؤمن بوجود مرجعية فكرية وآراء مسبقة ومنسقة بنيت عليها وطبقت أفكارها، ولا أنكر كثرة الدراسات والبحوث حول هذا الموضوع حيث نلتقي بمؤلفات خاصة لمذهب بعينه، ولكنني سأبسط الأمور في هذا الجهد منطلقة من مجموعة محاور انطلقت المذاهب من خلال نظرتها وهي المرجعية الفكرية، الانطلاق في عملية الإبداع من العقل، الخيال، المخلية، الشعور الانتصار للشكل وللمضمون أو كليهما، التقاطع بين الذات والموضوع والواقع، أو التعامل بينهما، الجنس الأدبي والطبقة الاجتماعية .
لو أخذنا هذه المحاور بمعنى آخر لقلنا أن الاختلاف بين المذاهب الأدبية جاء من اختلاف نظرتها لمفهوم الأدب وتبعيته للأداء من جهة وتحديه لتوظيفه من جهة أخرى . وهذه المذاهب على اختلاف منازعها وتباين اتجاهاتها , اطلع عليها أدباؤنا وأفادوا منها ، واتخذوا من بعض مبادئها أسسا لتطوير أدبنا العربي ، وما يتعلق به من نظريات ومفاهيم نقدية ، وغدا يجاري أعظم الآداب العالمية من حيث مستواه الرفيع ومن حيث موضوعاته المطروحة وأشكاله المطروقة .
وتعتبر الرمزية من المدارس الأدبية التي احتلت حيزا كبيرا والمكانة المرموقة في تسلسل المدارس الأدبية والتي تأكد ظهورها في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر كمدرسة لها وعليها كما لكل المدارس الأدبية ، بيدَ أن ظهور الرمزية كان منذ القديم في الصلوات والمزامير والطقوس الدينية التي تأخذ غالبا السمة الضبابية والغموض لقاء إضفاء الصفة القدسية عليها وما الشعائر الدينية القديمة إلا من وحي التجربة الرمزية حيث يقول أليا حاوي :
" إن الشاعر الرمزي هو صوفي كبير قاتل وعيه فقتله ، وانبرى إلى ما دونه وما إليه ، وصفت فيه الحقيقة وراقت حتى إنها كمياه الغدير حانية ودانية " .
1- الرمزية في الأدب الغربي :
لقد اتخذت الرمزية وجهة مخالفة للرومانسية التي لم تفلح في التعبير عن تحرير الانفعال بكليته وشموليته ،التي ظلت راسخة تحت وطأة وعي ولا وعي الكلاسيكية القديمة . وظلت تمهد للانفعال في سبيل العقلية ، وظل الوضوح شبه النثري طاغيا عليها ، مما دفع بعض الأدباء الى اتخاذ مناهج مغايرة تدعو إلى الانعتاق من المادية والنفاذ ببصيرة ثاقبة الى كنه الأشياء لا الوقوف عند ظواهرها ، وتدعو أصحاب هذه الدعوة بالممهدين لظهور الرمزية فيما بعد ومنهم الشاعر الأمريكي " ادغار ألن بو " الذي يعد شهيدا في عصره الذي تسوده المادية وتوحش القيم فكتب قصيدة بعنوان " أغنية الى العالم " وفيها يثبت بأن الحقيقة العقلية تزييف على الحقيقة الفعلية التي تحتقر الواقع وتصفه بأنه برقع يغشي الروح وليس العلم غاية ذاته وإنما هو كناية عن الأسلوب . وفي كل ما كتب بو من قصص وقصائد تبرز نقاط توتره وكآبته وقلقه ومواهبه الخارقة التي شكلت شخصيته الإبداعية المغايرة التي لم يفلح الدارسون حتى اليوم في تفكيك كل ألغازها وفي دخول كل سراديبها. فكتابات ادغار الن بو غاية في الصعوبة وغاية في الجمالية ولم يشرحها ربما أكثر وأوضح سوى ما قاله هو شخصيا في آخر محاضرة له ألقاها في مدينة ريتشموند عام 1849 وتحديداً قبل شهور قليلة من رحيله وقد أصبحت هذه المحاضرة منذ ذلك الحين ما سمي "بالمبادئ الشعرية" أو "مفهوم الشعر". وفيها تحدث بو عن غاية القصيدة أو غاية الشعر بشكل عام الذي هو السمو بالروح، وقد دعا في محاضرته الشهيرة تلك إلى التحرر حين كتابة الشعر من كل "إشكال الرضا والفائدة العقلية" التي يمكن أن تسود على الذهن، ويصف هذا التحرر على انه "أثيريا" ولا يحدّ بغايات، كما يصف السمو على انه تلك القدرة الشفافة وغير المرئية القادرة على رفع روح الإنسان بكل أثقالها المادية الإضافية إلى درجة من الترفع وغير مسبوقة بأفعال إرادية أو مبنية على مجموعة افتراضات ليبنى عليها مدخلا للوهم أو للتذكر، بل الشعر هو ذاك السلوك المنفلت.. ذاك السلوك وان عرف ادغار الن بو كيف يعبر عنه في كتاباته، إلا أن فهمه كان صعباً من قبل الآخرين، فهو كان في نظر أبناء جيله رمز "الشاعر الملعون" ورمز الشاعر المتسكع المعاكس للتيار، المشاغب في الكتابة الشعرية، المخرب في النثر، المتمرد على كل المدارس الأدبية والشعرية السابقة له، المدمن والمغامر والمتفلت من كل القوانين، الثائر على التقليد، الحزين حتى الموت، الكئيب حتى الثمالة والمتألم والمحب والعاشق حتى الجنون، ولكن سرعان ما تحولت صورة هذا الشاعر الذي لم يستفد من كتبه سوى بمبلغ أكدته إحدى الدراسات على انه وصل إلى حدود 300 دولار أميركي، لتعتبر هذه الصورة شاهدة على تغييرات جذرية فيها ولتصير صورة المليونير الذي مات مديوناً، والنجم الشهير الذي مات متسكعاً، منبوذاً ومجهولاً على الرصيف والشاعر الملهم لكبار المبدعين من بعده الذي ظن قصائده ستنضوي معه، فإذا به ومنذ مطلع القرن العشرين "الاخ الروحي" للشاعر بودلير الذي ترجم أجمل كتاباته، وإذا به "عبقري الآداب" بالنسبة إلى بول فاليري و"الحالة الشعرية القصوى" بنظر الشاعر مالارميه.. ليصير بو صاحب الرائعة الشعرية "الغراب" الذي مات وحيداً على الرصيف حامل أكبر الألقاب والمهام الأدبية على الإطلاق، بعد أن أشار كبار النقاد إلى انه كان "المعلم الأول للكتابات الفانتازية" و"مخترع القصة البوليسية"، و"الممهد الأول للرواية العلمية" و"المجدد للقصة الشعبية" و"الرائد في علم التحليل النفسي"... وعدد كبير من الدراسات الأخيرة، جاءت فيها إشارات إلى أن حياة بو لم تكن على هذا القدر من الإهمال في إدمانه وتسكعه وان سمعته قد لطختها بعض الأقلام الحاقدة والغيورة من عبقريته المفرطة، وانه أيضا لم يكن في وسع النقاد منذ مئتي عام شرح غرائبي كتاباته سوى بربطها بإدمانه وبابتعاده عن الأخلاقيات السائدة في ذلك العصر. وفي كل هذا يبقى سؤال حول اللعنة التي رافقت حياة ادخار ألن بو، فهل هي حقا كانت لعنة الواقع الحزين من حوله، أم كانت لعنة عبقريته الفذة الثقيلة على حياة انكسرت على 40 عاما، أم لعنة المشاعر الجياشة الكثيرة والفائضة على قلب إنسان؟ وقد تجد روح الشاعر ادخار بو الجواب في الذكرى المئوية الثالثة أو الرابعة أو التاسعة لولادته.. مع ولادة ادخار صغير من جديد في التاسع عشر من شهر كانون الثاني في ولاية بوسطن من أبوين (..) غير أن سهام اللعنة أخطأته.. فيسأله بو الشاعر: وكيف لا تموت أيضا.. من قلة الشعر؟ مقطع من قصيدة ألن بو " الغراب " The Raven وهي قصيدة سردية تم نشرها عام 1845وتحكي قصة زيارة غراب متكلم وغامض الى عاشق مضطرب وتصف شعور العاشق حتى أصابه الجنون حيث يتباكى العاشق على عشيقته لينور بينما يجلس الغراب على تمثال لأثينيا ويؤجج مشاعر العاشق الحزينة بترديدها لعبارة " ليس بعد اليوم " حيث تستخدم القصيدة العديد من القصص الشعبية الكلاسيكية ، وتبدو رمزية (الغراب) واحدة لدى الكثير من الشعوب وأبناء الحضارات، فهو رمز اليأس والبؤس والبين والخراب. حين يستقر الغراب على منبره ذاك، يجثو الشاعر أمامه ضعيفاً واهناً يحاول أن يستلطفه أو أن يستميله أو أن يرشوه ليقدم له بعض الأمل أو العزاء، وهو يبحث عن فرصة للقاء مع حبيبته الغالية التي ذهبت ويريد الشاعر أن يستبشر أنها يوماً ستعود، وأنه سيلقاها في (النعيم) البعيد أو (الأبعد) !!
وهنا يبدأ حوار طويل وعنيف بين الشاعر الضعيف المستضعف والغراب القاسي والمتغطرس. يحاول الشاعر في هذا الحوار أن يتعرف على حقيقة الغراب، وعلى طبيعة الرسالة التي جاء بها، وعلى الأرض التي جاء منها ؛ ولكن الغراب رسول الشؤم واليأس والشك يصر على إلقاء نبوءة واحدة في وجه الشاعر (لا عود..) أو حرفياً (ما فات فات) أو (ما مضى لن يعود). كانت تلك هي النبوءة التي يرفض الغراب أن يتزحزح عنها.
في الأثناء تنتعش نفس الشاعر ببعض الأمل، يستشعر عطراً ملائكياً ينتشر حوله، ويترع له كأس السلوى، ويغشي نفسه ببعض الأمان. ولكن الغراب يصفعه على وجهه من جديد مردداً بصلافة وقسوة نبوءته الكريهة: (لا عود..)
وتبلغ القصيدة ذروتها حين يتساءل الشاعر المنهمك في لجة حياة مادية لا ترحم: عن فرصة للقاء في النعيم الأبعد ؟ (عن الجنة الموعودة) وعن أمل في أن يضم غاليته المتلألئة إليه فيها ؟ فتجيبه ظلمة الكفران التي يمثلها الغراب رسول الشيطان: أن (لا عود..)
عندها يحاول الشاعر أن يتحرر من شبح يأسه وتشاؤمه وكفرانه فيرمي الغراب بطلاق بائن، ويطالبه أن يعود من حيث جاء، ولكن الغراب الذي يجسد شك الشاعر وتشاؤمه ويأسه يظل عالقاً على باب حجرته. ويظل (ظله) يمتد في نور مصباح الشاعر !! في هذه المعركة الخالدة المستعرة بين الشك واليأس وبين نور مصباح الأمل. هنا تقفز روح الشاعر بعيداً تنطلق هي الأخرى لتتحرر من الشك واليأس والتشاؤم والمشاعر المريضة التي تجهد لتكريس أسرها. تنطلق وهي ترقب ظل الغراب على أرض الحجرة، يتراقص في ضوء مصباح الشاعر ويردد وبلا ملل لا عود..
ربما نستطيع أن نصنف قصيدة الغراب في إطار الأدب (التأملي) أو (الصوفي) في الصراع بين اليأس والأمل. بين النفس الخاوية البائسة التي تسحقها المادية الطاغية في عالم الحس المحدود، وبين النفس التي ينتعش فيها مصباح الأمل، ليحيل اليأس إلى ظل يعيق بعض شعاع النور، ولكنه يقدر دائماً على أن يحرر الروح من الأسر.وهذه مقاطع من القصيدة :

عجبتُ بهذا الطيْر الأخرق كيف أنّه يستمعُ لهذا الحديث بلباقة،
مع ذلك يكونُ جوابه يفتقدُ مَعنى، يفتقدُ أدنى صِلة؛
و هكذا لا يمكنُ ان نتّفق بعدم وجود كائن انساني على قيد الحياة
بُورَك بمجرّد رؤية طائر فوق باب حجرته
طائرٌ أو بهيمة على التمثال المَنحوت فوق باب حجرته،
و باسم مثل هذا "أبداً، ليس بعد ذلك".

لكنّما الغراب يجلسُ وحيداً على التمثال الهادئ،
لا يلفُظ إلا بتلك الكلمةِ الوحيدة،
لكأنّ روحهُ في تلك الكلمة التي يهذي،
لا شيء بعد ذلك لفَظْ،
و لا حتّى ريشة تنتفِضْ،
وهكذا إلى أنني بالكاد تمتمتُ
" أصدقاءٌ آخرون طاروا من قَبْل
و في الغدِ سيتركني،
مثل أمالي التي تركتني من قَبْل"
حينَها قال الطيْر "أبداً ، ليس بعد ذلك".
وقد كان ايضا للشاعر الألماني يوهان غوته 1747 / 1832 الدور البارز في التمهيد للرمزية فهو قد سبق الفرنسيين في ذلك حيث ابتكر الرموز الدينية ورفع من قدر الذاتية ، وتعتبر روايته الشهيرة "آلام فيرتر " من الروايات العالمية والتي وتعتبر ذات أهمية في حركة العاصفة في الأدب الألماني ، وكان لها أيضاً تأثيراً في الحركة الرومانسية في الأدب. أنهى جوته تأليف الرواية خلال ستة أسابيع من الكتابة المكثفة في الفترة من يناير حتى مارس من العام 1774. الرواية حققت استقبالاً رائعاً ووضعت جوته على رأس قائمة الأدباء، وكانت هذه الرواية أكثر أعمال جوته شهرة بين عامة الناس . وهذه الرواية كانت قد أحدثت صدى واسعا قويا في الأوساط الأدبية والفكرية الألمانية والأوروبية ولاقت شعبية واسعة لدى قطاعات الليبرالية الصاعدة بسبب الصياغة الأدبية الراقية التي صاغ بها جوته قصة مأساوية ظهر فيها التناقض بين الشخصية الإنسانية والمجتمع.
وقد لاحظ معاصرو "جوته" مضمون روايته الثوري المناهض للسائد في الفكر والمجتمع، وأبدى كثيرون اعتراضات ضد الرواية ومنهم مثلا "نابليون بونابرت" الذي اصطحبها معه في الحملة على مصر، وأبدى ملاحظة على جوته أنه أدخل في الرواية تناقضا اجتماعيا في مأساة غرامية، ومنع ضباط الحملة من قراءتها. وقال جوته بأن نابليون العظيم درس "آلام فيرتر" بطريقة قاض يدرس أوراق الدعوى، وهاجم الرواية بعد ذلك واعظ متعصب اسمه "كوزه" وقال إن من شأنها أن تربي القتلة والمجرمين. أما اللورد بريستول فقد هاجم جوتة لأنه جعل عددا كبيرا جدا من الناس تعساء.
غير أن استقبال الرواية في الثقافة العربية كان مختلفا عن هذه الآراء. فكتب أحمد حسن الزيات في ترجمة للرواية يقول: "إن مبعث النهضات الاجتماعية، إنما هو العواطف المتقدة، والخواطر الملتهبة، والنفوس المضطربة، أما العقول الرزينة الهادئة والأذهان المنطقية الساكنة فهي خمود"؛ فالزيات يعامل الرواية حسب منطق نشوء الرومانسية التي كان الرفض والتمرد والثورة أهدافا لها، أما الدكتور طه حسين فقال: "إن على المترجم ألا يترجم سوى تلك الأعمال التي تعود على الشعب بالنفع والفائدة وتعينه على التطور والانتقال". ويرى منظرو النقد أن هذه المدرسة الأدبية ويقصد بها الرمزية قد خرجت من رحم المدرسة الرومانسية ، بل نظر إليها بعضهم بوصفها مرحلة متطورة منها ، ولاسيما في جانبين اثنين ، هما:
- عمق النظرة إلى ماهية الصورة الشعرية ووظيفتها.
- والأخرى الاعتراف بالفرد وعالمه الداخلي ، وقبول هروبه من عالم الواقع إلى عالم الحلم كنوع من الرفض أو التمرد على ذلك الواقع.
وقد ترعرعت الرمزية في ظل الفلسفة المثالية كرد على النزعة المادية وتفسيرها الجبري للحياة وتنكرُ المثاليةُ قدرةَ العلمِ على إدراكِ الحقائق ِ , فهناك أسرار يقف العلم عاجزاً عن الوصول إليها . وقد استند الرمزيون على النتائج التي وصل إليها علم النفس في تقسيم العقل البشري إلى منطقة الوعي ومنطقة اللاوعي , فمنطقة اللاوعي هي مجال الشعر وفيها تكمن الحقيقة .ومن الممهدين لهذه المدرسة الشاعر الفرنسي بودلير وهو يرى أن الشعر خلق من الجمال منغَّم , والغموض عنصره الأول , وأن التعطش إلى اللانهائي هو من طبيعة الإنسان , وقد ظهر ذلك في ديوانه ( أزاهير الشر ) . ويعدّ رائداً للمدرسة الرمزية . ولم يتبلور هذا المذهب في فرنسا إلا بعد سقوط فرنسا أمام بسمارك عام 1870م وسقوط الثورة الفرنسية , وشيوع الخيبة واليأس في الشعر الفرنسي . واهم شعراء هذا المذهب في فرنسا ( رامبو ومالارميه وفيرلين ) . ولم تعش الرمزية طويلاً بسبب انعزاليتها وإنكارها لمعطيات الواقع والعلم .
ولعلنا نستطيع أن نلم بمنهج الرمزية إذا رددنا النظر في قصائد الرمزيين، وأورد فيما يلي قصيدة للشاعر الفرنسي الرمزي "ستيفان مالارميه" ، وفيها يقول(7):
"لقد طرد الربيعُ الشاحب في حزن
الشتاء ـ فصل الفن الهادئ ـ الشتاء الضاحي
وفي جسمي الذي يسيطر عليه الدم القاتم
يتمطى العجز في تثاؤب طويل
إن شفقا أبيض يبرد تحت جمجمتي
التي تعصبها حلقة من حديد وكأنها قبر قديم
وأهيم حزينا خلف حلم غامض جميل
خلال الحقول التي يزدهر فيها عصير لا نهاية له
ثم آخر منهوك العصب بعطر الأشجار
وأحفر برأسي قبراً لحلمي
وأعض الأرض الساخنة التي تنبت النرجس
ومع ذلك فزرقة السماء تبتسم فوق سياج الشجر المستيقظ
حيث ترفرف العصافير كالزهر في ضوء الشمس" .
يعبر لنا في هذه القصيدة عن الحالة النفسية التي يعيشها بسبب المال الذي أنهكه، والسأم الذي يكظم جوانحه، ويقتنص من مظاهر الطبيعة صوراً رمزية توحي لنا بحالته النفسية. والشعر فيه شيء من غموض، ولكنه غموض يوحي لقارئه بإدراك المعنى والجو النفسي الذي يعيشه الشاعر، وليس بغموض أولئك الشعراء الناشئين المقلدين الذين يتنطعون ويتقعرون، ويجعلون من ذلك الغموض شيئاً أشبه بالألغاز حتى هم أنفسهم لا يدركون معناها، وإنما يقصدوها ستراً لعجزهم وإيهاماً للناس بشاعريتهم.

ولما اعتبرت الرمزية الإيحاء أو التعبير الغير مباشر عن النواحي النفسية المستترة والتي لا تقوى على أدائها اللغة في دلالاتها الوضعية, كان لا بد من أن يكون الرمز هو الصلة بين الذات والأشياء, فتولد الإثارة النفسية عن طريق الإحساسات لا عن طريق التصريح والتسمية. وتعتبر ميلاد تجربة جديدة, تستخدم فيها الكلمات حالات وجدانية. وكتب الشاعر الفرنسي بودلير قصيدة مشهورة بعنوان [المراسلات] فيها للرمز دور بارز وبها عُدّ مؤسس هذا المذهب لرسائل توضح أيضًا مدي بوهيمية بودلير، الذي وصفه أحد الكُتّاب الفرنسيون بأنه "دانتي مرحلة الانحطاط"، إذ كل شيء سيأتي عندما يجب أن يأتي. وبجانب البوهيمية، تبرز علاقة الحب من ناحية، وحب الكتابة والانشغال بها من ناحية أخري، حتي أنه عندما يخرج عنها ينشغل بالترجمة، وكأن إنتاج كتاب هو هدفه المحدد من الحياة، خاصة لو كانت الترجمة لإدجار آلن بو، الذي ترجمه للفرنسية بغزارة.
بالإضافة للمراسلات، يضم البستان مقالًا كتبه بودلير، وكان ناقدًا أدبيًا أيضًا، عن رواية "مدام بوفاري"، إذ كانت حدث الموسم عند ظهورها. مقال يعد واحدًا من أفضل ما كُتب عنها، خاصة لمراعاة تفاصيل رفضها التوثيقية.
الرسائل، في النهاية، وجه أصدق للكاتب. كتابة خطها بيده دون أن يتوقع خيانة أحد، فخانه الجميع لمصلحة الأدب. وتلاه تلميذه رامبو (1891) الذي عدّ الشعر صناعة لفظية لا فكرية, وكذلك الشأن لـمالا رميه الذي نحا النحو نفسه 1898, وإذا شهدت فرنسا ازدهارا لهذا المذهب, فإن إنجلترا رغبت عنه .
ويعتبر الشعر الرمزي شعر وجداني وهو منبثق من الشعر الإبداعي , ولكنه يختلف عنه في أنه رد فعل على الإبداعية المسرفة , فهو لا يعبر عن عواطف مفصلة واضحة , بل يعبر عن مشاعر مبهمة وحالات نفسية غير محددة .
والشعر ومضات سريعة وخلجات عابرة , ولكي تصل الرمزية إلى هذا المناخ الشعري غيّرت في وسائل الأداء .وكما رأى الرمزيون أن اللغة جمدت من فرط الاستعمال , ولم تعد قادرة على مواكبة الإحساسات العصرية , وهي واضحة عقلية , وأعماق الذات ضبابية رمزية , فحاولوا إيجاد حل لأزمتها ، فاكتشف بودلير جمالية القبح , وأدخل إلى اللغة ألفاظاً كانت ممنوعة قبله مثل ( الحلازين – القبور – العظام ) ، واهتم رامبو بلون الكلمة وإيقاعاتها الداخلية ، ولجأ مالارميه إلى الانزياح اللغوي , وحمّل اللغة ما لا تحتمل فأصبحت اللغة أهم من الموضوع في القصيدة وأيضا اعتبر الرمزيون أن النغم أساس القصيدة ومفتاحها , فالمناخ الشعري يسهل الوصول إلى منطقة اللاشعور , ورأوا أن أثر الصوت لا يقل عن أثر العطر أو اللون .
فقد استنجد بودلير بالموسيقا :
تحملني الموسيقى مثل البحر
نحو نجمتي الشاحبة
أدفع الشراع تحت سقف ضباب أو في أثير واسع
وقد يلجأ الشاعر الرمزي في صوره إلى العلاقات غير المتوقعة بين طرفي التشبيه , كقول بودلير :
أنا جميلة أيها البشر ,
كحلم من حجر ،
ولجأ الرمزيون إلى ما يسمى ( تراسل الحواس ) فالحواس تتبادل , والشاعر يستطيع تشبيه المؤثرات السمعية بالبصرية أو الحسية لأن وقعها في النفس متشابه . ويرى بودلير أن ( تداخل الحواس ) يجعل الكلمة غابة من الرموز , فتأخذ الكلمات دلالات جديدة تمكن من الوصول إلى منطقة اللاشعور .
وقد أدى تغير البنية الداخلية للشعر إلى تغير شكل القصيدة الخارجي , وقد رأى الشعراء الرمزيين أن على الشاعر أن يُخضع القالب الشعري لخوالجه المتغيرة , فأطلقوا حرية الشكل وحاولوا العثور على النغمة المطابقة لخفقات الروح والوجدان .
2 ـ الرمزية في الأدب العربي الحديث :

لقد كانت البلاد الشام هي الحاضنة الأولى في الوطن العربي لهذا التيار ، ومنها انتقل إلى مصر ، ومنها إلى البلاد العربية. يقول خليل حاوي وهو من الشعراء الرمزيين " إن الشاعر الرمزي يحاول أن يعبر عن أسرار الحياة النفسية السحيقة عن أعماقها اللاشعورية ، فإذا تمكن من إنتاج ذلك التعبير استطاع أن ينتج قصيدة رمزية حديثة".
إن ا لقصيدة الحديثة تتصادم فيها التجارب النفسية معبرة عن الرؤية التي تتغلغل في أعماق الشاعر ، لكن كيف يستطيع هذا الشاعر أن ينتج هذا التعبير عن تلك الأعماق النفسية واللاشعورية ، وأول من تبناها في مجال النقد هم جماعة ( شعر ) ، وتحت تأثير هذه الجماعة يقول الرمزيون في تفسيرهم لتلك الرؤيا ، الرؤيا هي بمثابة اكتشاف وخلق جديد للأشياء أو بتعبير أوضح كسر جدران سجون الوعي الذي يلفنا قاسيًا بمنطقيته المحدودة .

إذن فالشاعر كي يكون حديثًا ، أو رمزيًا بالتحديد ، يجب عليه أن يتخلص من محدودية التفكير المنطقي ويتحرر من سجن الوعي ويقفز من أعلى جدرانه حتى يتسنى له أن يقبض على اللحظة الحضارية النفسية فيما هي تبرق وتخطف قبل أن يدركها الإدراك ويعيها الوعي ويجزئها إلى معانٍ وأفكار .

إن الشاعر في سباق لاهث مع ( خصمه اللدود ) الوعي والمنطق على الإشارات التي تنبعث من أعماقه النفسية ليصورها في إبداعه كما هي حالمة قبل أن يدركها الوعي ويحيلها إلى العقل فيضع لها تفسيرًا قد لا يكون صحيحًا أو دقيقًا، إنه يفضل أن يلوذ بحالة اللاوعي تلك الحالة التي تكون موجودة في النفس وهي الأشد تأثيرًا على مصيرها ومواقفها وعواطفها من الأفكار والأحوال التي تطرأ على الوعي فيعيها ويتمثلها وينتبه لها ، وتلك النظرة إلى دور اللاوعي يبدو فيها الشعراء الرمزيون متأثرون بمقولات علماء التحليل النفسي وعلى رأسهم فرويد ، ومن ثم نراهم يقولون بوضوح بأن الشاعر الرمزي " يجب أن يكون ذلك المثقف الحالم على حد تعبير سيجموند فرويد "، إنها ثقافة غير عادية ، بل هي ثقافة ينبغي أن تتسم بالاتساع والعمق حتى تكون وسيلة مثلى للشاعر تمكنه من تشكيل تلك الرؤيا وإنضاجها وتعميقها وتكثيفها لتترك في نفس المتلقي شعورًا ، كما تساعده على إنجاز عملية تعطيل الوعي ، وهذا التعطيل يعد في حد ذاته عملاً إراديًا يحتاج إلى كثير من الرياضة و الدربة والمكابدة .

ثم إن الشاعر الرمزي يفترض فيه أن يكون ذا نظرة متميزة لمجريات واقعه ، ولتحقيق ذلك عليه أن يصاب بصورة مستمرة بالاندهاش من كل ما يمكن أن يدخل في حدود إبصاره ، ذلك لأن ( الدهشة ) هي كما يراها الشعراء الرمزيون " أعظم فلذة في الشعر الحديث ، فالشاعر الحقيقي لا ينظر إلى الأشياء إلا بدهشة " ، ولا شك أن الدهشة لا تعتري الإنسان إلا إذا رأى ما لم يألفه ، وهذا الأمر يجعل الشاعر مطالبًا بأن ينظر حتى إلى الأشياء المألوفة كأنها غير مألوفة ، أو بعبارة أخرى أن ينظر هو إليها نظرًا غير مألوف ، أو ينظر إليها نظرًا حالمًا كما ينظر الوسنان إلى الأشياء أو الوقائع التي تتراءى له في أحلامه وتمتلئ بها نفسه ارتياحًا أو انقباضًا لكنه في كلا الحالتين لا يدري لها تأويلاً ولا يدرك لها تعبيرًا .

الفرق بين الرمز والرمزية :
الرمز : موجود في كل أدب , شعري ونثري , فالليل في قصيدة امرئ القيس رمز لحالته الوجدانية , وهو يوحي بالحزن والحقد والخيبة .
الرمزية : هي مدرسة أدبية ذات أسس ومقاييس محددة , وهي بنت الفكر الذي أنتجها والمجتمع الذي احتضنها . يقول خليل حاوي وهو من الشعراء الرمزيين " إن الشاعر الرمزي يحاول أن يعبر عن أسرار الحياة النفسية السحيقة عن أعماقها اللاشعورية ، فإذا تمكن من إنتاج ذلك التعبير استطاع أن ينتج قصيدة رمزية حديثة".

إن ا لقصيدة الحديثة تتصادم فيها التجارب النفسية معبرة عن الرؤية التي تتغلغل في أعماق الشاعر ، لكن كيف يستطيع هذا الشاعر أن ينتج هذا التعبير عن تلك الأعماق النفسية واللاشعورية ، إنه إذا أراد ذلك فلا بد أن تكون له أولاً ( رؤية ) أو ( رؤيا ) وكأنه يرى أن الأولى تستمد نفسها من العقل والأخيرة من الباطن ، كما أن للفظة ( الرؤيا ) مفهومًا دينيًا وصوفيًا ومن ثم فإن لها دلالة ميتافيزيقية وعوالم غيبية ، وأول من تبناها في مجال النقد هم جماعة ( شعر ) ، وتحت تأثير هذه الجماعة يقول الرمزيون في تفسيرهم لتلك الرؤيا أو الحلم ، الرؤيا هي بمثابة اكتشاف وخلق جديد للأشياء أو بتعبير أوضح كسر جدران سجون الوعي الذي يلفنا قاسيًا بمنطقيته المحدودة .

إذن فالشاعر كي يكون حديثًا ، أو رمزيًا بالتحديد ، يجب عليه أن يتخلص من محدودية التفكير المنطقي ويتحرر من سجن الوعي ويقفز من أعلى جدرانه حتى يتسنى له أن يقبض على اللحظة الحضارية النفسية فيما هي تبرق وتخطف قبل أن يدركها الإدراك ويعيها الوعي ويجزئها إلى معانٍ وأفكار .
إن الشاعر في تحدٍ تسارعي مع خصمه الوعي والمنطق ويركز على الإشارات التي تنبعث من أعماقه النفسية ليصورها في إبداعه كما هي حالمة قبل أن يدركها الوعي ويحيلها إلى العقل ، فيضع لها تفسيرًا قد لا يكون صحيحًا أو دقيقًا أو منطقيا ، فمتى ما خضعت للنقاش المنطقي كان لابد للعقل من اتخاذ القرار في الإبقاء عليها أو إزالتها ، فالشاعر يفضل أن يلوذ بحالة اللاوعي تلك الحالة التي تكون موجودة في النفس وهي الأشد تأثيرًا على مصيرها ومواقفها وعواطفها من الأفكار والأحوال التي تطرأ على الوعي فيعيها ويتمثلها ويتنبّه لها ، وتلك النظرة إلى دور اللاوعي يبدو فيها الشعراء الرمزيون متأثرون بمقولات علماء النفسانيين في مقدمتهم فرويد ، ومن ثم نراهم يقولون بوضوح بأن الشاعر الرمزي " يجب أن يكون ذلك المثقف الحالم حسبما قال :" سيجموند فرويد " معبراً على إنها ثقافة غير عادية ، بل هي ثقافة ينبغي أن تتسم بالاتساع والعمق حتى تكون وسيلة مثلى للشاعر تمكنه من تشكيل تلك الرؤيا وإنضاجها وتعميقها وتكثيفها لتترك في نفس المتلقي شعورًا ، كما تساعده على إنجاز عملية تعطيل الوعي ، وهذا التعطيل يعد في حد ذاته عملاً إراديًا يحتاج إلى كثير من الرياضة و التدريب والمعاناة .

بيدَ أن الشاعر الرمزي يفترض أن يتأثر بالأحداث اليومية والتي يمكن أن تكون للآخرين حدثا عابرا في الواقع فعليه فيه أن يكون ذا نظرة متميزة لمجريات واقعه ، ولكن هذا التميز يعبر عنه بالانفلات الى اللاوعي للتعبير عن اندهاشه أو ألمه ، فالاندهاش والغرابة لا تأتيان من فراغ بل من كل ما يقع تحت عوالمه الحسية والباطنية ، ذلك لأنه يوظف حاسة الانفعال مترافقة مع الاندهاش و ( الدهشة ) هي كما يراها الشعراء الرمزيون "هي التوظيف الأهم في الشعر الحديث ، فالشاعر الحقيقي لا ينظر إلى الأشياء إلا بدهشة ، ولا شك أن الدهشة لا تعتري الإنسان إلا إذا رأى ما لم يألفه ويستغربه ، هذا الأمر يجعل الشاعر مطالبًا بأن ينظر حتى إلى الأشياء المألوفة كأنها غير مألوفة ، أو بعبارة أخرى أن ينظر هو إليها نظرًا غير مألوف ، أو ينظر إليها نظرًا حالمًا كما ينظر الحالم أو المتمني لأمنية لا يستطيع تحقيقها فيحلم بها كما لو أنها تحققت في الواقع فتمتلئ نفسه ارتياحا وسكينة .
ولا بد أن نذكر بأن الشعراء الرمزيين يستشفون المرار من الحياة وكأنه شهد وكأس مدام ، فالحزن واليأس في البحث عن مفاتيح السعادة وفهم الأشياء في الواقع هما أداتا الانفعال النفسي لديهم فهم يلوذون في صمتهم لكنهم يقبعون فوق موقد دائم الاشتعال ، فهذا الشاعر ادغار ألن بو في قصيدته الغراب يقدم حوارية رائعة والغراب كما هو معروف في الأدب العربي رمز للتشاؤم والحزن ، فقد برزت فنيته ليست في رمزيته فقط، وإنما في عطائه الثر من معين النفس البشرية التي تصفو من خلال شعورها بالعذاب والقهر والاغتراب. قد تكون الغربة الحقيقية هي التي يعانيها الإنسان وهو يعيش وسط أهله وذويه.
كان (بو) شاعراً وقصاصاً وناقداً، ليس فقط في سياق الأدب الأمريكي الذي فتح نوافذه على العالم وإنما على مستوى الأدب العالمي. اعتبره بودلير الفرنسي (قلبه المُعرَّى) ورأى فيه (دوستوفسكي) الروسي (كاشف الزيف ونازع الأقنعة).
(الغراب) إحدى رمزيات الشاعر الكبير، ومن القصائد المعدودات في سياق الأدب العالمي، عبر (بو) من خلالها عن نوبات الشك واليأس التي انتابته بعد وفاة عزيزته ليونور.
ففي خلوة للشاعر، في منتصف ليلة من ليالي يأسه وحزنه، بعد فقد حبيبته (ليونور)، في منتصف ليلة عاصفة وباردة وموحشة، كان الشاعر يجتر فيها حزنه، ويبحث عن فرجة أمل للقاء، لقاء الفقيدة العزيزة بعد أن ضمها الموت الموحش، يسمع فجأة قرعاً يرعبه، إذ ليس الوقت وقت زيارة، يظنه أولاً على باب غرفته، فيحاول أن يطمئن نفسه، فيردد إنه ضيف جاء متأخراً.. ولكن اليأس والشك نادراً ما يأتيان النفوس من أبوابها. يفتح الشاعر الباب فيرى الظلمة تحدق فيه، فيعود أدراجه.. ولكن وقع خطوات اليأس تتسلل هذه المرة أقوى وأوضح إنها من هناك من (النافـذة)، من خلف الستائر المخملية الناعمة التي تداعبها الريح العاصفة، يفتح الشاعر النافذة فيقتحم عليه بلا استئذان غراب أسود مجهد يبدو أنه قادم من شطآن بعيدة، أي من أعماق نفس الشاعر، من (الملاغمة) النفسية الذاتية التي تمور بالشك وباليأس وبالتشاؤم.
يقتحم (الغراب) غرفة الشاعر، ليستقر فوق تمثال قرب باب الحجرة. وتبدو رمزية (الغراب) واحدة لدى الكثير من الشعوب وأبناء الحضارات، فهو رمز اليأس والبؤس والبين والخراب. حين يستقر الغراب على منبره ذاك، يجثو الشاعر أمامه ضعيفاً واهناً يحاول أن يستلطفه أو أن يستميله أو أن يرشوه ليقدم له بعض الأمل أو العزاء، وهو يبحث عن فرصة للقاء مع حبيبته الغالية التي ذهبت ويريد الشاعر أن يستبشر أنها يوماً ستعود، وأنه سيلقاها في (النعيم) البعيد أو (الأبعد) !!
وهنا يبدأ حوار طويل وعنيف بين الشاعر الضعيف المستضعف والغراب القاسي والمتغطرس. يحاول الشاعر في هذا الحوار أن يتعرف على حقيقة الغراب، وعلى طبيعة الرسالة التي جاء بها، وعلى الأرض التي جاء منها ؛ ولكن الغراب رسول الشؤم واليأس والشك يصر على إلقاء نبوءة واحدة في وجه الشاعر (لا عود..) أو حرفياً (ما فات فات) أو (ما مضى لن يعود). كانت تلك هي النبوءة التي يرفض الغراب أن يتزحزح عنها.
في الأثناء تنتعش نفس الشاعر ببعض الأمل، يستشعر عطراً ملائكياً ينتشر حوله، ويترع له كأس السلوى، ويغشي نفسه ببعض الأمان. ولكن الغراب يصفعه على وجهه من جديد مردداً بصلافة وقسوة نبوءته الكريهة: (لا عود..)
وتبلغ القصيدة ذروتها حين يتساءل الشاعر المنهمك في لجة حياة مادية لا ترحم: عن فرصة للقاء في النعيم الأبعد ؟ (عن الجنة الموعودة) وعن أمل في أن يضم غاليته المتلألئة إليه فيها ؟ فتجيبه ظلمة الكفران التي يمثلها الغراب رسول الشيطان: أن (لا عود..)
عندها يحاول الشاعر أن يتحرر من شبح يأسه وتشاؤمه وكفرانه فيرمي الغراب بطلاق بائن، ويطالبه أن يعود من حيث جاء، ولكن الغراب الذي يجسد شك الشاعر وتشاؤمه ويأسه يظل عالقاً على باب حجرته. ويظل (ظله) يمتد في نور مصباح الشاعر !! في هذه المعركة الخالدة المستعرة بين الشك واليأس وبين نور مصباح الأمل. هنا تقفز روح الشاعر بعيداً تنطلق هي الأخرى لتتحرر من الشك واليأس والتشاؤم والمشاعر المريضة التي تجهد لتكريس أسرها. تنطلق وهي ترقب ظل الغراب على أرض الحجرة، يتراقص في ضوء مصباح الشاعر ويردد وبلا ملل لا عود..
ربما نستطيع أن نصنف قصيدة الغراب في إطار الأدب (التأملي) أو (الصوفي) في الصراع بين اليأس والأمل. بين النفس الخاوية البائسة التي تسحقها المادية الطاغية في عالم الحس المحدود، وبين النفس التي ينتعش فيها مصباح الأمل، ليحيل اليأس إلى ظل يعيق بعض شعاع النور، ولكنه يقدر دائماً على أن يحرر الروح من الأسر.
لنترك للقارئ أن يستمتع بالقصيدة على طريقته. دون أن ننسى أن لكل قارئ في هذه الحياة غرابه الذي يقتحم وحدته، ويعكر هدأته، ويلقي فوق رأسه نشيد اليأس: لا عود .. لا عود.. كما أن لكل قارئ مصباحه الذي ينير له دياجير النفس قبل أن ينير سبل الحياة.
لن نتدخل في حل الرمز أكثر، وإنما بقي أن ننوه بأن للقصيدة أكثر من ترجمة لأكثر من لغة في العالم، فلها أكثر من ترجمة فرنسية، وأكثر من ترجمة عربية أيضاً. نأخذ عن بودلير من الفرنسية، ونستعين بترجمة يوسف الخال، وكميل قيصر داغر من العربية فلهما ما يستحقان من شكر وعرفان.



الرمزية في النثر العربي :
ـ كان جبران أول من التقت في نثره تيارات الإبداعية والرمزية والصوفية .
ـ وتميز نثره بالحس الرفيع واستخدام الألفاظ الموحية والعبارات الحالمة .
ـ وتظهر الرمزية عنده في شخصية ( حفار القبور ) فالحفار قناع رمزي يبسط من خلاله جبران أفكاره ومواقفه . وهو ثوري يرى مالا يراه الإنسان العادي كبنات الجن , ويميز بين الأموات والأحياء في المجتمع ويدعو مخاطبه ليتزوج صبية من بنات الجن , ويتعلم حفر القبور , ومن خلال الدلالات المتلاحقة يعبّر عن ثورته على التقاليد التي سيطرت على عقول الناس .
الرمزية في الشعر العربي :
الرمزية أول ما شاعت في الأدب العربي في العراق سنة 1941 ولأسباب قد تكون سياسية ، حيث عمل الشعراء والأدباء للتعبير عن آرائهم وامتعاضهم من الواقع بطريقة رمزية ، وكما برزت الرمزية أيضا في الشعر العربي القديم ووظفها الشعراء في أشعارهم كما فعل امرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى ، وقد تبلور هذا المفهوم في العصر العباسي في شعر بشار بن برد من خلال توظيفه للعوالم الحسية ليخلق عالما نفسيا يخصه حيث يقول :
وجيش كجنح الليل يزحف بالحصى وبالشوك والخطى حمر ثعالبه
غدونا له والشمس في خدر أمها تطالعنا والطل لم يجر ذائبه
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
انه تمثل حديثها _____________
وقد تأثر شعراء عرب كثر بهذا المذهب كعبد الرزاق عبد الواحد أيضا وصفاء الحيدري والجواهري .
وقد كانت التيارات الأدبية الغربية ذات أثر كبير في انكسارها الحسي والنفسي لدى المثقف العربي خاصة بعد الحرب العالمية الثانية ، وأصبح التعبير عن الهزيمة أمام واقع مؤلم رمزا يتسم برسالة ما وعبر وسائل اسلوبية غير مباشرة كما تعودنا في الشعر العربي القديم ، وأصبح منفتحا الى عوالم ما وراء الحس أو بما يعرف بالميتافيزيقا لينتهي الى ما يعرف بالادب الغيبي أو الصوفي .
لقد افتقد الانسان العربي الجاهلي العنصر الغيبي الخارق حيث هذا الافتقاد ساقه الى الواقعية بالرغم من المام الشاعر العربي بالحقائق الرمزية الى انه كان يواجه الواقع بقدرته الخاصة ولم يتوسل اليه بالعوالم الغيبية كما فعل الاغريق ، وهذا ما نراه واضحا في الشعر الجاهلي وخلوه من العوالم الغيبية حيث كان الشاعر يعتمد على ذاته وقوته البدنية كما في شعر عنترة العبسي ، ومن خلال تصويرات وتشبيهات من الطبيعة التي حوله كالفرس والناقة ، ويذهب الكثيرون بأن العرب الجاهليين كانوا يستخدمون الرمز كما بدا في لغة الكهان في الجاهلية والتي كانت تعتمد على المواربة والابهام والاستغلاق والطنين والجلجلة والتهويل والاغراب حتى تتحقق الغاية المقصودة منها وهي التأثير في السامعين من طلاب الأسرار والغيوب ، وهذه قريبة الى الرمزية الغربية من حيث اعتمادها على العنصر الغيبي وعلى الإبهام والغموض واهتمامها بالموسيقى التي تخلق جوا من الإيحاء وصورا من الأحلام ، حيث دفع الكثيرون الى القول بان جميع الشعر الغزلي الجاهلي رمزي حيث أن الشاعر لا يقصد الغزل من وراء شعره بل اراد غرضا آخر ، وهذا لم يكن رمزا كما هو عند الغرب لكنه رمزا ضمن حدود معينة ، فامرؤ القيس مثلا يصف الليل بتعبير مجازي حيث كان يستبطن الدلالة النفسية عن المظهرية الحسية ، وقد انحسرت عن الشاعر العوالم الغيبية فكانت النغمية عبر ذلك الوصف نغمية رمزية لانها جسدت المعنى من خلال الإيقاع في هتافه المنسحق : ألا أيها الليل الطويل انجلي ، الى أن الرمزية الفعلية في قوله : أرخى علي بأنواع الهموم ليبتلي ، فقد شاهد الشاعر سدول الليل كما نشاهده نحن كما نشاهد سدول الخيمة وهذه تعد من الاستعارات الضمنية بذلك شاهد الأحوال النفسية في حلة حسية مبتدعة تنتمي الى الرمز لأن الشاعر تفوق على ذاته فيها وشاهد بالرؤيا ما لم يشاهده غيره فيقول أيضا : فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف إعجازا وناء بكلكل
فهما هو ينسب الى الليل ما ينسب الى الجمل حيث ينوء ويبرك بكلكله على الأرض ، فقد تمت الرؤيا الشعرية واستبطن الشاعر الجمل ونسب حاله الى الليل فبدا الليل جملا أسطوريا ينيخ بثقله الباهظ على الأرض . وهذا ما يقودنا الى القول بأن الرمزية في الشعر العربي اعتمدت على الإيجاز والتعبير الغير مباشر في رسم الصورة المحسوسة باستدلال نفسي مبطن .
الرمزية في الشعر العربي الحديث :
ـ ظهرت الرمزية عند بعض الشعراء في سورية ولبنان ومصر والعراق . فاتخذوها مذهباً لهم .
ـ منهم من سار فيها حتى النهاية . ـ ومنهم من استفاد منها ثم تحول إلى غيرها .
من الفئة الأولى :
ـ رائدها : الشاعر سعيد عقل الذي مهّد لها في المقدمة النقدية لقصيدة المجدلية .
ويرى أن غاية الشعر نقل حالة نفسية مستعصية على التحليل العقلي .
والشعر عنده مناخٌ وليس أفكاراً , وهو مناخ ضبابي موسيقي يعتمد على الإيحاءات الموسيقية والصور الرمزية , ويستند إلى تبادل الحواس , فالحب أغنية أطيب من الشذا كما يقول :
هــواك يـا شـاعـري أغـنـيـة الـخـاطـر
أطيـب , أشـهـى , ألذّ مـن شـذا عـابــر
ـ ويتوق سعيد عقل إلى الوصول إلى شعر رمزي خالص ، كما فعل في قصيدته "زهرة الزهور " : زهرة الزهور

كُن أنتَ للبِيضِ، وكُنّ للسُّمْرْ
ما هَمَّني؟ حُبِّي أنا يَبقى
سَعيدةٌ به ، وإن أشْقا
تُحبُّني، أو لا تُحِب، أنتَ العُمرْ!

أما كَفَى أَنّي على يَدَيْكْ
أَشْتاتُ أُلهِيَْهْ
بي نِيَهْ
يا حلوُ، أن أغرقَ في عينيكْ؟
تُميتُني، تُبقى عَلَيّْ
إشفاقةً أو ترضِيَهْ،؟
ما هَمَّ، أنتَ الضَّوءُ في عينيّْ
وأنتَ في ثَغْريَ أُغنيةْ!

تذكُرُه بَوحَكَ لي؟ تذكُرُها تلك العُهودْ
فَمٌّ، ولا وَهْمُ الزَّهَر،
لَونٌ، ولا حُلمُ القَمَرْ،
عينانِ غَرِّب يا وُجودْ!
وكانت اليَدانْ
بمِعصَميَّ تَلعبانْ
غدٌ أنا وأَمسْ
شَعري شُعاع الشَّمسْ
في ظِلَّه مختبىءٌ نَيسانْ

وكان في قلبك جَمْرْ
وخلف ثوبي لؤلؤٌ وماسْ
تقول: «أنتِ خَمْرْ
متى أصِيرُ كاسْ؟»
أوّاه كم لي هَهنا
من ذكرياتٍ، من مُنى
لا تَنْسَني، لا تَنْسَنا
لي أنتَ ام لا؟ أنا لَكْ
نَبْقَى على كَرِّ العصورْ
أنا الفَلَك
أنت تدورْ
يخونها ولا تخون العطر زهرة الزهورْ!
حيث يجتبي من اللامحسوسات عالما له مليء بالدهشة والجمال على الرغم من تداخل الحزن والذكريات المربكة إلا أنه يتخفى وراء مشاعره ليستدني السعادة التي يتوق اليها في ظل تشبيهات كثيرة ومتضادات تمنحُ الشطر الشعري نغما خاصا يتماشى مع الحالة الراهنة للشاعر .
ـ هناك مجموعة من الشعراء اتخذت الرمزية مذهباً لهم فاستفادت من خصائص الرمزية , واستخدمتها للتعبير عن إحساس دقيق أو تحليل فكرة عميقة أو إضافة قيم جمالية للأدب كالإيحاء والرمز والأسطورة ومنهم : ( بشر فارس ـ وصلاح لبكي ـ ونزار قباني ـ وعمر أبو ريشة ـ و السياب ) .
ـ استخدام الشعر الحديث للرمز الأسطوري : كان يتم بطريقتين :
1ـ استخدامه بشكل سريع في أثناء القصيدة على أنه رمز يغني النص , كاستخدام السيّاب لرمز سيزيف في قوله:
وعند بابي يصرخ المخبرون
وعرٌ هو المرقى إلى الجُلجُلة
والصخرُ , يا سيزيف , ما أثقلَه !
فالشاعر يشبه نفسه بسيزيف الذي يتعذب دائماً بالصخرة التي يجرجرها دلالة على عذابه وغربته . ولكن هذه الرموز لا تؤدي دورها لجهل القارئ بها . وتلتف القصيدة الحديثة بالغموض بادخال هذه الرموز الغير مألوفة للقارىء العربي ، وكثيرا ما نراه يتآلف مع الصورة الشعرية المطروحة بدلا من التآلف الصريح مع المعنى المفرداتي لكلمة ما قد ترد في النص.
2ـ استخدام الرمز الأسطوري على أن يكون هو القصيدة نفسها شكلاً ومضموناً مادة وهيكلاً :
حيث تغدو الأسطورة شكلاً من أشكال التعبير ومادة له , بعد أن يشكلها الشاعر بطريقة تناسب تجربته الشعورية ومثال ذلك قصيدة ( تموز جيكور ) للسياب .

آه جيكور، جيكور؟
ما للضحى كالأصيل
يسحب النور مثل الجناح الكليل
ما لأكواخك المقفرات الكئيبة
يحبس الظل فيها نحيبه
أين أين الصبايا يوسوسن بين النخيل
عن هوى كالتماع النجوم الغريبة؟.
أين جيكور؟.

كان السيّاب شاعراً فذّاً اصطبغ شعره بصبغة الأطوار التي تقلّبت فيها حياته المعاشيّة والاجتماعية والفكريّة. عصَره الألم في شبابه، وشعر بالغربة القاسية وهو في بيت أبيه، كما شعر بها وهو في بيئته؛ ولم يجد قلبه الشديد الحساسيّة مَن يخرجه من أتون آلامه، ولم يجد في طريقه فتاة أحلامه، تلك الفتاة التي يسكب روحه في روحها، فتنتشله من أحلامه وأوهامه، وتُغرقه في عالمٍ من الحنان والرقة؛ ورافق ذلك كله تتبّع فكريّ وعاطفي لحركة المقيم والمهاجر :
لا تزيديه لوعة فهو يلقاك .... لينسى لديك بعض اكتئابه
قربي مقلتيك من قلبي الذاوي .... تري في الشحوب سر انتحابه
وانظري في غضونه صرخة اليأس .... وأشباح غابر من شبابه :
لهفة تسرق الخطى بين جفنيه .... وحلم يموت في أهدابه:
تلك كانت المرحلة الأولى من مراحل شعر السيّاب؛ أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الخروج من الذاتية الفرديّة إلى الذاتية الاجتماعية، وقد انطلق الشاعر، في نزع رومنطيقيّته الحادة، يتحدث عن آلام المجتمع وأوصاب الشعب، ويُهاجم الظلم في أصحابه، ويُصوّره في (حفار القبور) مارداً جشعاً يرقص على جثث الموتى ويتغذى جشعه بأرواحهم ويقول:

واخيبتاه! ألن أعيش بغير موت الآخرين؟
والطيبات: من الرغيف، إلى النساء، إلى البنين
هي منة الموتى عليّ. فكيف أشفق بالأنام!؟
فلتمطرنهم القذائف بالحديد وبالضرام.


وبعد هذه المرحلة نرى السيّاب ينزع نزعة (الواقعية الجديدة) - على حدّ قوله - ويعمل على تحليل المجتمع تحليلاً عميقاً، وعلى تصويره تصويراً واقعيّاً فيه من الحقائق الحياتية ما يستطيع الشاعر إدراكه بنفاذ بصره وقوة انطباعيته وراح السيّاب يصوّر واقع بلاده الأليم ويحلم لها بمستقبل تزدهر فيه حرة، متطورة، ينقلب فيها الجهل إلى نور، والجمود إلى حركة والتزمت الى انفتاح ،
هذا ويقف السيّاب من الشعر الحديث موقف الثائر الذي يعمل على قلب الأوضاع الشعريّة, ونقل الشعر من ذهنية التقليد وتقديس الأنظمة القديمة إلى ذهنية الحياة الجديدة التي تنطق بلغة جيدة، وطريقة جديدة، وتعبّر عن حقائق جديدة. وساعدَ السيّاب في عمله جرأة في طبيعته، وتحرُّك اجتماعيّ وسياسيّ ثوري هز العالم الشرقيّ هزاً عنيفاً، ثم انفتاح على أدب الغرب وأساليب الغرب في التفكير والتعبير. وقد أدخل السيّاب على الشعر العربي ثورته من نظام الخليلي إلى نظام الحرية، وأخرج الأوزان القديمة من قواعدها المألوفة العروض إلى أوزان أملَتْها عليه معانيه ونبضات وجدانه، وتصرف بالتفاعيل والقوافي وفاقاً للمزاجيّة الشعريّة التي يوحي بها مقتضى الحال، هذا فضلاً عن التيارات الفكرية والتحليلات العميقة التي زخر بها شعره وانساق في مجاريها انسياقاً فُراتيّاً يمتدّ امتداداً حافلاً بالغنى ومتأججاً بتأجّج العاطفة والحياة والخيال التي ينطلق منها ..
تروعك في شعر السيّاب تلك الثروة الفكرية، وتلك الغزارة المعنوية، وذلك التلاحق الهائج المائج في تدفّقه الذي يجمع الصّخب إلى التغلغل في طوايا النفس؛ وذلك العصف الفكري والعاطفي المروق، ثم تلك الواقعية اللفظية الضارية، والإلحاح على المشهد المثير واللفظة المعبّرة عن الثورة الحياتية المتفجرة، ثم أخيراً تلك الرمزية التصويرية والإشارات التاريخيّة التي تزيد الكلام حدّةً وبُعد آفاق وهكذا فالسيّاب شاعر التحرُّر وشاعر الحياة والعنفوان.
ويمثل شعر بدر أهم الاتجاهات الشعرية التي عرفها عصره، وكانت له حصيلة واسعة من الموروث الشعري الكلاسيكي، بالإضافة إلى ترجماته لمختارات من الشعر العالمي إلى العربية.
بدأ بدر كلاسيكياً، ثم تأثّر برومانسية بشعره الواقعي، ولاسيما قصائد حفّار القبور؛ المومس العمياء؛ الأسلحة والأطفال. وشعر بدر التّموزي أبدع ما ترك من آثار، لاسيما ديوان أنشودةّ المطّر، ففيه نماذج كثيرة للقصيدة العربية الحديثة، التي توفر فيها شكل فني حديث متميّز، ومضمون اجتماعي هادف في آن واحد، ومن أشهرها أنشودة المطر
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شُرْفَتَان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء كالأقمار في نهر
يَرُجّه المجذّاف وَهْناً ساعةَ السحر
وتبلغ القصيدة ذورتها في قوله:
أتعلمين أي حزن يبعث المطر
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع
بلا انتهاء ـ كالدم المراق، كالجياع
كالحب، كالأطفال كالموتى ـ هو المطر
أثرها في الأدب العربي:
كان تأثير هذا المذهب قليلا في الأدب العربي, وذلك يعود إلى سببين:
- النزعة الأرستقراطية للشعر الرمزي.
- الغرض الذي تتسم به التجربة الرمزية مضمونا وشكلا, وهذا ما تأباه وترفضه البلاغة العربية القائمة على الوضوح والقصد.
الرمزية الحديثة دخلت الأدب العربي الحديث عن طريق لبنان، ولبنان دائما هو السباق في الأخذ عن الغرب فيما يتصل بالأدب والفكر، وفيما يتصل بعالم الأزياء والموضات بحكم اتصاله بالغرب، وبحكم موقعه، وبحكم إجادة أهله للغات الغرب، وبخاصة لغة الفرنسيين، والفرنسيون لديهم معامل تنتج المذاهب والمدارس في الفكر والأدب والأزياء والأطرزة والموضات، ولا يكاد يجاريهم أحد من الأوروبيين والأمريكيين.
فلا عجب إذاً أن تظهر الرمزية في شعر اللبنانيين قبل أي قطر عربي آخر، ولا عجب أن يكون لها رواد كثيرون هم من شعراء لبنان، منهم على سبيل المثال، بشر فارس، وألبير أديب صاحب مجلة الأديب، وأديب مظهر، وخليل شيبوب، وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، ولنزار قباني بعض قصائد رمزية، ولكن فيها شيئا من الوضوح، ويلاحظ الدارس لشعر هؤلاء أنهم تأثروا إلى حد كبير في شعرهم بمعطيات الرمزية وتعاليمها واتجاهاتها، ووقفوا على آثارها في لغاتها الحية، واستطاعوا بكل سهولة أن يضمونها شعرهم، ونورد فيما يلي بعض أمثلة من الشعر الرمزي العربي من ذلك قصيدة مرسلة للأستاذ ألبير أديب بعنوان حياتنا.. يقول فيها:
حياتنا شباب وفكر أخضر
وعواطف من عمل الربيع
وقلوب من ندى الفجر
نجمعها ونغسل بها أرض الأزقة
أو نروي رمال الصحراء
ثم هي ليلة وضحاها
فإذا الزوبعة تذهب بنا
فنأخذ معنا كل أحلامنا وأمانينا
ونحن على قدم من الهاوية أو أقل
مازلنا نؤسس، ونبني، ونقيم
فما أسخفنا..!
لا نجعل أيامنا ابتسامة
ونقيم علينا ربا
يعرف كيف يجعلنا نبتسم
حتى لأنفسنا
شعر فيه شفافية وفيه شيء من غموض ومن إيحاء ولكنه غير عميق، فيه شيء مما يسمى بـ "تراسل الحواس" عند الرمزيين، وصف الفكر بالاخضرار، وعواطف من عمل الربيع، وقلوب من ندى الفجر.
لذا لقي المذهب بعض الاهتمام من لدن بعض الشعراء العرب كالشاعر اللبناني سعيد عقل والكاتب المغربي محمد الصباغ, إيليا أبو ماضي وخليل جبران, كلاهما من شعراء المغرب الذين استعانوا بالرمز وتوظيف الأسطورة وشخصيات إسلامية معروفة أو جاهلية ذات شهرة وانتشار.
الخاتمة
أسرد هنا أقوال عدة عن ماهية الرمزية وحقيقتها لأقوال بعض النقاد في عصرنا الراهن"
الرمزية قضية باتت تشغل عقول كثير من الناقدين نظرا لظهور كتابات كثيرة تسيء بشكل أو آخر لمفهوم الرمز من حيث وظيفته الرئيسة التي تتمثل في الإيحاء، أي التعبير غير المباشر، عن النواحي النفسية المستترة التي لا تقوى اللغة على أدائها أو لا يراد التعبير عنها مباشرة.
يتحدث أحد الدكاترة *النقاد في العصر الحالي عن حقيقة الرمزية قائلا:" تحدث الدرس السيميولوجي عن الرمز اللغوي في الكلام ونبه إلى قيمته، فاللغة عند علماء اللغة تنقسم إلى مستويين، اللغة وهي نظام مجرد، والكلام وهو تحقق للغة، لذا فالمعتمد عليه هو الكلام، وهو قائم على النظام السيميائي، أي على وجود علامات "دوال" وهذه الدوال هي بمثابة رموز تتعارف عليها أمة اللسان الواحد، وهذه الرموز هي المفتاح التواصلي بين أفراد هذه الأمة، فحين يسمح هذا النظام بالتواصل والتفاهم بين الناس فإنه يتحقق للغة مستواها الوظيفي -المعجمي- بحيث يكون لكلّ دالّ لغوي مدلوله المحدد. ونقصد بالمستوى المعجمي أي أن الكلام لا يتجاوز الأبعاد المعجمية للدوال المتعارف عليها بين أبناء اللسان الواحد، وهو ما يطلق عليه "درجة الصفر"، إلا أن هذا لا ينطبق على المستوى الشعري، فالمستوى الشعري يجب أن يتجاوز هذه الأبعاد من خلال الإيحاء المنوط بالحدس، وحين يتجاوز الشعر هذه الأبعاد فإنه في الوقت نفسه يتجاوز الدلالات الجاهزة المألوفة بين الناس، ومن هنا كان الفرق بين الرمز اللغوي والرمز الشعري، بين الكتابة في درجة الصفر وبين الكتابة ما فوق درجة الصفر. إلا أن القضية التي يجب أن تطرح هي مدى العلاقة بين الرمز اللغوي والرمز الشعري، أي بين الدلالتين اللغوية والشعرية، فالرمز الشعري حين ينطلق في سياقه إلى مسافات دلالية من الترميز يجب عليه ألا ينبتّ عن الدلالة المعجمية أو يلغيها، لأنه يحدث قطيعة بينه وبين المتلقي ويؤدي إلى الإبهام والتعمية، ويصبح الرمز عائما فاقدا لأي خصوصية تضبط المقصدية التي يحملها، ولذا سيكون من الصعب الاطمئنان إلى تأويل الرموز في النص، وتحميلها قضايا ومواقف معينة، وإذا ما حاولنا ذلك سيكون عملنا هذا بمثابة "ليّ عُنُق النص"، لذا لا بدّ أن تظلّ العلاقة بين الدلالة المعجمية والدلالة الشعرية قائمة مهما أوغل الشاعر في الترميز، لأن الدلالة المعجمية هي الخيط الذي يقود إلى الدلالة الشعرية. فكما أن الرمز اللغوي وحده لا يقدّم شيئا، ولا يمنح نفسه زيادة أو نقصانا في الدلالة، فكذلك الرمز الشعري لا يمكنه أن يكشف عن دلالته الشعرية وهو منبتّ عن العلاقة بدلالته المعجمية، ومن هنا كان الإبهام والتعمية عند بعض الشعراء، خاصة عند شعراء قصيدة النثر، بسبب قطع العلاقة بين الدلالتين في السياق الشعري. وقد قصدت الإبهام هنا وليس الغموض، إذ إن الغموض سمة أساسية في الفن بشكل عام، ولولا الغموض الذي يفتح للمتلقي الباب على مصراعيه من التأويلات في النص الشعري الحديث، لما كان للنص أية قيمة حقيقية، لأن النص المباشر الذي يستدعي الدلالات المعجمية وحدها هو نصّ آني مستهلك. ومن جانب آخر لا بدّ للشاعر أن يشحن رمزه بالمشاعر الخاصة لموقفه الشعري. فالرمز ليس صورة دلالية ثابتة في كل السياقات الشعرية، إذ إن "الليل"، على سبيل المثال، ليس بالضرورة أن يرمز إلى الظلم والقهر... وغيرها من الدلالات التي تظهره عنصرا سلبيا، فلابدّ من شحنه بالمشاعر الخاصة والأبعاد النفسية التي تشي بهذه الدلالة في السياق الشعري "فالقوة في أيّ استخدام خاص للرمز لا تعتمد على الرمز نفسه بمقدار ما تعتمد على السياق". ولعلني أقول أخيرا إن اللغة الشعرية هي -كما قيل- عقد شراكة ولا يمكن فسخ الشراكة من طرف واحد.
والرمزيون ـ بالإضافة إلى هذا ـ يمقتون في الصورة الأدبية اللهجة البيانية الخطابية بأساليبها الواضحة المشرقة ذات المعنى الظاهر؛ لأنهم يريدون الغوص والتعمق في تصوير المعاني المستعصية على التعبير القابعة في خفايا النفس وأعماق الضمير(6)، ويرون أنه لابد من إضفاء شيء من الغموض والخفاء والإبهام على الصورة الشعرية لتتوافر أمام القارئ فرصة التأمل والتفكير؛ ليستوحي من الصورة معاني وخواطر جديدة، إذ إن الوضوح لا يترك للقارئ فرصة إعمال الذهن وكد العقل، ويزيل ما في الصورة من جمال ولذة وفائدة، بالإضافة إلى أن اللغة فيها شيء من القصور عن أن تنقل لنا المعاني المحددة والأجواء النفسية فيما لو أردنا إبرازها والتعبير عنها، على أنه لابد أن يكون في هذا الغموض والخفاء شيء من الإيحاء وانثيال الخواطر، لا أن يكونا من نوع الأحاجي والألغاز، ولعل هذا ما يعبر عنه الشاعر بول "فرلين" في قوله : "أحب شيء إليّ هو الأغنية السكرى، حيث يجتمع المحدد الواضح بالمبهم اللامحدود"، ويقول أيضاً تتمة لهذا المعنى: "الأهمية الأولى للظلال لا للألوان، كما تتراءى العيون الساحرة من خلف النقاب"، فعبر بالظلال عن الصور الشعرية الغامضة الموحية، وبالألوان عن الصور الشعرية الواضحة.
يضاف إلى ذلك أن الرمزيين يعنون بصياغة الصور الشعرية المهموسة المشوبة بالغموض، ويتأنقون في اختيار الألفاظ الموحية المشعة المصورة، بحيث توحي اللفظة بأجواء نفسية خاصة وانفعالات عاطفية رحيبة، فمثلاً لفظة الربيع توحي لك بمنظر المياه الدافقة والخضرة اليانعة والأشجار المورقة الباسقة، وتسمعك خرير الماء، وزقزقة العصافير، وتغريد البلابل، وصدح العنادل، وتشعرك بالمتعة والانبساط والارتياح وانشراح النفس ونقاوة الضمير.
ولهذا لا يسمى الشعر ـ عند الرمزيين شعراً ـ إلا إذا كان غامضاً مبهما موحيا شافا عن أجواء نفسية غريبة متنوعة.
وبعد هذا كله ربما يتبادر إلى ذهن القارئ أن الرمزية لم تظهر إلا في الشعر، والشعراء وحدهم هم الذين اهتموا بها نظراً لما فيها من الغموض الذي بطبعه يناسب الشعر، ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن الرمزية لم تقتصر علي الشعر الغنائي الذاتي فحسب، وإنما تعدته إلى الأدب الموضوعي الذي يهتم بالمشاكل الإنسانية، والأخلاق الاجتماعية العامة، تعالجها بوساطة الأخيلة والصور، ولكن يجب ألا يغرب عن البال أن الرمزية لا تأخذ نفسها في معالجة هذه المشاكل والأخلاق وتحليلها ونقدها كما في الكلاسيكية ـ مثلاً ـ بل تأخذ في تجسيم الأفكار النظرية المجردة، وإلباسها شيئاً من الحوادث والأفعال، لتصبح ديناميكية متحركة، ونلمح من خلالها الحقائق الفلسفية والخلقية.
وكثيراً ما يلجأ الرمزيون في علاج هذه الموضوعات إلى الأساطير القديمة، بل إنهم ينحون نحوها في ابتكارهم للحوادث والأعمال عند عرض أو مناقشة قضية إنسانية عامة، كما يلاحظ ذلك في القصص والمسرحيات التي ابتكرها الرمزيون من أخيلتهم كمسرحية "الأشباح" لأبسن، ومسحية "صفقة الشيطان" لجيروم، وقد مثلت الأخيرة في دار الأوبرا المصرية سنة 1945م، وتعرض المسرحية الأولى من خلال الوقائع مشكلة إنسانية لم يبت فيها أحد وهي مشكلة توارث الخطيئة، على نحو يكاد يكون عضوياً لا دخل للوعي ولا للإرادة فيه، إذ ترى في هذه المأساة أبا يفسق بخادمته ثم يرث ابنه منه هذه الخطيئة، فيهم هو الآخر بأن يفسق بخادمته على الرغم من أنه لم يعش في جو أسرته ولم يعش في جو الخطيئة، بل أرسلته أمه بعيدا عن المحيط الملوث ليتعلم ويتثقف، ولكنه هَمَّ بفعلته تلك بعد عودته، فكأنها غريزة فيه وصفة فطرية ورثها من والده لا يستطيع عنها فكاكاً.
وتصور المسرحية الثانية قضية صفقة تجارية يجريها شيخ شرير مع شاب خير، فيتبادل كل منهما روح صاحبه، ولكن كلا من الروحين لا يستقر في جسم الآخر، فكأن هناك تلازما بين الجسم والروح.
وقد أخذت الرمزية ـ كمذهب أدبي ـ تغزو الأدب العربي المعاصر، ولكن قبل أن نلم بهذه القضية يجدر بنا أن نسأل أنفسنا: هل عرف الأدب العربي القديم الرمزية ولو في شكل من الأشكال أو أسلوب من الأساليب ؟ وجواباً على هذا السؤال يقال دون تحفظ أن الأدب العربي القديم لم يعرف الرمزية كما هي عند بودلير وإدجار ألان بو، ومالارميه، ولكنه عرف الرمزية في أسلوب الكناية، وهناك علاقة وثيقة بين الرمزية الحديثة والكناية، الكناية التي نعرفها في علم البيان، وهو أحد علوم ثلاثة في البلاغة العربية، ولكن لن أدخل في تعريف الكناية لغة واصطلاحاً وعلاقة اللازمية والملزومية، والقرينة وأقسام الكناية، فكل هذا مبسوط موضح في كتب البلاغة، وإنما يعنيني أن أورد بعضا من أمثلة الكناية، لننظر إلى أي حد يمكن لها أن تكون صورا رمزية أو قريبة منها في الإيحاء، عندما أقول: "فتى رياضي" فإنني هنا أكني عنه بأنه ذو قوة وعضلات مشدودة، ولو وضعت لفظة "أرمز" بدل أكني، لاستقام المعنى واستقامت الدلالة.
وحينما يقول العربي "قلبت له ظهر المجن" ـ والمجن هو الترس الذي يستتر به المحارب من وقع السهام والرماح ـ فإن هذا التعبير رمز أو كناية عن تغير المودة. وحينما يقول الغربي "ذاب بينهم الجليد" ، فإن ذلك التعبير رمز أو كناية عن رجوع أواصر المحبة أو علاقات التعاون بعد أن كانت مقطوعة. بل إن في الكناية قسما يسمونه "الرمز"، وكثيرا ما يمثل له البيانيون بقول العرب: "فلان عريض الوسادة" ، يرمزون إلى بلاهته وبلادته، إذ يترتب على عرض الوسادة عرض القفا، ويعتقد العرب أن عريض قفا الرأس يكون ـ عادة ـ بليداً، كما أن واسع الجبين عريضه يكون ـ عادة ـ نابها ألمعيا ذكيا. وحينما يقول مالارميه "إن شفقا أبيض يبرد تحت جمجمتي" ، فإنه يكني عن المخ، ويرمز إليه، والكناية هنا عن موصوف.
فالكناية رمز يأتي في صور قصيرة موجزة، مثل هذه الأمثلة. ولم تتخذ الكناية شكلا أدبيا أو موضوعيا كما في الرمزية الحديثة، ولكنها تدل على أن الذهن العربي ولود مفكر سبق الغرب في أشياء كثيرة.
ومن ذلك قصيدة للشاعر أديب مظهر بعنوان "نشيد السكون".
وفيما يبدو أن أكثر الشعراء الشباب ينصرفون الآن إلى معالجة الشعر الرمزي، ولكن أكثر إنتاجهم من هذا الشعر يبدو مجرداً عاريا من معطيات الرمزية وتعاليمها، بل إن بعض القصائد لا يأخذ من الرمزية إلا غموضها، ولكنه في أغلب الأحايين غموض يطمس المعنى، ولا تكاد تدركه إلا إذا كان فكرك أشعة رونتجن.
ولا ريب في أن معالجة الشعر الرمزي الجيد تحتاج إلى مهارة فائقة وموهبة مسعفة وقريحة وقادة، وقبل كل شيء دراسة واعية متعمقة، وإذا لم يطبق شيء من ذلك، فسنعيش مع شعرنا الجديد في عالم مفعم بالألغاز والأحاجي والصور الشعرية الضحلة.

المصادر:
1 ـ الأدب ومذاهبه : 108 ـ 131.
2 ـ معالم النقد الأدبي : 179 ـ 182 .
3 ـ الإسلامية والمذاهب الأدبية : 113 ـ 114.
4 ـ النقد الأدبي الحديث : 419 ـ 424.
5 ـ دفاع عن البلاغة : 170 ـ 176.
6 ـ نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد : 66 ـ 71.







Give me your magic eyes
and
let me without wings fly
  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:29 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط