قراءة تحليلية لقصة /الميت/ للمبدع قصي المحمود/العراق - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: رفيف (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: الزمن الأخير (آخر رد :حسين محسن الياس)       :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :أحلام المصري)       :: لغة الضاد (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: إلى السارق مهند جابر / جهاد دويكات/ قلب.. (آخر رد :أحلام المصري)       :: لنصرة الأقصى ،، لنصرة غزة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: السير في ظل الجدار (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إجراءات فريق العمل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: بــــــــــــلا عُنْوَان / على مدار النبض 💓 (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إخــفاق (آخر رد :محمد داود العونه)       :: جبلة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: تعـديل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إنه أنـــــــا .. (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: أُمْسِيَّات لُصُوصِيَّة ! (آخر رد :محمد داود العونه)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ⚑ ⚐ هنـا الأعـلامُ والظّفَـرُ ⚑ ⚐ > ☼ بيادر فينيقية ☼

☼ بيادر فينيقية ☼ دراسات ..تحليل نقد ..حوارات ..جلسات .. سؤال و إجابة ..على جناح الود

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 10-09-2020, 11:21 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
الفرحان بوعزة
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب
إحصائية العضو








آخر مواضيعي

الفرحان بوعزة متواجد حالياً


افتراضي قراءة تحليلية لقصة /الميت/ للمبدع قصي المحمود/العراق

40 ــــ قصة : الميت/ قصي المحمود/ العراق
قراءة تحليلية لقصة /الميت/ للمبدع قصي المحمود/العراق
تحت عنوان: جمالية التلقي بين الأثر التخييلي والأثر الواقعي
القصة
شعر بضيق في صدره..أنفاسه تختنق. نهض ليذهب إلى غرفته مسترخيا.. أسرعت زوجته ترتب سريره..غــفا قليلا.. نهض بعد أن شعر أن قلبه هدأ، خرج إلى حديقة الدار.. فجأة وجد شقيقه المتوفى يدخل وخلفه والداه.. فتح ذراعيه مندهشاً فرحاً..........لا أسألكم كيف أتيتم وأنتم متوفون..المهم عدتم.... أجابه..لم نأتِ إليك..أنت من أتيت إلينا.. التفت إلى الدار..وعاد يلتفت إليهم وهو لا يستوعب ذلك؟..وعائلتي..... أجابه..إنهم مشغولون بالبكاء عليك ونحن فرحون أنت بينا.
1 ـــ العنوان علامة لغوية
جاء عنوان القصة /الميت/ كلمة مفردة معرفة ب"أل"، دالة على شخصية معينة ومحددة. وعادة، أن المبدعون يفضلون العناوين النكرة، لأنها تفسح مجال الخيال والتأويل واسعا بلا تحديد.
فالعنوان "الميت" له وظيفة انفعالية، لما لها من تأثير على نفسية القارئ، فكلما تأمل القارئ العنوان، كلما أحس أن هناك انفصالا عن الحياة حدث لشخص ما..فالميت هو من فارق الحياة، فحدث الموت قد يثير عدة تساؤلات لا نلقى لها إجابات إلا مع نهاية العمل القصصي.
يقول الدكتور جميل حمداوي" فالعنوان يثير شهية القارئ للقراءة أكثر، من خلال تراكم علامات الاستفهام في ذهنه، والتي بالطبع سببها الأول هو العنوان، فيضطر إلى دخول عالم النص بحثا عن إجابات لتلك التساؤلات بغية إسقاطها على العنوان" (1)
ومن بين هذه الأسئلة التي قد يطرحها القارئ قبل الولوج إلى عالم النص: هل مات البطل ميتة طبيعية؟ هل كان مسؤولا عن موته؟ هل مات على فراشه بصورة طبيعيّة؟ هل قتل؟ هل مات غريقا؟ أو ما شابه ذلك؟ كم كان عمره لما مات؟ هل مات بسبب المرض أو الجوع؟ وهل العنوان الظاهر "الميت" دال على مضمون النص وما يحتويه من دلالات؟ وما طبيعة العلاقة الموجودة بين العنوان والنص؟ أهي علاقة كلية أو جزئية؟ كل هذه الأسئلة هي تأويلات وتوقعات، يمكن للقارئ أن يتخلى عن بعضها، أو يعززها أثناء تحليل باطن النص ومحتواه.
يقول جيرار فينييه: "إن العنوان و النص يشكلان بنية معادلة كبرى، فالعنوان هو النص" ويعلق الدكتور جميل حمداوي على هذا التعريف المختصر بقوله: "فالعنوان عند جيرار بنية رحمية، تولد معظم دلالات النص، فإذا كان النص هو المولود، فان العنوان هو المولد الفعلي لتشابكات النص، و مجمل أبعاده الفكرية والإيديولوجية"
تفكيك خطاب النص
فانطلاقا من أن النص فضاء ممتد من الجمل السردية والفقرات والمقاطع والمتواليات السردية المترابطة من حيث الشكل والوظيفة، يمكن تفكيك النص بناء على استعمال تقنية التقطيع النصي إلى مقاطع دلالية، وبناء على أن المقطع له بداية ونهاية وفق الدلالة اللغوية.
المقطع الأول: شعر بضيق في صدره..أنفاسه تختنق. نهض ليذهب إلى غرفته مسترخيا.. أسرعت زوجته ترتب سريره..غــفا قليلا../
المقطع الثاني: نهض بعد أن شعر أن قلبه هدأ، خرج إلى حديقة الدار../
المقطع الثالث: فجأة وجد شقيقه المتوفى يدخل وخلفه والداه../
المقطع الرابع: فتح ذراعيه مندهشاً فرحاً..........لا أسألكم كيف أتيتم وأنتم متوفون..المهم عدتم..../
المقطع الخامس: أجابه..لم نأتِ إليك..أنت من أتيت إلينا..
المقطع السادس: التفت إلى الدار..وعاد يلتفت إليهم وهو لا يستوعب ذلك؟..وعائلتي...../
المقطع السابع: أجابه..إنهم مشغولون بالبكاء عليك ونحن فرحون أنت بينا.
ــ المقطع الأول/ شعر بضيق في صدره..أنفاسه تختنق. نهض ليذهب إلى غرفته مسترخيا.. أسرعت زوجته ترتب سريره..غــفا قليلا../
ا ـــــ شعر بضيق في صدره.. أنفاسه تختنق../ يتبين من خلال هذه الجملة السردية، أن السارد يخبر القارئ بحالة طارئة لشخصية القصة، دون التركيز على المظهر الخارجي لها. فالفعل "شعر" يدل على أن حدث ضيق الصدر، جرى في زمن مضى، وهي حالة لم تعد ثابتة، بل تطورت وتعقدت، فانتقلت سريعا نحو حالة أخرى، تجلت في اختناق الأنفاس، مما خلق توترا وانفعالا في مخيلة القارئ. وهو يتخيل صورة البطل، وهو في حالة جديدة حاضرة أمام المتلقي، تم تشخيصها بالفعل المضارع "تختنق" كحالة تجري في الزمن الحاضر، تتجلى في دوام الفعل، أي دوام "اختناق الأنفاس".
فالسارد التقط موقفا من الحياة كبداية لقصته، وهي تبدو أنها حالة نمطية متكررة، ولكن الاختلاف يكمن في أن هناك خللا ما، يحدث أثناء وقوع الحدث، مما أدى إلى إحداث توتر أو إخلال بالتوازن في حياة الشخصية، فالسارد جعل القارئ أن يشعر بالتوتر والقلق منذ بداية الجملة الافتتاحية للقصة. وكلما كانت بداية القصة مؤثرة ومدهشة كلما حفزت القارئ إلى مواصلة القراءة.
فالبداية لم تقل كل شيء، حيث يلاحظ خلوها من أي تركيز على شخصية معينة، ففي الجملة السردية لا شيء غير الحالة التي استجدت في حياة البطل، دون أن يعلل السارد سبب ضيق الصدر الذي أدي إلى اختناق الأنفاس، وهي فجوة سكت عنها السارد ليجر القارئ للتساؤل من جديد. ما هو سبب ضيق الصدر المفاجئ؟ هل كان البطل يشكو من أعراض مرضية سابقة؟ هل يعاني من مرض معين؟هل يعاني من مرض الربو؟ هل نسي تناول دوائه؟ هل هي حالة نفسية مقلقة؟ هل الحالة تدل على قرب الأجل؟ أسئلة بقيت كفجوات تضمر عدة دلالات مسكوت عنها. وهي محفزة للقارئ للدخول في جدال مع الكاتب، سواء رفضها الكاتب أو أيد البعض منها.
ب ــــ نهض ليذهب إلى غرفته مسترخيا../ فالحدث لم يبق محصورا في ضيق الصدر، واختناق الأنفاس، بل تطور نحو التأزم والتعقيد، مما يعطي فاعلية وحيوية في نمو الحدث. فهناك تسلسل في الأحداث وصولا إلى نتيجة النهوض، وذهاب البطل إلى غرفته وهو في حالة متعبة ومحرجة.
عمد السارد على تسلسل الأحداث الجزئية، والتي جاءت مترابطة بزمن قصير فاصل بين /ضيق الصدر/اختناق الأنفاس/ النهوض/ الذهاب إلى الغرفة/. تلك الأحداث الجزئية أدت إلى حالة متأزمة أكثر. فكلمة "مسترخيا" تبين صورة البطل وهو لا يقدر على المشي، وقد أخذ منه التعب كمؤشر قوي على انهيار تام لصحة البطل بشكل مفاجئ. هناك تغيير على مستوى المكان. فقبل بداية الحدث، كان البطل يتحرك في مكان أوسع/ فضاء المنزل/ ولما دخل غرفته، أصبح فضاء الحدث ثابتا في مكان ضيق. /الغرفة/
ج ـــ أسرعت زوجته ترتب سريره../ فحالة البطل استدعت تدخل الزوجة كمساعد، وهي لا تقل أهمية من الشخصية الرئيسة، فالسارد لم يحدد زمن وقوع الحدث، ورغم أنه لم يصرح بالمكان الذي وقع فيه الحدث، فإنه محدد ضمنيا عن طريق الإشارة اللغوية "السرير".
فشخصية الزوج لم يكن متفردا في الأحداث الجزئية، إذ ظهر فعل الزوجة، وتحركها محصور في إعداد السرير له. فلم تساهم في تطور الحدث. لكن دورها قد يساعد على تقوية الصورة العامة للأسرة، فهي حاضرة وشاهدة، وهي حافظة سر البطل،. ويمكن اعتبارها شخصية جانبية غير مؤثرة في أحداث القصة.
د ـــ غــفا قليلا../ فالفعل "غفا" يشكل صورة لغفوة عابرة لم تدم طويلا. فحالة "الغفوة" جزئية جعلت صورة هذه الشخصية تكتمل في ذهن القارئ، يمكن اعتبارها كمشهد، كلقطة، كلوحة، كمقطع منتزع من فيلم سينمائي.
وإذا قمنا بجمع الجزئيات المكونة لهذا المقطع السردي الإخباري، فإننا نجد الشخصية الرئيسية "الزوج" هو الذي تزعم اللعبة السردية، فعمل على تطور الحدث، من بداية زمن الشعور بضيق الصدر إلى زمن الغفوة، ويمكن أن نتابع صفة الفاعلية النابضة في كل حركة قام بها البطل : شعر بضيق في صدره../ نهض ليذهب إلى غرفته/ غــفا قليلا../
المقطع الثاني / نهض بعد أن شعر أن قلبه هدأ، خرج إلى حديقة الدار../ فحالة الغفوة لم تستمر زمنا طويلا، والسبب هو الإحساس بهدوء قلبه، فلماذا لم يسند السارد الهدوء للصدر أو للأنفاس؟ هناك تحول على مستوى المعنى في القصة، تجنبا للتكرار وإبعاد الملل عن القارئ، فالسارد يخبرنا من جديد ضمنيا، أن سبب ضيق الصدر واختناق الأنفاس، هو إحساس القلب بشيء ما، سوف يحدث كنوع من الاستشراف والتنبؤ، هذا التحول في التعبير هو محفز للقارئ أن يشارك البطل في تكهن الحدث الآتي ، فهو ينتظر ويترقب ما سيحدث بتشوق عبر مسار سرد القصة.
فالنهوض من الفراش، وهدوء القلب، والشعور بالراحة، كان محفزا لخروج البطل إلى حديقة الدار، وهو انفراج جزئي لأزمة البطل الصحية الطارئة، فاختار السارد حديقة الدار كفضاء أوسع من الغرفة التي كان البطل فيها، ليتسنى له أن يرسم بلغته صورة اللقاء بشقيقه ووالديه.
المقطع الثالث: فجأة وجد شقيقه المتوفى يدخل وخلفه والداه../ كلمة "فجأة" عملت على انحراف مسار العمل القصصي، فأصبح منفتحا على شخصيات أخرى فاعلة في تطور الحدث، والعمل على نموه، إما بالعمل على تعقيده، أو العمل على انفراج الضيق الذي أحس به البطل من قبل. فالفعل "وجد" له دلالات محتملة تنبه القارئ إلى أن زمن حضور الشقيق والوالدين، كان متزامنا لزمن خروج البطل إلى الحديقة. كأنهم كانوا جميعا على موعد...مما يحفز القارئ أن يتساءل: هل كان البطل يتصور أنه سوف يجتمع بأخيه ووالديه في الحديقة؟ هل كان حضورهما في خياله هو من سبب له الإزعاج؟ هل حدث حضور الأموات واقعيا أم متخيلا؟ هل يعتبر حضور الأموات والتحدث معهم هو علامة من علامات قرب الأجل؟ فالمفارقة الغريبة أن البطل لم ينزعج لما رأى الأخ والوالدين، والسؤال المثير في الحدث هو: لماذا كان الأخ يتقدم على الولدين في الدخول؟ وهل كانت الزوجة مصاحبة للزوج؟ أم غيبها السارد عنوة؟ فالقصة القصيرة جدا لا تحتمل هذه التفاسير والزيادات الإضافية.
لقد كان حدث اللقاء مفاجئا للقارئ، مما يثير شهية العديد من التساؤلات التي ربما لم يجد لها إجابة إلا مع نهاية القصة، والتي بالطبع سببها هذا اللقاء المفاجئ بين من هو ميت، ومن هو حي. فالقارئ يضطر للبحث عن الدلالات المضمرة في الجملة السردية السابقة/ فجأة وجد شقيقه المتوفى يدخل وخلفه والداه../ بحثا عن إجابات بغية إسقاطها على حالة اللقاء المتخيل والذي قد لا يقع في الواقع.
فالقارئ يبقى مشككا في هذا اللقاء، وقد يبني تصورات جديدة، فقد يعتقد أن البطل سوف يهرب أو يختفي خوفا من حضور الأخ والوالدين..وقد يأخذه العجب والاستغراب، معتبرا أن حادث لقاء الحي بالميت هو من الوقائع الغيبية. فقد اختلط على القارئ الخيال والواقع، والتصور بالحقيقة، حينما شاهد البطل أخاه يتقدم على الوالدين نحوه، مشهد رسمه السارد بلغة بسيطة، لكن دلالاته المضمرة محيرة ومستفزة للقارئ. فما الغاية من تقديم الأخ على الوالدين؟ ولعل الكاتب نظر في الآية الكريمة التي يقول فيها الله تعالى( يَومَ يَفرّ المَرء من أَخيه وَأمّه وَأَبيه وَصَاحبَته وَبَنيه لكلّ امرئ منهم يَومَئذ شَأنٌ يغنيه) سورة عبس/الآية:34/37. يقول أحد المفسرين :" فابتدئ بالأخ لشدة اتصاله بأخيه من زمن الصبا، فينشأ بذلك إلف بينهما يستمر طول الحياة ، ثم ارتُقي من الأخ إلى الأبوين وهما أشد قرباً لابْنيهما".
ورغم أن الاختلاق كبير بين الصورة الموجودة في القصة الأدبية، والصورة القرآنية التي يوجد عليها الإنسان وعائلته يوم الحساب، فإن هناك مشابهة في التقديم والتأخير بين أفراد الأسرة. فالبطل لم يهرب من أخيه، لأنه كان قريبا منه في الحياة الدنيا.
المقطع الرابع: فتح ذراعيه مندهشا فرحا..........لا أسألكم كيف أتيتم وأنتم متوفون..المهم عدتم..../
أ ــــ فتح ذراعيه مندهشا فرحا........../ صورة معبرة رسمها السارد تدل على الحنين المفقود، والغياب المستمر والدائم، مشهد يحمل في طياته دلالات عميقة مغيبة، ناتجة عن فرحة اللقاء. فاستعان السارد بنقط الحذف الكثيرة، وقد تصل إلى عشر نقط ، تدل على أن كلاما طويلا جرى بين الأخ والبطل، فكأن السارد يشوق القارئ إلى تعويض البياض المتروك في آخر الجملة. والتساؤل عن مضمون الحوار الذي جرى بينهما؟ كيف عدتم للحياة؟ ماذا وجدتم هناك بعد الموت؟ هل هناك حياة بعد الموت؟ هل تحملان رسالة إلي؟ ...ولكي يختزل السارد الكلام، أعطى الكلمة للبطل ليكشف عن نفسه وفكره وموقفه، معتمدا في ذلك على الأسلوب الحر المباشر، الذي يترك للشخصية أن تقدم نفسها بنفسها، وتفصح عما تريده، وتقول ما تشاء.
ب ـــ لا أسألكم كيف أتيتم وأنتم متوفون..المهم عدتم..../ فالبطل يعرف جيدا الهدف من مجيئهم،عن طريق الحدس والإحساس والشعور، وهذا ما كان يؤرقه، وما شعر به في بداية القصة. فكان جواب أخيه مختزلا وسريعا في المقطع التالي.
المقطع الخامس: أجابه..لم نأتِ إليك..أنت من أتيت إلينا../ حوار يجري بين الأخ والبطل، حوار صامت بين البطل ونفسه، منتزع من ذاكرته، مولد من التخيل المبني على الماضي، فكانت لحظة استحضار الأخ والأم والأب مفاجأة له. فرأى، وتصور، ثم فكر وقدر، فتخيل أن الأسرة تدعوه لالتحاق به، فخاب ظنه عندما قال أخوه :"أنت من أتيت إلينا".أي أنك قريب على اللحاق بنا. إنه نوع من الحدس العميق، واستشراف حدث الموت القريب، كشعور حي يعيش مع الإنسان، فيتخيل دوما أن أجله قريب منه.
من خلال هذا الجواب تكون القصة قد اقتربت من نهايتها، فيدرك القارئ على الفور سبب توتر وانفعال البطل في بداية القصة. فيكون لزاما عليه أن يعيد القراءة لما سبق، ويتخلى عن بعض التوقعات التي طرحها في السابق، ويعزز ما يناسب اللحظة الحرجة للبطل.
المقطع السادس: التفت إلى الدار.. وعاد يلتفت إليهم وهو لا يستوعب ذلك؟..وعائلتي...../
فالسارد اتبع أسلوبا غير مباشر للقول، فاختلط كلامه بكلام شخصية القصة./ وعائلتي...../ مشهد يؤشر على ساعة الحسم في أخذ القرار، إما اللحاق بهم، أو إعطائه مهلة للتفكير، فسقط البطل في حيرة، فأصبح قلبه موزعا بين الرفض والقبول، حيرة تجسدت عن طريق اللغة المنتقاة بعناية، فخلقت حالة من الارتباك والتشتت الذهني والفكري، فاكتفى في توزيع نظره بين داره، والعائلة... وبين أهله المنبعثين من الماضي. صورة مؤثرة، تهز القلوب، وتدخل الإنسان/ القارئ في دوامة القلق والفزع، والحيرة في الاختيار، الدنيا أم الآخرة. فهل يفر الأخ من أخيه؟ أم لكل امرئ شأن يشغله؟
جملة سردية تشخص حالة التشظي وانقسام رغبة النفس في اللحظة الحرجة. كما أنها تضمر كلاما كثيرا، من قبيل، وأولادي، وبيتي، وأهلي، ومالي، ، و...و...فلقاء البطل بالأسرة جرى عن طريق التخيل والتصو، كأن البطل يستحضر ساعة الفراق، ساعة الاحتضار، وبعدها يكون الموت. وهذا القول يعزز الجملة السردية التي تدل على صدق الأخ لما قال" لم نأتِ إليك..أنت من أتيت إلينا../ فالبطل تخيل أن ثانية، دقيقة تفصله عن الموت، وهو يناقش نفسه وفكره ساعة فراق عياله وداره، وكأنه يتصور جنازته، مخلفا وراءه البكاء. ولما يلتحق بأخيه ووالديه تعم الفرحة بينهم جميعا. فالسارد عرف كيف يجري ذاك الحوار الداخلي للبطل، مع تكييف الصيغة لوصف حالة الفراق والوداع النهائي للحياة الدنيوية. فعوض السارد السرد بالحوار كخدعة، يوهم القارئ فيها، بأن حدث اللقاء جرى في الواقع بدل التوهم والخيال.
المقطع السابع: أجابه..إنهم مشغولون بالبكاء عليك ونحن فرحون أنت بينا./ جواب الأخ الشقيق مقنع من ناحية بكاء الأهل عليه، أما من ناحية أخرى. فهل فرحهم به مضمون لكي يكون معهم؟ رغم أن الفرح دال على عيشهم في السعادة.
نهاية القصة
نهاية لم يكن البطل فاعلا فيها، نهاية تعتمد على مفارقة ضدية تتجلى في التباعد بين حالة الفرح وحالة البكاء. فالبكاء يقام في الحياة الدنيا، والفرح يقام في الحياة الأخرى. وما أن يصل القارئ إلى النهاية، يتوقف قليلا ليتساءل مع نفسه: البكاء على الميت قريب من الواقع، لكن فرح الأخ والأبوين يبقى أملا ورجاء أن يكون بينهما. فكيف علم الأخ الشقيق أن أخاه البطل سوف يكون معهما؟
فقصة "الميت لها نهاية مفتوحة، فما أن يبتعد القارئ عن القصة، يتمنى من قلبه أن يلتحق بطل القصة بأخيه ووالديه لما يموت، وفي نفس الوقت يبقى تفكيره مرتبطا بحدث حضور الأموات للتكلم مع فرد من الأسرة ما زال حيا. ولا يهدأ بال القارئ ولا يرتاح فكره، وهو يتخيل مصير البطل وهو ينقاد لدعوة أخيه بسهولة. ولا يتهيأ للهروب، فيرجع القارئ لنفسه، ويتساءل: ألا يمكن أن يكون مصيري في يوم من الأيام مشابها لبطل القصة؟
البناء الفني للقصة
اختار الكاتب الجمل ذات الفواصل القصيرة، والجمل البسيطة من حيث البنية التركيبية. كما أنه أكثر من نقط الحذف التي تدل على بلاغة الإضمار والصمت، بدلا من بلاغة الكشف والبوح الذي نجده في الأجناس الأدبية الأخرى. وذلك من أجل جر القارئ للدخول معه في جدلية النقاش والحوار والتواصل.
يقول الدكتور جميل حمداوي "وهكذا، يستعمل كاتب القصة القصيرة جدا تقنية الحذف والإضمار، من أجل التواصل مع المتلقي، قصد دفعه إلى تشغيل مخيلته وعقله، لملء الفراغات البيضاء، وتأويل ما يمكن تأويله؛ لأن توضيح دلالات المضامين ومقصدياتها، لا يمكن توضيحها أكثر من اللازم. ويستعين الكاتب غالبا بالإيجاز والحذف، وذلك لدواع سياسية، واجتماعية، وأخلاقية، ولعبية، وفنية، وأخلاقية"(2)
فعلى المستوى البصري للنص، نجد الكاتب اعتمد على فضاء متقطع في مقطوعات ومتواليات سردية متجزئة، لتشكل وحدة منسجمة ومتسقة تفاجئ القارئ، ومن هنا كان تفكيك النص على المقاطع، حسب دلالة كل مقطع سردي وخبري ووصفي وتفسيري.... فالبطل يجد نفسه يعيش لحظات بين عوالم متسقة تتأرجح بين الواقع والمتخيل، بين الحلم واستحضار الماضي، بين الممكن وغير الممكن.
كما أكثر الكاتب من الجمل الفعلية التي تسهم في تفعيل الحدث وتطوره،/شعر/نهض/ أسرعت/غفا/ نهض/شعر/ هدأ/ خرج/ وجد/فتح/أتيت/ التفت/ عاد/أجاب/ والتي تدل على الحركة والحيوية والانتقال، والتغيير، والوصف المتحرك، وبناء المشهد، وتشكيل الصورة... فمن خلال تتابعها في القصة، فإن لهذه الأفعال الماضية فاعلية في الإخبار عن أحداث جرت في الزمن الماضي.
بناء وتركيب
لقد كان استشعار البطل نابعا من عمق النفس، وصدق في الإحساس، حالة تشكلت على التوقع واستشراف المستقبل المتعلق بحياة الإنسان ولحظة موته. وكثير من الناس لا يصلون إلى جواب عن أسئلة تبقى في علم الغيب: كم بقي له من الأيام يعيشها؟ متى يموت؟ وفي أي أرض يموت؟... فالكاتب خرق المألوف، وجدد نمط التفكير في الموت، بعدما تم استحضار الأخ والوالدين/ الأموات يطلبون من البطل أن يلتحق بهم، أو سوف يلتحق بهم عما قريب طوعا أو كرها. ومن تم خلق السارد حالة من القلق والفزع والترقب، بتشكيل صورة البطل وهو يعيش داخل إرهاصات مقلقة، في البداية لم تكن واضحة. فضيق الصدر، واختناق النفس، والتعب. هي إرهاصات لحدث ما. وهي وضعية مقلقة نتج عنها غفوة سريعة. وضعية تحولت إلى حالة الترقب والانتظار رغم هدوء قلبه واستبدال المكان من الغرفة إلى الحديقة. اختار السارد الفضاء الفسيح لتغيير دفة السرد"الحديقة" نحو حدث أكبر، ليتمكن من تخيل حدث اللقاء بين البطل والأموات الذين غادروا الدنيا في زمن غير محدد، فحضور الأخ الشقيق والوالدين هو حضور تخييلي، فصورة الأخ والوالدين انسلت من ذاكرة الماضي، فظهرت في الذهن والفكر والشعور كصورة واقعية..
فرؤية أخيه ووالديه هي صورة منتزعة من الماضي كما قلت سابقا، فرغم بعد زمن موتهما، جاءوا يبشرانه بالرحيل القريب، فرغم تيقن البطل أن الأموات لا يعودون إلى الحياة الدنيوية، فإنهم يعودون كإحساس وشعور كأنهم ما زالوا يعيشون بيننا.. هي زيارة فكرية وذهنية وتخيلية كعلامة من علامات دنو الأجل أو التذكير بالرحيل. وهي مفارقة عززت مكانة النص أدبيا وفكريا وحسيا، مفارقة غريبة تنسجم مع كل إنسان يشغله حادث الموت، فرؤية الأموات والتحدث معهم تبقى قضية وإشكالية معقدة، يتنازع عليها التخيل والحلم واليقظة.... لأنها داخلة في علم الغيب.
حوار هادئ مبني على التأني والتروي في الكشف عن حقيقتين متضادتين هما: البكاء والفرح. بكاء العائلة وفرح الأب والأم والأخ. حوار أطاله السارد شيئا ما نظرا لصعوبة تقبل الحدث. إطالة لا تضر بهذه القصة القصيرة جدا الشيقة، والتي جاءت منحوتة من فكرة غير مألوفة، قصة محزنة وملفتة للنظر. قصة عملت على إثارة قضية إنسانية واجتماعية تمس الحياة والموت،غياب الأموات وحضورهم في الفكروالذهن والتخيل، عوامل لعب الإحساس والشعور والإرهاص دورا كبيرا فيها.
1 ـــ الدكتور جميل حمداوي / السيميوطيقا والعنونة/ مجلة عالم الفكر /وزارة الثقافة /الكويت/ العدد /المجلد 25/1997/ص/97
2 ــــ الدكتور جميل حمداوي/أركان القصة القصيرة جدا ومكوناتها الداخلية / صحيفة المثقف/العدد/5117






  رد مع اقتباس
/
قديم 17-09-2020, 11:22 AM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
عبير محمد
الإدارة العليا
عضو تجمع الأدب والإبداع
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
مصر

الصورة الرمزية عبير محمد

افتراضي رد: قراءة تحليلية لقصة /الميت/ للمبدع قصي المحمود/العراق

قراءاتك الواعية تجبرنا دائما على الابحار بين امواجها
بوركت وجهدك المائز اديبنا القدير
لك ولاديبنا الوارف القصي
كل الود والتقدير والاحترام








"سأظل أنا كما أريد أن أكون ؛
نصف وزني" كبرياء " ؛ والنصف الآخر .. قصّـة لا يفهمها أحد ..!!"
  رد مع اقتباس
/
قديم 18-09-2020, 11:16 PM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
فاطمة الزهراء العلوي
عضو أكاديميّة الفينيق
نورسة حرة
تحمل أوسمة الأكاديمية للعطاء والإبداع
عضو لجان تحكيم مسابقات الأكاديمية
المغرب
افتراضي رد: قراءة تحليلية لقصة /الميت/ للمبدع قصي المحمود/العراق

يستحق ابن الرافدين كل خير
هنيئا لك مبدعنا قصي
وتحيات كثيرة وامتنان لأستاذنا السي بوعزة






الزهراء الفيلالية
  رد مع اقتباس
/
قديم 28-09-2020, 04:42 AM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
أحلام المصري
الإدارة العليا
شجرة الدرّ
عضو لجنة تحكيم مسابقات الأكاديمية
عضوة تجمع أدباء الرسالة
تحمل صولجان الومضة الحكائية 2013
تحمل أوسمة الاكاديمية للابداع والعطاء
مصر

الصورة الرمزية أحلام المصري

افتراضي رد: قراءة تحليلية لقصة /الميت/ للمبدع قصي المحمود/العراق

القدير الفرحان بوعزة
قراءة بل دراسة كاملة و متكاملة ،يستفيد منها دارسو الأدب و كذلك محبوه و رواده
شكرا لك على هذا الجهد
و التحية للأستاذ قصي المحمود صاحب النص


احترامي






،، أنـــ الأحلام ـــــا ،،

  رد مع اقتباس
/
قديم 29-09-2020, 02:30 PM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
زياد السعودي
الإدارة العليا
مدير عام دار العنقاء للنشر والتوزيع
رئيس التجمع العربي للأدب والإبداع
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو رابطة الكتاب الاردنيين
عضو الهيئة التاسيسية للمنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني
الاردن

الصورة الرمزية زياد السعودي

افتراضي رد: قراءة تحليلية لقصة /الميت/ للمبدع قصي المحمود/العراق

الفرحان بو عزة
وضوء الخبير
على اوراق المبدع القصي

لكما الود






  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:53 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط