لِنَعْكِسَ بّياضَنا | |
« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر » |
|
⊱ مَطْويّات⊰ للنصوص اللاتفاعلية .. |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
21-02-2014, 10:18 AM | رقم المشاركة : 1 | ||||
|
خرائط
خرائط
يصفف أقلامه و أوراقه الشفافة ، يبسطها على المنضدة وبقربه كوب القهوة الساخن ، متدثرا بمعطفه السميك تاركا قلبي لجليد الأسئلة . يجيد رسم خرائطه ، يخلق الحيوات من المنحنيات والخطوط المستقيمة ، في أصابعه إكسير اللون ، أراني في مساحاته المرسومة هنا وهناك ، صحارى و غابات ، جبال و وديان ، تلال وسفوح ، سماوات ..و مسطحات مائية . يَصر قلمه على الورق الصقيل ، المنيع ، الشفاف و المعتم ، وكل أوراقه حية لها أعين و آذان و أفئدة .. أنا الميتة الوحيدة ، المتصحرة القلب ، العطشى لقطرة ماء نقية . هذه المرة مللت من مراقبته ، ألقيت سؤالي : " ألا تمل رسم الخرائط ؟" تعلق شفتاه نصف ابتسامة ، تعز كلماته و تبقى عيناه الجادتان على طُرق الخرائط الطويلة . قمت من مكاني / موتي ، العطش يشتد بي رغم البرد ، أسكب لي من الصنبور الباهت ماء باهتا ، تختطفني نظرة من المرآة الأقرب ، أقترب منها ، أقترب أكثر ، أشعر -كما يقول لي - أن لوني يبهت. قلت له مرة : " لم يبهت لوني أبدا ، لكن عينيك اعتادت مزج الألوان وظلالها ، فاكتظت بالزهو " صمت .. عاودت رمي غيظي : " وليس لأنك تبرع في رسم الخرائط ، تتهمني بتضييع الدرب " هز رأسه بالنفي : " ما من أحد يبرع في رسم الخرائط ، أنني فقط أحاول أن أتقن مسك البوصلة " نفخت في الهواء ، كان نفخي باهتا . لوني يبهت فعلا ، المرايا لا تكذب ، ربما تكذب أعيننا ، أو تخلط الاشتهاءات و الأمنيات بصدق الصور ، ربما تخدعنا ذرات زيف على وجهها الصقيل .. لكنها لا تكذب أبدا . تغضبني الصورة ، أرمي المرآة بكوب الماء ، تنكسر المرآة و ينكسر قلبي . أتركه و خرائطَه ، أجرّ وحدتي و خوفي ، أعتصم في غرفتي ، أغلق بابي و هاتفي ، تحاصرني صورتي و الأسئلة و رغابي الجُرد . أستلقي على الأرض ، السقف يحجب بوح السماء ، البلاط يستحيل لطين ، لا أكترث ، لم أعد أكترث ، لقد تهت فعلا وضاع الطريق . يطرق بابي طرقا حنونا ، يدخل ، أشيح بوجهي ، أقول له : " لا تضغط علي ، لن تستلبني .. لا تعجبني هذه الخرائط أبدا " يتجه إلى الشرفة يشرعها لهواء نقي ، يردد: " لك الخيار طبعا ، ولكن افتحي النوافذ " يخرج من الغرفة ، أغمض عيني لأغيب في حضرة ذكرى لذيذة. كنت في الرابعة ، و كنت أعرف أن أمي تخرج كل صباح من بيتنا سيرا إلى الجمعية القريبة ، تؤمن احتياجات المعيشة اليومية ثم تعود محملة بالأكياس و لا تنسى حلواي المفضلة ، حين كانت تخرج من الباب ، كنت أضع كرسيا تحت قدمي لأرتفع فأراها من النافذة ، أتسلى بإحصاء خطواتها إلى أن تذوب في رحابة الطريق، تلك السنة اشتد الغبار ، وكان لابد أن يأخذها أبي في رحلة علاج خارج هذا الجو المربك لرئتها الوحيدة ، فصار الصبح مملا دون رحلة التأمل الجميل عبر النافذة .. طلبت من الخادمة أن تأخذني لشراء الحلوى ، أخي ، جدتي ، كلهم سوفوني لوقت لاحق لم يأت . فقررت أمرا ! فتحت باب بيت حصالتي الصغيرة ، و انتعلت حذائي اللامع ، وتسللت إلى الطريق الذي تسلكه أمي ، حتى صار البيت خلفي تماما . سرت ، و لم أجد الجمعية ، وبدأت أفقد طريق العودة أيضا ، وقفت في مكاني في ذلك الضحى الجهم ، تحجم عني السيارات ، و تتلصص علي القطط الشاردة ، تصاعد طعم ملح غريب في فمي ، وبدأت تغيم الصور . انعطفت جهتي سيارة ما ، لا أذكر وجه السائق و لا لحن صوته ، فقط أتذكر أني ركبت في المقعد الخلفي ، وتشاغلت بالنظر إلى سجادة حمراء كانت تنام تحت رجلي ، ولما رفعت رأسي ، كنتُ عند باب منزلنا تماما . يوقظني الآن صوته ، يقرأ : " بك عرفتك ..و أنت دللتني عليك " من يفتح لي مغاليق الخرائط ؟و ينتشلني من رحلة التيه ؟ أقوم من ضجيج الذكرى ، أزحف ببطء إليه ، تتناسل خطوطه و ألوانه ، يحرر ابتسامة كاملة ، يقول لي : " تبدين معافاة مشرقة " أتأمل الخرائط ، أسمعها تناديني ، أقرؤها أربعين صباحا ، أمسك قلما لأخط الخط الأول . |
||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|