الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل* - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: صلّى عليك الله يا علم الهدى.. (آخر رد :جهاد بدران)       :: ثلاثون فجرا 1445ه‍ 🌤🏜 (آخر رد :راحيل الأيسر)       :: أُنْثَى بِرَائِحَةِ اَلنَّدَى ! (آخر رد :دوريس سمعان)       :: تراتيل عاشـقة .. على رصيف الهذيان (آخر رد :دوريس سمعان)       :: هل امتشقتني؟ (آخر رد :محمود قباجة)       :: ،، الظـــــــــــــــلّ // أحلام المصري ،، (آخر رد :محمود قباجة)       :: فارسة الأحلام (آخر رد :محمود قباجة)       :: تعـديل (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: بَغْيٌ وَشَيْطَانَانِ (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: وَأَحْتَرِقُ! (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: شاعر .. (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: أحـــــــــزان! // أحلام المصري (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: ما زال قلبي يخفق (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: مملكة الشعر الخالدة (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: افطار ودعاء (آخر رد :فاتي الزروالي)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ⚑ ⚐ هنـا الأعـلامُ والظّفَـرُ ⚑ ⚐ > ☼ بيادر فينيقية ☼

☼ بيادر فينيقية ☼ دراسات ..تحليل نقد ..حوارات ..جلسات .. سؤال و إجابة ..على جناح الود

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 03-08-2011, 10:00 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*



تعودنا أن نضع نصاً تحت الضوء
ومن خلاله نشتغل
هنا ووفاءً لتجربةٍ فذّة
سنستميح روح الفينيق الشاعر
يوسف الخطيب
لنضعه تحت الضوء
إذ به يليق الضوء




الراحل يوسف الخطيب
--------------------------


شاعر فلسطيني من أبرز شعراء القرن العشرين. وعضو في المجلس الوطني الفلسطيني منذ عام 1968، إضافة إلى عمله في مجالي الإذاعة والنشر.

لمحة بيوغرافية
----------------


ولد يوسف الخطيب في بلدة دورا قضاء مدينة الخليل الفلسطينية عام 1931. تلقى تعليمه الابتدائي في مدارسها، ثم انتقل ليكمل دراسته الثانوية في مدينة الخليل، ثم عمل بعدها لفترة قصيرة في إحدى الصحف المحلية في الأردن قبل أن يتوجه إلى دمشق سنة 1951 حيث التحق بكلية الحقوق بالجامعة السورية حيث تخرج منها سنة 1955 بإجازة في الحقوق ، و دبلوم اختصاص في الحقوق العامة. وأثناء دراسته الجامعية انتسب يوسف الخطيب إلى حزب البعث العربي الاشتراكي

في سنة 1955 قام طلبة الجامعة السورية بإصدار أول ديوان من شعره بعنوان العيون الظماء للنور، وهو عنوان القصيدة التي فاز بها بالجائزة الأولى في مسابقة مجلة الآداب والتي نظمت على مستوى الوطن العربي آنذاك. عمل في الإذاعة الأردنية حتى عام 1957، حيث غادر الأردن عقب أزمة حكومة سليمان النابلسي والتحق بالعمل في الإذاعة السورية. وفي هذه الفترة أصدر ديوانه الثاني بعنوان عائدون عام 1959.

أثر ملاحقة البعثيين إبان الوحدة السورية المصرية، لجأ إلى بيروت، ومنها إلى هولندا حيث عمل في القسم العربي في إذاعة هولندا العالمية. لكنه عاد إلى العراق إثر ثورة 8 شباط ومنها إلى سوريا حيث استقر فيها بشكل نهائي.

بعد فترة وجيزة من عودته أصدر ديوانه الثالث بعنوان واحدة الجحيم عام 1964، وفي عام 1965 تولى منصب المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون. لكنه تخلى عن الوظيفة الحكومية نهائياً عام 1966، ليؤسس دار فلسطين للثقافة والإعلام والفنون والتي أصدر عنها عدداً من المطبوعات، أهمها إصداره للمذكرة الفلسطينية ما بين الأعوام 1967- 1976.

وفي نفس العام الذي ترك فيه الخطيب العمل الحكومي، شارك في أعمال الهيئة التأسيسية (لاتحاد الكتاب العرب) في سوريا، وأسهم في وضع نظامه الأساسي، والداخلي. وفي عام 1968 اختير بإجماع القوى والفعاليات الوطنية الفلسطينية في ذلك الحين، عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني (عن المستقلين)، وما يزال يحتفظ بموقعه هذا حتى الآن. كما شارك في المؤتمر العام التأسيسي (لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين المنعقد في بيروت) تم انتخابه لنيابة الأمانة العامة للاتحاد.

في عام 1988 نشر يوسف الخطيب ديوانين اثنين، أحدهما بعنوان بالشام أهلي والهوى بغداد والآخر بعنوان رأيت الله في غزة وهما آخر ما صدر للشاعر من دواوين مكتوبة. تجدر الإشارة هنا إلى أن الشاعر أصدر سنة 1983 أول ديوان سمعي في الوطن العربي على أربعة أشرطة كاسيت تحت عنوان مجنون فلسطين.

توفي في دمشق عام 2011 وأقيم له عزاء في دار السعادة بدمشق أيام17~19/6/2011



السيرة الذاتية للشاعر يوسف الخطيب بقلمه
------------------------------------------------




أعلمني أبواي أنهما أتيا بي إلى هذه الحياة الدنيا في صبيحة اليوم السادس من شهر آذار من عام 1931 ، و كان ذلك في بلدتنا الفلسطينية الجميلة التي تلاصق مدينة الخليل من جنوبها الغربي، بإطلالة بانورامية فسيحة ، تلتقي فيها السماء على خط الأفق البعيد بشريط الساحل الفلسطيني على مبعدة أربعين كيلومتراً ، فيما بين مشارف يافا شمالاً ، حتى مشارف غزة في أقصى الجنوب ، و تحمل اسم واحدة من إلهات الحب والجمال اللائي لا حصر لهن في تراثنا الكنعاني السحيق .. هي قرية " دورا " …

و لا أدري ، أكانت صرخة الميلاد التي أطلقتها في صبيحة ذلك اليوم من مقتبل الربيع ، مجرد أداء عضوي لتلك الوظيفة الفيسيولوجية الكائنة في فطرة الإنسان ، أم رجع صدى لصراخ وطن بأكمله ، و شعب بأسره ، واقعٍ تحت نير الاحتلال البريطاني ، و الاستعمار الاستيطاني اليهودي ، في حين كانت مآذن فلسطين ، و أجراسها ، ماتزال تنعي بأسىً عميق " ثلاثة الثلاثاء الحمراء"، فؤاد حجازي ،و عطا الزير ، و محمد جمجوم، و هم يتأرجحون تباعاً في أنشوطات إعدامهم في سجن عكا المركزي ، يوم السابع عشر من حزيران من العام الفائت ، ( 1930) ، في أعقاب ثورة البراق..
في ظل هذا المناخ ، زماناً ، و مكاناً ، وُلِدتُ ، و حَبَوْتُ ، و نَمَوتُ .. فما إن بلغت سن الخامسة حتى اقترن وعي الطفولة الأول عندي مع إضرابنا الفلسطيني الكبير عام 1936 ، كمقدمة للثورة الفلسطينية الكبرى في العام اللاحق 1937 … و طبيعي جداً أن ذاكرة الطفولة في مثل هذه السن المبكرة لن تكون قادرة على اختزان الأحداث الكبيرة بمختلف مدلولاتها و أبعادها السياسية، ولكنها ستكون أكثر مقدرة مما هي عند الكبار، على التقاط بعض المواقف و التفاصيل الصغيرة جداً ، و اختزانها بالتالي مدى الحياة ..
و هكذا ، فإن مثل هذه التفاصيل الصغيرة التي تستوطن ذاكرتي و لا أستطيع نسيانها ما حييت، مشهد أمي وقد وقفت لصلاة الفجر أثناء ما كنت أنا و شقيقي الأصغر فيما بين النوم والاستيقاظ، و فجأة ينخلع باب بيتنا الخارجي بِجَلَبَةٍ و صراخ شديدين، و يندفع إلى داخل حجرتنا نفر من الجنود البريطانيين في بساطيرهم الثقيلة وبناطيلهم العسكرية النصفية (الشورت)، وهم يتصايحون برطانة كريهة كذئاب جائعة ، ليس لاعتقال أبي لأنهم يعلمون أنه كان قد وجد لنفسه مَهْرَباً مؤقتاً إلى سوريا، و إنما بحثاً عن أية رائحة لأي سلاح حتى في حدود (الفشكة الفارغة ) ، تلك التي كانت في ذلك الزمان كافية للحكم على من توجد عنده بالأشغال الشاقة لسنوات و سنوات .. و أما إذا كانت رصاصة حيَّة حقيقية فمن غير المستبعد أن توصل من يحتازها إلى أُنشوطة الإعدام !!..
ثمة تفصيل آخر لا أنساه ، هو تلك الآلة الجهنمية الطائرة التي أحسّ كما لو أنها تعربد الآن فوق رؤوسنا.. ثم هاهي أخيراً تمزق بنيرانها جسد مواطن مطلوب كان قد التجأ إلى مقبرة البلدة الجنوبية ، فتتركه جثة هامدة إلى جوار أقرانه في دار الآخرة!!.. و من مثل هذه المواقف والمشاهد والتفاصيل الصغيرة ما ليس يتسع المجال لذكره في مثل هذا السياق .. ولكن ، على اعتبار أن عهد الطفولة بالنسبة لكل إنسان هو حجر الأساس الذي ستنبني عليه شخصيته ، إلى حد كبير ، في مرحلة الوعي والإدراك، فإنني أستطيع أن أفسر الآن لماذا نشأت و ترعرعت ساخطاً إلى حد الثورة والانفجار على جميع أشكال الظلم و التعسف و الطغيان، خاصة من جانب أعدائنا التاريخيين هؤلاء، من صهاينة و صليبيين جُدُدٍ في لُحمة واحدة ...
على أن طفولتي اتسمت في الوقت نفسه ، و ربما بالقدر نفسه، بعشق الجمال بجميع تجلياته في ذلك الزمان ، سواءً بانسراح البصر في مفاتن الطبيعة الفلسطينية الخلابة إلى حد السحر، أو بانسراح الخيال مع حكايات جدتي لأبي "غزلان" ، إذا أنا متكوِّرٌ في حضنها إلى جانب الموقد في ليالي الشتاء ، وهي تسكب في مسمعي ، بمرافقة موسيقى الرعد و البرق و المطر، قصائد شقيقها الشاعر الشعبي الأكثر شهرة في ذلك الحين " محمد كاشور " ، مع ما يرافق ذلك الكلام المنغَّم الجميل ، الذي يُعرَف "بالشعر"، من نوادر و طرائف و عجائبيات كانت تسافر بي خلف حدود الزمان والمكان .. ففي دِفء حضنها ، إذنْ ، كان أن سمعت الشعر لأول مرة في العمر ، و بدا لي أنه أجمل بكثير مما يتبادله الناس من كلام عادي ، و لعلي تساءلت أيضاً ما الذي يمنع كل الناس من أن يكون كل كلامهم على هذا القدر من الرقة و العذوبة و الجمال ؟!..



لاحقاً لذلك كان والدي يصطحبني أحياناً إلى بعض السهرات في ديوان القرية الذي كان يعرف في تلك الأيام باسم " الجامع "و الذي كان الآباء غالباً ما يصحبون إليه أبناءهم منذ نعومة أظافرهم لكي يزرعوا فيهم الرغبة في مجالسة " الكبار " ، والاستماع بوعيٍ إلى أقوالهم "الناضجة، و الراجحة " ، إضافة إلى ما يتبادلونه حتى منتصف الليل من سير و أخبار و طرائف مثيرة للخيال .. على أن أكثر ما كان يطيب لي في تلك العشيات الممتعة هو حصة الشاعر الشعبي بما يسرده على السمار من مغامرات عنترة العبسي ، و أبي زيد الهلالي ، و غيرهما ، و بما ينشده من الأشعار الشعبية على أنغام الربابة ، و هي التي كنت أطرب لسماعها ربما أكثر من وقائع المغامرات ذاتها ، و أحياناً كنت أحفظ بعض من أبياتها و أحاول تردادها .. و حقيقة الأمر أن شخصية " الشاعر الشعبي " خاصة عندنا في أرياف جبل الخليل ، بدت لي أفضل بكثير من شخصية " حكواتي المدينة " كما عرفتها لاحقاً في بعض مقاهي القدس العتيقة ، فالأول أطيب فطرة و سليقة ، و أقرب إلى لغة بادية بئر السبع و النقب ، التي هي أقرب بدورها إلى العربية الأصيلة ، كما أنه يمتاز بقوة الارتجال فيعطيك الحكاية نفسها في كل مرة بلغة مختلفة عن سابقتها، بينما "حكواتي المدينة " يقرأها عليك كتلميذ جاهل من نصٍّ مكتوب بلا أي رونق أو خيال ..
كان والدي العظيم ، تغمده الله برحمته الواسعة ، يقف في الطليعة تماماً من بين حفنة من الأشخاص كانوا لا يزيدون عن أصابع اليد الواحدة ، ممن يقرؤون جيداً ، ويكتبون جيداً ، من بين سكان القرية و أكنافها البرية الذين كانوا يزيدون حتى في ذلك الزمن السحيق عن خمسة آلاف.. وهكذا .. و على مبدأ طلب العلم من المهد إلى اللحد ، فوجئت به ذات يوم ، و بدون سابق إنذار ، و هو يمسك بيدي الصغيرة ويُودِعني في كُـتَّـاب " يوسف الشريف " القريب من منـزلنا على مرمى الحجر كما يقولون ، ثم ، لسبب لا أدريه ، عاد فأودعني في كُـتَّـاب "عبد فقوسة " البعيد تماماً عن منـزلنا في حارة " المسالمة " بآخر القرية .. و كل من الكُـتَّـابين مجرد حجرة صغيرة يتكدَّس فيها الأطفال كما لو في علبة سردين ، و يتمُّ فيها تأهيل " الصبية الذكور حصراً " لدخول الصف الأول الابتدائي في المدرسة النظامية عند بلوغهم السن القانونية لذلك ، فيحفظون عن ظهر قلب جُزئيْ " عَمَّ " و " تبارك " من القرآن الكريم عن ظهر قلب، بإجادة لفظية لمخارج الحروف لا تسامح فيها، و يتعلمون الأبجدية ، ويكتبون بعض المفردات على ألواح من الصاج تُعلَّقُ في أعناقهم .. و يا للحفاوة الكبيرة التي كان ينعم الصبي بها من جميع أفراد أسرته عند اجتيازه لعتبة "الكُـتَّـاب" هذه ، فكان يحتفى به أكثر بكثير من احتفال أهله حتى " بطهوره " ، تماماً كما لو كان عائداً إليهم لِتَوِّه بأرفع الدرجات العلمية من أكسفورد..
في تلك البرهة الوجيزة كلمح البرق التي التحقت فيها بمدرسة "دورا " الابتدائية ، طرأت على جميع أرجاء الوطن الفلسطيني أحداث كبيرة مربكة ، بدت لي في تلك السن الصغيرة المبكرة أكثراً اختلاطاً و التباساً من أن أستوعبها في حينها ، ولكنني سأعلم في السنوات القليلة اللاحقة أن تلك الأحداث غير الاعتيادية كانت نتيجة طبيعية و حتمية لتذاري مرحلة " الإضراب الفلسطيني الكبير ، لستة أشهر ، سنة 1936 " ، في حين كنت ما أزال في أول وعي الطفولة بأحداث الحياة العامة .. فها نحن نفتقر فجأة لرعاية والدنا العظيم على رأس أسرتنا المتحابة المتماسكة كقلب واحد ، رغم أنها تتألف من تسعة إخوة و أخوات من زوجتين اثنتين حتى ذلك التاريخ ، سيصبحون سبعة عشر أخاً و أختاً مع الزوجة الثالثة لأبي في زمن لاحق .. و أما الآن فقد أصبح والدي أحد المطلوبين الكثر لسلطات الاحتلال البريطاني بتهمة إيوائه أو إسناده لبعض الثوار المحليين في نطاق جبل الخليل، فلم يجد بداً من التسلل هارباً عبر شرقي الأردن إلى ريف دمشق ، ملتجأً هناك عند بعض أقاربنا في بلدة " الكسوة " ، وهي التي كان جدي قد غادرها نهائياً على زمن العثمانيين ، لكي يزرع أسرتنا مجدداً في جبل الخليل .. لكن والدي لم ينجُ بنفسه على هذه الشاكلة إلا بعد أن كان قد وفَّر لنا ملجأً آمناً ، و مَهْرَباً بعيداً نسبياً في أعماق برية جبل الخليل ، عند بعض أنسبائنا من آل الشعراوي في " خربة مريش" .. ولعل من الضروري الإشارة إلى أن مفردة "الخربة " هذه ، بالمصطلح البلداني الفلسطيني ، ربما كانت تشبه "العزبة" بالمصطلح البلداني المصري ، مع فارق ما بين الطبيعتين الجبلية الوعرة عندنا، و السهلة المنبسطة المسترخية على ضفاف النيل .. و على أية حال ، فإن عدد سكان الخربة الواحدة لم يكن ليزيد إلا نادراً عن عشر أسرٍ إلى ما هو أكثر من ذلك بقليل، و كانت كل أسرة تقريباً تتخذ لها مسكناً مؤقتاً ، أو حتى دائماً أحياناً ، إحدى المُغُرِ الجبلية الدافئة و الآمنة من غوائل الذئاب و الضباع ، إضافة إلى غرفة أو اثنتين من حجارة البرية الخام المرصوفة بعضاً إلى بعض بدون أية هندسة أو نظام، و بجمالية متوحشة بدائية تعيد الإنسان إلى ما يقرب من فطرته الأولى في قديم الزمان .. ولست أستطيع أن أتذكر الآن ما إذا كانت المدة التي قضيناها مع تلك البرية الجبلية بكامل عذريتها ، و تمام جمالها و جلالها ، تقارب ستة أشهر ، أو سبعة ، أو ربما ثمانية .. لكن ما أستطيع أن أتذكره على الدوام هو أنني في هذه الفترة شاركت بعض الرعاة ممن التجأنا إليهم في رعاية الأغنام ، فكنا " نسرح " مع القطيع قبل طلوع الشمس ، ولا نعود أدراجنا ثانية إلا عند مغيبها.. لقد صعدت في تلك السن سفوحاً ، وهبطت ودياناً ، مجلَّلة ببسط خرافية خضر من الأعشاب ، تزركشها في الوقت نفسه أنواع لا حصر لها من الزهور البرية بجميع ألوان الطيف ، من الليالك ، و السواسن ، وشقائق النعمان .. في تلك الفترة أيضاً أكلت من مائدة الطبيعة المفتوحة قرون " الجلثون " ، و أقماع الفطر الشهية ، و حبوب " السعيسعة " الطرية اللذيذة، وسواءً عطشت أم لم أعطش فكم من مرة أمسكت فيها بضرع النعجة ، أو العنـزة و حلبته في جوفي شراباً عذباً طهوراً إلى حد الري والشبع في آن .. كذلك شهدت في تلك الفترة ، و بأم عينيّ هاتين ، إغارة الذب على فلول القطيع المخلفة وراءه بعض الشيء ، و أبصرت على الطبيعة مباشرة ، لا من خلال أية شاشة صغيرة أو كبيرة ، حميَّة كلاب القطيع ، و دفاعها المستميت عنه، ومطاردتها للذئب إلى أن يختفي عن الأبصار ، لدرجة أصبحت أتمنى معها ( في وقت لاحق من الزمان ) ، لو أن حكامنا و زعمائنا العرب كانت لهم مثل حمية تلك الكلاب !!..
قصارى القول ، لعل هذه الفترة من الحياة البرية الجبلية ، في مطلع الطفولة ، كان لها الأثر الأهم في تأسيس علاقتي الحميمة مع الطبيعة الفلسطينية إلى مرتبة العشق والهيام، كما سيظهر ذلك جلياً في غير قليلٍ من أعمالي الشعرية في سن الإدراك ، وربما إلى سن الشيخوخة الحالي الذي أسرد فيه هذه الذكريات ..
ثم في ختام فترة اللجوء المؤقت هذه ، وجدتني ، في عداد جميع أفراد الأسرة ، نعود أدراجنا ثانية إلى بيتنا في دورا ، كما وجدت هذا الكائن البشري الصغير الذي لم يكن أحداً سواي ، يُعاد مرةً ثانية إلى كـتَّـاب " عبد فقوسة " في حارة "المسالمة" ..
بعد فترة أكاد لا أتذكرها ، و لكن ذلك لا بد أن يكون في بداية السنة الدراسية النظامية في خريف عام 1936 ، وجدت أخي الكبير "علي" ، يأخذني إلى مدرسة البلدة الابتدائية والوحيدة في ذلك الحين ، لكي يسجلني تلميذاً في صفها الأول بين أيدي معلميها الثلاثة أو ربما الأربعة ، وتحت رحمة مديرها "الأزرق الشريف" الذي كان ذائع الشهرة برصفه جَلاَّد جميع الطلاب الكسالى أو المشاغبين ، فكان ، يرحمه الله ، يُنـزل عقوباته العادية المخففة بعصا لَدِنَةٍ من شجر الرمان يهوي بها على باطن كفِّ التلميذ عدداً من المرات ، بينما في حالة العقوبة الاستثنائية المشددة كان على التلميذ أن يقلب راحته إلى الأسفل لكي يتلقى الضربات على ظهرها العظميّ، لا بعود الرمان هذه المرة ، بل بحافة المسطرة الخشبية الحادة التي كانت كل ضربة منها تشوك أن تخلع القلب ألماً وصراخاً و استرحاماً ، و لكنها في الوقت نفسه كانت تلك العقوبات الرادعة الزاجرة مرةً واحدة و إلى الأبد ، مما وضع جميع التلاميذ في حالة شِبه انضباط عسكري،اسبارطيٍّ، في ساعات الدرس و الجد.. بينما في ساعات اللهو و المرح استطاع مديرنا " الأزرق الشريف" إياه أن يوفر لنا ، حتى منذ ذلك العهد البدائي السحيق نسبياً ، جهاز عرضٍ سينمائياً خاصاً بالمدرسة ، و هو غير أجهزة العرض الزائرة ، العابرة ، التي كانت تتردد علينا في ساحة "النبي نوح " على مقربة من المدرسة،بنوبة شهرية ، أو نصف شهرية في بعض الأحيان، لكي تعرض علينا في العشيات الصيفية ، وفي الهواء الطلق ، و بالمجان بطبيعة الحال ، بعضاً من سموم الدعاية العسكرية البريطانية في أوار الحرب العالمية الثانية ضد الألمان و الطليان، مدسوسة بغير ذكاء في كثير من المواد الفلمية الدرامية ، و الغنائية ، لعبد الوهاب ، و فريد الأطرش ، و أم كلثوم ، وأسمهان ، و ألمع نجوم الشاشة الفضية في ذلك الزمان ..و أما عن جهاز عرضنا السينمائي الخاص بمدرستنا الابتدائية ( القروية ) ، فلقد كان أمراً مختلفاً تماماً ، و ربما غير قابل للتصديق بجميع مقاييس ذلك الزمان ، حيث كان يؤدي وظيفة "وسيلة الإيضاح " المدرسية و التربوية و التنويرية عامة ، بما يعرضه من مادة فلمية تطبيقية للطلبة الابتدائيين في مجال الزراعة و الحدادة ، والنجارة، و ما إلى ذلك .. و لعله كان يجدر بي أن أشير من البدء إلى أن مدرستنا الابتدائية ، القروية، تلك، لم تكن أمراً شائع المثال في أية قرية أو مدينة فلسطينية أخرى ، بل كانت أنموذجاً باذخاً نسبياً لما ينبغي أن تكون عليه المدرسة الابتدائية العربية ، في مقابل المدرسة الابتدائية ( اليهودية ) الأكثر تطوراً بوجه عام .. فمن هنا خطر لقائمقام الخليل عبد الله كردوس، المُعيَّن حديثاً آنذاك _(وهو عَلَمٌ فلسطيني ربما كان مقدسياً ؟ ) _ أن يؤسس في قريتنا ، و بإنفاق خالص من أهل القرية أنفسهم ، مدرسة ابتدائية يبزُّ بها حتى أفضل مدرسة ( يهودية ) طارئة على أرض فلسطين . وحقيقة الأمر أنه نجح نجاحاً مذهلاً في تحدِّيه ذاك ، ربما في أواخر عقد العشرينيات من القرن الفائت على ما أستطيع أن أتذكر الآن ..
ذات يوم ، و لا بد أن يكون قد انقضى ما يزيد عن عام من الزمان ، فوجئنا مع عودة أبي من "بلاد الشام " ، بطورٍ جديدٍ هانيءٍ ورائق من الحياة، سواءً على مستوانا العائلي الخاص بفضل ما تُوفِّره خيمة الأبوة من دفءٍ و رعاية وحنان لجميع أفراد الأسرة ،أو حتى على المتسوى العام خارج البيت فيما يتعلق بيُسر الحياة و حسن العلاقات ما بين الناس.. فما أعلمه حالياً علم اليقين هو أنني أصبحت في الصف الثاني الابتدائي ، بدلاً من الأول، بما يؤكد لي انقضاء ما يزيد عن سنة .. و لكنَّ ما سأعلمه لاحقاً ، بعد بضع سنوات ، هو أن السر في مثل هذا الانفراج العابر، على المستويين الخاص و العام ، كان مردُّه إلى إعلان " الكتاب الأبيض " عن الحكومة البريطانية ( سنة 1937 ) ، في مسعىً لئيم منها لاستمالة العرب إلى جانبها ، أثناء ما كانت نُذُرُ الحرب العالمية تحتشد بقوة.. في جميع الآفاق .. وهكذا فَمَن لم يكن سياسياً بطبعه ، أو من هواة الشأن السياسي بوجه عام ، فإن عليه ابتداءً من هذه الأيام أن يتعود على مقاربة هذا الشأن العويص و المثير معاً حتى لو كان ما يزال في سن الطفولة بعد ، لأنه لن يمر من الوقت إلا ما يقل عن سنتين اثنتين حتى تقع الواقعة العظمى ، و حتى تصبح أسماء إفرنجية غريبة من مثل هتلر ، وموسوليني ، و تشرتشل ، تجري على كل لسان كما لو كانوا من أولاد الجيران ..



بعد سنتين أيضاً سيكون عهد إقامتي الدائمة في بلدتنا الحبيبة " دورا" قد انتهى بحكم الضرورة ، لأن مدرستها النموذجية الآنفة الذكر لم تكن في الحقيقة إلا " نصف ابتدائية " تتوقف الدراسة فيها مع ختام الصف الرابع الابتدائي ، و عندئذ سيكون من الحتمي على كل راغب في مواصلة الدراسة أن يطلبها في مدرسة الخليل الثانوية على بعد ستة كيلومترات من " دورا " ولكنها ستة كيلومترات جبلية ، و إن تكن في الوقت نفسه مفعمة بجمال الطبيعة و جلالها ، لأنك ما إن تبتديء طريقك باتجاه المدينة الشمالي الشرقي حتى يكون عليك أولاً أن تضع " مزرعة السمقة " التابعة للمدرسة على شمالك ، مجتازاً " واد أبي القمرة " بكل نمائه الطافر الخضرة ، فمنعطفاً قليلاً على يسارك عند كَرْم " خَلَّة سِيرتا " ، فصاعداً بعد ذلك " عَقَبة كنار " بمشقة بالغة، ثم ها أنت تنحدر من خلفها لتسير ما يقرب من كيلومترين عبر طريق متلولبة كأفعون على حافة وادٍ شديد الانحدار كأخدود عميق ، إلى أن تبلغ " عين لُنقر " ، فتبلَّ ريقك من مائها العذب، أو قد تحاول نوعاً من السباحة الهزلية في بركتها الضحلة التي لا يرتفع الماء فيها حتى "صابونة" الركبة ، ثم تستأنف طريقك بشبه خط مستقيم باتجاه الشمال عبر مسافة هَيِّنة من عرائش الكرمة ، و حقول التين ، و الزيتون ، و السُمَّاق ، و البُطم ، والخرُّوب ، و عشرات الزروع الأخرى ، و قد أرخت جدائلها المثقلة بالثمار لنسائم لاصيف الرخية ، مرسلة إليها مباشرة من بحر يافا على خط الأفق الغربي البعيد.. وأخيراً، فها أنت ذا عند نقطة "الحاووز" تماماً، من حيث تقع عيناك أول ما تقعان ، على "وادي التفاح" الذي كان يشكل _( قبل نَيِّفٍ و ستين سنة ) _ إحدى ضواحي المدينة من جنوبها الغربي ..
لكنني الآن ، و لسنتين قادمتين _ سأواصل الدراسة في مدرسة القرية النموذجية ، و لقد أحسن بناتها اختيار موقعها الفريد في قمة رابية " النبي نوح " إلى جوار جامعه هناك ، من حيث تمتاز بإطلالتها البانورامية الفسيحة ( التي أسلفت الإشارة إليها ) ما يقرب من كامل الربع الجنوبي من الساحل الفلسطيني على خط الأفق البعيد ، و ما بينهما قرابة أربعين كيلومتراً من الطبيعة الفلسطينية الخلابة ، المنحدرة تدريجياً من سفوح الجبال إلى أن تتصل غرباً بالسهل الساحلي الفسيح ، أشبه ما تكون بقطعة من فردوس النعيم رسمتها أصابع الله على أرض فلسطين .. و يقيناً أنني لم أكن في أي يوم من أيام الدراسة تلك من فئة التلامذة الكسالى أو الخائبين ، و لكن أبي أعلمني ذات يوم ، و أنا في الصف الثالث الابتدائي أن معلم الحساب شكاني إليه بعدم التركيز والانتباه الشديد أثناء الدرس، و لم أكن لأعلم في تلك السن الطفولة الغضة ، أنني سأنتظر نيفاً وستين سنة من العمر قبل أن تحين لي الفرصة ، الآن، ( في هذه السطور التي تقع حالياً تحت أعين القراء ) ، لكي أدفع تلك الشكوى بأنني ، في الوقت الذي كانت فيه عيون التلامذة الآخرين تتسمَّر في أرقام اللوح الأسود، أو في دفاتر الحساب ، فلقد كانت عيناني تفضلان الشرود من زجاج النافذة الفسيحة عن يساري ، في مطالعة كتاب الطبيعة الفلسطينية المفتوح أمامي على دفتيه اعتباراً من أزاهير جنينة المدرسة نفسها بجميع ألوان الطيف ، حتى التقاء السماء بخط فيروز البحر المديد في نهاية الأفق البعيد ..
حتى ذلك الصف الثالث، كنا في جميع المدارس الفلسطينية نتعلم قراءة اللغة العربية وكتابتها ، و بعض مبادئها الأساسية التي تناسب أعمارنا و مداركنا ، من الجزء الثالث من كتاب أديبنا الفلسطيني الكبير " خليل السكاكيني " بعنوان "راس روس " ، و لقد كان هذا المربي الجليل حقاً مسيحياً أرثوذكسياً غيوراً على عروبته ، و علمنا لاحقاً ، في سنيِّ التمييز و الإدراك ، أنه قضى شطراً محسوساً من عمره يناضل باستماتة في سبيل استنقاذ الأرثوذكسية العربية الفلسطينية من هيمنة الكهنة الأجانب ، الإغريق، الذي كانوا ، وربما ما يزالون يحتكرون رئاستها ومراتبها الإكليركية العليا ، منذ "عصر الامتيازات" الذي خنعت فيه السلطنة العثمانية بمذلة مخجلة لإملاءات فرنسا "الكاثوليكية " ، و روسيا القيصرية " الأرثوذكسية " .. و كائناً ما كان الأمر فقد كان لهذه الكتب الثلاثة لخليل السكاكيني أعظم الفضل في تلقين أطفال فلسطين مبادئ العربية بصورة علمية ذكية ، و تحبيبها إليهم إلى حد الافتتان بها و الإخلاص لها على مدى الدرجات التالية من سُلَّمِ التربية و التعليم ، و لعلي لا أجانب الصواب إن اعتقدت أنها ربما كانت أفضل بكثير من كتب تعليم الأطفال في هذه الأيام ، برغم ما هي مكتظة به إلى حد التخمة من بهرج الألوان و تلك الرسوم الإيضاحية التي تغتال في الطفولة كل خيال !!..
في الصف الثالث الابتدائي أيضاً ، كان عندنا معلم حسن الصوت اسمه " محمد العزَّة " من بيت جبرين ، و كانت حصته من التدريس أن يعلمنا " تجويد" القرآن الكريم.. و إنها وحق الله لحصة عظيمة النفع ، تَعَلَّمنا من خلالها ، و منذ نعومة أظافرنا ، كيف ينبغي لنا أن نتكل لغتنا بلفظٍ جليٍّ مُبين ، و بأداءٍ سليم لمخارج الحروف ، وتناسب في الأبعاد الصوتية ما بين الحرف والحرف ، و الكلمة و الكلمة ، و ذلك عن طريق الاستماع و المحاكاة ، لا من خلال أية قوننة صارمة ، أو تعقيد جاف ، كما تفعل المناهج التدريسية بأطفالنا هذه الأيام ، فتؤسس حالة مزمنة من العداء و الكراهية ما بين الطفل و لغته الأم . .
هذا ، على أن " محفوظاتنا الشعرية " الوجيزة ، و البديعة ، و المنتقاة لنا بعناية تربوية فائقة ، كانت بدون ريب هي الأقرب إلى نفسي ، و الأحب إلى قلبي ، لدرجة تمنيتُ معها أحياناً لو أ، كل مواد الدراسة ، من ألفها إلى يائها ، كانت تقتصر على حفظ الشعر و إنشاده ، و انتهى الأمر .. لكن الحقيقة المرة لم تكن كذلك مع الأسف العميق ، خاصة عندما تبلغ المرحلة الثانوية بعد سنوات قليلة ، فتجد الخوارزمي كامناً لك داخل الفصلِ بمادة " الجبر " ، ثم لاحقاً لذلك بطلاسم " اللوغاريتمات " كما لو كانتْ " خرابيش " أحجبة ، لا تطرد الجن بقدر ما تجلبهم داخل رأسك .. فعند ذلك فقط ستتذكر مبلغ النعمة التي كنت تعيشها حتى مع امريء القيس ، بل و حتى مع الشنفرى و تأبط شراً ..
و أما خارج المدرسة ، أو تحديداً في بيتنا الذي يتوسط الجانب القبلي من القرية، ما بين "حارة العمايرة " و " حارة العرجان " ، فقد كان أبي يحتفظ في " العِلِّيةِ " الحجرية الخاصة به بخزانة خشبية متواضعة تضم رفوفها ، إلى جانب أوراقه الخاصة ، عدداً محدوداً من الكتب المختلفة ، و من بينها عدد من المصنفات الأدبية ، و مجاميع المختارات الشعرية ، من مثل " مجاني الأدب " للأب اللبناني " شيخو اليسوعي " في ستة مجلدات ، و " جواهر الأدب " لأديب لبناني لا أتذكر اسمه الآن ، ناهيك عن المعلقات السبع و ما إليها ، إضافة إلى كمٍّ وفير حقاً من الكتب أو المجلات الدورية التي كان يأتينا معظمها من نتاج المطبعة المصرية من مثل كتاب " إقرأ " الشهري ، أو مجلة " المختار " الشهرية هي الأخرى مترجمة ، بتمامها عن مجلة " Readers Digest " الإنجليزية .. زد على ذلك أشكالاً و ألواناً من مؤلفات عباس العقاد ، و إبراهيم المازني، و توفيق الحكيم ، و طه حسين ، و عشرات الكتاب المصريين الآخرين ، كنت نشتريها بأزهد الأثمان في تلك الأزمنة الطيبة الخيرة من مكتبة " كمال تفاحة " الواقعة مباشرة إلى يمين مدخل بيتنا الآخر في مدينة الخليل ، و قبالة مكتب عمل والدي في منتصف شارع " باب الزاوية"..
لم تكن هناك بطبيعة الحال " تلفزة " في تلك الأيام ، و لعل تلك هي المنحة الإلهية العظمى التي أنقذت طفولتنا و خيالاتنا من الوقوع في أسر هذا الجهاز الجهنمي إلى حد العبودية الطيِّعة البلهاء .. لقد كانت تحكى لنا الحكاية في طفولتنا ، أو نقوم لاحقاً بقراءتها في عهد الفتوة من مجلة أو كتاب ، فتقوم أخيلتنا الحرة النشطة ، بِرسم ملامح أشخاصها و بتمثيل حركاتهم و سكناتهم ، و تصوير كل ما يجري لهم من وقائع عادية أو مغامرات و أهوال ، و ما يدور على ألسنتهم من حوارات الحب و البغضاء والأفراح و الأحزان ، بكامل استقلا ملكاتنا الذهنية ، عن أية مؤثرات خارجية ، في مجال التخيل المبدع الخلاق .. لقد كنا ببساطة نحن الذين ننتج عوالمنا الداخلية الخاصة بنا ، لا عوالم الآخرين هو التي تنتج طفولتنا كيفما تشاء ..
نعم ، لقد كانت هنالك " الإذاعة " في طورها الطفولي الأول ، و لكن ، لأن التيار الكهربائي لم يكن قد وصل إلى مدينة الخليل نفسها في تلك الأيام ، فمن المستحيل بالتالي أن يكون قد وصل إلينا في قرية ، فلذلك كنت نُشغِّل الراديو البريطاني الصنع المتوفر لدينا من طراز "PYE " بواسطة بطارية سيارة نشحنها في المدينة ، و نقتصد إلى أبعد الحدود في استهلاك مدة صلاحيتها قبل أن نبعث بها إلى المدينة لكي تشحن مرة أخرى .. و أما عن " الفونوغراف" الذي اشتراه والدي لأخي الأكبر " علي " ، لنجاحه الطيب في شهادة الصف " الثاني الثانوي " بمدرسة " عين السلطان " في الخليل ، فلم يكن بحاجة إلى تيار كهربائي نظامي ، بل إلى مجرد تعبئته يدوياً بإدارة ذراعه الجانبية ربما عشر مرات أو أكثر ، فإذا ما أحسست أن صوت محمد عبد الوهاب، أو أم كلثوم، أو غيرهما ، قد بدأ يخبو تدريجياً ، فما عليك سوى أن تسعفه ببضع تدويرات أخرى إلى أن يسترد عافيته ، و حقيقة الأمر أنني ربما كنت أكثر استعمالاً لهذا الجهاز الجهنمي العجيب من أخي الأكبر نفسه و سائر أفراد الأسرة ، لأنه كان يعني لي " لعبة " مسلية تماماً ، بالإضافة إلى وظيفته الأساسية في فن التطريب..
و على أية حال ، فإن كامل الوقت الذي كان باستطاعة هذين الجهازين العفريتين _(الراديو ، و الفونوغراف ) _ أ، يختلساه من إنسانٍ قروي ، في عهد الطفولة أو الفتوة ، لم يكن بذلك الزمن المحسوس الذي يؤبه له ، في حين يبقى لديك قدر هائل من " وقت الفراغ" الذي تحار كيف تقضيه .. فَهَبْ ، مثلاً ، أنك الآن قد ذاكرت دروسك جيداً ، و أنجزت وظائفك المنزلة على أفضل وجه مستطاع .. ثم هَبْ أيضاً أنك قد لعبت " البنانير " مع أترابك ، أو خرجت لِتَوِّكَ غالباً أو مغلوباً من إحدى مباريات الزقاق " بالطجة " _ ( بما يعني كرة القدم بكتلة مخزومة جيداً من الخرق البالية) .. أو قل أخيراً إنك قد شبعت من لعبة " الخِلال " _ ( التي ستقرأ في أزمنة بعيدة لاحقة أنها كانت اللعبة المفضلة لنَبيِّكَ الأعظم محمد صلى الله عليه و سلم وإني لأعجب لاتحاداتنا الرياضية العربية و الإسلامية لماذا لا تحيي هذه اللعبة الرياضية الممتعة إن كانت على علم بها ، فأنا شخصياً لم أعلم بأن الرسول كان يلعبها في فُتوَّته إلا عرضاً من خلال قراءة عابرة ) .. بل هَبْ فوق ذلك كله أنك قد " نكشت " التربة جيداً حول جذوع الأشجار في " حاكورة " الدار ، أو ذهبت بِسَلَّة فارغة إلى كَرْمِكم في قعر " وادي نزار " وَ عُدتَ بها ملأى بعناقيد " العنب الخليلي " ، و التين ، و الزيتون ، وما إلى ذلك من غلال طيبة مباركة يفيض بها صدر فلسطين .. ثم .. ماذا بعد ؟!.. إن تلك، بالنسبة لي ، كانت هي المسألة !!..
لذلك سرعان ما أوجدت حلاً لمسألتي الخاصة هذه عن طريق تلك الخزانة الخشبية التي قد لا يزيد ما فيها من الكتب عن عشرين عنواناً ، و لكنها التي تضم ما بين أغلفتها ألوف الأخبار و الأشعار لمئات الناس من مختلف العصور .. و بدون أن أنتظر بضع سنوات أخرى لكي آخذ علماً بنصيحة أبي الطيب المتنبي بأن خير جليس في الزمان هو " الكتاب " فقد اهتديت بنفسي ، ومنذ عهد الطفولة الباكرة ، إلى هذا الجليس الرائع و الصديق الوفي المؤنس و المزمن في آن .. و لربما كان من طبيعة الأمور بالنسبة لتلميذ صغير يقترب حالياً من الصف الرابع الابتدائي، أو لعله قد أصبح فيه ، أن ينفر بقوةٍ من مصادقة هذا " الجليس " الذي يبدو ثقيلاً من فرط ما يختزن في إهابه من حكمة و وقار ، أو فنونٍ و أشعار ، هي بكل المقاييس ليست من شأن الصغار!!.. وبرغم ذلك أعترف بأنني أنا الذي كنت أسعى إلى مجالسته ، و أخطب وده ، و أنهل من ينبوعه العذب تلك الحَسَوات الصغيرة الرائقة ، لأنه لم يكن في الوسع أن اجترعها دِهاقاً في تلك الأيام .. و لقد كانت مجلدات " مجاني الآداب " الستة ، في إصدارها الأصلي الكامل عن المطبعة الكاثوليكية في لبنان ، تبدو لي شبه قارَّةٍ عظمى مترامية الأطراف ، تمتد من بدايات "الجاهلية السحيقة " إلى نهايات عصور التردِّي و الانحسار ، كيلا أقول " عصر الانحطاط" ، وتشمل على ذلك الكم الهائل شبه الموسوعي من عجائب الأخبار ، و فرائد الأشعار ، و هنا عند هذه الأخيرة ، يقع بيت القصيد ..
في تلك السن تعرفت لأول مرة ، و من خارج المدرسة ، على شيء من الشعر قائمٍ بذاته، بمنزلة رفيعة ، يُعرف " بالمعلقات السبع " ، و في كتب أخرى " بالمعلقات العشر " .. و لقد طال لي إلى حدٍ بعيد أن أتعامل مع أسطر هذه المعلقات المتناظرة في أطوالها ، و كلماتها المشكولة بتمامها تقريباً ، و هوامشها المستفيضة في شرح مفرداتها ومعانيها ، بنوعٍ من القراءة شبيهٍ بالدخول في مغامرةٍ لِفَكِّ رموز رسالة مُشَفَّرة ، فلئن لم أظفر بأية حصيلة تزيد عن العشرة في المئة من مؤدى المعلقة العام ، و نادراً ما كان يتحقق لي ذلك ، فقد كان في متعة المغامرة ، في حد ذاتها، ما يُعوِّض عن نتيجتها القاصرة .. على أن ثمة شيئاً آخر ، أهم بكثير من " متعة المغامرة " هذه ، قد وقع لي من جَرَّاء القراءات المتعاقبة لتلك المعلقات و غيرها من مختلف القصائد ، لمختلف الشعراء.. فبما أنك الآن ما تزال صبياً دون سن العاشرة ، و معنى ذلك أن حبال حنجرتك الصوتية ما تزال في أوج عنفوانها على طبقة " الجواب " الحادة و المرتفعة ..و بما أنك على معرفة طيبة بتجويد الكلمات و إعطاء كل حرف فيها كامل حقه من النطق السليم.. و بما أن الكتب التي بين يديك تعطيك جميع القصائد التي في بطونها كاملة التشكيل حرفاً ، حرفاً على وجه التقريب .. فما الذي يمنعك ، و الحالة هذه ، من أن تقرأ هذه القصائد بأعلى طبقة صوتية تستطيعها ، بكلٍ من ضبط مخارج الحروف ، والالتزام شبه الحنبلي بسلامة التشكيل ؟!.. فلئن لم تتسع صدور أهلك ، ولا باحة البيت ، لكل تلك الجَلَبة ، فأمامك الحاكورة المجاورة للدار اصرخ فيها كما تشاء .. أو إذا كنت ذاهباً في إحدى غدواتك إلى "وادي نزار " ، فاصطحب كتابك معك ، واصعد أعلى ما تستطيعه من فروع شجرة " الخروب " المطلة من علٍ على قعر الوادي السحيق ، و أطلق العنان لحنجرتك من هناك كما لو كنت في أمسية شعرية استثنائية تلقيها في هواء الجبل الطلق على جمهورٍ أسطوري من الأشجار ، و الثمار ، و دوالي السفوح..
تلك ، في الحقيقة ، كانت إحدى تسلياتي المفضلة في عهد الطفولة ومُقتبل الفُتوَّة ، ولست أزعم الآن أنها كانت ، في حينها ، أكثر من "لعب عيال " بالتعبير المصري الشهير .. ولكن " لعب العيال " هذا سرعان ما سيكشف لي في زمن لاحق قريب عن أنه لم يكن مجرد عبث عابر غير ذي بال ، لأنه قد ترتبت عليه في حافظة اللاوعي عندي نتائج بالغة الأهمية في إرساء حجر الأساس المكين الذي سأقيم من فوقه مشروعي الشعري الذي يخصني ، شخصياً ، بحقِّ معنى الكلمة .. فأولاً ، تحقق لي من جرَّاء هذه " اللعبة " عشق طفوليٌّ للعربية ، مخلصٌ لها ، ملتصق بصدرها ، مستعذب لمفرداتها و سائر جمالاتها كما لو كانت قطرات من حليب الأم ، فأصبحت أتعامل معها ، و هي تستجيب لي بالمقابل ، بقدرٍ كبير من العفوية ، و الاستغناء بالسليقة و الفطرة عن كثيرٍ جداً من حنائط القواعد و الإعراب ، و القوانين شبه العرفية للنحو و الصرف .. وثانياً، ولا ريب أن هذا هو الأهم ، توفَّر لي من خلال تلك القراءات " السليمة " ، بصوت " مرتفع"، قدرٌ لا بأس به من استكناه السر في الموسيقى "الخارجية" للشعر ، وهي التي سأتعلم لاحقاً ، في المرحلة الثانوية ، أنها تقع في علمٍ قائم بذاته يعرف "بالعَرُوض" ، كما سأكتشف بنفسي في مراحل تالية أنها تختلف اختلافاً نوعياً بَـيِّـناً عن موسيقى الشعر " الداخلية " من تصوير ، و ترميز، وتخييل ، و إكساء للفكرة الشعرية ذاتها بِحُلَّةٍ لغوية متناسبة متناسقة .. و أما حالياً ، و في أواخر العقد الأول من رحلة العمر هذه ، فلعل أهم ما قد توصلت إليه ، بحاسة السمع ، هو أن "النغم العام"في هذه القصائد ليس واحداً، بل من الممكن جداً أن يختلف اختلافاً بيناً ما بين قصيدة وأخرى، أو جملة قصائد من هنا، وجملة قصائد من هناك، كما أحسستُ أيضاً بأنني في حالة ما إذا وقعت في أيما خطأ في قراءة هذا البيت أو ذاك، بمستوى جيدٍ من الإلقاء إلى مرتبة الإنشاد، فسرعان ما يظهر لي أن خللاً محسوساً قد وقع في سياق ذلك "النغم العام"، فأسعى إلى معاودة القراءة أكثر من مرة إلى أن أشعر بأن البيد الذي بين يدي قد عاد إلى سياقه النغمي الصحيح، وهو السياق الذي أعجبني ، بقدر ما أطربني فيه ، أنه يختلف اختلافاً شديداً في معلقة امرئ القيس، عما هو في معلقة عمرو بن كلثوم، وفي هاتين المعلقتين عما هو في معلقة الحارث اليشكري، ثم في هذه المعلقات الثلاث بأجمعها عما هو في معلقة عنترة العبسي.. فياله من عالم شعري غنيٍّ بتعدد ألوانه النغمية ، و لا وجه للمقارنة ما بينه و بين شعر "الربابة" الشعبي الذي غالباً ما يجري على وتيرة واحدة، رتيبة، تدعو إلى الملالة و السأم كلما طالت السهرة في "الجامع" الذي هو الديوان !!..
ها أنذا الآن قد أتممتُ العاشرة من العمر، ودلفتُ إلى سن الحادية عشرة، و معنى ذلك، عملياً، أنني قد أتممت دراستي حتى ختام "الصف الرابع"، و النهائي، في مدرسة القرية الابتدائية، وأصبح لزاماً عليَّ أن أنتقل من منزلنا في "دورا" إلى منزلنا في الخليل، لأستأنف فيها دراستي في ابتدائية "عين خير الدين" ، في حين كان العالم من حولنا قد دلف بدوره في السنة الثالثة من الحرب الكونية الثانية .. وحياة المدينة اليوم، هي غير حياة القرية البارحة.. ففي هذه الأخيرة كنا نعيش في شبه عزلة عن العالم، لا نتصل به إلا لماماً من خلال جهاز "الراديو" الطارئ على حياتنا منذ سنوات قليلة، أولاً بافتتاح إذاعتنا الفلسطينية في القدس، ثم بافتتاح إذاعة القاهرة ربما في السنة التالية، فسائر إذاعات العواصم العربية الأخرى في سنوات لاحقة .. وأما في المدينة، فها نحن أكثر حضوراً في حالة الحرب، وأخبارها، ومظاهرها المادية و الدعائية المختلفة، فإذا مررتَ بشارع المدينة الرئيسي، "باب الزاوية"، الذي نقيم فيه، فإنك سترى جميع الجدران مَكسُوَّةً تماماً بمئات الملصقات المتعددة الألوان والأشكال بما مؤداه أن "انتصار الحلفاء، على المحور، أمرٌ محقق" ، و سوف تطالعك صورة "ونستون تشرتشل" عند كل منعطف، و على مدخل كل زقاق، و هو يرسم إليك إشارة النصر بإصبعيه، أثناء ما يتدلى "السيجار" من شفتيه المنفرجتين بابتسامة هادئة واثقة، في حين سترى كُلاً من هتلر، وموسوليني، في هيئة كاريكاتورية مزرية ويائسة.. ولسوف تنهال عليك عشرات المطبوعات أو النشرات الدعائية بالمجان .. و راديو "صادق العشي"، إلى جوارك القريب ، مفتوح على استطاعته القصوى بجميع نشرات الأخبار، ومختلف أغاني الأفلام المصرية الطازجة، كأنما ليقوم بدعايته الخاصة هو الآخر منادياً على جميع من في الشارع من سابلة لكي يتذوقوا مآكله الشعبية الرخيصة والطيبة .. ثم ها هو "حسني"، بائع الصحف الأعرج، وقد انبرى منذ صياح الديك ، يصيح بدوره على بضاعته الحافلة من الصحف التي كانت في أغلبها الأعمِّ ، إما محلية فلسطينية، أو مغرقة للسوق تماماً من نتاج المطبعة المصرية دون غيرها من سائر المطابع العربية الأخرى، وكان من بينها ما هو أسبوعي ثقافي رفيع المستوى، كمجلة "الرسالة" لأحمد حسن الزيات، و"الثقافة" لأحمد أمين ، أو ما هو أسبوعي عادي كمجلة "المصور" و جريدة " أخبار اليوم " ، أو ما يقع في فئة الصحافة الإثارية الصفراء كمجلة "الاثنين" .. زد على ذلك عدداً من المجلات و الكتيبات الدورية الأخرى ، من مثل مجلة "الهلال" أو كتيب "إقرأ" الشهري الواسع الانتشار لذلك الحد الذي ستتعجب معه إن كانت هذه المطبوعات و أمثالها أكثر توزيعاً في مصر مما كانت عليه في جميع أنحاء فلسطين .. و أما محلياً ، على مستوى المطبعة الفلسطينية، فلقد كان التنافس على أشده ما بين جريدة " الدفاع " ، و جريدة " فلسطين " ، و كان والدي_ (ونحن في معييته بطبيعة الحال ) _ أكثر ثقة بالأولى ، من الثانية ، و من على صفحاتها المحدودة كنا نطالع أخبار الحرب ، و ما جرى و ما سيجري من المعارك الطاحنة على مختلف ساحات أوروبا ، و مؤخراً على ساحة الشرق الآسيوي الأقصى ، و أخيراً و ليس آخراً في عُقر دارنا العربية فوق رمال " العلمين " .. و هنا تحديداً ، عند هذه المعركة الحاسمة على مقربة من أبواب القاهرة ، و على التخوم الجنوبية الغربية من إقليمنا الفلسطيني ، الأصغر حجماً ، والأخطر دوراً ، بما يشبه قطعة القلب من جسد الوطن العربي الكبير ، فلقد تحولت فلسطين بأكملها إلى ما يشبه " غرفة عمليات عسكرية " لقوات الحلفاء من مختلف جنسيات الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس ، فكنت ترى إضافة إلى العساكر البريطانيين أنفسهم ، ألوفاً أخرى من العساكر الهنود و الأستراليين ، و الأفارقة ، و حتى العرب الذين التزم جميع قادتهم بموالاة الحلفاء من قعر سلم التبعية العمياء ، إما برغمهم ، و إما بزعمهم أن " بريطانيا العظمى " آنذاك، تحتفظ لهم بجوائز سياسية مرضية فور تحقيق النصر على " المحور" ، اللهم باستثناء قائدنا الفلسطيني التاريخي ، محمد أمين الحسيني ، الذي ظل طيلة سِنِيِّ الحرب لاجئاً سياسياً في كَنَف أدولف هتلر ، ليس إعجاباً بعنصريته الجرمانية الطاغية ، و إنما لأن هزيمة بريطانيا ، في أية حرب ، مع أي عدو ، بدت له نافذة الأمل الوحيدة لإبطال " وعد بلفور " و ما يستتبعه من اغتصاب فلسطين ، وتأسيس " جريمة إسرائيل " .. إلا أن رياح الحرب العالمية الثانية جرت بما لا تشتيه سفينة "الحاج أمين " !!..
في هذه الأجواء المحتشدة بأجواء الحرب ، كانت مدرستنا الابتدائية في حي "خير الدين" بالخليل لا يفصلها إلا جدار حجري واطئ عن معسكر للجنود البريطانيين يجاورها من جهة الشمال ، و لك أن تتصور مبلغ الطرافة و السخرية معاً في مشهد هذا الجمع من التلامذة الابتدائيين و هم يؤدون تمارين الصباح الرياضية في باحة المدرسة الفسيحة ، و على مرمى الحجر منهم ذلك الجمع الآخر من الجنود الأجانب الكريهين حقاً ، وهم يقومون بتدريباتهم العسكرية في غير قليل من جَلَبةِ الإيعازات و ضوضاء حركة السيارات .. و أمام باحة المدرسة مباشرة ، من جهة الشرق ، يمتد طريق الإسفلت الرئيسي الآتي من القدس شمالاً ، ليتعرج قليلاً داخل المدينة، ثم لينطلق جنوباً باتجاه بلدة "بئر السبع " ، و ثمة مئات الآليات العسكرية التي تمر من أمامنا يومياً، تقريباً ، ما بين ذاهبةٍ الجبهة المصرية ، أو آيبة منها ، و ما أكثر ما كنت ننصرف عن " معلم الحساب " بوجه خاص ، لكي نسترق النظر إلى مثل ذلك العرض العسكري على الطريق العام، من بين قضبان الحديد على شبابيك الصفوف، ذلك بأن بناء المدرسة في أصله كان " قشلاقاً" للعساكر الأتراك قبل اندحارهم شبه المجاني أمام هؤلاء الصليبيين الجدد ، من بريطانيين وفرنسيين، و قل إيطاليين أيضاً ، لأن هؤلاء مع الألمان هم المعسكر المقابل لجيوش الحلفاء على اتساع رقعة ليبيا ، و حتى مشارف القاهرة الغربية في العلمين ..



في الصف الخامس الابتدائي هذا ، بدا لمدير المدرسة الأستاذ " عيد الخطيب " ، و بعض معلميها الشبان كالأستاذ " مخلص عمرو " _ ( الذي سيكون له لاحقاً شأن سياسي كبير الأهمية في إطار المعارضة الشيوعية ، خاصة على عهد الحكم الملكي الأردني " للضفة الغربية " ) _ أنني أتمتع بمزايا استثنائية عالية في حصة " اللغة العربية " و أنني أقوم بإلقاء " المحفوظات الشعرية " المقررة علينا بطريقة باهرة مثيرة لإعجابهم ، و ربما كان مَرَدُّ ذلك إلى عشرات القصائد التي كنت قد اكتسبت دُربة مبكرة بإنشادها من بين فروع الأشجار على سفوح " دورا"، فكانت أصداؤها البعيدة تتجاوب في الوديان، مختلطة بمواويل الحرَّاثين، أو الحصَّادين، أو بمزامير الرعاة المنسرحة مع الهواء الطلق في المدى البعيد..
كنت أيضاً ، و ما أزال ، شديد الإعجاب بما قد تفَرَّد به والدي العظيم من "خَطٍّ يدوي" أكاد أقسم الآن ، في الثانية و السبعين من عمري ، أنني لم أجد في حياتي خطاً يدوياً عفوياً أجمل منه، فهو سواءً كتب لي قائمة بحاجات البيت التي سأشتريها من السوق على ورقة صغيرة، أو راح يكتب مذكرة إدعاءٍ ، أو دفاعٍ ، سيتقدم بها إلى محكمة المدينة بوصفه "وكيل محامٍ" بمجرد مجهوده الشخصي، ففي كل الأحوال كان يرسل " سِنَّ ريشته " بطلاقة ، و بمستوى من " خط الرقعة " نادر المثال .. و على العكس تماماً من أخي "محمد" الذي يكبرني بما يزيد عن عشر سنوات ، و الذي كان خطُّه اليدوي، و أخطائه الإملائية الصارخة ، مثاراً ، لفكاهات جميع أفراد الأسرة، و قضى بضع سنوات في المدرسة قبل أن يتخرج نهائياً من الصف الثاني الابتدائي (!!) فلقد سعيت جاهداً للسير على خطى والدي ، ليس في مجال خطِّه اليدوي وحسب ، بل و في مجمل نشأته العصامية التي ظلت ردحاً من الزمان مضرب المثل في كل جبل الخليل..
على أن مسألة "الخط اليدوي" هذه تذكرني بواقعة لا أدري إن كانت طريفة أو سخيفة، و لكنني أسوقها إليكم على أية حال.. فلقد حدث في مقتبل فصل الربيع من تلك السنة أن أوعز مدير المدرسة بدهان بعض مرفقاتها ، باللون الأبيض، بما في ذلك الجدار الخارجي لمرفق الحمامات، حتى لقد بدا لي الجدار كقطعة خيش هائلةٍ ، وناصعة البياض تحت أشعة شمس الربيع النقية الهادئة، و لا ينقصها إلا رسامٌ عظيم من مستوى بيكاسو، لكي يرسم عليها لوحة فسيحة من مستوى "الغارنيكا" ، و يا له من إغراء شديد قد تملكني في ذلك الحين لأن أترك أثراً فنياً مرموقاً على ذلك الجدار، و لكنني مع الأسف العميق لا أجيد الرسم حتى على مستوى قطةٍ أو غنمةٍ، أو مجرد جحشٍ صغير مما يركبه صغار الشعراء عادةً على "وزن الرجز" ، و إنما كان التخطيط، بالحرف العربي تحديداً هوايتي المفضلة الثانية بعد إنشاد الأشعار بصوت عال..
نعم .. كنا قد بدأنا نتعلم اللغة الإنكليزية منذ بداية السنة الماضية في مدرسة دورا، بما في ذلك تخطيط "حرفها اللاتيني" الذي تكتب به، بشروط شبه معجزة من الدقة و العناية الفائقة .. و لكنني أقسم الآن ، و في كل آن ، أنني لم أجد في جميع أشكال الكتابة على مستوى الكون ما يمكن أن يرقى إلى مستوى "خَطِّنا العربي" من دقة، وجمال ، و منطق ، و موسيقى داخلية حقيقية تترقرق في حروفه ، و برغم ذلك فإن عسكرياً مغولياً فظَّاً، هو كمال أتاتورك ، لم يجد وسيلة يلتحق من خلالها بقشرة المدنية الأوروبية ، الواقعة بدورها على سطح حضارة الإنسان سوى أن يعتمر "البرنيطة" بدلاً من "الطربوش" ، و أن يكتب بالحرف "اللاتيني" بدلاً من العربي ، فوقع له، نتيجة ذلك، مثل ما وقع للغراب في تقليده الأعمى.
و إذن ، فإن خير ما يمكن أن "أَطلُس" به مساحة هذا الجدار، هو التخطيط عليه ( بالبنط العريض ) ببضع كلمات أخترعها، و يراها جميع التلاميذ ، و الأساتيذ ، من أبعد مكان في ملعب المدرسة..
يف أيامنا الأخيرة المتطورة هذه، تستطيع أن تشتري علبة " دهانٍ بخاخ" باللون الذي ترغب، والقياس الذي تريد، فتكتب ما تشاء على أي جدار حتى لو كان بطول عشرة أمتار .. ولكن مثل هذه الإمكانية السهلة المنال لم تكن متوفرة لنا في تلك الأيام حتى في الخيال، و مع ذلك، و بما أن الحاجة أم الاختراع ، فلقد كنا نلجأ إلى أمنا " الطبيعة" التي لا تبخل علينا بأي عطاء، فيقوم الطفل أو التلميذ منا باحتشاش حزمة مناسبة من أعشاب الربيع الطرية و المفعمة "باليخضور"، ثم يثنيها مرةً ، أو اثنتين، بحيث يتشكل لها رأس مضغوط على نفسه بقوة كافية، وبتمرير هذا الرأس بقوة ضاغطة أيضاً على أي جدار، فإن باستطاعتك أن تكتب ، أو ترسم، ما تمليه عليك قريحة الطفولة العابثة، و يالها من نتيجة مذهلة بارتسام أخضر الطبيعة المشع على أبيض الجدار الناصع، كما لو كان مشتقاً من طيلسان دراويش الفيتورية في السودان !!..
و هكذا ، و بحزمة العشب تلك في أيدي، و بما يشبه _ من بعيد ، لا من قريب _ خط "الثلث" الذي كان الأكثر انتشاراً على لافتات الحوانيت في المدينة ، كتبت في السطر الأعلى فوق الجدار الناصع البياض : " هنا مدرسة عين خير الدين الابتدائية " ، ربما متأثراً في هذه الصيغة الإعلانية بأولئك المذيعين " الروَّاد" الذي كانوا ينادون المستمعين على بضاعتهم الدعائية لمصلحة "الحلفاء" بعبارتهم التقليدية ، و في غير قليلٍ من التنغيم و التفخيم : "هنا دار الإذاعة الفلسطينية في القدس " .. ثم ، في سطرين متعادلين ، و بالبنط العريض، و المديد ، وجدتني أكتب بعبثٍ صبياني يغر محسوب العواقب.. " بيت ماء .. على خطِّ الاستواء " .. و لم أكن لأعلم مسبقاً أن متعة " التخطيط " العابرة هذه سوف يترتب عليها تغريم والدي " بستة و ثلاثين قرشاً فلسطينياً" عداً و نقداً، لإعادة طلاء الجدار ، دون أن يأبه أحدٌ من أعضاء الهيئة التدريسية بما قد بذلك من جهد فنيٍّ في تنميق هذه " الجدارية " التي ربما بدت لي في تلك السن كما لو كانت " جدارية الغارنيكا" في عين بابلو بيكاسو!!..
لكن أعضاء تلك الهيئة التدريسية ، للأمانة مع الحقيقة ، أخذوا يُشعرونني بين الحين والآخر بنوع من الاختلاف إلى حد الامتياز عن سائر التلاميذ الآخرين ، خاصة في حصة اللغة العربية ، و أكثر من ذلك في إلقاء ما يقترن بها من " محفوظات شعرية " ، إلى الحد الذي كانوا يستقرئونني فيه بعضاً من تلك " المحفوظات" خارج حصة الدرس ، فيما يتبادلون بينهم من النظرات و" الوشوشات " ما يَـنُمُّ عن إعجابٍ غير اعتيادي بطريقتي يف الإلقاء ، و كان من بينهم ذلك الأستاذ النابه المرموق، مخلص عمرو ، الذي سيصبح في زمن لاحق قريب من أبرز أعلام فلسطين ، و هو الذي إن يكن في معتقده السياسي " شيوعياً حتى النخاع " فلقد كان محباً للعربية و تراثها الحضاري الحافل، و مسهماً برأس قلمه الحاذق بالعديد من الكتابات و المعالجات السياسية في غير قليل من صحف فلسطين و دورياتها المحلية، و إنما اعتنق الفكر الماركسي ، على ركاكته و تفاهته ، لأنه كان الأكثر اجتذاباً في ذلك الزمان لألباب الطامحين من الشباب، من حيث يَعِدُهم و يُمنِّيهم باستنزال جنات النعيم من غيوب السماوات إلى واقع الأرض، لكي يعيش البشر جميعاً كإخوة متحابين ، مسالمين ، مفعمين بالسعادة ، في أفياء " جمهورية أممية " وارفة الظلال ، تماماً كحكاية أطفال !!.. زد على ذلك أن الانتماء الشيوعي يف تلك الحقبة كان أمراً علنياً ، و ربما مرغوباً فيه أيضاً من جانب الانتداب البريطاني الجاثم على صدر فلسطين و كامل رقعة المشرق العربي ، ما دام رب المادية الشيوعية ، ( الاتحاد السوفياتي ) ، في حالة تحالف مكين مع أرباب المادية الرأسمالية الغربيين ، في حربهم الحاسمة ضد أرباب الاشتراكية القومية العنصرية في كلٍ من برلين و روما .. و لكن ذلك كله لن يجدي الشيوعيين العرب فتيلاً بعد أن تضع الحرب أوزارها بهزيمة دول المحور ، و سيجدون أنفسهم و قد انتقلوا بسرعة قياسية من " نضال ما فوق المنابر " ، إلى " نضال ما تحت الأرض " ، إنتهاءً بتعذيبهم أو حتى بتصفيتهم الجسدية في معتقلات العرش الهاشمي على حدود الصحراء !!.. و على أية حال ، أشهد الآن ، أنه كانت لشخصية الأستاذ مخلص عمرو ألمعيةٌ خاصةٌ، جاذبة و مؤثرة، تمنيت معها ، ( حتى منذ يفاعة الصف الخامس الابتدائي ) ، أن أخرق مرحلة الطفولة و الفتوة معاً ، باستعجال أن أصبح رَجُلاً له كامل وزنه و اعتباره فيما يخوض فيه الكبار من قضايا الحياة و الناس و سائر مفردات الشأن العام..
حقيقة الأمر أن العمر لم يكن ممكناً أبداً أن يتقدم بي كل هذه السنوات العديدة في طفرة واحدة ، فذلك هو رابع المستحيلات .. لكن إحدى الضرورات العائلية المُلِحَّة ، من جهة أخرى، سرعان ما فرضت عليَّ فرضاً أن أظل سابقاً لعمري بسنتين اثنتين في كل ما يتعلق بالمواد الأدبية من مناهجنا الدراسية ، كالعربية ، و الإنكليزية ، و التاريخ ، و حتى الجغرافيا بنسبة أدنى .. ذلك بأن حكومة الانتداب كانت قد أنشأت في مدينة الخليل مدرسة خاصة بجميع عميان فلسطين ، عُرِفت باسم " المدرسة العلائية للمكفوفين" تيمناً بعبقرية أبي العلاء المعري ، و كان أخي "موسى" الذي يكبرني مباشرة ( بين الأخوة الذكور ) بقرابة خمس سنوات ، واحداً من تلاميذ هذه المدرسة في الصف السابع الابتدائي منها ، حيث كان فاقداً نعمة البصر منذ سن الرابعة ، و ها أنذا الآن المرشح الوحيد بين جميع أفراد الأسرة لأن أكون عينه المبصرة في كل ما يتعلق بدراسته ، لأن أخي "عيسى" الذي يصغرني مباشرة بسنتين لم يكن يؤهله صفه الثالث الابتدائي لأن يتحمل مثل هذه المسؤولية .. و معنى أن أكون " العين المبصرة " لأخي الكفيف موسى ، لم يكن ليقتصر على مجرد تلاوة دروسه على سمعه ، بأداء لغوي و صوتي سليم لا تشوبه شائبة ، بل كان يتعدى ذلك إلى واجب إملاء تلك الدروس عليه بما هو أبطأ كثيراً من سرعة السلحفاة ، خاصة في مرحلة كتابة خَطِّ " بريل " بأسلوب المسطرة الحديدة المزدوجة ، ففي هذه الحالة كان يتوجب على الكفيف أن يضغط بمخرزه الحديدي سِتَّ مرات مجتمعة في حيز واحد من ثقوب المسطرة ، لمجرد أن يكتب حرف "الواو" على سبيل المثال .. و لكن ، و ربما بعد سنة أو اثنتين ، جيء لجميع تلاميذ "العلائية" بآلات كاتبة سُداسية الأصابع ، يستطيعون بواسطتها أن يدونوا الحرف الواحد ، بمجهود واحد ، فتظهر نقاطه المدببة على خلفية الورق المقوى الخاص بهم دفعة واحدة ..
قصارى القول، كانت عملية الإملاء تلك تجمع ما بين المشقة الشديدة إلى حد الإرهاق.. و الفائدة القصوى غير المحسوسة في حينها .. فهي ، من جهة أولى ، نازفة للوقت ، و باعثة على السأم ، لأن ما يمكنك إملاءه على مبصرٍ في مدة دقيقة واحدة مثلاً كان يتطلب منك ما لا يقل عن عشر دقائق لإملائه على كفيف .. و لكنك في الوقت نفسه ما إن تترفع إلى الصف السابع الابتدائي ، فالأول الثانوي ، فالذي يليه و يليه ، فسوف تمتلئ نفسك غبطة و حبوراً و ربما امتيازاً على سائر الطلبة الآخرين ، لأنك ستكتشف ببساطة تامة ، أن كامل منهاج " اللغة العربية" مثلاً، (وهو المشترك آنذاك ما بين المبصرين و المكفوفين)، قد سبق لك أن قرأته بدقة وأناة بالغتين، عندما أمليته قبل سنتين على أخيك ، ومن قد ينضمون إليه من أقرانه العميان الذي كثيراً ما كانوا يهتبلون فرصة ثمينة كهذه، فيتحلقون من حولك تحت شجرة التوت الوارفة في باحة مدرستهم في "حارة الشيخ" ، و ينطلقون يطقطقون بمخارزهم الحديدية ، أو آلاتهم الكاتبة الحديثة ، كما لو كانوا أعضاء فرقة موسيقية عجائبية أنت قائدها المطاع ..
كان من بين أولئك الأقران في الصف نفسه كفيف مقدسي حاد الذكاء اسمه " رجائي بصيلي" ، و لن يكتفي مستقبلاً، كأخي، بمجرد الحصول على شهادة الدراسة الثانوية المعروفة آنذاك باسمها الإنكليزي " متريكوليشن _ Matriculation " و إنما سيمضي في دراسته الجامعية ، فالعليا ، إلى أن يحصل على شهادة الدكتوراة في الآداب من إحدى الجامعات الأميركية، فلقد كان هاجسه أن يصبح ذات يومٍ "طه حسين فلسطين " أو من يماثله في آداب الشعوب الأخرى.. و حقيقة الأمرة أنه ما من واحد من جميع أولئك العميان إلا كان يتقمص في نفسه شيئاً من روح " أبي العلاء المعري " ، و يتغنى بالعديد من شواهده الشعرية البارزة، بل و يرتاب في كل شيء يجري من حوله، ليس كموقف فلسفي من الحياة و الناس ، كما هو الحال مع رهين المحبسين، و إنما بحكم عاهته المادية، العضوية، التي تعزله عن جميع مرئيات العالم من حوله.. و أما عن "رجائي بصيلي " على وجه الخصوص، فلقد وجدت فيه من ينافسني، أو ربما يفوقني في مبلغ عشقه للشعر العربي، ربما بحكم تقدمه المحسوس عليَّ في العمر و التحصيل المدرسي ، فكان دائم الإنشاد للعديد من محفوظاته القديمة، و المعاصرة ، بذلك الصوت الأبحِّ، و الأغنِّ، في آن معاً، فأطرب له حقاً ، و لكنني لا أعجب به كثيراً، لأن جميع أغراض الشعر كانت سواءً لديه في الأداء من المديح إلى النسيب إلى الهجاء.. و كائناً ما كان من الأمر فإنني اعترف الآن لهذا الكفيف اللطيف بأنه قد طرح عليَّ منذ تلك السن المبكرة تحدياً هاماً في التعلق بروائع شعرنا العربي، و الاقتراب أكثر فأكثر من شطآن أوقيانوسه اللانهائي العذوبة و الجمال..
كذلك أتذكر الآن من لطائف عالم العميان، تلك السويعات الممتعة من صباحات أيام..الجمع عندما كنت أقود أخي موسى و لفيفاً من أقرانه، من مدرستهم في "حارة الشيخ"، إلى منـزل مدير مدرستهم " صبحي الدجاني" في حيِّ "عين سارة" وهو مكفوف البصر أيضاً من أبناء العاصمة القدس، و قد نال حظاً من التعليم الجامعي في انكلترا، وها قد عاد الآن إلى عمله في الخليل متزوجاً من سيدة أجنبية، بيد لي، من وجها الأبيض و شعرها الأشقر، و عينيها الزرقاوين، و ملابسها اللامألوفة عندنا في كل جبل الخليل كما لو كانت قطعة من الجمال الأخَّاذ قد هبطت علينا من عالم آخر .. و ها هي الآن، بعد تفاهم قصير مع زوجها، تتخذ مقعداً لها قبالة جسم خشبي بديع الصنع، تنبثق من منتصف أصابع طويلة بيضاء، و أخرى قصيرة سوداء، و يُعرف "بالبيانو"، و تصدر عنه أصوات موسيقية يا لها كم تختلف اختلافاً بعيداً كما بين الثرى و الثريا عن "ربابة " شاعرنا الشعبي في عشيَّات "دورا" الساهرة السامرة، أو عن الشبابة أو الناي ما بين أيدي الرعاة و في مناسبات الأفراح ..
و ما هو إلا إيعاز خاطف متفق عليه مع المدير "الدجاني" حتى ينطلق لفيف التلاميذ في أداء محفوظاتهم من الأغاني و الأناشيد المدرسية بمرافقة أصابع "البيانو" التي كانت أصواتها القوية الجليَّة تتعدى كثيراً أربعة جدران المكان .. و لست أستطيع أن أتذكر الآن _( ويا ليتني أستطيع)_ ما إذا كان ذلك المغترب اللبناني النابه الظريف "نجيب حنكش" قد وضع لحنه البديع لقصيدة جبران خليل جبران "أعطني الناي و غني" منذ ذلك الزمن البعيد في مطلع الأربعينيات، ثم جاء ثلاثي الأخوين رحباني و فيروز لينفخ فيها الروح بعد سنوات و سنوات، أم أن جوقة المنشدين المكفوفين هذه كانت تؤديها بلحن مختلف، إلا أن ما أستطيع أن أتذكره جيداً على الحالين كليهما، هو أنني كنت أتابع القصيدة، كلمة بكلمة، من كتيب صغير للمبصرين، فكان إعجابي الشديد بها، مبنىً، و معنى، و صوراً شعرية خلابة، لا يعادله إلا امتعاضي من أصوات هؤلاء المنشدين التي كانت تجأر بأبياتها يميناً، و شمالاً، وخبط عشواء، مَنْ تُصِبْ!!..
و هنا تحديداً سأسجل اعترافاً آخر إزاء قصيدة "جبران" هذه .. فعدا عن التهامي لها المرة تلو المرة و اختزانها بمنزلة خاصة في عمق الذاكرة، فلقد وقفت حيالها كما لو كنت أتعرف لأول مرة على عالمٍ شعري جديد ورائع هو الآخر، و لكن لا علاقة له بروعة كل ما سبق أن قرأته من شعر تراثي أو حتى معاصر في ذلك النصف الأول من القرن العشرين.. ثمة إحساسٌ بالعذوبة والجمال هنا، هو غير ذلك الإحساس بالجلال و الفخامة هناك.. و لعلي قد اختزنت في اللاشعور منذ ذلك الزمن السحيق أن عالم الفن العجيب هذا، بقد ما يتسع لامريء القيس، فلا بد أن يتسع أيضاً لجبران خليل جبران .. و بقدر ما يتسع لشجن الربابة المرسل في ليالي الصيف تحت صمت النجوم، فلا بد أن يتسع كذلك لجهارة هذا البيانو الذي يهيج القلب رقة و ألقاً على حدٍّ سواء.. و أن من يدعي لنفسه امتلاك الحقيقة الشعرية في تعليبه للقصيدة ضمن شكلٍ فني واحد دون سواه، فهو لا شك أشبه بثورٍ حزين، سمين، مصابٍ بعمى الألوان .. و لعل هذه القناعة المبكرة الكامنة في اللاوعي منذ عهد التلمذة الابتدائية، هي التي دفعتني لاحقاً في سِنيِّ الإدراك المتقدمة لأن أضع قصيدتي في "الشكل الفني" الذي أرى، بمحض حريتي واختياري، أنه يناسبها اكثر من غيره، مبتعداً إلى أقصى الحدود عن كثير من انفعالات النقاد الذهنية السقيمة و العقيمة فيما يملونه على المبدعين من مواصفات فنية جاهزة، و غير آبهٍ على الإطلاق بكل ما هو رائج ورديء معاً في سوق الحداثة الأدبية من "بالة" الحضارة الغربية، ساعياً من وراء ذلك كله إلى بابتداع حداثتي المستقلة التي تخصني بمفردي، دون أية استعارة من هنا، أو اقتباس من هناك، لأنه في الوقت نفسه الذي أضنى فيه العديدون من الشعراء قرائحهم الهلامية الرخوة في لهاثهم المستميت وراء ما يوصف اعتباطاً "بالشعر الحر"، خاصة في عَقْدَيْ الخمسينيات و الستينيات فلقد جعلتُ هَمِّي، و أطلقتُ هِمَّتي، باتجاهِ غايةٍ أخرى مختلفة تماماً، هي أن أكون أنا "الشاعر الحر" في المقام الأول، فتأتي بعد ذلك حرية الشعر، و الفكر، و سائر الحريات الأخرى، في موقعها الطبيعي كثمرة في شجرة، و كتتويج منطقيٍ و حتميٍّ لحرية الإنسان..



الموقف النقدي في شعر يوسف الخطيب
---------------------------------------------

يمتلك الشاعر العربي الفلسطيني وعياً وطنياً وقومياً ثورياً حاداً، وعميقاً، ساعده كثيراً في بناء موقفه النقدي من أحداث وواقع أمتنا العربية في تاريخها المعاصر.
ومن يدرس قصائده بإمعان في مجموعاتهِ الشعرية الخمس سيتلمس طبيعة هذا الموقف النقدي وأهدافه ومدى حدتهِ، وعمقهِ، ولعل الملاحظة الأولى التي نروم تسجيلها حول هذا الموقف هي أن شاعرنا الخطيب في نقده لحالات الخور والهزال والانكسارات التي أصابت أمتنا العربية، وفي نقده للجماهير العربية، أو للذات العربية، لم يكن يستهدف النقد من أجل النقد، ولا النقد من أجل التجريح، أو النقد من أجل إعلاء الذات الفردية الشاعرة، بل هو يستخدم مبضع الجرّاح لكي يستأصل الأورام التي نهشت جسد الأمة.
وفي قصائد عديدة يقرن هذا الموقف النقدي ـ التشريحي بالبديل، أو ضرورة المعالجة وإسعاف الجراح.
أي أن موقفه النقدي مبنيٌ على أساس هدف مركزي واضح: وهو إعلاء شأن الأمة العربية بين أمم الأرض، وبناء مجدها المعاصر كوريث شرعي لمجدنا السالف التليد.
إنه باختصار نقد إيجابي بنّاء لا نشمُّ فيه رائحة المواقف العدمية أو التبخيسية التي تقود إلى تكريس عقدة الدونية التي تمنعنا من التجاوز والتخطي وعدم الثقة بإمكانات أمتنا الهائلة، وقدرتها على اللحاق بالمستوى الحضاري الذي بلغته الأمم الأخرى.
لم يكن الخطيب في أشعاره مجاملاً على حساب القضايا الوطنية والقومية الكبرى التي آمن بها، بل كان صدامياً، شاهراً قناعاته الحادة ضد الدجل والزيف والخضوع لأي حاكم أو نظام عربي لا يُعبر عن المصالح العليا للأمة العربية، وعن قضيتها المركزية، فلسطين، ونقرأ في قصائدهِ دلالات عديدة: فهو الناقد، والمنقِذ، والفادي، والمخَلِّص، والمحرِّض، والدليل، والمتشوِّف، والتنويري، والمتوعد والمنذر، والمتنبئ، والمُنشِد، والحادي، ولسان حالة الأمة... إلخ.
وقد قاده موقفه النقدي الصادق هذا من الحياة والواقع إلى توجيه هجاء لاذع للشعراء الذين أصبحوا بوقاً بيد الحاكم المستبد، أو الحاكم المفرِّط بالقضايا القومية.
أما الملاحظة الثانية، فهي أنه في موقفه النقدي هذا انطلق من رؤية قومية شاملة تجاوزت القطري، وآمنت بأنَّ خلاص الأمة كامن في وحدتها وفي تجاوز حالات الانقسام والتمزق التي تنوء تحت ثقلها.
لنقرأ لـه هذا الموقف النقدي الحاد للذات العربية:
((نحن يا ابن البتول، دولارنا الله
تعالى، وجلّت الأسماءُ))( )(1)
وهو في رؤيته القومية والنقدية يعتقد بأن سبب انكساراتنا لا يعود إلى عدوانية وهمجية "اليهود" فحسب، بل إن العرب الخاضعين والمنقسمين على أنفسهم يشكلون السبب الجوهري في هزائمنا كقوله: ((يظل الله يقتله اليهودُ، يموت في العربِ...))( )(2).
يمكن القول إن عشرات الشعراء العرب المحدثين سجلوا موقفاً نقدياً إزاء القضايا المهمة التي تمس واقعنا العربي المعاصر، أو إزاء الحالة المزرية التي تعيشها أمتنا العربية، وإذا كان بعض هؤلاء لم يمتلكوا موقفاً نقدياً متكاملاً ومتبلوراً في قصائدهم فإننا وعلى أقل تقدير لمسنا المسحة النقدية أو الانطباع النقدي الذي غلف العديد من قصائدهم، ومع ذلك فإن القليل من هؤلاء الشعراء العرب تركوا بصماتهم الخاصة والمتفردة على الشعر العربي في هذا المجال، أي في مجال الشعر العربي المعاصر ذي الرؤية النقدية التي تستند إلى موقف نقدي حاد من أهم الأحداث المعاصرة التي عاشتها أمتنا العربية. وإذا كان نزار قباني وعمر أبو ريشة والجواهري ومظفر النواب من أبرز هؤلاء القِلة ـ حسب وجهة نظري ـ الذين تفردوا في هذا المجال، فإننا يمكن أن نضع الشاعر العربي الفلسطيني يوسف الخطيب ضمن هذه الكوكبة اللامعة فيما يتعلق بهذه النقطة تحديداً.
صحيح أنني لا أضع هؤلاء الشعراء في خانة واحدة، فلكل منهم خصوصيته الفنية وتجربته الشعرية الفريدة والمتميزة، وهم يتمايزون ـ قطعاً ـ في مستواهم الفني والفكري وعمق الأثر الذي تركوه في الشعر العربي المعاصر، إلاّ أن الموقف الرؤيوي النقدي قد جمع هؤلاء جميعاً إذ يمكن القول دون تردد أن الموقف النقدي هو أحد أهم الخصائص الفكرية التي وسمت أو طبعت العديد من قصائد هؤلاء ومن ثم كان لذلك الموقف الفكري انعكاساته الفنية والجمالية المتمايزة على نصوصهم الشعرية.
ويمكن الإتيان بالعديد من الشواهد والأمثلة الشعرية التي تؤكد صحة ما ذهبنا إليه، فهاهو ذا الشاعر العربي السوري الشهير "عمر أبو ريشة" يصرخ ناقداً ومتألماً في قصيدته الميمية المشهورة بعد نكبة حزيران:
((أمتي هل لكِ بين الأمم
منبرٌ للسيف أو للقلمِ
أتلقاكِ وطرفي مطرقٌ
خجلاً من أمسكِ المنصرمِ
ويكاد الدمعُ يهمي عابثاً
ببقايا كبرياء الألم
ألإسرائيل تعلو رايةٌ
في حمى المهد وظلِّ الحرمِ!
كيف أغضيتِ على الذل ولم
تنفضي عنك غبار التُهم
أو ما كنتِ إذا البغي اعتدى
موجةً من لهبٍ أو من دم
ودعي القادة في أهوائها
تتفانى في خسيسِ المغنمِ
أمتي! كم صنمٍ مجدّتهِ
لم يكن يحمل طهر الصنمِ))( )(3)
واضح هنا الموقف النقدي الحاد الذي وسم هذه القصيدة وطبعها بطابعه، والذي شمل عموم الأمة، الأمّة بجماهيرها العريضة، وحكامها وقادتها على حد سواء. ليس أكثر إيلاماً للأمة من أن يصفها الشاعر بارتضاء حالة الذل والخضوع بعد أن كانت مثالاً للأمم الأخرى في العز والفخار ودفع العدوان والظلم عن ذاتها، والشاعر هنا يقارن بين عهدين: الماضي المجيد لهذه الأمة، والحاضر البائس لها، إذ ليس لها مكانة متميزة بين الأمم الأخرى في مجالي القوة والعلم.
واضح هنا النبرة التقريعية والتأنيبية الساخرة التي تفوح بين ثنايا القصيدة، وكذلك مدى الألم الذي ينتاب الذات الشاعرة التي تصل إلى مشارف البكاء، ولم ينس الشاعر أن يصب جام غضبه على غالبية القادة والحكام العرب الذين يتحملون القسط الأكبر من المسؤولية في ضياع فلسطين وفي الهزائم المتكررة التي حاقت بأمتنا العربية، ولعل الجرأة الاقتحامية التي ميّزت هذه القصيدة والتي تجسدت بمهاجمة الحكام المتخاذلين أمام العدو الصهيوني والغارقين في انتهازيتهم و"أمجادهم" الشخصية المزعومة، وتكالبهم على كراسي السلطة والمغانم الرخيصة بالتضافر مع الموقف النقدي العام لأحوال أمتنا العربية هي أحد الأسباب الرئيسية المهمة وراء ذيوع وانتشار هذه القصيدة بين صفوف وجماهير أمتنا العربية، حتى غدت واحدة من أكثر القصائد العربية المعاصرة شهرة وجرياناً على ألسنة الناس، وخاصة المثقفين أو المتعلمين منهم. والسبب الآخر الموازي للأول في الأهمية هو القيمة الجمالية والفنية التي كشفت عنها هذه القصيدة، التي تميزت بجزالة ومتانة مفرداتها، ولغتها الفنية الموحية والواضحة في ذات الوقت، وبجوها الإيقاعي الساحر ذي النبرة المجلجلة، وصورها الفنية الموحية والمشرقة: "موجة من لهبٍ أو من دمٍ".
وبالرغم من اتهام الشاعر لأمته بالذل والخنوع وبؤس المستوى الحضاري الذي وصلت إليه، إلاّ أنه لم يكن يستهدف من وراء نقده التجريح أو التيئيس، بل إنه من خلال رؤيته النقدية القائمة على المقارنة بين ماضٍ مجيد لهذه الأمة، وحاضر بائس، كان يريد شحن الجماهير العربية بطاقة تحريضية عالية تستهدف دفعهم إلى ضرورة الانقلاب على الذات وكنس ركام الذل والخنوع ومقاومة العدو الصهيوني المغتصب والحاكم العربي الجائر في ذات الوقت.
أما الشاعر العربي السوري الشهير الآخر الذي ذاعت قصائده ذات الطابع الرؤيوي النقدي وحفظها الملايين من أبناء أمتنا العربية، والتي كان لها أثر كبير في شعبية الشعر ودخوله إلى بيوت ملايين الناس العرب فهو نزار قباني صاحب المدرسة الفنية المستقلة والقصيدة ذات النكهة النزارية المتميزة والمتفردة: بلغتها، وأجوائها، وصورها، ومفرداتها، ومواقفها الفكرية وبنيتها الجمالية العامة. ولعل موقف نزار النقدي يتجلى في أبهى صوره في قصيدته الشهيرة: "رسالة عتاب إلى دمشق" والتي كتبها إثر نكبة حزيران. يعاتب الشاعر في مطلع قصيدته مدينته العربية العظيمة "دمشق"، إلاّ أنه عتاب المحب لحبيبتهِ ومعشوقته، عتاب من يريد أن يرى "حبيبته" بأبهى حللها، وأجمل زينتها، وأحسن أحوالها، مع التأكيد على طهر ثراها، وتشبيهها كأغنية تراود حلم الشاعر، ويبقى طول الدهر مترنماً بها:
((نثرتُ فوقَ ثراكِ الطاهر الهدبا
فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا
حبيبتي أنت فاستلقي كأغنيةٍ
على ذراعي ولا تستوضحي السببا
أنت النساء جميعاً ما مِن امرأة
أحببت بعدك إلاّ خلتها كذبا))( )(4)
وبعد هذه المقدمة يوجه الشاعر نقده الجريء واللاذع للحكام العرب الذين شكلت مواقفهم المتخاذلة أو المتواطئة مع العدو، بالإضافة إلى رؤيتهم وموقفهم غير العلمي من الأحداث سبباً رئيسياً وحاسماً في نكسة حزيران. وقد تميز الموقف النقدي لهذه القصيدة بنكهة نزارية معروفة وهي السخرية اللاذعة من الحكام العرب وفضحهم وتعريتهم واتهامهم "بالإدمان" على الذل والخنوع، بل وتقبيل أيادي العدو!!. واضح هنا أن تطرف الشاعر في رؤيته النقدية هو لكشف زيف وهزالة الواقع والحاكم العربي أمام الجماهير العربية وذلك من أجل دفعها للتمرد والنهوض وإزاحة الحكام الخانعين، والشاعر حينما يمعن في روح التهكم والسخرية من الحكام العرب يستند إلى الرمز التاريخي العربي ـ الإسلامي الكبير، خالد بن الوليد، وذلك لكشف خور حالة الحاكم العربي بمقارنته أمام حالة النهوض والشجاعة التي يحتلها الرمز خالد، ومن خلال حالة المقارنة هذه شحن قصيدته بشحنة تحريضية كبيرة تدفع الجماهير لتغيير أحوال الأمة من خلال الاقتداء ببطولات القائد العربي الكبير خالد بن الوليد الذي تقزّم أمام بطولاتهِ غالبية الحكام العربي المتصاغرين، فيقول في القصيدة نفسها:
((أدمت سياطُ حزيران ظهورَهم
فأدمنوها وباسوا كفَّ من ضَرَبا( )(5)
يا ابن الوليدِ ألا سيفٌ تؤجره
فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا))
كما تميز الشاعر العربي العراقي الكبير، محمد مهدي الجواهري، بمواقفه النقدية الجريئة ضد الحكام التابعين للأجنبي، أو الظالمين لأبناء شعبهم، وقد تميزت هذه المواقف بالجرأة الاقتحامية، والعنفوان والبسالة النادرة، حتى أن الجواهري لجأ أكثر من مرّة إلى شتم الحكام الجائرين بشكل مباشر وصريح من على المنبر فقاده موقفه هذا إلى السجن، وإلى مديرية الأمن العامة للتحقيق كما حصل لـه بعد إلقاء قصيدته الشهيرة "هاشم الوتري" التي ألقاها في حفل تكريم الطبيب العراقي هاشم الوتري، والتي كان مطلعها:
((إيه عميد الدار شكوى صاحب
طفحت لواعجه فناجى صاحبا))( )(6)
وقد كلفته هذه المواقف النقدية الجريئة ثمناً باهظاً، حيث ذاق مرارة السجن والنفي والتشرد وخسران الوظيفة ومرارة العوز والفاقة. لذلك نال الشاعر مكانة أثيرة في صفوف الشعب العراقي ولدى عموم أبناء أمتنا العربية، وفي موضع آخر من قصيدته المذكورة تعلو نبرة تحديه بلغة نارية مسربلة بالعنفوان:
((أنا حتفهم ألجُ البيوت عليهم
أغري الوليد بشتمهم والحاجبا))( )(7)
واضح هنا في هذا البيت مقدار ضخامة الروح الشاعرة وقدرتها على التحدي، كما يتميز هذا البيت بالجرأة الاقتحامية والهجومية النادرة التي يمثلها الفعل "ألج" الذي أعطى للصورة حركية كبيرة. الشاعر هنا لا يهدد أو يتوعد الحكام الجائرين بالموت والويل والثبور فحسب بل يحرض عموم الشعب على شتمهم. إن قوة وبسالة وجرأة الجواهري دفعت الحكام الظالمين والتابعين للأجنبي في العراق لكي يحسبوا لـه ألف حساب، بل كانوا يخشون أشعاره ومواقفه النقدية الجريئة لأنها كانت قادرة على بث روح التحدي والمقاومة في نفوس الملايين من أبناء الشعب، لذلك كله يمكن القول عن الجواهري بأنه قائد جماهيري بامتياز وذلك من خلال أشعاره الثائرة والمتمردة، حتى أن قصيدة واحدة منه كانت كافية لبث روح التمرد ضد السلطة في نفوس العديد من أبناء الشعب العراقي، أو كافية لدفعهم إلى التظاهر وإعلان غضبهم بأشكال وتجليات عديدة. وحينما كان الجواهري يشعر "أحياناً" بأن الشعب ركن ـ مؤقتاً ـ للهدوء أو للانكفاء والتراجع، فإنه يلجأ إلى توجيه النقد له، لكنه النقد الإيجابي البنّاء الذي يتضمن التحريض على ضرورة عدم اليأس والانكفاء في مقاومة الظالمين والطغاة، إنه النقد الممزوج باللوم وكشف سوء الحال التي وصل إليها الشعب، إنه موقف يستهدف التعرية لحالة الركود السلبية التي قد يعتادها الشعب في مرحلة من مراحل حياته التاريخية، وهو موقف يستهدف دفع الشعب إلى الانقلاب على ذاته ومحاربة كل صفات الكسل والسلبية واللا أبالية كما ترمز إلى ذلك مفردة "النوم" في قصيدته الميمية الشهيرة:
((نامي جياع الشعب نامي
حرستكِ آلهةُ الطعامِ
نامي فإنْ لم تشبعي
من يقظةٍ فمنَ المنامِ
نامي على زُبْدِ الوعو
دِ يُدافُ في عسلِ الكلامِ
نامي فقد أنهى "جميـ
ـيعُ الشعبِ" أيامَ الصيامِ
نامي تُريحي الحاكميـ
ـنَ من اشتباكٍ والتحامِ
نامي فجدرانُ السجو
نِ تعجُ بالموتِ الزؤامِ))( )(8)
أما شاعرنا العربي الفلسطيني يوسف الخطيب فقد تميز بمواقفه النقدية الجريئة، حتى يمكن القول إن هذه السمة "الموقف النقدي" هي من أهم السمات الفكرية والرؤيوية التي ميّزت غالبية قصائده، ويمكن اعتبار قصيدته الشهيرة: "هذي الملايين" من الأمثلة والنماذج المهمة التي تؤكد ذلك، لنقرأ لـه منها هذه الأبيات الذائعة الصيت:
((أكادُ أُومنُ، من شكٍ ومن عجبِ
هذي الملايينُ ليست أُمّةَ العربِ
هذي الملايينُ لم يدرِ الزمانُ بها
ولا بذي قارَ شدّت رايةَ الغَلَبِ
ولا تنزّل وحيٌ في مرابعها
ولا تبوكُ روتْ منها غليلَ نبي
ولا على طنفِ اليرموكِ من دمها
توهَّج الصبحُ تيَّاهاً على الحقبِ
ولا السفينُ اشتعالُ في المحيط ولا
جوادُ عقبةَ فيه جامحُ الخببِ
أَأُمتي، يا شموخَ الرأس مُتلعةً
من غَلَّ رأسكِ في الأقوامِ والرُكبِ
أَأَنتِ أنتِ، أم الأرحامُ قاحلةٌ
وبُدِّلت، عن أبي ذرٍّ، أبا لهبِ!!))( )(9)
بهذه النبرة الضخمة، والرؤية النقدية الحادة، والموسيقى المُجلجِلة، يفتتح الشاعر قصيدته. إلاّ أن نقده الواضح لحال أمّتهِ العربية الهزيل لم يدفعه إلى حكم إطلاقي يقودنا إلى فقدان الأمل، وكما يبدو واضحاً فإن الوعي هنا يتدخل بقوة لكبح جماح الغليان العاطفي للشاعر، فلا تصل شكوكه بجماهير أمته إلى حد ضياع الأمل بصحوتها وقدرتها على الانبعاث مجدداً، فالفعل "أكاد" يضع حداً لهذه الشكوك ولا يقودها إلى الحكم المطلق كما أسلفنا.
والشاعر يوسف الخطيب باتكائهِ على التاريخ يقارن بين مرحلتين تاريخيتين: الأولى: المرحلة الماضية وهي مرحلة نهوض وشموخ وانتصارات عسكرية باهرة قادها قادة عظام "كعقبة بن نافع" وغيره، والمرحلة الحاضرة التي تتسم بالضعف والتمزق والخضوع بِذُل للقيود الأجنبية، وتبديل الرموز التاريخية العظيمة "كأبي ذر" برموز تاريخية مرفوضة عند العرب والمسلمين "كأبي لهب" الذي نزلت بحقه الآية القرآنية الكريمة والشهيرة: تبّت يدا أبي لهب: "وهي في سورة المسد ـ آية رقم واحد".
إلا أن الشاعر يستدرك فاتحاًَ أمامنا كوة للنور تبدد الظلمة الحالكة، مؤكداً على أن شعلة البعث هي التي ستمزق "سجوف الليل" لنقرأ لـه ما يدلل على ذلك:
((أَكادُ أُومن، من شكٍ ومن عجبِ
هذي الملايينُ ليست أمة العربِ
لولا تشقُ سجوفَ الليلِ بارقةٌ
يا شعلةَ البعثِ، رُدِّي حالكَ الحُجبِ))( )(10)
ثم نتلمس بعد ذلك بوضوح الرؤية القومية للشاعر، فالوطن العربي كله هو مركز همومه وانفعالاته وطموحاته القومية، وهو يتنقل بأبياتهِ من اليمن إلى يافا إلى بغداد، إلى الشام، إلى وهران...الخ مؤكداً وحدة البيت العربي. لنقرأ لـه دعوته لصنعاء كي تهب لنجدة يافا واللد:
((صنعاءُ رُدِّي دماً ما أنتِ ساحَتَهُ
يافا تصيحُ به مجنونةَ السَّغَبِ))( )11
لا أذَّنت فيكِ يا صنعاءُ مئذنةٌ
واللّد تندبُ في محرابها الخرِبِ))
ثم يتحدث الشاعر عن "نبوءته" التي تؤكد حتمية سقوط الطغاة وانتصار الشعب والأمة، متخذاً من سقوط طاغية العراق نوري السعيد دليلاً على ذلك، ومؤكداً على بسالة الشعب العراقي وقدرته على التمحيص والفرز الذكي: ـ
((واسأل ببغدادَ، عن نوري، وخلفتهِ
نبوءَتي في طغاةِ الأرضِ لم تخبِ
إذا الثعالبُ صَيدت في مكامِنها
أَيّان يُفلِتُ من شعب العراقِ، غبي))( )(12)
ثم يؤكد الشاعر في خاتمة قصيدتهِ على أن الشام هي كعبة العرب، هي روح الأمة، وعنوان مجدها، وأملها بالنصر والانبعاث، ونلمس هنا تبدد حالة الشك وظهور حالة الإيمان محلها ضمن عملية نفي جدلية: لنقرأ لـه هذه الخاتمة المتفجرة بالعنفوان والمتأججة بالروح القومية الغاضبة، والمؤمنة بوحدة المشاعر العربية في مختلف أصقاع الوطن العربي الكبير:
((أكاد أُومنُ من شكٍ ومن عجبِ
هذي الملايينُ ليست أُمةَ العربِ
لولا رفاق طريقٍ في ملامحهم
وهجُ الرسالةِ يُذكي سالف النَّسبِ
تدري العروبةُ من أبناء بَجْدَتِها
من المُحامونَ بالأرواحِ والقُضُبِ
من الذين، إذا أنّت لنازلةٍ
يافا، تنهَّدت الأصداءُ في حلب
آمنتُ بالشامِ، روح البعثِ تسكنها
ما جلّقُ هذه، بل كعبةُ العرب



حوار مع الشاعر الفلسطيني الكبير يوسف الخطيب
-------------------------------------------------------



أجرى الحوار سمير عطية ووسام الباشا

بداية نحن نشرف ونتشرف أن نكون في ضيافة عملاق الشعر العربي الأستاذ الكبير الشاعر يوسف الخطيب وأحد الأعمدة الأدبية والثقافية الملتزمة والجادة التي تربينا من معينها الثقافي والشعري والأدبي محن أبناء فلسطين سعداء كثيرا في هذه الزيارة في بيته الكبير في قلبه الكبير للأستاذ الكبير يوسف الخطيب.
شرفتم أيها الأخوان وأسمي بالبسملة بسم الله الرحمن الرحيم.
1- من دورا إلى دمشق ... الهجرة والشَّتات ، في أيِّ جغرافيا للشعر يسكن شاعرنا اليوم ؟
أولا أنا ككل إنسان فلسطيني يعتز بمسقط رأسه أعتز جدا في مسقط رأسي في دورا الخليل مع أنني طفت قبل سنة 1948 تقريبا 95% من القرى والمدن الفلسطينية من يافا إلى حيفا إلى بيسان إلى نابلس إلى غزة إلا أن لدورا مسقط رأسي مكانة خاصة وبصفة خاصة أيضا أن المدرسة التي كنت أتعلم فيها في مدرسة برهان الابتدائية كان الساحل الفلسطيني مكشوفا أمامنا كمن يقرأ في كتاب مفتوح من شمال يافا إلى جنوب غزة هذه الصفحة الكاملة المتصلة بزرقاء السماء وبفيروز البحر. ولدورا الخليل كل الفضل في منحي الموهبة الشعرية و أنا مدين لها بهذه الموهبة التي هي بنفس الوقت هبة من الله سبحانه وتعالى.

2-

لو .. قَشَّة مما يرف ُ ببيدر البَلَد
خبأتها بين الجناح وخَفقة َ الكَبِد ..
لو رملتان من المُثَلَث أو رُبا صَفَد
لو عُشبة َ بيد ٍ ومزقة َ سوسن ِ بِيَد
أين الهدايا مُذ بَرَحت َ مرابع الرَغد
أم جئت َ مثلي بالحنين وسَوْرة الكمد

ماذا تركت دورا في شخصية الشاعر والإنسان يوسف الخطيب؟ وكيف كانت مسيرة حياتك بدونها؟
لدورا أثر كبير بكل تأكيد وأمر بديهي ومنطقي تركت دورا أثر كبير في تكويني النفسي والأدبي والثقافي كونها جزء من وطني الحبيب فلسطين والوطن الأكبر الذي هو الوطن العربي. ما تركته دورا في نفسي هو التعلق بكل ذرة من تراب هذا الوطن الرائع و لا أعتبر أن مجيئي إلى دمشق سنة1950 للدراسة في الجامعة السورية آنذاك اغترابا ولا هجرة لسبب بسيط جدا لأن في تراثنا الوطني الفلسطيني وكفاحنا عندما دخل اللنبي القدس وتقاسمت فرنسا وبريطانيا إقليم بلاد الشام عند ذلك صدرت أول جريدة فلسطينية رافضة لهذا التقسيم عام 1920 أصدرها علامة كبير اسمه عارف العارف وكان اسمها سوريا الجنوبية ولم يسمها فلسطين إطلاقا ونحن إذا وبدون تملق هذا وطننا .. نحن سوريون جنوبيون اسمنا الإقليمي الخاص فلسطينيين نعتز جدا جدا بهذا الاسم حتى تتحرر فلسطين التي لها الأفضلية في نفسي على ساحة الوطن العربي مع إيماني بأني أنتمي لهذا الوطن بكله وليس بقسم يسير منه. ولكن مادامت فلسطين محتلة فهي الأعز وهي الأغلى.
أستاذ يوسف أريد أن أنتقل بعد هذه الذكريات إلى بعد عامين من نكبة فلسطين إلى ديوان عائدون الذي صدر لكم في عام 1959 يكمل خمسين عاماً من البحث عن عودة إلى وطنه ؟ ألا تزال تحتفظ بالأمل ؟
بمزيد من الأمل يعني ما زلت أحتفظ بمزيد من الأمل بالعودة إلى وطننا الفلسطيني ولكن بالنسبة إلى هذا الديوان الذي صدر في العام 1959 ينبغي الإشارة إلى أنه الديوان الثاني وليس الأول الذي كان بعنوان العيون الظلماء للنور وهذه القصيدة فازت بالجائزة الأولى على ثمانين شاعرا من عقد الخمسينيات في أكبر مسابقة أدبية في العام 1955 عند ذلك التف من حولي أصدقائي من الجامعة السورية وقالوا لي والله لنطبع هذا الديوان فأعطيتهم هذه القصائد وأصدروها في ديوان العيون الظلماء للنور لكن بالنسبة للسؤال بعد ستين سنة من الاحتلال هل مازال الأمل على حاله فأنا ببساطة أجيبك بأن أملي يزداد يوما بعد يوم وأتصور أنه بعد عشرين سنة قادمة إذا لم يزل هذا الخطأ الجغرافي الذي أقم في فلسطين باسم " إسرائيل" فمعنى هذا أن هناك خطأ في التاريخ.وهذا إيماني وأملي وليس مجرد إيمان فقط بل نتيجة لقراءة تاريخنا البشري في حركة التاريخ.. التاريخ لن يتسامح طويلا جدا مع هذه الجريمة التي أقيمت على أرض فلسطين.
3- بصفتك من الشخصيات الأولى في فلسطين التي انتسبت إلى المد القومي العربي ممثلا بحزب البعث العربي الاشتراكي في الخمسينيات وبصفتك احد الذين أسسوا لأدب تلك المرحلة فهل تستطيع أن تحدثنا عن الفرق بين تلك المرحلة وهذه المرحلة أدبيا ؟
تلك المرحلة في الحقيقة كان يسودها الإيمان من عامة الناس ليس مني انا بالذات أكثر مما عليه درجة هذا الإيمان في أيامنا. في الخمسينيات والستينيات حتى عام 1967 الكل ينتظر يوم الزحف لتحرير فلسطين والكل متفائل بمعنويات قومية ووطنية عالية جدا كان ينظر تجاه القضية الفلسطينية. بعد كارثة 1967 بدأ ما يشبه الانهيار في معنويات الجماهير وفي ثقتهم بقادتهم و هذا السبب أثر على الأدب ولكن أدباء تلك المرحلة كانوا أكثر تفاؤلا من أدباء هذه المرحلة . وبما أن عامة الشعب والأمة قاطبة كانت متفائلة في بشكل طبيعي أدباء هذه الأمة كانوا أكثر تفاؤلا من عامة القوم .
أصعب ما في رسالة الشاعر الملتزم، بعد حرب حزيران هو أن عليه، من موقع الهزيمة، أن يبشر بالنصر ومن جوف الظلام، أن يستعجل طلوع الصباح" ، هذه مقدمة قصيدة عناقا لك الصبح ولا نعلم أيها الأبلغ القصيدة أم مقدمتها ؟ استوقفت كبار الكتاب والأدباء من أمثال د. علي عقلة عرسان ، وكانت ضمن 100 قصيدة مختارة شعرية من الأدب العربي في ديوان العودة. كيف ترى الشعر الملتزم بين خيارين خيار المقاومة وخيار التسوية؟
هاتان يا عزيزي الأستاذ سمير قصيدتان كتبتهما في حزيران سنة 1967 عنوان القصيدة الأولى " الطريق إلى محمد" والقصيدة الثانية عناقا لك الصبح كتبت هاتين القصيدتين كاستجابة وردة فعل على هذه الكارثة. كثيرون من الشعراء انهارت أعصابهم وانهارت معنوياتهم كفروا بأمرين اثنين بالعروبة وبالدين وقالوا لو أن في العروبة خير ما سقطت هذا السقوط وانهارت بهذا الشكل في حزيران :
أقول أصعب ما في رسالة الشاعر الملتزم، بعد حرب حزيران هو أن عليه، من موقع الهزيمة، أن يبشر بالنصر ومن جوف الظلام، أن يستعجل طلوع الصباح وفيها أقول بالنسبة لآخرين من الشعراء

ولو كنت في الصعب رخو الجنان
شقي اللسان دني القيم
لأحرى إذن أن أشق الثياب
وأكسر بالكعب هذا القلم
ولكنني غاية في البعيد
وهمّا أحاوره أي هم
يقولون إن لم يكن ما تريد أرد ما يكون فهذا قسم
محال على العربي المحال
عديم على العربي العدم

لكن القصيدة الأساسية التي اعتمدتها كردة فعل على كارثة حزيران ( الطريق إلى محمد) من مؤلفات حزيران الأسود- دمشق أول تعريف بها إلى رسولنا العربي الأعظم مثل الإنسان الأعلى على مر الأجيال وتعاقب العصور.. ووضعت عنوانا ثانيا في القصيدة ليس بالشعائر وحدها يتحقق الإيمان وجل الإسلام دينا أن ندير عاصفته الكونية في قعر الفنجان أنا لا أبحث عن الأمور الصغيرة أو الثانوية في الإسلام ولكن أنظر إلى الإسلام كعاصفة قوية تريد إصلاح الكون ككل وتبرئة هذا الكون من جميع الشوائب التي فيه.
أستاذ يوسف ما الأثر الذي تركته في شعرك الهزائم العربية والاتفاقيات الاستسلامية مع الكيان الصهيوني خصوصا وأن عدد من النقاد يرون أن تلك الاتفاقيات أثرت على مسيرة الشعر الفلسطيني وجعلته منقسما على نفسه؟
إن جريمة أوسلو والاعتراف بالكيان الصهيوني كان خيانة من الخيانات الوطنية وهناك عدد من النقاد وبعض الشعراء الفلسطينيين يعملون على مبدأ التطبيع مع هذا الكيان بعد الاتفاقيات الخيانية, فهناك شاعر فلسطيني يكتب قصيدة عشقه لفتاة يهودية أو أصدقاء يهود والتعاون مع بعض الأحزاب "الإسرائيلية" كحزب ركاح, وأنا لا أقيم وزنا لكل هؤلاء مهما قيض لهم من شهرة .. أنا ألعن الشهرة ..وكل من يقوم بعملية التطبيع أو يروج لها ليس له أي وزن ولا يشكل شيئا. أما المقاومة فهي الأساس إذا كنا شعبا طبيعيا وإذا كنا بشرا نستحق صفة الإنسانية فعلينا أن نسترد وطننا الفلسطيني من أيدي هؤلاء المجرمين.
هل تستطيع أستاذنا الكريم أن توصّف حالتك العاطفية عندما كتبت قصيدتك العصماء التي مطلعها
أكاد أومن من شك ومن عجب*****هذي الملايين ليست أمة العرب...
إن الكثيرين يرددون هذه القصيدة وأنا أعتز بها بالرغم من أنها القصيدة الوحيدة التي احتملت أقصر مدة لي في كتابة قصيدة. فأنا لم اكتبها في أسبوعين أو ثلاثة بل في جلستين أو ثلاث جلسات بهذا التدفق الحمد لله يعني هذه هبة حباني إياها الله تعالى كتبت هذه القصيدة. و شعوري هو شعور أي إنسان يرى أمته تسير باتجاه الخطر على شفير الهاوية فينبه وهذا من نوع التحفيز وليس من نوع جلد الذات من نوع التحفيز لهذه الأمة أن تستيقظ من نومها فقلت:
أكاد أومن من شك ومن عجب*****هذي الملايين ليست أمة العرب...
هذي الملايين لم يدر الزمان بها ولا بذي قار شدت راية الغلب
أأمتي يا شموخ الرأس مترعة مَن غل رأسك في الأقدام والركب
أأنت أنت أم الأرحام قاحلة وُبدّلت عن أبي ذر أبا لهب
كأنما لم تلد في اليتم آمنة ولا حليمة هزت مهد مرتقب
يعني هل كانت هذه القصيدة ردة فعل على حدث معين؟
لا.. هذه القصيد نعايشها ولم تكن ردة فعل أنا أعيش حالة أمتي في حالات النهوض ولكن هناك كثير من المعوقات الخارجية والذاتية داخل هذه الأمة تمنعها من النهوض فلذلك أنا استفز الأمة في هذه القصيدة وهي أيضا حركة هز وإيقاظ للمشاعر القومية.
كيف تقيم الحركة النقدية في مسيرة الشعر الفلسطيني ؟ هل تقدمت على مسيرة النص الإبداعي الشعري ؟ هل كانت هذه الحركة موضوعية وجريئة من وجهة نظرك في رسالتها ؟
في إشكالية النقد والإبداع أنا أنطلق من الحقيقة التي تقول وهي أن النقد الأدبي ككل تأثر بمدارس فكرية ونظريات فلسفية ومناهج نقدية إنما هي طفيليات تعيش على جسد الإبداع والشعر ..النقد كائن طفيلي على جسد الشعر و لهذا السبب كثيرون جدا من النقاد يشوهون عملية الإبداع بآرائهم الخاصة بهم البعيدة جدا عن عملية الخلق الشعري يعني أنا في رأيي لكي يكون الإنسان ناقد شعريا يجب أن يكون شاعرا بالأساس وعليه أن يعرف أسرار عملية النقد الشعري من داخلها أن يعلم كل شيء عنها وان يمارس الشعر حتى يحق له لاحقا النقد الشعري أو الأدبي بشكل عام .
قيم عدد من النقاد تجربتك الشعرية منذ العام 1955أي تاريخ إصدار ديوان العيون الظلماء للنور بأنها مزيج من أنواع الشعر كالمدح والغزل والهجاء والرثاء والحنين امتلكت لغتها بامتياز كيف تقيم أنت تجربتك الشعرية في خمسة عقود؟
أنا لا أقيم أبدا وكل ما هنالك أنا أقول ببساطة تامة أنني راض فقط ..راض عن أعمالي الشعرية فقط لا غير ..إن التقييم من حق الآخرين وليس من حقي.
يرى بعض الأدباء أن الشعر تراجع في الدور والمكانة والتأثير في المجتمعات العربية ، والبعض الآخر لا يزال يرى أن الشعر هو ديوان العرب في كل المراحل ؟ ما رأيك ؟
في الشق الأول من السؤال حول تراجع الشعر في الحقيقة نحن انبهرنا جدا بواجهة الحضارة الغربية الأوروبية والأمريكية بشكل عام. فأصبحنا ننقل عن هذه الحضارة كل شيء بدون تمحيص ولا اختيار ولا انتقاء لدرجة أنه أصبح بعض النقاد الأدبيين العرب يعيشون على فتات مائدة الثقافة الغربية .. في الحقل الشعري بالذات. وابني ووضاح خبير في هذا المجال بشكل جيد فقد درّس في الأدب الإنكليزي في جامعة فيرجينيا في أمريكا حوالي 5 سنوات ويعلم ربما في هذا المجال أكثر مني أن هناك موجة أو أكثر من موجة في أوروبا أو أمريكا ظهرت ببدعة شعر اللغة واسم المجلة هناك LANGUAGE POETRY بمعنى أن الشعر في خدمة اللغة وليست اللغة في خدمة الشاعر وهذا عكس للآية فأصبح الشاعر أهم ما عنده أن يأتي بلغة جديدة سواء أكانت ذات معنى أو غير ذات معنى وتستمع إلى الواحد لغتي لغتي لغتي ...هؤلاء هم شعراء اللغة الذين يخدمون يضعون الشعر في خدمة اللغة بدلا من العكس وهذا أدى إلى عزوف الكثيرين جدا من هواة الشعر وعشاقه عن مثل هذه النتاجات الحديثة لم يجدوا فيها إلا التفاهة أحيانا والغموض لأن شعر اللغة يهمه اللغة أن تكون الجميلة بغض النظر إذا كان لها معنى أو لا .. وهذا أدى إلى انصراف الكثيرين من عشاق الشعر عن قراءة الشعر بالإضافة إلى الهزائم والخيبات و إلى كل ما هنالك والمعاناة الشديدة التي يعاني منها شعبنا العربي على عدة مستويات وأصعدة ولكن هذا برأيي أمر مرحلي آيل إلى الزوال ..وإلى عودة الإنسان إلى الشعر الحقيقي الذي يجتذب إليه الآخرين.
كيف يمكن أن نعيد للأدب رونقه ودوره الفاعل في تحريك الجماهير وهل ثمة وسيلة لدفع الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص ليعلو هرم التحريك؟
هذه مسألة تتوقف على الشاعر ..هناك مثل يقول .. قللي من المغني أقل لك ما الأغنية, هذه تتوقف على الشاعر إما أن يكون أمينا مع رسائله ويظهر قصائده بالرونق المطلوب وبالتأثير المطلوب في الآخرين وإما لا .. الآن هناك نظرية يتبناها بعض الشعراء إنه أنا لا يهمني الآخرون إطلاقا أنا يهمني ذاتي وأقول الشعر كما أريده لا كمان يريده الجمهور ..إلى هذه الدرجة أصبحوا يستغربون أن تقرأ قصيدة مفهومة للآخرين يعتبرون ذلك هبوطا في الشعر وهذا كما قلت لك مرحلة آيلة للسقوط .
أستاذ يوسف كيف ترى المشهد الشعري الفلسطيني هل يمكن أن تضيف شيئا بالإضافة لما تفضلت به .
أنا تفردت ربما برفض مصطلح الشعر الفلسطيني أنا أنتقد هذا المصطلح لأنه مصطلح خاطئ 100% وهناك العشرات من الذين قابلتهم وسألوني عن الشعر الفلسطيني ..هناك شعر عربي قد يتناول القضية الفلسطينية أو لا يتناولها فالشعر الفلسطيني عندي بحسب موضوعه الفلسطيني وليس بحسب جنسية الشاعر ..أرفض ذلك .. هناك شعراء فلسطينيون متغيبين تماما عن كل المأساة الفلسطينية وهناك شعراء عرب وليسوا فلسطينيين ولهم في ديوان الشعر الفلسطيني قصائد بالغة الروعة وخالدة وباقية . وحتى شعراء المهجر لهم قصائد في القضية الفلسطينية قصائد من أروع ما يمكن وهم ليسوا فلسطينيين .
أستاذي الكريم إذا انتقلنا من إشكالية المصطلح إلى مضمون المشهد الشعري في فلسطين؟ هل تراه ضعيفا إذا أردت أن تعطيه تقييما أم من الصعب أن نعطيه تقييما بكلام موجز عن مشهد ثقافي واسع ؟
المشهد الشعري في فلسطيني متراوح على حد اطلاعي وأعتقد أنه كافي إن هناك اختلاف بين فئة من الشعراء وفئة وأخرى والمشهد ليس متجانسا وليس واحدا بعنصر واحد هناك خليط من الموازييك والفسيفساء هناك من الشعراء من هم ملتزمون غاية الالتزام .. هنالك من يتعاملون القضية الفلسطينية كنوع من الواجب الثقيل وهناك من يديرون ظهورهم من حيث المبدأ لكل المأساة الفلسطينية وهناك شعراء فلسطينيون بشهادة الميلاد ..فالمشهد متراوحا.
وعموما أستطيع القول وبدون تردد أن الإبداع الشعري المتعلق بالقضية الفلسطينية إنه يتمتع بمستوى معقول إن لم يكن جيدا. أم في الخارج أو الشتات العالمي أعتقد أن البعد والهجرة هي أكثر ما يعزز بالشاعر وطنيته الفلسطينية وقوميته العربية وتتضاعف كمية الحنين والالتزام وهذا واضح من ديواني الثالث المعنون بواحة الجحيم ومن أفضل قصائدي التي كتبتها في حياتي هي التي كتبتها في هولندا عندما كنت مطاردا أو ممنوعا أو ملاحقا في ستة أقطار مشرقية في آخر أيام الوحدة فاضطررت إلى اللجوء إلى هولندا واشتغلت سنتين هناك وفي هاتين السنتين أظن أنني ارتقيت إلى مستوى مختلف جدا جدا وأفضل من المستوى السابق في عملية الخلق الشعري.
ما رأيك بالشعر المكتوب باللهجة العامية أو المحكية؟ وهل تعتقد أن هذا الشعر هو الأقرب للجماهير حسب ما يدعي بعضهم؟
إذا كان المقصود بالشعر العامي هو مثل الدعوة اللبنانية لسعيد عقل أو غيره أن يكون بديلا لشعر الفصيح فهذا مرفوض وادعاء باطل بالأساس أما إذا كان الشعر باللهجة العامية فهو يستخدم لأغراض الغناء لأغراض بسيطة لأغراض شعبية فأنا أرحب بذلك وأعتقد ان القصيدة العامية قدمت نماذج لا بأس بها خاصة في أغاني فيروز وأغاني غيرها يعني لعبت اللهجة العامية دورا ممتازا جدا ولكنها ليست بالبديل.. وأنا لا أستطيع أن أكتب باللهجة العامية.
يواجه الجيل الشاب مساحة واسعة في منابر النشر لا تتساوى مع المساحة النقدية الموجهة والمطورة للتجربة الشعرية الشابة ؟ وهناك شبه غياب للتوجيه الإيجابي النقدي الذي يطور من الإبداع الشبابي فما رأيك في هذا الموضوع؟
أنا أعتقد بالعكس بالنسبة للنشر العادي الورقي الفرص في الماضي كانت أفضل مما عليه الآن .. في الماضي كان هناك تقدير أكثر للشعر وإقبال أكثر على الشعر الآن باستثناء شاعرين أو ثلاثة لا تجد من يقرأ الشعر وإذا طبع الشاعر ألف نسخة يتبقوا أمامه سنة أو سنتين.. أما بالنسبة للنشر الإلكتروني فهذا موضوع آخر وهذا قد يكون له مستقبل عظيم وأنا لا أستطيع أن أحكم بشكل جيد أنا الآن في الثمانين من العمر ..وبصراحة أنا لا أتعامل مع النشر الإلكتروني إلا في حدود بسيطة جدا ليس لعدم إيماني بالنشر الإلكتروني ولكن لأنني أعتقد أن النشر الورقي الكتابي يبقى هو الأفضل وهو الأكثر وفاءا وهو الذي يؤلف علاقة حميمة وخاصة ما بين القارئ والمقروء ..غير عن شاشة الكمبيوتر.
حين استلمت درع جائزة القدس في العام الماضي قلت إن ( زهرة المدائن القدس ، هي ميلاد يسوع وإسراء محمد عليهما السلام عاصمة فخرية لكل القارة العربية لا استقلال لأي كيان عربي بلا استقلال لها ولا حرية لعربي بدون تحرير لها ) ...اليوم تتعرض القدس لهجمة خطيرة للغاية متزامنة مع احتفالياتنا بالقدس عاصمة للثقافة العربية ...ما رأيك ؟
إن هذه العبارة قلتها في يومية الاحتفال بدمشق عاصمة للثقافة العربية السنة الماضية وعلى الرغم من أنها الاحتفالية هي لدمشق عاصمة للثقافة العربية اعتبرت أن القدس في حقيقة الأمر هي العاصمة الأبدية للقارة العربية من على منبر دمشقي .
أما أن تكون "إسرائيل" تحاول إجهاض هذا الاتجاه فهذا من طبيعة الأمور ولا غرابة في ذلك إسرائيل عدو من بعد انتهب عرضنا وكرامتنا القومية وحتى الإسلامية فهل تتوقع من هذا العدو ألا يحاربك .
قلت في حديث لصحيفة الأهرام العربي في 8-12-2007م إن قصيدة النثر ‏ أشبه بنتاج زواج الفرس بالحمار‏ ؟ هل استطاعت هذه التجربة خلال عامين أن تعدل من رأيك فيها؟
كلا على الإطلاق .. إن هذا التعبير هو ترجمة من جانبي لأصل المصطلح أو التعبير الإنكليزي أو الغربي تسمى قصائد الـ hybrid وتعني الخلاسي أو النغل فهي قصيدة نغلية وهذا ليس تجنيا مني وهو موجود في قلب الثقافة الغربية أيضا.. لا أريد أن يعتبرني رجعي أو متخلف أو غير مطلع لا .. الحمد لله انا مطلع .. الغربيون إذا أراد أحدهم أن يشتم الآخر يقول له you are prose أنت نثر كشتيمة عادية.. ونظن أن أمثال هذه النتاجات الشعرية ذات عمر قصير جدا ومحدود شكسبير منذ أربعمائة سنة شعره باق وخالد والمتنبي منذ ألف سنة شعره باق وخالد. ولكن سان جون بيرس لم يسمع به إلا قليلون حتى داخل فرنسا ..
يقول د. عادل الأسطة في دراسة له بعنوان ( شعر المقاومة الفلسطينية في النقد الأدبي في العالم العربي ) : وثاني الدارسين الذين تناولوا هذا الشعر وأبرزوه هو الشاعر يوسف الخطيب في المقدمة الطويلة التي صدر بها " ديوان الوطن المحتل "(1968). أفصح الخطيب عن دراسته ومنهجها، وأشار إلى أن دارس هذا الشعر لا يستطيع أن يتعمقه أو أن يحياه جيداً دون أن يضعه قدر الإمكان، ضمن المؤثرات المختلفة السياسية والاجتماعية والثقافية التي شكلته على صورته المعطاة .. فالخطيب لم يدرس النصوص دراسة فنية، قدر ما أضاءها من خلال الكتابة عن المؤثرات التي أحاطت بها، ولم يكن ناقداً جمالياً، وإنما كان مؤرخاً وعالمَ اجتماعٍ ومبدئياً، عدا أنه حاكم النصوص السياسية، ما رأيك؟
أولا اشكر الدكتور الأسطة على هذا الكلام ..ثانيا عندما أصدرت ديوان الوطن المحتل لم أكن أهدف بأي شكل من الأشكال أن أقدم دراسة نقدية لهذه الأشعار وإنما دراسة وطنية ثقافية سياسية والبواعث التي حملت هؤلاء الشعر على كتابة هذه القصائد فبعضهم أصاب حينما تعلق بالوطن وبالقوم وبعضهم أخطأ بانتسابه إلى حزب ركاح الشيوعي الإسرائيلي العربي فهذا مرفوض من جانبي من حيث المبدأ فهاجمت هذه الناحية وحاولت أن أبرز الجوانب الوطنية الملزمة في قصائد هؤلاء الشعراء.
ما هي النصيحة التي توجهها لبيت فلسطين للشعر ولهذه التجربة التي تحاول أن تجمع الشعر الفلسطيني أو ما قيل عن فلسطين؟
أولا من حيث المبدأ لا يصح إلا الصحيح .. لا تركضوا وراء الشهرة إطلاقا أو إلى الشعراء المشهورين ..أركضوا والهثوا وراء الإبداع الشعري الذي يرضي ضمائركم ووجدانكم بدون التطلع إلى الإذاعات والتلفزيونات والفضائيات من تبرز وماذا تبرز يعني أن تكونوا مستقلين أنا أشترط في الشاعر أن يكون مستقلا عن أي مؤثر خارجي أن يكون أمينا مع نفسه أمينا مع الآخرين المتبقين لإبداعهم الشعري. وبهذه المناسبة أحيي جهودكم الممتازة والممتازة جدا في تأسيس هذا البيت.





يوسف الخطيب شاعر العروبة والمقاومة والإنسانية
---------------------------------------------------

محمد قاسم الخليل
رحل الشاعر يوسف الخطيب بعد حياة حافلة بالشعر والنضال والجهاد الأكبر والأصغر، لم يهدأ الخطيب خلال حياته الممتدة على ثمانية عقود من العمل من أجل قضية شعبه ووطنه، وحمل خلال ستين عاما على عاتقه لواء الشعر المقاوم، وبقي ملتزما بقضايا أمته ووطنه حتى الأيام الأخيرة من حياته، لم يجامل ولم يهادن.

كانت المرة الأولى التي سمعت فيها بالشاعر في عام 1965 عندما ألقى يوسف الخطيب قصيدة في مهرجان وطني كانت إذاعة دمشق تنقله مباشرة قال في مطلعها:‏
أكاد أومن من شك ومن عجب‏
هذه الملايين ليست أمة العرب‏
هذه الملايين لم يدري الزمان بها‏
ولا بذي قار شدت راية الغلب‏
ومن تلك القصيدة:‏
لو كنت من مازن لم يستبح وطني‏
بنو اللقيطة من صرافة الذهب‏
شدت تلك القصيدة الجماهير، وشدهم أكثر قوة نبرة الصوت المتوافق مع مضمون القصيدة، ماجعل اسم الشاعر يتردد على الألسنة وتتحرك الشفاه بتلك القصيدة ولاسيما مطلعها الذي أصبح من الأمثال وبعد أيام طبعت القصيدة، بعنوان شعلة البعث، وعرضت في واجهات المكتبات ومنها مكتبة كانت ملاصقة لدار سينما العباسية، حيث بيعت منها آلاف النسخ أثلجت وارداتها صدر صاحب المكتبة.‏
ولم تكن قوة تلك القصيدة في جزالة ألفاظها فقط بل في تلك الجرأة التي امتلكها الشاعر حيث هاجم المتخاذلين، وما أشبه الليلة بالبارحة حيث يقول:‏
واخجلتاه بيوت الناس أعمرها‏
وبيت أهلي عويل الريح والخرب‏
ثم يمدح في ختام قصيدته نضال سورية ووقوفها إلى جانب الحق الفلسطيني فيقول:‏
ما ضرهم أنهم بالسيف نخوتهم‏
وغيرهم برجيج القول والخطب‏
أمنت بالشام روح البعث تسكنه‏
ما جلق هذه بل كعبة العرب‏
وقد ظل الشاعر على مبادئه لا يهادن ولا يساوم، ويقف ضد الذين يبيعون قضية وطنهم، ونجد ذلك في كثير من قصائده لعل أوضحها قصيدة (يوسف).‏
إن دمشق التي شهدت تألق الشاعر في هذه القصيدة سبق لها أن شهدت في عام 1955 ولادة شاعر شاب لفت أنظار الجمهور ونقاد الأدب يملك خصوصية واضحة في الصور الشعرية ومضمون القصيدة الوطنية، من المجموعة الشعرية الأولى ليوسف الخطيب بعنوان: (العيون الظماء للنور) وقد صدرت عن المطبعة العمومية بدمشق، ومنذ ذاك الحين بدأ هذا الصوت الشعري يأخذ طريقه إلى الأضواء الأدبية.‏
حياة يوسف الخطيب كانت حافلة بالأحداث تنقل خلالها بين عدد من المدن العربية والأوروبية ليستقر في دمشق، ومضى مناضلا في سبيل قضية شعبه في المجال الثقافي والأدبي.‏
كان في الخامسة والعشرين عندما وضع قدمه في عالم الشعر ولينتقل بعد ثلاث سنوات إلى شهرة أوسع عندما أصدرت له دار الآداب في بيروت مجموعته الثانية بعنوان: (عائدون) عام 1958، وقد لفت الأنظار بأسلوبه التصويري البعيد عن المباشرة.‏
بدا الوعي الوطني عند يوسف الخطيب منذ طفولته الأولى في قريته (دورا) القريبة من الخليل، مسقط رأسه في عام 1931، فقد كان الشعب الفلسطيني يناضل ضد الاحتلال البريطاني والنشاط الصهيوني في فلسطين.‏
وكان يوسف في الخامسة عندما اقتحم جنود بريطانيون منزله بحجة البحث عن سلاح يُمكن أن يكون والده قد أخفاه في المنزل قبل رحيله إلى دمشق، وقد لجأ إليها إثر ملاحقته من قبل قوات الاحتلال بسبب نشاطه النضالي، كما أصدر في بيروت مجموعته الثالثة بعنوان: (واحة الجحيم) عن دار الطليعة للنشر في عام 1964، وفي العام ذاته مجموعة قصصية بعنوان (عناصر هدامة) عن المكتبة العصرية.‏
كان الوالد المناضل قد أخذ بيد صغيره إلى كتّاب القرية ليتعلم القراءة والكتابة، ثم بعد ذلك درس مرحلة التعليم الابتدائي في مدرسة القرية.‏
هاجرت أسرة الخطيب إلى الأردن بعد النكبة، وحضر يوسف الخطيب إلى دمشق في عام 1951 ليدرس الحقوق في جامعتها، وبعد تخرجه آثر أن تكون مقرا لحياته العملية، وشهدت المدينة قبيل تخرجه في عام 1955 باكورة مجموعاته الشعرية (العيون الظماء للنور)، وانتماءه للفكر الوحدوي العربي.‏
وعمل الخطيب بعد تخرجه في الإذاعة الأردنية حتى عام 1957 حيث عاد إلى دمشق وعمل في الإذاعة السورية، وأصدر في دمشق ديوانه الثاني.‏
وخلال فترة الوحدة والانفصال لجأ إلى بيروت إثر ملاحقة المنتمين للحركات العروبية، ومنها إلى هولندا، وعاد إلى دمشق بعد ثورة آذار 1963 حيث استقر فيها بشكل نهائي.‏
وشمل العمل الإذاعي للشاعر إذاعات عربية عدة (دمشق، فلسطين، الرياض، صوت العرب، القاهرة، الكويت، بغداد، وإذاعة هولندا العربية).‏
وتولى في عام 1965 منصب المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون وبعد عام من هذا التاريخ أسس دار فلسطين للثقافة والإعلام والفنون حيث أصدر مجموعة من الكتب والموسوعات عن وطنه ومنها المذكرة الفلسطينية بخمس لغات عالمية لمدة تسعة أعوام بين عامي 1967 و1976.‏
كما أصدر في دمشق عام 1965 (ديوان الوطن المحتل دراسة ومختارات) تضمن مجموعة من قصائد ودواوين شعراء فلسطين المحتلة، أمثال محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، وفيه دراسة بقلم الشاعر عن الحركة الشعرية في فلسطين المحتلة.‏
وشارك الخطيب في تأسيس اتحاد الكتاب العرب مقره في دمشق، كما شارك في تأسيس اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وفي عام 1968 اختير بالإجماع عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني عن المستقلين، وأصدرت الأمانة مؤخراً الأعمال الكاملة للشاعر في ثلاثة مجلدات.‏
وقد حظي أدب وشعر يوسف الخطيب باهتمام النقاد والباحثين ومن الأبحاث اللافتة كتاب أصدره اتحاد الكتاب العرب في دمشق بعنوان (يوسف الخطيب ذاكرة الأرض، ذاكرة النار) تأليف ناهض حسن (فائز العراقي).‏
وتناول المؤلف التجربة الشعرية للشاعر مؤكدا أن الخطيب هو شاعر الأرض والوطن بامتياز، الوطن بوصفهِ رمز الوجود، وجوهر الكينونة البشرية والجذر الأول الذي يُحدد هوية الإنسان، وقيمته المعنوية، ويصوغ ذاكرته الأولى ووجدانهِ الجمعي.‏
ويؤكد المؤلف أن فرادة الخطيب وشخصيته الفنية المستقلة والمتميزة تجسّدت في العديد من الملامح والسمات الفنية الأساسية، ومنها طريقته في تعامله مع اللغة، وكيفية تطويعه لها، حيث يمكن القول إن له قاموساً شعرياً خاصاً يُميّزَه عن مجايليهِ كافة من الشعراء، والأساليب الفنية الحديثة التي استخدمها في التعبير عن رؤاه وأفكارهِ ومواقفه.‏
وأقيمت للخطيب خلال حياته العدد من الاحتفالات التكريمية كان آخرها تكريمه في مركز الخالصة في مخيم اليرموك بدمشق في مطلع العام الحالي، لأنه شاعر كان له دور كبير في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، وفي التأثير على الأجيال العربية بشعره وفكره الداعم لحق المقاومة، كما تم تكريمه في مهرجان المزرعة في السويداء خلال شهر آب من عام 2010.‏
وصدح بعض المغنين بشعر الخطيب ومن القصائد مغناة (أجراس بيت لحم وعاش الولد)وقد قام بتلحينها سمير كويفاتي وغنتها ميادة بسيليس.‏
وامتلك المبدع يوسف الخطيب طاقات تعبيرية ونفسية كبيرة ولغة شعرية مشحونة بدلالات و رموز وإشارات تلفت النظر وتشد القارئ والسامع.‏
يوسف الخطيب صوت شعري فلسطيني أثَر في الساحة الشعرية العربية على مدى نصف قرن، ويعد آخر الكبار من شعراء العروبة، لقد رحل لكن صوته الشعري القوي باق عند الأجيال القادمة.‏
وحقيقة لم يكن يوسف الخطيب شاعراً لفلسطين فقط، فهو شاعر قومي إنساني وطني ثوري، ومن يرجع إلى مجموعاته الشعرية سيكتشف كم كان يوسف الخطيب عروبيا وكم كان إنسانيا، فقد شدا لقضايا العرب ولقضايا المحرومين في كل مكان.‏
رحل وفي الحلق غصة كان يتمنى أن يكون طيرا يطير يخترق الحدود والقيود ويطير في سماء فلسطين فهو القائل:‏
ليتني كنت قبَرة فأطير‏
وجناحي مصفق في الأثير‏
فوق بيارة لنا وغدير ليتني كنت قبَرة‏




عِشقٌ ربَطَهُ بالأرض فأنجبت قريحتُهُ "شعرا"..
---------------------------------------------


هدى بارود
في فلسطين أونلاين\ غزة :

يوسف الخطيب.. عادَ بعمرِه إلى يوم تأسَّسَ "شاعراً"
اسمها.. "آلهة" حب وجمال كنعانية، تَرفّق النهار بها، وأهداها الله باقة سِحر كوني.. تَرتسمُ حدودها بالتقاء الأفق مع الساحل الفلسطيني، فهي الصغيرةُ "متوسطةً" بين يافا شمالا، وغزة من أقصى الجنوب، مكانها جبال الخليل، بالتحديد مُلاصَقَةً بالمدينة".
تلك هي قرية دورا الفلسطينية كما وصفها ابنها الشاعر يوسف الخطيب، والذي أطلق فيها صباحَ السادسِ من آذار "صرخته الأولى"، أي بعد عام واحد فقط من إعدام شهداء ثورة البراق (فؤاد حجازي وعطا الزير ومحمد جمجوم) والذين سرقت أعمارهم "بريطانيا" عام 1930.. مُعلنا "بها" أنه وُلد لـ "فلسطين" مواطنا، وللعالم "إنسانا" وشاعراً..
الشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب بحديثه لـ" فلسطين"، نَظَم عِقد كلامه عن قريته وماضيه فيها كأنه بيتُ شعرٍ تَفنن بإبداعه، فهو فيه ذاك الصغير الذي يحاول "بمتعة" فَكَ رموز المُعلقات التسع التي اقتنصها من "عِلْية" منزله، وهو أيضا الشابُ الذي "تَقَّلد" إدارة الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون السورية كأول فلسطيني يُنصَّب رئيسا لها..
وهو كذلك الشاعر الذي "بالعيون الظِماءُ للنور" صَدح كالبلبل معلنا أنه أُنذرَ لـ " الوطن المحتل"، كـ "مجنون فلسطين"، ومُقسما بأننا "عائدون".. وبالمناسبة كُل ما بين الأقواس هي "دواوين شعرية" لضيفنا الخطيب..
في اتصال هاتفي لـ "سورية" ملأه "الحنين"، ونضح من جود ذكرياته "الحدَيث"، نَقلَ "الخطيب" لنا ماضيه في مُذكراتٍ أسعفنا "التسجيل"، -رغم رداءته- في حِفظها، ننقلها "هاهنا" على صفحة "مذكراتي"، بين يديك عزيزي القارئ، لتستمتع كما "نحن" ببساطة "الفلسطيني" وإبداعه ما قَبل النكبة...
ربما كانت صرختي يوم ولدت هي رجع صدى لوطن بأكمله، أرهق كاهله نير الاحتلال البريطاني، والاستيطان الإسرائيلي، إذ أن حياتي كأي فلسطيني سَجلت الكثير من الظلم تِباعا
الخطيب
في عقله "الغض".. مكان
يوسف الخطيب كما ذكرنا سابقا، ولد سنة 1931 أي بعد عام من إعدام شهداء البُراق، وهو إن لم يكن قد عاصَر أحداث الثورة، إلا إن تبعاتها أحاطته، يقول بِحسٍ أدبي ربطه بذكراها:" ربما كانت صرختي يوم ولدت هي رجع صدى لوطن بأكمله، أرهق كاهله نير الاحتلال البريطاني، والاستيطان الإسرائيلي، إذ أن حياتي كأي فلسطيني سَجلت الكثير من الظلم تِباعا"..
بعمر الخامسة فقط، ولما بدأ يتشكل وعي الخطيب الإدراكي لما يحدث حوله، سجّل عقله ذكرى الإضراب الفلسطيني الكبير، والذي كان احتجاجاً على هجرة اليهود المتواترة إلى فلسطين، ومن ثمّ ( بعد عام) استوعب عقله "الغض" الثورة الكبرى..
فكانت الأحداث بتفاصيلها تجد مكانها في "دماغه" كثير الاستيعاب، نظرا لصغر عمره، يقول: "والتفاصيل الصغيرة التي استوطنت ذاكرتي لا أستطيع نسيانها مُطلقا.. خاصة ذلك المشهد الذي اقتحم فيه الجنود البريطانيون منزلنا مع الفجر باحثين عن رائحة سلاح يُمكن أن يكون والدي قد أخفاه في المنزل قبل رحيله إلى سورية، كغيره، هارباً من الاعتقال بحجة التكتم على مقاومين فلسطينيين"..
البريطانيون بـ "شورتاتهم" القصيرة و" بساطيرهم" الثقيلة تصايحوا في منزله بـ "بلهجة كريهة، كالذئاب بحثا عن سلاح، يوصلوا بتهمة حيازته، صاحبه إلى حبل المشنقة"، تبعا للخطيب الذي اعتبرها أحداثاً تُفسر "سخطه إلى حد الثورة على أشكال العنف والظلم والطغيان جميعها"..
وإن كان "ظلما" أحاط بحياة الخطيب صغيرا، حركَ فيه ثورة وانتفاضة، فإن "الخليل" بطبيعتها الساحرة، "ودورا" برونقها الخاص جَبَلا عمره على حب الشعر وتذوق فنه، لا لأنه يُحب الشعر فقط، ولكن لأن والده كان أول "الحانين" عليه صغيرا، وأعظم "الآخذين" بيده نحو احتراف الشعر..
أولُ "الحانين" أبي
"أبتي أظن غسول ذي الأرض من دمنا.. وإن يداً تعتق للصباح صفاءَ أدمعنا.. وإن غدا سيولد من مخاض غُرٍ.. فَيرحمُ حزنَ هذا الكون في أحناء أضلعنا".. محمود الخطيب والد الشاعر يوسف الخطيب وبعد عودته من سورية، كان أول من أخذ بيد ابنه إلى كتاتيب القرية، فهو واحد من القلائل الذين يكتبون اللغة العربية جيدا ومقرؤونها ذلك الزمان..
يقول الخطيب : "فوجئت صباح يومٍ بوالدي يأخذني من يدي إلى كُتاب "يوسف الشريف" القريب من منزلنا، ومن ثلم نقلني إلى كُتاب قرية "المسالمة" المجاورة لنا والذي يُسمى " عبد فقوسة".. ولم يكن صفَّ التعليم إلا حجرة صغيرة يتكدس فيها الأطفال كما علبة السردين، تمهيدا لدخولهم الابتدائية النظامية، وفيه يحفظون جزئي "عَمّ وتبارك" عن ظهر قلب، إجباريا.."
عُلق على رقبة الخطيب كأقرانه في الكتاتيب "صاج" سجلت فيها الأبجدية وبعض المفردات ليحفظها، وحظي " حالَ غيره" بالكثير من التقدير والاحترام من أهله وجيرانه، فهو تربية "الكتاتيب"، وأي واحدة.. إنها كتاتيبُ الخليل المشهورة بمُدرسيها "العباقرة"..
أنهى الخطيب دراسته في " عبد فقوسة" خاتما الحروف الأبجدية العربية، وحفظها بإتقان، فهي التي تُشكل سلاسل الحكايات والأشعار الشعبية المُلقاة على مسامعه "طفلا" في ديوان القرية، وهي "طارحةُ" التساؤل الكبير على عقله الغض.. "ما الذي يمنع الناس من أن يكون كلامهم بقدر الشعر من الرقة والعذوبة والجمال؟!!"...
فوجئت بوالدي يأخذني من يدي إلى كُتاب "يوسف الشريف" القريب من منزلنا، ومن ثلم نقلني إلى كُتاب قرية "المسالمة" ولم يكن صفَّ التعليم إلا حجرة صغيرة يتكدس فيها الأطفال كما علبة السردين، وفيه يحفظون جزئي "عَمّ وتبارك" عن ظهر قلب، إجباريا
الخطيب
وفي ترتيب للأحداث، فإن الثورة الكبرى، ورحيل والد الخطيب إلى سورية، كانا قبل دخوله الأخير مدرسة "دورا" الابتدائية، وتخرجه من الكتاتيب "بنجاح".. يقول: "ستة أشهر دام الإضراب الفلسطيني الكبير، وهي المدة التي خرجها والدي مسافرا إلى سورية فيها بعد أن شن البريطانيون حملة اعتقال لكل من يأوي ويتكتم على الثوار، فرحل متسللا إلى الأردن ومن ثم إلى دمشق"..
"يقولون كان فتى لاجئاً. إلى خيمة في الربى مُشرعة، تطل بعيدا وراء الحدود... على الجنة الخصبة الممرعة، وكانت له ذكريات هناك. مُجنحة حلوة، ممتعة". هي أبيات من قصيدة للخطيب تُعبر إلى حد كبير عن رحلة والده "الاضطرارية" إلى دمشق، ورحلته الإجبارية بعد ذلك لذات المدينة.
رحل والد الخطيب بعد أن وفر له ولعائلته ملجأ مناسباً في "خربة مريش" عند أقربائهم.. وإن كان يجوز القول، فإن تلك المرحلة شكلت بعض التفاصيل "الدقيقة" في وعي "خطيبنا" الصغير آنذاك، وأكملت "إدراكه" للحياة.. ولكن المرةَ في "جمالية جبلية متوحشة وبدائية تُعيد الإنسان إلى ما يقرب من فطرته الأولى"، وفق قوله..
مُدة "لا يذكرها" من الزمن، قضاها الخطيب راعياً ومُتأملا، فهو لمّا كان يسوقُ الأغنام على الجبل أمامه.. تسرحُ عيناه في الليالك والسواسن وشقائق النعمان التي تَرسمُ بجمال ألوانها في الجبل الأخضر لوحة "عَبقرية"..
الأزرق "جَبّار".. والأبيض "تحايل"
عَشقٌ "جارف" ربطَ شاعرنا بالطبيعة البرية "الحُرة" مُزج فيما بعد بقصائده ونثره، إذ إنه حتى "الرجعة" لدورا بعد انتهاء "الإضراب" لم تنسه ذلك "الهَيام"..، يقول :"القليل من الذكريات جمعتني بالطبيعة في الجبل، وعشق بريته مُزج بسحرٍ في أعمالي الشعرية، ناهيك عن أنه ما زال يطرق عقلي في عمر الشيخوخة الذي أعيشه".
ورجوعا إلى طفولة الخطيب، نذكر أنه في خريف عام 1936 انتقل إلى المدرسة "نصف" الابتدائية في دورا تُدعى " عين خير الدين الابتدائية" يدرسُ مع طلابها ومدرسيها "الأربعة" اللغة العربية والحساب، وكانت مدرسة القرية تضاهي المدارس اليهودية حديثة الطراز آنذاك.
يقول الخطيب عنها: "هي مدرسة نصف ابتدائية شديدة المنافسة للمدارس اليهودية الحديثة، أسسها الخليل عبد الله كردوس، وهو علمٌ فلسطيني ربما يكون مقدسيا، بمساعدة أهلها، وقد نجح نجاحاً باهرا في ذلك".
يُتابع بسلسلة أحداث هي الأطرف في الحوار :" كان مدير مدرستنا يُدعى الأزرق الشريف، وهو ذو صيت شائع بالقسوة، يُعرفُ بالجلاد الذي يلتزم الطلاب في حضرته الصمت ويصطفون مُنظمين كأنهم في طابور عسكري، مُنضبطين انتظارا للأوامر وخشية من العقاب، إلا أنه أيضا كان صاحب مُفتاح "السينما" المدرسية – وهو جهاز عرض امتلكته مدرسة دورا وحدها من بين مدارس الخليل- التي عَرضت بعض التطبيقات العملية لدروس الحدادة والنجارة وخلافها".
القليل من الذكريات جمعتني بالطبيعة في الجبل وعشق بريته مُزج بسحرٍ في أعمالي الشعرية ناهيك عن أنه ما زال يطرق عقلي في عمر الشيخوخة الذي أعيشه
استمر الخطيب في مدرسته وحياته على طبيعتها، رغم الأحداث السياسية التي كانت تطرقُ "رَحم" فلسطين بين لحظة وأخرى.. فوالده رجعَ من سورية، وبريطانيا خطبت ودَّ فلسطين وسكانها بكتابها الأبيض.. رُبما لأن الحرب العالمية الثانية اقترب قدومها!!..
يقول الخطيب: "الهدوء الذي شهدته فلسطين تلك الفترة كان مرده للكتاب الأبيض 1937، والذي استصدرته بريطانيا لكسب العرب إلى جوارها، خاصة وأن الحرب العالمية أُنذرَ قُدومها".. والكتاب الأبيض بالمناسبة هو "إصدار بريطاني" حَظر تغيير ملكية الأرض العربية ذلك الوقت وحدد الهجرة الإسرائيلية إلى فلسطين.
سوداء على "فنجان قهوة"..
بعد عامين من تلك الفترة، انتقل الخطيب إلى مدرسة الخليل الثانوية، وكان عليه لزاما أن يغادر قريته "دورا" قاطعا ستة كيلومترات جبلية يومياً وصولا إلى "المدينة"، وفي الطريق لم تكن المناظر الطبيعية تَغفل عن باله، إذ إنه رَسم الطبيعة فيها في مخيلته رسماً، حتى أن أسماء وديانها وأراضيها مطبوعة حتى اللحظة في ذهنه..
عامان قضاهما الخطيب ذاهبا وراجعا من الطريق ذاته، كُل مرة يستكشف فيها الجديد، خاصة وأنه كان قد أتقن تعلم سلسلة من كُتب "خليل السكاكيني" التي تحدثت بحس "قومي" عن فلسطين وتاريخها وأدبها.. "أسلوب يُثري حياة الطفل ويُربيه، لا كالأساليب الحديثة ذات الكُتب مليئة الصور"، عَلّق الخطيب..
ومن الطريف في المواقف التي حدثت معه، أنه يوم عَلقت مدرسته السابقة "الابتدائية عين خير الدين" لوحاً أبيض من القِماش، كتب عليه بخطه "هنا مدرسة عين خير الدين الابتدائية"، متأثرا بإذاعة "هنا القاهرة" والصحوة الإعلامية القوية تلك الفترة..
خلالها.. وما بين الابتدائية والثانوية، قرأ الخطيب المُعلقات التسع، والكثير من الكتب التي يحتفظ بها والده في عِلّية منزلهم، وكانت أشد مُتعته وقتها أن يَحمل كتاب الشعر إلى حاكورة منزله، وينشده بصوته الجهوري كالأغاني..
يقول: "كنت أحمل كُتب الشعر معي إلى الحاكورة المجاورة للدار، أو أصحبه إلى وادي نزار، وهو واد عميق يبعد عن دورا قليلا، وما أن أصل هناك أعتلي أي شجرة وأنشد بأعلى صوتي بالشعر، كأنها أمسية خاصة استثنائية في الهواء الطلق"..
هكذا استمرت حياته، حتى أثناء دراسته الثانوية، التي عُرف فيها أمام أساتذته ومُعلميه "الأكثر قراءة للشعر وأمتعها"، إذ أن أستاذه مخلص عمرو ولفيف من المُعلمين كانوا يستمعون له بإمعان وهو يلقي على مسامعهم شِعر السكاكيني أو حتى أمرئ القيس وعنترة..
وربما تميز الخطيب كذلك عن أقرانه في المدرسة الثانوية، لأنه يعرفُ المنهج الدراسي قبل عامين منهم!.. يقول :" كُنت أُدرّس أخي الكفيف موسى، والذي يُشابه منهجه موادي الدراسية قبل وصولي عمرَ دراسته بعامين، فكنت أقرأُ له بهدوء وروية، الأمر الذي أهّلني لأن أحفظ وأفهم دروسي أكثر من أقراني، وهو كذلك الأمر الذي زاد إعجاب مدرسي مُخلص بي، وتعقلي به".. مُخلص عمرو أصبح واحداً من الإعلاميين المشهورين آنذاك، وكان بشخصيته "القومية" قُدوة احتذى بثقافتها الخطيب، لما كَبُر.
كنت أحمل كُتب الشعر معي إلى الحاكورة المجاورة للدار، أو أصحبه إلى وادي نزار وما أن أصل هناك أعتلي أي شجرة وأنشد بأعلى صوتي بالشعر كأنها أمسية خاصة استثنائية في الهواء الطلق
تواترت تلك الفترة الأحداث العالمية والفلسطينية، فالحرب العالمية حدثت، وأسماء "كموسيلني" و"هتلر" و"تشرشل"، صعدت نجومها رافعة معها وعي الخطيب لأعلى، فأصبح هو "القومي".. مُحب للشعر ومُتقنٌ فهمه.. إلى أن كانت الهجرة "وأجهضت فلسطين أبناءها قسرا" (كناية عن تهجير الفلسطينيين من أراضيهم وقراهم عام 48) .. فرَحل الخطيب وأهله إلى سورية..
وُهناك كانت حياة أخرى، فيها أصبح "الشاعر" يوسف الخطيب.. بعد أن كان طالبا يدرس المحاماة ويعمل في عامه الجامعي الأول مذيعاً في إذاعة دمشق، مُتنقلا بين الإذاعات العربية في سورية والسعودية والأردن بعد ذلك، ومُرتحلا " مُهاجراً" بين الدور العربية بعد ضياع دورا وطردهم منها..
"وأنا الذي وطني ارتحال الشمس ملء الأرض، لكني بلا وطن.. من ذا يصدقني؟".. قالها الخطيب مُعبرا عن "ضياع" قريته الجميلة ومدينته من بين يديه، ومُقسما أن لا عودة يريدها لـ"فلسطين" إلا إن كانت مُحررة، " فأنا لا أفكر بالرجوع لفلسطين، الضفة منها أو غزة إلا إذا تحررت من الصهيونية الإسرائيلية فيها".. قال، مُضيفا: (إسرائيل) نقطة سوداء قد تختفي على فنجان قهوة، وهي بعد 100 سنة لا تحتل في كتب التاريخ إلى صفحات سوداء قليلة، مرفوضة"..
وها هو الخطيب يوجه دعوة عَبر " فلسطين" للتحرك فـ"لمن تلد النساءُ إذن.. إذا لم يَغزُ ليل القُدس قديسٌ.. ولم ينجز على الطاغوت رمحُ!!".



يوسف الخطيب.. كم في الكلام من أسى
---------------------------------------

بقلم : بسام الهلسه ‏
قرأت الخبر على النِت: رحل يوسف الخطيب. لم يبدُ لي الخبر واضحاً، فثمة عديدون يحملون هذا الاسم. لعله ليس هو المقصود- قلت لنفسي- فتحرَّيتُ، لأجد تأكيداً له على عشرات المواقع الاخبارية: رحل الشاعر يوسف الخطيب.. وبصورة تلقائية، أمسكت بهاتفي وتحدثت مع ابنه، الصديق المخرج باسل، لأعزيه بالأب الراحل الذي رأيته للمرة الاخيرة في حفل زفافه- باسل- ذات ليلة دمشقية غمرها الثلج الصاخب الحميم.
أتذكر الآن أول مرة قرأت فيها شعراً له.. كان ذلك في "مكتبة أمانة العاصمة" في عمَّان التي اعتدت التردد عليها مع زملاء لي منذ أيام الدراسة الابتدائية. وفي ذاكرتي الفتية، رست عميقاً مقاطعُ وأبيات من قصيدته المُستفزة، الساخطة، المُحرِّضة "هذي الملايين":
أكاد أؤمن من شكٍ ومن عجبِ = هذي الملايين ليست أُمة العربِ
هذي الملايين لم يَدرِ الزمانُ بها = ولا بذي قار شدَّتْ راية الغلبِ
ولا على طنفِ اليرموك من دمها = توهج الصبحُ تيَّاهاً من الحقبِ
أأُمتي: يا شموخ الرأس، متلعة = من غلَّ رأسك في الأقدام والرُكبِ
أأنت أنت؟ أم الأرحام قاحلة = وبدلت من أبي ذرٍ أبا لهب؟
وحينما قرأت دواوينه المنشورة آنذاك: "العيون الظماء إلى النور" و"عائدون" و"واحة الجحيم"، لم تفتني ملاحظة ما في شعره من تدفق وحرارة صادرين عن روح عروبية تتقد بالايمان والصدق، وعن طاقة مشحونة بالأمل والإباء والغضب الشامخ المحرض على المقاومة والثورة. وفي هذا كان يوسف الخطيب، المولود في العام 1931 في بلدة "دورا" في جبل الخليل، ابن جيله من الشعراء الذين عاينوا- وعانوا- هول ومرارة النكبة والتشرد واللجوء. ومثلهم، وَسَمت الفاجعة والحنينُ المُمِض الكثيرَ من قصائده برومانسية شفيفة، حزينة، غاضبة. وعزيمة مصممة على ابقاء الوطن حيَّاً في الوعي والوجدان، كالذي نقرأه في قصيدته المتضرعة، المفعمة باللوعة الحارقة " العندليب المهاجر":
"لو قشة ممَّا يرفُّ ببيدر البلدِ
خبأتها، بين الجناح وخفقة الكبدِ
لو رملتان من المثلث أو رُبَا صَفدِ
لو عشبة بيدٍ ومزقة سوسنٍ بيد
أين الهدايا مذ برحت مرابع الرغدِ؟
أم جئت مثلي بالحنين وسورة الكمدِ!"
هي قصيدة تتواشج مع العديد من قصائد تلك السنوات العصيبة التي تلت النكبة، التي قالها شعراء كعبد الكريم الكرمي"أبو سلمى" وكمال ناصر ومعين بسيسو وفدوى طوقان وسواهم. وتذكرنا بالمزاج الهامس، المتلألىء، للقصيدة الشهيرة التي غنتها العذبة فيروز لمُجايله الشاعر هارون هاشم رشيد:
"سنرجعُ يوماً إلى حيِّنا
ونغرق في دافئات المُنى
سنرجع، خبَّرني العندليب
غداة التقينا على مُنحنى"
سيتجاوز يوسف فيما بعد هذه المرحلة دون أن يقطع معها، ويعزز طابعه الخاص الموسوم بلغة قوية ثرية تستمد نسغها من لغة القرآن الكريم والشعر العربي القديم- وبخاصة من المتنبي وأبي تمام- فيما تعالج، بحساسية معاصرة وأساليب فنية متنوعة، موضوعات عربية حالية. وسنرى في شعره الملامح "الأصولية" و"المحدثة"- بحسب عبارة له- التي صاغها كتعبيرعن الهوية الخاصة، الذاتية والعربية معاً، كما فهمها وطبقها في نصوصه الشعرية، آخذاً على اتجاه في الشعرالعربي الجديد انشغالاته "الشكلية" التي بدت له كألاعيب عدمية، فيما لم يرَ في شعرائه سوى "محض أتباع":
"ما دهى الشعر؟
غدا سحراً وترقيص أفاعي
وسراويلَ مَحِيكاتٍ بأنوال العَدَم
قيل:"ابداع" فلم ألقَ سوى
محضَ "أتباعٍ"..
بين "مهيارٍ" دمشقي.. ومهيار عَجَم!"
في موقفه هذا، الذي قد يُرى فيه تعدياً واتهاماً متجنياً، كان يوسف متسقاً متناغماً مع رؤيته للشعر ووظيفته. ومع مبادئه ورسالته التي أراد لها أن تكون بيان الأُمة العربية ونداءها الصائح من أجل ما نذر له نفسه منذ وعى واختار: النهوض والمقاومة والتحرر والوحدة:
"- فما تريدُ؟
أُريدُ يا مولاي:
أن أُشيعَ في علاكَ بددا
أُريد جبريلاً وتنزيلاً
وخيلاً لا تُرى
ومَددا
أريد أن أصوغ أُقنومين في هواكَ، أحَدَا
أريد يا مولاي، بعدُ
أن أصبَّ دجلةً في بردى!"
ولقد مضى حتى اليوم الأخير في حياته بيقين وهمَّة لا تفتر، وراء هذه المبادىء والرسالة، ذائداً عنها ومترجماً لها، في شعره، كما في حضوره المتعدد: السياسي والاعلامي والتوثيقي والتنظيمي والبحثي. ولم تكن ثمة مسافة فاصلة بين فلسطينيته وعروبته، فثلما غنى لسورية والعراق في مطولته "بالشام أهلي والهوى بغداد" وعينه وقلبه على فلسطين، أنشد لِغزَّة الباسلة وحَيَّاها كوعدٍ للعرب:
"لأنكِ أنتِ صقرَ قريشنا،
وبقية الرمقِ
لأنكِ أنتِ آخر راية لم تهوِ،
فاصطفقي
لأنكِ أنتِ طير البعثِ،
فاحترقي
وعبر رمادك، انبثقي"
في يوم الخميس، السادس عشر من حزيران- يونيو، ودَّعنا يوسف الخطيب، أو "مجنون فلسطين" كما أحبَّ أن يصف نفسه في ديوان له بهذا الاسم صدر في العام 1983مُسجلاً بصوته.
لم يَمَل، كما هي عادة من يتقدم بهم العمر ولا يجدون ما يشغلهم. ففي مقابلة صحفية أجراها معه الأستاذ طلعت سقيرق، أفضى بما يشبه البوح " لعل الشاعر الحقيقي، كما أتصوره، هو الذي يفارق الدنيا وما يزال في نفسه شيء من التوق". ولا نعرف ما "التوق" الذي ظل في نفسه.. ربما، توقه لفلسطين التي طال كثيراً احتلالها؟ وربما، توقه لقيامة أُمة العرب الحرة الواحدة التي كرَّس لها عمره وأحلامه وقصائده..؟
لا نعرف.. لكننا قد نجد رداً في إجابته على سؤال مُحاوره في المقابلة السابقة: "ماذا يقول... للشعراء الفلسطينيين الشباب؟"
"...الأكثر أهمية هو أن تجد في مثل هذه الأيام من يمكن أن يصغي إليك..."
- أن تجد من يصغي إليك...!؟
- يااااه.. كم في هذا الكلام من أسى!



شـــيء عن يوســف الخطيب
------------------------------


بقلم : عبد الكريم الناعم
صحيفة الثورة السورية 29/ 6/ 2011
الكتابة عن الشاعر العربي الكبير يوسف الخطيب، بالنسبة لي، ذات أشجان عميقة،ليس لما كان بيننا من مودة واحترام، على مستوى شخصي فقط، بل لأن الزمن الذي عرفته فيه، هو الآخر،حين استرجعه، يحرك الكثير من المشاعر المتداخلة.‏
يوم تعرفت إلى شيء من شعر يوسف الخطيب، كان ذلك في أواسط خمسينيات القرن الماضي، كان لشعره حضوره النوعي، في زمن نوعي، فقد كان (البعث)، آنذاك، يعد بالكثير الكثير، وكان هو ثاني اثنين مشهورين من شعرائه في سورية، في تلك المرحلة، الأول كان شاعر العروبة الشاعر الكبير سليمان العيسى مدّ الله في عمره، ومتّعه بالصحة، وإذا كان أستاذنا العيسى حاضراً بقوة في جميع المهرجانات النضالية التي كان يزينها شعره القومي، فإن شاعرنا الراحل بزغ مكتملاً، قوي الحضور، وحين تعرفنا على مجموعته الأولى «العيون الظماء للنور»، كانت تلك القصائد محمولة على أجنحة البلاغة المتماسكة، والصياغة المحكمة، تشم منها عبق التراث، ويملأ رئتيك شذى التجديد، وقد ظلت هذه السمة ملازمة لشعر يوسف الخطيب، حتى كأنه كان في شكل شعره يجسد حلم عودة هذه الأمة إلى مسرح التاريخ آخذة من الماضي أجمل مافيه، وأكمله، مضافاً إليه روح المعاصرة ولعل ما لفت النظر، يومذاك في تلك المجموعة أن مقدمتها كتبها الأستاذ ميشيل عفلق، الأمين العام للبعث العربي الاشتراكي آنذاك، وهذا امتياز لم يحظ به غيره، وكان الأستاذ ميشيل قد ترك الكتابة الأدبية، ليكون التنظير القومي همه الأكبر.‏
لقد حمل يوسف الخطيب همّ القضية الفلسطينية غير معزول عن الهم القومي لهذه الأمة، بل من خلال إدراك عميق لمسألة أن خطر الصهيونية هو خطر يهدد جميع العرب، وهذا يجعل المعركة قومية في مراميها البعيدة والقريبة، وكان يطل على هذا المشهد من أفق (البعث)، أقول (البعث) للتفريق الآن بين (البعثي) و(الحزبي)، ولاسيما أن المياه تدفقت بعيداً جداً عن صفاء تلك الينابيع.‏
كانت (الوحدة) نقطة مركزية في تفكيره، وحدة الأمة، ومن ثم وحدة (الحزب) بين سورية والعراق، والتي فشلت، أو أفشلت لأسباب قد تنكشف أوراقها ذات يوم، ولذا فقد ظل في شعره كجبل (سنجار)، بحسب تشبيهه هو، ذلك الجبل الذي يقع قسم منه في العراق، وقسمه الآخر في سورية.‏
هبت الكثير من الرياح والمتغيرات على مدى قرابة الستين عاماً، بما كان فيها من آمال وانكسارات، وظل يوسف الخطيب، فوق تلك الشرفة ينشد قصائده، وكان أول من لفت الانتباه إلى شعراء الأرض المحتلة، وقدمهم على الساحة العربية توفيق زياد، محمود درويش، سميح القاسم، وظل سمت فلسطين، بوعيها قومياً، القبلة التي لم يغادرها، وكان موزعاً بين مشاعره، ومشاغله، و«المذكرة الفلسطينية» التي حمل فيها جغرافية فلسطين وتاريخها، وجزئيات أحداثها، وعبق مفردات الحياة فيها، لكأنه حين لم يستطع العودة إلى الوطن، حمله على بياض الصفحات والقلوب، يوم انطلقت «حركة التحرير الفلسطيني»- ولست متأكداً ما إذا كنت قد سمعت هذا منه أو من غيره،- أرادوا أن يأخذوا أول حرف من كل كلمة، لتكون رمزاً تعرف به، فكانت الكلمة (حتفاً)، ولكن الشاعر الراحل هو من اقترح قلبها لتكون (فتحاً)، كاستبشار بالفتح التحريري المنتظر، ورغم هذه المواكبة لافتتاح تلك المرحلة، فلم يمضِ زمن طويل حتى برزت على الساحة الفلسطينية، وانتشرت عربياً، أسماء شعراء عدة، وغيّب يوسف الخطيب حتى لكأنه ليس فلسطينياً (!!) لا لشيء إلا لأنه رفض أن يغادر تلك الشرفة.‏
لقد قلت في تكريم الشاعر الأخ خال أبوخالد، قبل سنوات إن شاعرين فلسطينيين، ظلما كثيراً من قبل المنظمات الفلسطينية، هما: يوسف الخطيب، وخالد أبوخالد.‏
يوسف الخطيب جرى تغييبه للسبب الذي ذكرناه، وخالد أبوخالد الشاعر،المقاتل، الذي كان قائد قطاع في (الأغوار)، وذكره في كتابه جان جينيه الذي عايش الفدائيين فوق تلك الأرض.. خالد لأنه شم رائحة لاترتاح إليها الروح النظيفة المقاتلة، فسجن أيام عرفات، وكاد موقفه يودي به، ويوم كانت الدولارات الرسمية ترسل برزمها لعدد من أدباء العرب، لاستقطابهم عرفاتياً، كان يوسف الخطيب غارقاً في الكتابة عن فلسطين، وإلى فلسطين، وخالدأبوخالد يعارك ظروف الحياة.‏
لقد كان يوسف الخطيب، في شعره، نتاج ثقافة عصره وكان شديد الحرص ألا يقطع صلته بالجذور الإبداعية، والإبداع الحق، ليس ابن زمن محدد، بل هو ابن المطلق، فوازن بين حداثة الصورة، والتشكيل والأصالة، والمعاصرة، وأنى لمن لم يعرف قيمة الإيقاع الشعري أن يطلع على أن يوسف الخطيب قد ابتكر بحرين جديدين في عروض البحور الإيقاعية، وكتب شعراً يلتزم بذلك الإيقاع الجديد، وهذه موهبة لايمتكلها إلا الراسخون في الذوق، وموسيقية التلقي، ولاسيما أن الأذن لم تترب على هذين الوزنين، ولقد تنبه الخطيب باكراً إلى الفضاء الهرموني الجديد الذي حمله نظام التفعيلة إلى الشعر العربي، فقد جاء بعنوان: «هامش» ص 76، من مجموعته «واحة الجحيم» الصادرة عن دار الطليعة- بيروت 1964- مايلي:‏
«مازلت أعتقد أن القصيدة الحرة ليست الشكل النهائي،أمامنا، للتجديد في الشعر العربي، إن لم تكن الشكل الأقل شأناً في هذا المجال..‏
في «دمشق والزمن الرديء» حاولت أن أحرر الوحدة النغمية من حاجزين:‏
أولاً: من أسار القافية التقليدية.‏
وثانياً من نشاز البتر في القصيدة الحرة.‏
وفي المقاطع الموصولة، من هذه القصيدة، توخيت الدفق النغمي، على إطلاقه حتى ليبلغ المقطع الواحد خمسين تفعيلة، أويزيد بدلاً من التفعيلات الست التقليدية، المحبوكة الصدر والعجر. وبدلاً من أسطر القصيدة الحرة الممزقة الأطراف.‏
وقد اعتمدت التقفية الداخلية، ضمن المقطع الواحد، لتخليصه من «عي الرتابة..».‏
إن في هذا الكلام وعياً مبكراً لحساسية إيقاعية لم يتحدث النقد العربي عنها إلا بعد ثلاثين عاماً مما قاله الخطيب، وبذا يمكن اعتباره أول من فتح آفاق القصيدة المدورة، وفيما أعرف أنه أول من أشار إلى التداخل النغمي بين البحور التي هي من دائرة واحدة، وقد جاء في مجموعته المذكورة آنفاً، ص140.‏
«الرجز ووحدته مستفعلن، والرمل ووحدته فاعلاتن، والهزج ووحدته مفاعيلن، ثلاثة أبحر في عروض الخليل، يمكن للشاعر الحديث أن يصهرها في عمل واحد.. إن تكرارنا لأي واحدة من هذه التفعيلات الثلاث هو في الوقت نفسه تكرار للتفعيلتين الأخريين».‏
وفي قصيدة نشيد الثورة يشير إلى أنه «ذو نظام خاص، وليس كله على أوزان الخليل التقليدية» ومثل هذا لايقدم عليه إلا من كان ضالعاً بقراءات التراث، ويمتلك حساسية إيقاعية موسيقية عالية الرفعة.‏
وهو لم يكن ريادياً في شعره فقط، بل في استشرافه لدور التقنيات الحديثة في نشر الشعر، فكان فيما أعلم أول شاعر سجل قصائده بصوته الإذاعي الفريد، واختار لها من السمفونيات الغربية ما رآه أكثر مناسبة، وهذا دليل على سعة ثقافته الفنية العالية.‏
آخر لقاء لنا كان في السويداء في واحد من النشاطات المميزة التي تقيمها مديرية الثقافة، في ذلك اللقاء كان احتفاء الجمهور بيوسف الخطيب حاراً وصادقاً وتقدمت طفلة لايتجاوز عمرها تسع سنوات وأنشدت على خشبة المسرح قصيدة «رأيت الله في غزة» من أولها إلى آخرها، وهي قصيدة طويلة، ولعل تلك الطفلة بلسمت شيئاً من الجراح التي تركها الأهل عارية، مكشوفة للرياح.‏
في العام الماضي اتصل بي الصديق الشاعر ثائر زين الدين، مدير الثقافة في السويداء، لأشارك في الكتابة عن يوسف الخطيب، في ندوة تكريمه، وكم كنت حزيناً لأنني لم أستطع تلبية رغبة موجودة في نفسي قبل نفوس الآخرين، بسبب ارتباطي بنشاط آخر.‏
في سياق الكلام عن الراحل يوسف الخطيب لابد من الإشارة إلى الكتاب النقدي المهم الذي كتبه عنه ناهض حسن (فايز العراقي) بعنوان: «يوسف الخطيب- ذاكرة الأرض- ذاكرة النار»، وقد صدر عن اتحاد الكتاب العرب ولولا أنه يتنبه ناهض العراقي إلى هذا الشاعر الكبير لظل مغيباً في الزوايا التي اختار أن يذهب إليها، في وقت مايكاد يتسع بياض الصفحات للكتابة عن الذين لم يتكونوا بعد!!.‏
سلاماً يوسف الخطيب لروحك حيث كانت، ولآمالنا الكبرى التي لن نتنكر لها مادام ثمة عرق ينبض



نماذج من شعر الخطيب :
------------------------


يوسف
--------------


بَريئةٌ منكم فِلسطينُ التي تَذبـحُـونْ‏
و لَحْمُها باقٍ على أَنيابِكُمْ‏
يا أَ يُّها الـتُـجارُ، و الفُـجَّارُ، والآثِـمون‏
دَمُ الفدائيينَ في رِقابِكمْ‏
أَقولُها ، جَهْرَ الرياحِ ، وَ لْـيَـكُنْ ما يكونْ‏
سَرقـتُـمُ الثورةَ في جِرابِكمْ‏
أينَ اخْتـفَتْ يافا ، و بيسانُ، وأَينَ الكرمـلُ‏
والطَلْقةُ الأُولى ، و فَـتْحٌ ، والخطابُ الأَوَّلُ‏
وَ مَنْ قَضَوْا ، باسمِ فلسطينَ ، و مَن تَجَنْدَلُوا‏
أم قَد تَبَدَّلتْ رِياحكم ؟..إِذنْ ، تَـبَدَّلُوا!!‏
خُذوا حصادَ عُهْرِكُم إلى الجحيمِ، وارحلوا!!‏
بَريئةٌ منكم هِيَ القدسُ ، و أَقداسُها‏
يا أُمراءَ الثورةِ المُـنَـعَّمهْ‏
أَأَنتمو طُلاَّبُ أَقصاها ، و حُرَّاسُها‏
أَم الضِّباعُ حولَها مُلَمْلَمَهْ‏
مآذِنُ القدسِ ، و ما تَقَرَعُ أَجراسُها‏
تَلعنكُم أَكنافُها المُهَدَّمهْ!!‏
وَ أَنتمُ الباعَةُ ، و الشُّراةُ ، و البِضاعهْ‏
أَرخصتُمُ الأرضَ، و سِعرَ الجِراحْ‏
وَ خُـنـتُـمُ الثَّدْيَ الذي أَتْخَمَكُمْ رِضاعهْ‏
وَ بِـعتُمُ الشيطانَ طُهْرَ الكِفاحْ‏
أنتم ، مِن البَدء،ِ اختلستمُ هذه الأَمانهْ‏
مَرَّغتمُ الثورةَ في مُستنقعِ المهَانهْ‏
طَعَنْتمُ " انتفاضتينِ " خِنجرَ الخِيانهْ‏
والحُلْمُ ، صارَ الحُكْمَ.. واحترفتمُ الكَهانهْ‏
مَن تَخدعون، يا حُواةَ آخرِ الزَّمَنْ‏
يا قادةً، بِصِيغَةِ المَقُودِ والرَّسَنْ؟!‏
أم قد جَنَيتُم – يومَ أن بَخَستُمُ الثمن‏
أُكذوبةَ "الدولةِ"… عن حقيقةِ "الوطنْ"؟!‏
فيا شَياطينُ تَزَيَّني، وَجُودي‏
بدولةِ الوهمِ، لِزُمرةِ العبيدِ‏
ويا هلافيتُ – وليسَ مِن ثَريدِ!!‏
دولتكم هذي، بإمرةِ اليهودِ‏
أعزُّ منها.. " جَبَلايةُ القُرودِ"!!‏
يا مَن تكالبتم على جوائز الحضارهْ‏
مَسَخْتُمُ الشعرَ على مَذابحِ الدَّعارَهْ‏
والوِزْرُ عندكم، غدا مُؤَهِّلَ الوِزراه!!‏
يا مَنْ تَبيعونَ الدماءَ ، خَمرةً مُدارَهْ‏
و الدينَ بِالدُنيا ، و حتى الربحَ بِالخسارهْ‏
تَبَّتْ أياديكُم، وبئسَ هذه التجارهْ !!‏
لكنني سَجَّلتُ لِلآتينَ أَسماءَكُمُ‏
أَقماعَ دَولةٍ ، مُسُوخَ غَفَلَهْ‏
فاتَّبعوا ، يا قادةَ البَلُّوطِ ، أَهواءَكُمْ‏
كُلٌ سَيَـلقى في الجحيمِ عَمَلَهْ‏
لا أَلعنُ "النَّروِيجَ" ، بل أَلعنُ آباءَكُمْ‏
يا أَيـُّـها القتلى، مَعاً، والقَـتَلَهْ‏
فَلَن تموتَ شُعلةٌ مِن كَبِدي لَفُوحُها‏
أَنني القدسُ التي يَسكُنُني مَسيحُها‏
لأَنني شريدُها ، شهيدُها ، جَريحُها‏
فَهذه الصَّيحةُ في وُجوهِكُم أَصيحُها‏
بَريئةٌ مِنكم فِلسطينُ ، فَمَنْ تَخدعُونْ‏
سَيَقرَعُ الشعبُ على أبوابِكمْ‏
يا أَيها المُستَـثمِرونَ الموتَ ، والمُودِعُونْ‏
عَوائِدَ النكبةِ في حِسابِكمْ‏
إلى متى ، يا أُجَراءَ الوَحْلِ، تَستأجِرُونْ‏
زواحِفَ الشعرِ على أَعتابِكمْ‏
أُعلِنُها ، جَهْرَ الرياحِ ، وَ لْيَكُنْ ما يَكُونْ‏
بَريئةٌ منكم فلسطينُ التي تَذبحونْ !!‏
بَريئةٌ منكم فلسطينُ التي تَذبحونْ !!


العندليب المهاجر
-------------------------


أترك مثلي يا رفيق تمر بالزمن
عبر الليالي السود والمحن
لا صاحب يرخي عليك غلالة الكفن
بي لهفة يا صاحبي مشبوبة بالنار
هل بعض أخبار تحدثها وأسرار
للظامئين على متاهة الوحشة العاري.
كيف الحقول تركتها في عرس آذار
ومتى لويت جناحك الزاهي عن الدار
عجباً.. تراك أتيتنا من غير تذكار
لو قشة مما يرف ببيدر البلد
خبأتها بين الجناح وخفقة الكبد
لو رملة من المثلث أو ربا صفد
لو عشبة بيد ومزقة سوسن بيد
أين الهدايا مذ برحت مرابع الرغد
أم جئت مثلي بالحنين وسورة الكمد
ماذا رحيلك أيها المتشرد الباكي
عن أرض غابات الخيال وفوحها الزاكي
أم أن مرج الزهر أصبح قفر أشواك
وتلوّنت أنهارها بنجيع سفاك
داري وفي عيني والشفتين نجواك
لا كنت نسل عروبتي إن كنت أنساك


القبرة
-----------


تلك يا صاح قبَرة
في الحدود
خرقت ألف حرمة
للعهود
فهي تغدو طليقة و تروح
وأنا مثخن هنا
بالجروح
ليتني كنت قبَرة
فأطير
وجناحي مصفق
في الأثير
فوق بيارة لنا
وغدير
ليتني كنت قبَرة



عمّ صباحاً لبنان
----------------------


عِمْ صباحاً، لبنانُ عَمَّ الضياءُ
وصحا، يوم أن صحوتَ، الرجاءُ
عُدْتَ تأسو الجراحَ فينا، جريحاً
فَـحَنَـتْ رأسَـها لـكَ الكبـريــاءُ
كان لَمَّا أَنْ شاءَكَ اللهُ فرداً
قالَ كُنْ، فاستَوَيْتَ كيفَ تَشاءُ

***
أَنا، لبنانُ، لستُ لاجئَ دارٍ
سَعَةُ الكونِ حولَ دراي فِناء
أَنا أَهلي، أَهْلُ المسيحِ، وبَيْتي
بَيْتَ لحمٍ، وَجَلَّتِ الأَسماءُ
أنا رَحَّالةُ الرؤى، ضَلَّ سَعيي
في سرابٍ، وضاقت الأَرجاءُ
خاتَلَتْني إلى مرافيءِ حُلْمي
بُوصَلاتٌ كَليلةٌ عمياءُ
قلتُ آتيكَ، أحتسي دَمَ كَرْمٍ
لي تَجَلٍّ في قَطْرِهِ، واجتلاءُ
ليتني قبلةٌ، وَلَيْتَكَ ثغرٌ
فَتَرى كيف يَعشَقُ الشعراءُ

***
عِمْ صباحاً، لبنانُ، عنوانَ بعثٍ
حَلَّقَتْ فيه، من رَمادِها، العنقاءُ
رُبَّ إغفاءَةٍ بِحضنِكَ، مَوْتاً
يَتَشَهَّى مَذاقَها الأَحياءُ
ما الأَهازيجُ، والدفوفُ، وَرَقْصٌ
لِمَنْ العُرْسُ، أَيها الأَصدقاءُ
أَدُمُوعٌ تَلأْلأَتْ، أم شموعٌ
وَيُوارى، أم يُولَدُ الشهداءُ
يا ذُرى عامِلٍ، هنا قد تَماهى
في عُلاكِ، الأَبناءُ، والأَنبياءُ
لِلغطاريفِ مِن بَـنِـيكِ، بُراقٌ،
فِلأَيِّ المَعارِجِ الإِسـراءُ!!
مَن هُمُ الزامرونَ في السُّحْبِ وَجْداً
مَطَرٌ فَيْضُ عِشقِهم، أَم غِناءُ
أَنْجُمٌ تلك أَزْهَرَتْ، أَمْ جُمانٌ
تَتَحَلاَّهُ فاطِمُ الزهراءُ
أَم تُرى تلك في الحديقةِ تَسقي
مَطْلَعَ النور، مَريمُ العذراءُ
فإذا القدسُ، طَيْلَسانٌ، وفِصْحٌ
واكتستْ أرجُوانَها كَرْبَلاءُ
نَخْبَ لُبنانَ، يا صِحابُ، وَعُذْراً
أَنا دارتْ بِرأسِيَ الصَّهباءُ
لستُ أدري، أَبالسماءِ زَفافٌ
أم إلى أرضِكُم، تُزَفُّ السماءُ


هذي الملايين
----------------


أَكادُ أُؤمِنُ ، مِن شَــكٍّ ومن عَجَبِ
هَذيِ الملايينُ لَيْسَـتْ أُمَّــةَ العَـرَبِ
هَـذيِ الملايينُ لم يَـدرِ الزمـانُ بـها
ولا بِـذي قارَ شـَـــدَّت رايةَ الغَلَبِ
و لا تَنــزَّلَ وَحْـيٌ فــي مَرابِعِهــا
و لا تَـبُـوكٌ رَوَتْ منهـا غَليـلَ نَبــي
و لا على طَـنَــفِ اليَرمُوكِ مِن دَمِهـا
تَوهَّـجَ الصبحُ تَيَّاهـاً على الحِقَبِ
و لا السَّـفِينُ اشتعالٌ في المُحيطِ ، ولا
جَوادُ عُـقْـبَـةَ فيـهِ جامِـحُ الخَــبَـبِ
أَأُمَّتـي ، يــا شُــــموخَ الرأسِ مُتلَعَـةً
مَن غَـلَّ رأسَـــكِ في الأَقدامِ والرُّكَبِ
أَأَنــتِ أَنــتِ ، أَم الأَرحــامُ قـاحِــلةٌ
وَ بُـدِّلَتْ ، عــن أبي ذَرٍّ ، أبَا لَـهَبِ !!
أَكـــادُ أُؤمِـنُ ، مِن شـكٍ ومن عَجَبِ
هذي الملايينُ لَيسَـــتْ أُمَّــة العَرَبِ
لــولا تَشـُـــقُّ سـُـــجُوفَ الليلِ بارقةٌ
يا شُـعلةَ الصبحِ، رُدِّي حالِكَ الحُجُبِ
تَهِيــجُ بي ذِكَــرُ التـاريخِ جامــحةً
و يَعتريني الأَسَى حولي ، فَـيَقعُدُ بي
تَــوَزَّعَتْنــي دُروبٌ لا لِقــاءَ لـهـا :
الــذلُّ في الناسِ ، و العلياءُ في الكُتُبِ
كأَنما أَنا جَمْعُ اثنينِ : سَــــيفُ وَغَـىً ،
مُعَـذَّبُ الروحِ فـي غِمْـدٍ من الخَشَــبِ
أَغزو "عَـمُورِيَّــةً" في الليلِ أَحـرِقُها
وشِـــلْوُ أُختـي غِذاءُ الطيرِ في النَّقَبِ
لو كنتُ مِن مازِنٍ ، لم يَستبِحْ وَطَني
بَنُـــو اللَّقيطَـةِ مـن صَرَّافـةِ الذَّهَـبِ
لَكُنتُ غَمَّسـتُ رُمحـي في حناجـرِهم
أَو غَمَّسوا،هُمْ،رماحَ الغدرِ في عَصَبي
لكنـني ، وَ بَنـي شــعبي ، تَـخَـطَّـفَـنا
قِيـلُ الملـوكِ : أَلا لا بُدَّ من هَـرَبِ
فَكُـلُّ عَـرْشٍ ، علـى بُقْيـــا جَماجِمـِنا
أَرسَــى قوائِمَـهُ مُختالــةَ الطَّــنَــبِ
لــم يَـــدرِ أَنَّ عِظــامَ الأَبريــاءِ بِـهِ
أَلغــامُ ثــأرٍ ، تـُـدَوِّي ســـاعةَ الغَضَبِ
صَنْعاءُ ، رُدِّي دمــاً مــا أَنتِ ساحَتَهُ
يافــا تَصيحُ بــه مجنونــةَ السَّـــغَبِ
لا أَذَّنـــَتْ فـيكِ يا صَنْعـاءُ مِئذنـــةٌ
واللّـــدُّ تَنـــدُب فــي محرابِهـا الخَرِبِ
لا أَمـطَـرَتْ في سـماءِ العُرْبِ غائِـثـةٌ
و في الجليلِ الرُّبـَـى محبوسـةُ السُّحُبِ
تبكيــــنَ من مَــأْرِبٍ قــانٍ تَفجُّـــرُهُ
وَجَفَّ في القدسِ،حتى الدمعُ في الهُدُبٍ!!
أَكـادُ أُومِـنُ ، مِن شــكٍّ وَمِن عَجَبِ
هــذي الملايينُ لَيسَــتْ أُمـَّـةَ العَرَبِ
كـــأَنَّمـا لم تَـلِـدْ فـي اليُتْم " آمِنَــةٌ "
ولا " حَلِيمةُ " هَــزَّت مَهْــدَ مُرْتَقَبِ
كــأَنَّمـا الصَنَـمُ الأَعلـى مُـحَـدِّقـــةٌ
عينــــاهُ فـي زُمـــرةِ الأَزلامِ والنُّصُبِ
و كــم مُسَيلِمَـــةٍ ، عَمَّـــت خَوارِقُـــهُ
وَعَلَّــمَ الناسَ دِيناً ، شِــرعةَ الكَـذِبِ
إِزميلَ شَعبِيَ، يامَنْ صُغتَ مِن حَجَرٍ
رَبَّــا، و سُـقتَ له النَّجوَى، ولم يُـجِبِ
كُــنْ مِعْوَلاً في جبينِ الصخرِ ثانيةً
وحَطِّم اللاَّتَ ، وارشُـــدْ مَرَّةً وَثُبِ
أَكـــادُ أُومِنُ ، مِن شَـــكٍّ وَمِن عَجَبِ
هَذي الملايينُ ليســت أُمَّـةَ العَرَبِ
تَــَبـدَّلَتْ هِمَـمُ الصحـراءِ ، واأَسـفا
بَيَّاعــةَ النفطِ ، عن خَيَّالــةِ الشُّـهُبِ
مَن شَـَّمروا لِلوغَى الأَردانَ، مِن وَبَـرٍ
فانظــر لهم ، في طَرِيِّ القَزِّ والقَصَبِ
سَـــلِ الجـواري ، ومـا وُشِّينَ مِن بُـرُدٍ
والغــانيـاتِ ، ومــا حُلِّيــنَ من ذَهَبِ
أَمــا يُــؤرِّقُ ربَّ القصرِ رَجْعُ صدىً
مُعَــذَّبٍ في طُلــولِ اللّــدِّ ، مُنتَحِبِ
وفي الجليـلِ عـذارى يَـنْـتَـخِـيـنَ ، فما
تَســري الـحَمِيَّــةُ في عِـرقٍ ولا عَصَبِ
إِنــا سـَـــقَينا خُطـــوطَ النــارِ من دَمِنـا
فَلْيَسقِها الشيخُ بعضَ الزيتِ، إِن يَهَبِ
لا و العُروبـــةِ، لا كَلَّـــت سَــواعِدُنـا
صَوَّالــةً بِسِــــنانِ الـــرَّوْعِ والقُضُــبِ
لا و العُروبـــةِ ، أَو شُـــلَّت سـواعِدُنا
إِن لـم نُفَجِّـر مدى الصحراءِ باللَّهَبِ
إِن لــم نَقُـمْ في حُقولِ النفطِ نُشعِلُها
في جنبِ كلِّ دخيلِ الدارِ ، مُغتَصِبِ
ما لِلجماهيرِ لـم تَفتَــح جَـهَـنَّـمَـهـــا
لِلفـــاتحينَ ، و لــم تَــزْأَر ، و لم تَثِبِ
أَقـــد سَـــرَى خَــدَرُ الأَفيــونِ في دَمِها
فما تُـحِـسُّ عليهِ صَحـوةَ الغَضَبِ؟!
أَكـــادُ أُومِنُ ، مِن شـــكٍ ومن عَجَبِ
هَذي الملايينُ ليســت أُمَّـةَ العَرَبِ
لولا تَشُـــــقُّ سُــجوفَ الليــلِ بــارقةٌ
يا شُـعلَة البعثِ ، رُدِّي حالِكَ الحُجُبِ
وَقُـمْ ، فَأَنـــذِرْ ، بـأَصنـــامٍ مُـبَـجَّـلـةٍ
غَداً تـَدَحْـرَجُ فـي الأَقــــدامِ كاللُّعَبِ
واسأل ببغدادَ، عن"نُوري"،وخِلفَتِهِ
نَبُــوءَتي في طُغــاةِ الأَرضِ لـم تَـخِبِ
إذا الثعالبُ صِيدَتْ في مَكامِـنِـها
أَيَّـانَ يُفلِتُ من شعبِ العراقِ، غَبي
لَعنتُ تِشـــرينَ ، باســـمِ اللّدِّ أَلعنُـهُ
و باســمِ جُرحٍ على اللَّطرونِ مُنْسَكِبِ
بِــدَيــرِ ياســينَ ، بِــالأَرواحِ هــائمـــةً
علــى الخرائــبِ ، تَرثـي نَخْوَةَ العَرَبِ
لعنتُ تِشـــرينَ، لا بغدادُ مِن وَطَني
ولا العـــراقُ ، و لا كان الرشيدُ أَبي
إِن لم أرَ الرَّكبَ من شعبِ العراقِ ضُحىً
يَلُـزُّ عَرضَ المـدى في زَحفِهِ اللَّجِبِ
كأَنَّ، مِـن قُبْلُ ، لم يَجْلُ النهارُ دجىً
ولا ازدَهَتْ صفحةٌ للعزِّ في كُتُبِ
وفي الشآمِ ذَوُو بــأسٍ ، مُسَـــرَّجَةٌ
خُيُولُهم قِبْلَـةَ الـمَيْـدانِ كالشُّـــهُبِ
علـى النيـازكِ فُرســــانٌ لهم ، و على
رَحَــى الجنازيــرِ جِـــنٌّ مُـرَّةُ الغَضَبِ
جُنْـــدُ الرســـالةِ ، مَعقُـودٌ لِواؤُهُمـو
لِلبَعثِ ، عَـــزَّ على مَسـعُورِة النُّوَبِ
مـا عَـابَهُـمْ أَنهــم بِالســـيفِ نَخوتُهــم
و غيرُهـم بِضجيــجِ القـــولِ والخُطَبِ
مــا عَـابَـهُـمْ أننــا لســـنا تِـجارَتَـهُم
ولا الخيـامُ بِسُــوقِ العرضِ والطَّـلَبِ
وقِيل "وَهْرانُ".. هل حادَ السبيلُ بها
تُزجِي القوافلَ،"أَنغولا"،عن النَّـقَبِ!!
هــل الطريــقُ إِلى يــافـا مُضَيَّـعــةٌ
و مِـن دِمــاهـــا مَنـــارٌ أَلفُ مُلتَهِـبِ!!
واخَجْلَتا ، وَ بُـيُـــوتُ الناسِ أَرفُعُها
وبيـتُ أَهلـي عَـوِيـلُ الريحِ في الخِرَبِ
عاتبتُ"وهرانَ" في جُرحي،و تَذكُرني
في جُرحِها،وَسُدىً لَوْمي،سُدىً عَتَبي
أَكـادُ أُومِنُ ، مِن شـــكٍ ومِن عَجَبِ
هَــذي الملايينُ ليســـت أُمَّةَ العَرَبِ
لـولا رِفــاقُ طــريقٍ، في مَلامِـحِهِــم
وَهْــجُ الرســـالةِ يُذكي سالفَ النَّسَبِ
تَـــدري العـروبةُ مَن أَبنــاءُ بَجْدَتِهـا
مَن الـمُحامـونَ بِــالأَرواحِ والقُضُبِ
مَــن الــذيــن ، إذا أنـَّـت لِنــازِلَــةٍ
يــافـا ، تَـنَـهَّـدت الأَصـداءُ في حَلَبِ
لَيَهْــدِرُ الزَّبَــدُ المَحمُومُ مُصطَخِباً
وَيَسـتحيلُ جُفــاءً ســاعةَ الحـَـرَبِ
وَ يمْكـثُ الحــقُّ ، فـي غَوْرٍ أَرُومَتُـهُ
وَ فَـرعُــهُ فـي جِـوارٍ اللهِ كـالطَّنَــبِ
آمنــتُ بِـالشــامِ، رُوحُ البعثِ تَسكُنُها
مـا جِلَّــقٌ هــذه ، بــل كَعبَــةُ العَـرَبِ


قُل لنا شِعراً
-----------


1

على طريقِ النجومِ ســـــامِرُنـا،
و حيثُ يَعْـرَى و يَشـــرُدُ القَمَرُ
والليلُ أرضُ الخيالِ، فامضِ بنا..
يَلَـذُّ خلـفَ الحقيقــةِ السَّـــفَرُ
دُنــىً رحابُ المدى ، و أَجنحةٌ
علـى ضُلوعِ الكمــانِ تنتظــرُ
مَقرُورةٌ في النهـــار ، مَـيِّــتَـــةٌ ،
تَهِيجُها الأُغنيـاتُ والسَّـمَرُ
فحين يَلتـاعُ قَوْسُ شــاعرِها ،
يَمضي بهــا أَيَّ رحلـــةٍ وَتَـــرُ
إِنـــا تَــخِذْنا الحياةَ أُغنيــةً ،
تَصفُــو لنـــا ، تـارةً ، و تعتكرُ
نُســـقى طِلاها ، فَيَغتلـي دَمُنا ،
أو يرتخـي في جُنوبِنــــا الخَدَرُ
هـــاتِ اســـقنا الـراحَ، بابِـلِـيَّــتَها،
تَشــــتاقُنا ، بَعْدُ ، في المدى جُـزُرُ
لم نـأتِهــا ، مَـــرَّةً ، وَ نُوعَدُها ،
إذا تَعـــرَّى ، وأقبــلَ القمـرُ
و الليلُ أرضُ الخيالِ، فامضِ بنا ،
يَلَــذُّ خـلفَ الحقيقةِ الســفـرُ
2
ياسـادتي .. والغناءُ ذو شَـــجَنٍ
عندي .. وَهَمُّ العَشِــيَّةِ الطَّرَبُ
مــاذا يُغنِّي الــذي أَصـابِعُــهُ
صَمْتٌ ، وأعماقُ رُوحِهِ صَخَبُ !
ماذا .. و دُونَ الغنــاءِ مَلحمـةٌ
تَفُــورُ في أضلُعي ، وتلتهبُ !!
قد أَلبَسَــتني الحِدادَ ذاتُ يدٍ ،
فكيفَ أشـدو ، والقلبُ يَنْـتَحِبُ
و بـي حَنينُ الأَبعادِ ، ما هَدَأتْ
رِجْــلايَ ، إلا وحَثَّني الطَّلَبُ
هـذا جِـرابُ الغريبِ ، ليس بهِ
ما تَشــــتَهُونَ ، الحكايـةُ الذَّهَبُ
ظِـلٌّ على الدربِ ، راحلٌ أبـداً ،
مُشَـــرَّدٌ في ذَوِيــهِ ، مُغتَـرِبُ
ينمو على أَصغريــهِ وَعْــدُ غَـدٍ


في عِشق مصر
----------------


أُعطيكِ وَعْـدَ هَوىً في نُزهةِ القَمَرِ
بين النَّدى، وشَذَى بُستانِكِ العَطِـرِ
مِصرَ الحنانِ ، فلا كان الوَداعُ قِلَـىً
ولا اللقاءُ سوى قَـوسٍ على وَتَــرِ
وليتَ حتى نُجومَ الليلِ أَنــظِمُها
لَكِ الحِـلِـيَّ، ورمزَ الـتَّوقِ والذِّكَرِ
فَجَـنِّحيني رُؤَىً عُليا، وأَخْيِلَـةً
لأن عَذْبَ لَماكِ المُشتَهَى وَطَري
وأَلـهِميني بِراحٍ منكِ رائقةٍ
مِنْ قَـبـلُ ما خَطَرتْ في بالِ مُعتَصِرِ
أنا الذي لِيَ في التأويلِ مُعجزةٌ
وأَنتِ مَن بُورِكَتْ في مُحكَمِ السُّوَرِ
عَهدي أُفـَسِّـرُ أَحزانَ الدُنَى، فَـرَحاً
وظامِيءَ الرملِ ، غُزلاناً على غُـدُرِ
فَمَن يُـفَـسِّـرُ في عينيكِ لي لُغةً
تُحيِي، وتَذبحُ ، في سَهمٍ من الحـَـوَرِ
وَدِدْتـُـني قُبلةً ، يا مِصرُ ، هائمةً
مَشاعَ وَاديكِ ، والشُّطآنِ ، والنَّـهَرِ
وإنْ يكُ العِشقُ أسـراراً مُكَـتَّـمَةً
فإن لي فيكِ عشقاً غيرَ مُستَـتِــرِ
هُوَ الفضيحةُ تحت الشمسِ، عاريةً
إعلانُ شوقٍ إلى لُقياكِ مُستَعِـرِ
وما سَرِيرُكِ، مَدَّ النيلِ، مِن وَطَنٍ
إلا مَـجَازُ نعيمِ اللهِ ذِي السُّرُرِ
رُشِّي سَرِيرَكِ أَغلَى الطِّيبِ، سَيِّدتـي
مِرسالَ وَصْلٍ إلى عُنوانِـيَ الخـَطِـرِ
بين الخليلِ ، وأَكنافِ الجليلِ ، وما
بالقُدسِ مِن حَجَرٍ، يَسمُو على بَشَرِ
هناك سَرَّحتُ رُوحي في فُتـُونِ دُنىً
ما قَبلَها حالَ فِردَوسٌ، إلى سَقَرِ
قد عِشتُ جِيرةَ إبراهيمَ، عَهْدَ صِباً
وأَقصرُ العُمرِ هذا الفَضلُ من عُمُري
يا نارُ كُوني سلاماً حَول مِـنــبَـرِهِ
وَبَلسِمي كلَّ جُرحٍ ، أَدْمُعَ المَطَـرِ
في رُكَّعٍ ، سُجَّـدٍ ، آسَتْ عُروبتُهم
جِراحَهم بِضمادِ اللَّغْوِ ، والـهَـذَرِ
كأَنَّ لا عُرسَ فجرٍ كائنٌ أبداً
إلا بِمَهْرِ دَمٍ ، كالسيلِ مُـنْـهَـمِـرِ
أُعطيكِ يا مصرُ وعداً لستُ أَحْنَـثُـهُ
وما استطالَ بِـيَ الترحالُ فانتظري
حتى أَجيئَكِ، لا أَدري، أيسبِقُني
فَمي لِثَغرِكِ، أَمْ من لَهفتي، خَبَري
لو قد مَسَسْتِ بِقلبي جُرحَ فاجعةٍ
رَضيتِ عن عَذَلٍ، أَسبابَ مُعتَذِرِ
فما أَشَقَّ مَرامي ، غُربةً ، ونَوَىً
وما أقلَّ لهُ زُوَّادةَ السَّـفَـرِ
لو تَعلمينَ ، لقد ضَيَّعتُ بُوصَلَتي
مَلَّاحَ ليلٍ ، جَـفَـتْهُ طَلعةُ السَّحَرِ
إلا مَرافِيءُ مِن عينيكِ ، أَنـْـشُدُها
تجلُو البصيرةُ فيها ، رِيبَةَ البَصَرِ
قد جئتُ ، لا لاجِئاً يا مصرُ مُنْـتَبـَذاً
وأنتِ تالِدُ أَسلافي ، وَمُدَّخَري
جَدَّايَ، أَزْعُمُ، رمسيسٌ ، وَمَنْقَرَعٌ
وأدَّعي أنكِ العَرباءُ مِن مُضَرِ
هُما المُحيطانِ ، ميراثي ، وَرِزْقُ أبـي
وأنتِ بِكْرُهُما المكنُونَةُ الدُّرَرِ
فَلَو سَمحتِ ، دَعِي رأسي إلى سِنَةٍ
في دِفءِ صدركِ داني الشَّهدِ والثَّمرِ
دَعي تَـميمةَ عِشقٍ فيكِ تَـحفَظُني
على سِجالي وهذا العَسفِ من قَدَري
مالي سِوى قَلبِيَ الدَّامي أُقَلِّدُهُ
مِن حولِ جِيـدِكِ ، ياقُوتاً من الذِّكَرِ
مِصرَ الحنانِ ، أيا مِفتاحَ أُغـنِـيَـةٍ
على رِحابِ غَدٍ لِلشَّرقِ مُنْـتَـظَرِ
أُعطيكِ يا نَزْرَ ما أُعطي كَفافَ يَدي
مُزَيـْـنَـةً ، فوق بحرٍ منك مُنـسَجِـرِ
أُعطيكِ ، في مَوْطِني ، عُنوانَ دالِـيــةٍ
تَسقي الطِّـلى اثنينِ ، في أرجوحةِ السَّمَرِ
أنا ، وأنتِ ، وعُرسُ الكونِ ثالـثُـنا
وزامِروُنَ على الأفلاكِ ، في زُمَـرِ
إذِ الصَّبا كَرْمِــلِـيٌّ ، والزمانُ صِباً
والمرجُ مِن سارحاتِ الريمِ في أُزُرِ
إذِ السلامُ أَغانٍ حُرَّةٌ ، ودُنـَـىً
تَهمي الدموعُ بها ، مِن بَهجةِ النَّظَرِ
أَمْتَصُّ ثَغركِ، حتى الغَيْبِ، يا كَرَزاً
يَطيرُ بي جُزُرَ الأحلامِ ، إنْ يَطِــرِ
حَبيبتي ، لَكِ سَيفي وردةٌ ، وَدَمي
خَمرٌ ، ورُوحي عِناقُ الطَّــلِّ لِلزَّهَرِ
أَتِلكَ إلا يَدُ الرحمنِ قَد بَدَعتْ
هذا الجمالَ ، قِياسَ العينِ بالأَثـَـرِ
كِنانـَـةَ اللهِ ، لو أَحظى بِمَغْـفِـرَةٍ
سَألتُكِ اللهَ ، عن فِردَوسِهِ النَّضِرِ


نشيد الثورة
-------------



1

بِـاســمِ التُرابِ ثائرونَ ، باسمِ الشعبْ
باســمِ الغدِ النبيلِ ، فَـلْـيَـمُـرَّ الركبْ
جـبـاهُـنا على المدى
يَـلْفَحُـها هَجيُر الشـمـسْ
مُشْـــرَعَـةٌ على الردى
تَضرِبُ في جبينِ الـيـأسْ
إِزميلـَهـا المقدودَ من ذراعِ الشــعبْ
إنَّـــا نَـدُقُّ بوقَ البعثْ
نُـــدني إلى الجذورِ الحرثْ
أَيـَّـتهــــا الجِـبـــاهُ ، بالدمِ
خُـطِّــي على الثرى ، و أَقسِـــمي
أَنَّ لـنـا الخلودَ و الصبــــاحَ الرَّحـبْ
عُــدنا ، أَتـينا ، نُـعَـذِّبُ الدجى
نَحرِقهُ فينـــا
نَبني ، نُـغَنـِّي ، نعـانِـقُ الرجـــا
نَصنـعُ آتينــــا
تَـمَـزَّقي أَعِـنَّــةَ الغَـضَـبْ
لَـنرفَعَـنَّ دولةَ العربْ
باسم التراب ثائرونَ ، باسم الشــعبْ

2

في الليلِ أَيـدينـــــــا تَـدُقُّ بابَ الصُّبحْ
تَــــدُقُّـــهُ ، تَـــدمَى ، يَشِــعُّ منها الجرحْ
تَــضَـوَّئـِـي يا أَرضَــنا
عُـبِّـي مِن العــروقِ الزَّيـتْ
حتى يَـجِـيءَ بَعْـــدَنـا
جيلٌ يَــفِــيءُ نُـعمىَ البَـيـتْ
حتى يَـفِـيضَ في السـماءِ نَبْـــعُ الصبحْ
إَنـا نَـــدُقُّ بـــوقَ البعثْ
نُــدني إلى الجذورِ الحرثْ
أيَّتهــــا الطليعةُ اُخطَفي
ناصِيةَ الرياحِ ، واعصِفِي
وَ لْــنُــطْــعِـم التِّــنِّــينَ ، بَعْدُ ، وَهْجَ الرُّمحْ
عُـدنا ، شَــــرَعنا المُــظَـفَّـرَ المُـضاءْ
يا أيـُّـهـا الغالي
حَلِّــقْ ، وصَـفِّـقْ ، تَــوَّطنِ السماءْ
مَنــــــارَ أَجيالِ
تَــمزَّقي أَعِـنَّـــــةَ الغضبْ
لَنَرْفَعَــــنَّ دولةَ العربْ
باســـمِ التُرابِ ثـائرونَ ، باســمِ الشــعْبْ
3
نادَى النَّـفـــــيُر ، والمســـيُر دَرْبٌ وَعــــرْ
رُحنـــا لَهُ ، عَــدَّ الرمـــالِ ، مَدَّ البَحرْ
جِـيلٌ يَمُوتُ ، ألفُ جيلْ
يَـخلفُـهُ لِشَوْطِ الغــــــدْ
الدربُ دوننـــا طويـــلْ
فَـلْـتُـجــزِلِ البُحورُ المـــدْ
حتى نَــشُـدَّ في الجبــــاهِ غارَ النَّـصـرْ
ِإنــا نَـــدُقُّ بُـوقَ البعثْ
نُـــدني إلى الجذورِ الحرثْ
أَيَّتهــــا المرابِـــعُ اشـــرَبي
دمــاً طليعيَّــاً ، و قَــرِّبـي
مِن أجلِ عــالَـمِ السـلامِ وَعْــدَ الفَـجـرْ
عُـدنا ، خُـطــانا الضياءُ والسلامْ
فَلْتَشــهد الدنيـــا
هَلَّـــتْ ، أَطَـلَّـتْ ، تُـزَحـزِحُ الظلامْ
مَشـــاعِلُ الرُّؤيا
تـمزَّقي أَعِنَّــــةَ الغَضَبْ
لَنَرْفَعَـــنَّ دولةَ العربْ
باسـمِ الــتُرابِ ثـائرونَ ، بـاسمِ الشعبْ


سلم لكنّ إناث العروبة!
--------------------------


سأَرسُمُكِ الآنَ، عذراءَ كل النساءِ،
وفي عَطَشِ الأَرضِ، حُبْلى غيومِ السماءِ،
تواعدتِ، سِرَّاً، وصُبحَ قِيامتنا المُنتَظرْ..
أَماناً لِقلبي.. أيا امرأةً وحدَها
تَتكَحَّلُ، في الصعب، بارودَ خطِّ القتالِ..
ويا روحَ زوبعةٍ.. في سِماتِ الخَفَرْ
سَأرسُمُكِ الآن، عَبْرَ زِقاقِ المُخَيَّمِ
عفراءَ.. حافيةً.. تحت زَخِّ الرصاصِ
كأَنْ قد تَوَهَّجَ في راحتيكِ الحَجَرْ..
فما بالُ سيف الرقيبِ.. اللبيبِ!!..
أَقد ظنَّ يَحتَزُّ منا رِقابَ الحروفِ
جزاءَ سُراهُنَّ، عبرَ الدَّياجي، حَبَالى شَرَرْ؟!..
هنا.. مِن تَقَصُّفِ أعناقِهِ الخَضِلاتِ
يَفُوحُ شَذَى الرَّندِ.. والأقُحوانِ..
وتَنتَزِعُ الخُلدَ - ساعةَ مَقْتَلِهِنَّ - الفِكَرْ
سَأرسُمُكِ الآن، في عُمْقِ سِرِّ الخليجِ
مَحارةَ عشقٍ، تَخَبَّأَ في قلبكِ الحبُّ، والحُلمُ،
واستوطنت جانحيكِ عذارى الدُّرَرْ
إلى أن يغوصَ عليكِ غداً.. آخرونَ..
فها أنتِ - إذَّاك - بَوْحُ النهارِ،
وَفَوْحُ العرارِ، وفي عَطَشِ الرملِ سَحُّ المطرْ
سَأَرسُمُكِ الآنَ، سَيِّدةَ النحلِ، والزهرِ،
وَحدَكِ أنتِ المليكةُ، والعَسَلُ الأُنثوِيُّ..
وقحطانُ "هذا الزمانِ"، مُجَرَّدُ ذاك الذَّكَر!!..
سلامٌ لأَهدابِكُنَّ.. إناثَ العُروبةِ..
إِني لأَلمحُ في نائِساتِ الرموشِ
سِقاءَ مُحمَّدِنا بالحليبِ، وتهويمةً في سريرِ عُمَر
كأني بِمَريَمنا الناصريةِ تَسري بأعطافِكُنَّ
مَشاعَ الندى، والشذى، في أَقاحي الجليلِ..
وأسمعُ أجراسَ قافلةٍ.. تَستَحِثُّ خَلاصَ البَشَرْ..
فَأطلِقنَ هذي الجدائلَ، رَسْلَ النسيمِ،
وَمَزِّقنَ أسجافَ أحلامِكُنَّ.. هو الوطنُ الآنَ
قد دَقَّ فيكنَّ.. أنتُنَّ.. ناقوسَ داهي الخَطَرْ!!..
سلامٌ لأَرحامِكُنَّ.. إناثَ العروبةِ..
قد وَهَنَ العظمُ من "زَكَرِيَّا الهزيمةِ"،
فاحمِلنَ (مِن وَحَمِ العشقِ في اللهِ) جيلَ القدر!!..
وأنتِ التي أَنتِ.. سَيِّدةَ البَوْحِ والصمتِ..
هاكِ البشارةَ، من عُمْقِ جُرح فِلسطينَ:
"قد دَلَفَ السالكونَ الدجى.. في رِحابِ السَّحَرْ"..
سَأَرسُمُكِ الآنَ، دالِيةً تحت ثلجِ الخليلِ
تُؤرِّثُ في أَضلُعِ الأرضِ كُلَّ سعيرِ الكويتِ،
فَتَنسَغُ منكِ العناقيدُ وَهْجَ الطِّلى، واشتعالَ الذِّكَرْ
وإنكِ - لو قد أَسِيتِ – فما قد نَسيتِ
بأن "التشارينَ" نُطفَةُ حُلمِ الربيعِ..
وأيَّانَ سُنبلةٌ، غيرَ ما قمحةٍ دُفِنَتْ في الحُفَر؟!..
فحتَّى يجيءَ الذي (عُنْوةً سيجيءُ)، اسمعي:
سَأَظَلُّ هنا.. تحت ما شُرفةٍ في الخيالِ..
أُلَوِّنُ بالوجدِ أُنثى الرؤى، وأُلَوِّعُ نجوى الوتر..
سَأَرسُمُكِ الآن، فارسةً.. فَرَساً.. صهلةً
في الرياحِ.. تَعَلَّيتِ مَتْنَ الصباحِ،
تَشُكِّين في عينِ غاشيةِ النومِ، لَسْعَ الإبر
أيا "نُونَ نِسْوَةِ" هذا الدجى "اليَعرُبيِّ !!"
سَأُعرِبُكِ الآن - فوق ادِّعاءِ جميعِ النُّحاةِ:
فَمُبتَدأُ الزرعِ أنتِ، وفي غَلَّة الصيفِ أنتِ الخَبَرْ..
فَطُوبى لمن كان فَلاَّحَ هذا الجمالِ،
ومن كان حَصَّادَ هذا الجَنَى.. وشَهِيِّ الغِلالِ..
ويا ليت كان لِـحُورِ السماواتِ، هذا الحَوَرْ..
عَدا أَحمرِ الشفتينِ هُوَ الشَرَفُ االمُستباحُ :
ابتذالُ جِباهِ الرجالِ.. وعُهْرُ النضالِ ..
وَعَسْفُ المماليكِ في مَدِّ ما يتمادى البَصَرْ..
فأَنتُنَّ.. كُنَّ قِيامَتنا.. والنُشُورَ..
وَ طَلِّقْنَ ، أُفتي -"ثَلاثاً "- جَناحَ الحريمِ،
وَ كِزلارَ ، والشَهرَيارَ ،وحُرَّاسَ هذا الدجى المُحتَضَرْ..
أٌفَجِّرُ، في سِحرِ أعيُنِكُنَّ، أَسى ريشتي
فمتى.. يا إِناثَ العروبةِ.. أنتُنَّ
تَرسُمنَ من حَدقاتِ النجومِ بَكارى الصُوَرْ؟!..
كأَنْ ما يزالُ إلى الصبحِ شوطٌ بعيدٌ
وما زال - يا عازفَ الليلِ - أن تَستفيضَ
جوىً، والتياعاً، وبَوْحَ هوىً، في مَحاقِ القَمَرْ!!..


في آذان العصر
-------------------




في أَذانِ العَصْرِ..
كانتْ تنَحَني مَرْكَبَةُ الشَمسِ إلى الوادي،
ويَلتاعُ صَهيلاً فَرَسُ الموتِ المُطَهَّمْ..
أَعطِني نَاراً.. و قِيثاراً..
سَأُهدي الصَّمتَ سِكُّينَ أغانيَّ
وأُلقي شعراءَ التاجِ في قعرِ جَهَنَّمْ !!..
أَعطِني ناراً.. و قِيثاراً..
أُغنُّي الليلَ غِرنَاطيةَ الأشْجانِ..
ولِيذهَبْ بهمْ عَرَّابُ مَدريدَ إلى قعْرِ جَهَنَّمْ!!..
في أَذانِ العَصْرِ..
كانَ الموتُ سَكرانَ ثُمالاتِ الشرايينِ،
وَيُورِي زُرْقَ أَنْيابِ الشياطينِ، و يَنهَمْ..
إنني أُشْهِدُكَ، اللَّهمَّ،
أنَّ الموتَ سَرَّاقٌ يهوديٌ
و يَسْقي مِنْ دَمِ الأَطْفالِ
مَعْجُونَةَ «فُوريم» على كَوْنٍ مُهَدَّمْ..
في أَذانِ العَصْرِ..
كانَت وردَةٌ قدْ سَفَحَتْ أَشذاءَها الريحُ..
و كانَ الغَيْمُ حِنَّاءً على الأُفْقِ، و عَنْدَمْ..
عِنْدَما جِيءَ بِهِ مِنْ ضفةِ النَّهْرِ
على أَذْرُعِ أَتْرابٍ،
وشُقَّتْ حُفرَةٌ، في الحُرجِ، شَرقيَّ المُخَيَّمْ..
في أَذانِ العَصْرِ..
دَلَّى رَأْسَهُ في أَبَدِ الصَمْتِ
سِوى ما حَجَرٍ في قَبْضِ يُمْناهُ..
يقولون.. تَهَجَََّ لَفْظَ «أُمُّي»، و تَكَلَّمْ..
فخُذي أَعْوامَهُ التِسعَةَ في حِجْرِكِ..
رِفْقاً..
أرضِعيهِ لَبَنَ الروحِ، إلى الريُّ،
هنا آخِرُ ما عُصفورُ أَحشائِكِ يُفْطَمْ..
في أَذانِ العَصْرِ..
كان الريحُ زَمَّارَ تَبَاريحَ
يُغَنُّي، في زُرُوعِ السَفْحِ
تَغْريبَةَ أعْشاشِ العَصافِيرِ
عَلى أضْلاعِ قِيثارٍ مُحَطَّمْ..
عِندَما حَفَّ بِهِ غَسَّالَةُ المَوْتتت
على تَشرِيحةٍ مِنْ خَشَبِ البَلِّوطِ
سَحَّتْ غَيمَتا رَنْدٍ.. و كافورٍ..
سخاءَ اللَّهِ.. حَتى يَتَحمَّمْ..
في أَذانِ العَصْرِ..
كانَ الحزنُ صُعلوكاً على قارِعَةِ الدَرْبِ
أتى يَسْأَلُنا زَاداً..
فَبِتْ لَيْلَكَ فيِنا، طارقَ الليلِ المُلَثَّمْ..
هذِهِ الخَمْرُ التي تَشْرَبُ كَنْعانُ
عَتِيقُ الجُرْح من عِيسى..
و قطْرُ الدَمْعِ مِنْ مُقْلَةِ مَريمْ..
في أَذانِ العَصْرِ..
كانت طِفْلَةٌ تَرْكُضُ خَلْفَ النعْشِ
لما لاذَ دُورِيٌّ إلى نَافِذَةِ الكُوخِ، و حَوَّمْ..
ما تُغَنُّي تِلكُمُ الجَوقةُ
في أعلى أراجِيحِ السَماواتِ..
وما الوَردُ الذي يضفرُ رِضوانُ،
وحتى الجِنِّ، والأَفلاكُ.. ماذا تَتَرنَّمْ ؟!..
في أَذانِ العَصْرِ..
لَمَّا سُدَّ بَابُ القَبْرِ.
صَلَّى، في نَسيمِ القِبْلَةِ، السَّرْوُ عليهِ..
وعَبيرُ الزَعتَرِ البَريُّ.. سَلَّمْ..
فأَدِرْ، يا أَيِّها الساقي، عَلينا الكَأْسَ..
لا بأسَ..
أَظنِّ اللَّهَ لَمَّا أَبدَعَ الإِنسانَ
خَلْقاً.. طَيَّ خلْقٍ..
كانَ مِنْ فَرْطِ خَيالٍ، وجَمالٍ، يَتَأَلَّمْ !!..
كانَ مِنْ فَرْطِ خَيالٍ، وجَمالٍ، يَتَأَلَّمْ !!..

ثلاث قصائد للرفاق
----------------------


1- في الصعب

لَـيْـلَـةَ أَسْــــرَجنا خُيولَ الرجــاءْ
مِـن تَـوْقِــنا الشَّـــهمِ سَــــقَيناها
وَ هْيَ على مُـتونِــها الكبرياءْ
تَـنَـهَّـدَتْ أَعرافُها بالضِّـيـاءْ
و في الأَعاصيرِ هَـمَـزْناها
وَحُـمّـَـت الظُّـلمــةُ حُـمَّـاهما!!..
تَـقُـــولُ :
وَحْشُ الليلِ شَــــكَّ في العيونِ وَبَـــرَهْ
وَدُلِّـيَـتْ سُـــودُ العرابيدِ بأَيــدي سَـــحَرَهْ
مِـن صَــدْعِ كـلِ حائطٍ ..
من فَــرْعِ كلِ شَــجَـرَهْ ..
تَــفُحُّـنا .. تَـنْـبَـحُـنا ...
تُــورِي النُّـيوبَ كَشَـرَهْ..
كَأَنَّ روحــاً فــي الظــلامِ ،
تَســـــكُنُ الظــلامْ ..
تَـغضَـبُ أَن نَشُــوطَ خيَــلنــا
بِــــلا لِــجـــــامْ !!..
لكنَّ خيلَـنا مَـهِـيجَـةٌ تَــوْقا
بَــرقاً يَـجُوزُ في دُجُـنَّـةٍ بَــرْقا
وما اجتَـبَـيْـنا الخيلَ
إِلا الشُّــهْبَ من عِـرابِـها
لأَنَّ كُلَّ غايــةٍ
تُوصَفُ مِن رِكابِـها !!..
فكــان في الأَرضِ لَـظىً ،
وفي الســماءِ حَـمْـحَـمَهْ ..
و نحن كالجـِنِّ
على النيازكِ الـمُطَـهَّـمَهْ
نَـعْدُو فلاةَ الليلِ
نَـطوي أَرضَـهُ الـمُهَدَّمَـهْ
نَـخُـطُّ بالجرحِ الـمُضاءِ ..
فـي الســماءِ ..
ملحمــــهٍْ !!..

2- في الســهل

لَسـْـتُ أَنا إِيَّــايَ ..
ما هذه كَـفِّـي ..
ولا الســيفُ بها ســيفي
ولا حِصانـي مـن تَـعَلَّـيتُـهُ
بالأمسِ ..
في غاشـــيةِ العَسْــفِ
و هامـدٌ حَـرْفي على شِــلوِهِ
و كان رَسَّـــامَ الضحى حرفي !! ..
لَســتُ أَنـا إِيَّـــايَ ..
صَدْرُ المدى قُـبالَـتي
أَم جُدُرُ الكهفِ ؟!..
وَجيِعَــةٌ روحـــي
وبــي غُـربــةٌ عَـنِّـي
و أَقفُــو ، عَـبَـثاً ، طيفي
مات الذي فِــيَّ ..
تُـرى كُـنْـتُــهُ ،
أَم نحن كُـنَّـا اثنينِ في عِطْـفِ ؟!..
أَم ما تَـوَسـَّمتُ على جَبهتي ،
ما كان إِلا أَلَــقَ الزَّيْــفِ ؟!..
لستُ أَنــا إِيَّــايَ ..
غيري الذي
أَجُسُّ في العينِ ، وفي الأَنـفِ
غَيري الذي أَصْهَلُ في رُوحِهِ ،
لكنَّني أُخْنَقُ في الجَوْفِ
قد ضاعَ مني الشَّوطُ لَـمَّـا ارتمى
بَيْـداءَ لاتعيا على خُفِّ ..
وَ كُنتُ في الوَعْرِ دليلَ الذُّرَى
أُعَـلِّـمُ الدربَ لَـمَن خلفي
يـا أَيُّـها الـَميِّـتُ فِـيَّ اسْـــتَـفِـقْ ،
وَ رُدَّ لـي ثانيــةً حتفي !!..

3- والشـــعب

يُمَـثِّـلُـنا دُمَـىً ثلجيةً في الشـــمسِ ،
يَـرْصُـفُنا مَـراتِـبَ لاتَـعِي :
آجُـرَّةً ..
فَـخَّـارةً ..
صَـنَـمـاً ..
وحين يَـمَـسُّ ، مِـن عَـبَـثٍ ، مَلامِـحَنا
نُـقَـدِّرُ أَننا اللاَّهونَ ،
وهو هُـناك يَـرْمُـقُـنا ،
فَـإِمَّـا دُمْـيَـةٌ جَحَـظَتْ
يُـقَـهقِـهُ للســماءِ !!..
هناكَ أَنتَ ..
هُـنـا أَنـــا ..
نَـنْـحَـلُّ بين يـديـهِ ثانيــةً
لِقاعِ النهـــرِ ، أَتْــرِبـَــةً ،
وَ أَوداجي مُـصَـعَّـرةٌ
وَكلي أَنـفُ دُمْـيَـتِـهِ ..
أُحِــسُّ يـديـهِ فيما تـَجْبِـلانِ الطِّـينَ
يَـجْبِـلُـني
كَـأَنـي الآنَ بين يــديهِ
حُفرةُ مقلةٍ حَـوْلاءَ ،
لَـيَّـةَ إِصبـعٍ شَـــوْهاءَ ،
يَـعبثُ بـي ..
كَـأَني الآنَ بين يـديـهِ
فِـكرةُ فـارسٍ لم يأتِ ،
يَـطْـرَحُنى ..
وحينَ أَرادني ثغراً
كَـأَني قـد عَـيِـيتُ
فلم أَقُـلْ ما قالي لي ..
أَتُــراهُ يَـطمِسُـني
وَ يَسْــخرُ من غَـباءِ الطِّــينِ ؟!..
ذاكَ أَنـــا ..
وذاك أَبــو الدُّمَــى .. شَـــعبي !!..


الفاتحة
-----------



1
مَعاً ، أَيها الصَّحْبُ ، فلنقرأ " الفاتـحـهْ "
على روحِ دهرٍ.. من القهرِ..
غَـيَّـبَهُ الموتُ سبعينَ باعاً
بأعْماق مقبرةِ الأَبَدِ، الليلةَ البارحهْ..
وفي عُرس جيلٍ .. جديدٍ ..
غَرَسناهُ بالدِّمِ، والدمعِ
فانشقَّ ،عن جِذرِهِ ، كَبِدُ الصخرِ
واختطَّ عَـقْدَ قِرانِ المصيرِ
بِزَوبعـةِ الـقـَدَرِ الجامـحـه ..
2
معاً، أَيها الصحبُ ، فلنقرأ " الفاتـحـهْ "..
أَهِيلُوا الترابَ على " شُعراءِ البلاطِ "
وَخِصْيانِ ماضي الزمانِ
وَكُـلِّ قياصرةِ الشمعِ ..
قد عَـفَّنتْ جُثَثُ الـخَيْبةِ الكالحهْ ..
وَهـا شَقَّ صَمْتَ الـفَجِيعةِ " جيلُ الحجارةِ " ..
أَوْ سَمِّهِ بَعْدُ .. " بَـرْقَ البشارةِ " ..
-لاتَجـلِدُوهُ بِـغَثِّ الأَغاني -
هُوَ الآنَ أَحلى عريسٍ لأُنثى الحضارةِ
وازَّيـَنَتْ مِنهُ مَهْـرَ جراحاتِهِ السائحهْ ..
3
معاً ، أَيها الصحبُ ، فلنقرأ " الفاتـحـهْ "..
بِبَطْـنِ الثرى يَرقُـدُ الآنَ :
زَهْـوُ جميعِ العُروشِ ،
وَوَقْـعُ بساطيرِ كُلِّ الجيُوشِ ،
وَجَلَّ المُصابُ بِكُلِّ كلابِ الدجى النابحهْ ..
وَدُقُّـوا رِتاجَ غـَدٍ ، والصُّنُوجَ ..
هُنا قد تَعَـلَّى مُتـونَ المَشيئةِ
مَن يَخْطَفُ الشمسَ ، كَيْ يَخطُبَ القدسَ..
جيلٌ ، يموجُ على خيلِ أَحلامِهِ السابحه ..
4
معاً ، أَيها الصَّحبُ ، فلنقرأ " الفاتـحـهْ "..
على كلِّ شاهدِ قـبرٍ
تعاطى الهزيمةَ .. " مشروعَ شِعـرٍ "..
وفي وارف " الظِّلِ ".. من قامةِ " البَعْلِ "..
رَشَّ على الموتِ ، طَعْمَ قصائِدِهِ المالحـهْ ..
دَعُوهم ، سُدىً ، وَخُذُوا فَجرَكُم بالعناقِ ..
لقد وَضَعَتْ ، بالسلامةِ ، غِيدُ الجليلِ
وأَرحامُ كلِّ صبايـا الخليلِ
طليعةَ جيلٍ - على سَغَبِ القهـرِ -
يأكلُ جُمجُمَةَ الحـيَّـةِ القارحهْ ..
5
معاً ، أَيها الصحبُ ، فلنقرأ " الفاتـحـهْ "
وَأَنعِي إِليكم ..( بِغير مَزيدِ الأَسى )..
ذلك الطِّرْحَ ، مِن رَحِمِ القِمَّـةِ العـربيـةِ
يُدعى " مُنظَّمةً " .. فَليكُن ما يكونُ ..
تَـهَـرَّأَ .. صَدَّأَ .. فاحَتْ لـهُ رائحـه ..
وَعَفْواً ، أَبي ، إِنْ جَزِعتَ عَلَيَّ
فإِني قَصَصتُ على مَلأَ الكونِ رُؤْيايَ :
قلتُ متى سَيجيءُ - الذي جاءَ - جِيلُ الخلاصِ ،
بِصدرٍ تَـعـرَّى لِـزَخِّ الرصاصِ ،
كما السيفُ صِيغَ بِنارِ جَهَنَّمِـهِ اللافحهْ ..
6
معاً ، أَيها الصحبُ ، فلنقرأ " الفاتـحهْ "..
لِـغَـزَّةَ بَحرٌ يَفُورُ.. سوى بحرِ " أُوسلو " ..
" أَعَذْبٌ فُراتٌ .. ومِلحٌ أُجاجٌ " ؟!‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ..
وبينهما بَرْزَخُ المستحيلِ ؟‍‍‍‍‍!
هنيئاً " جُحـا " لكَ صفقةَ أَوهامِكَ الرابحه !!‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍..
ولكنَّ جيلاً، جَميلاً .. " مِن البحرِ .. للنهرِ " ..
لم يَـتـفَطَّن لِميلادِهِ حَاسبٌ
من " إلكْترونِ " هذا الزمانِ ..
تَبَدَّلَ " عَجْزَ " البطاريقِ .. " مُعجِزةً " طامحه ..
7
معاً ، أَيها الصحبُ ، فلنقرأ " الفاتـحـهْ "..
دَعُوا الآنَ " مدريدَ " في عارِها الأَبَديِّ
و " غرناطةً ".. لِلأَسى ، و الرثاءِ..
أَلا أَلفَ مَعْصِيَةٍ " لأُولي أَمرِكُم " هؤلاءِ
وَكُهَّـانِهم ، وَعِصِيِّ الرُّعاةِ
وَرُوحِ " الرَّعِيَّـةِ " .. والغَنَمِ السارحه ..
دعوا الآنَ شَوْطَ غـدٍ .. لِنِساءِ العروبةِ ..
هُنَّ البُطُونُ التي مِن وِحامِ قديمِ الزمانِ
ومن حَبَلِ الوردِ .. بالسنديانِ ..
ومن مصرعِ العُنفِ .. بالعنفوانِ
حَمَلْنَ المَجِيءَ الذي يَتَأَبـَّى على الجائحه ..
8
معاً ، أَيها الصحبُ ، فلنقرأ " الفاتـحـهْ " ..
لقد حَجَّ " لِلدَّنِمَرْكِ " هَلافِيتُ كُلِّ الوَلائِمِ..
تَبَّاً " لِراكاحِهم " ، ولأَشعارِ هذا السلامِ
وأَغصانِ زيتونِهِ المُستضامِ
وكلِّ حـمائِمِهِ .. الخـُـنَّـعِ .. النائحه ..
وياأَلفَ مَرْحَى لِنَبْضِ قِيامـةِ كُلِّ القُبورِ
وَدَفْـقِ الملايينِ ، يومَ النُّشورِ
وَوَقْـدِ اللظى في عُيونِ الصقورِ
وميلادِ شَـوْكَـتِـنـا ..المـُرَّةِ .. الـجـارحه ..
9
معاً ، أيها الصحبُ ، فلنقرأ " الفاتـحـهْ "..
بِلارَجعةٍ ، ماتَ عبدُ القديمِ
" وَكِـزلارُ " قصرِ الحريمِ
وِسِمسارُ كلِّ دمٍ مستباحٍ
وَعَـرَّى ، إِلى الدود ، عَوْرَتَـهُ الفاضحه ..
معاً ، نشهدُ البعثَ ، مِن رَحِمِ الموتِ ..
وَلْنـقـرأ " الفاتـحـه "..
وَدُقُّـوا المهاميزَ ، خَيَّـالةَ الكبرياءِ
ويا جَـوْقَـةَ الجِنِّ ، والإِنسِ ، والأَنبياءِ
لِنَرْقُصْ ، معاً ، جَذَلاً في الهواءِ
ونُـطـلِقْ حناجِرَنا لِـعَنانِ السماءِ ..
هِيَ ، الآنَ ، أُنشودةُ الفَرَحِ الصادحهْ ..
هِيَ ، الآنَ ، أُنشـودةُ الفَـرَحِ الصـادحـهْ !!..


بطاقة معايدة إلى إبي الطيب المتنبي
---------------------------------------


عِيدٌ، حَلَلْتَ كما حَوَّلتَ ياعيدُ
فما وَحَقِّكَ تحت الشمسِ تجديدُ
أَما الأَحِبَّةُ ، فالأَسلاكُ دُونَهُمو
ودُونَ غَزَّةَ ، فُولاذٌ وبارودُ
والساقيانِ ، سُقاةٌ ، والطِّلى كَذِبٌ
لا أُنسَ فيها ، ولا هَمٌّ وتَسهيدُ
أَصخرةٌ أَنا ، مِن لَحمٍ وَ دَفْقِ دَمٍ ؟
و" صَخرةُ القُدس" رَقَّت وَهْيَ جُلمودُ!!
يُرِيبُني الظَّنُّ ، إِمَّا جادَها غَدَقٌ
كأَن قَطْرَ دُموعِ " السِّدرَةِ " الجُودُ
طَغى الخُوَارُ بِها ، " واللّهُ أَكْبرُها "
تَحَشْرَجتْ ، وَطَوى القرآن تَلمودُ
نحن التَفَعْنَا الدجى سُكنى ، وباتَ لنا
في آسِنِ العالَمِ السُّفليِّ تأبيدُ
حتى كأن خُيوطَ الشمسِ ، إِنْ عَرَضاً
مَرَّتْ على سَمْتِنا ، قالت لنا : حِيدوا
وأَين أَضحى بنا " الأَضحى" وَفِديَتُهُ
سِماطُ شعبٍ ثخينِ الجرحِ ، ممدودُ
نَبكي ، وَ نَذبحُ مَن نَبكي ، و شافِعُنا
أَنَّا أَحِبَّةُ قَتلانـا المعاميدُ‍‍!!
" نَبِيَّ كِنْدَةَ "، فاهنأ أن قَضَيتَ رَدىً
فَغيرُكَ اليومَ ، يحيا وَ هْوَ مَوْؤُودُ
يا من تَغَرَّبتَ ، لا مُستعظِماً أَحداً
ما بِيدُ أَمسِكَ ، مما أَضحتِ البِيدُ ؟!
ذاكَ الزمان الذي مِنهُ بكيتَ أسىً
عليهِ أَبكي ، و بعضُ الجرحِ تَضميدُ !!
إِن ضِقْتَ من عَجَمٍ تَطوي إلى عَرَبٍ
جُرْدَ القِفارِ ، و سَلْواكَ الأَناشيدُ
إلا أَنا ، راصِداً رَهْنَ الدجى حُلُماً
لكنني باقترافِ الحُلْمِ ، مَرصودُ
ما " شِعْبُ بَوَّان " من حَيْفا وكَرمِلِها
و التَّرجُمانُ ، سُليمانٌ ، وداوودُ !!
وما " الفَتى العربيُّ " الحُّر ، في وَطَنٍ
لَهُ الدَّوالي بِهِ .. إِلا العناقيدُ ؟!
فاكْبَحْ جَوادَكَ ، ما الفُسطاطُ دانِيَةً
يـبـقى لِقَصْدِكَ بالشهباءِ مَقصودُ
تَحوَّلَتْ بُوصَلاتٌ عن مَرافِئِها
وَ مَكَّةُ الحُلْمِ أَمْسَتْ وَهْيَ " مَدريدُ "
و اشهدْ بِرَبِّك هذا "السِّلمَ " تُوقِنُهُ
سُمَّاً ، وَ يَغشاهُ " شُعَّارٌ " كما الدُّودُ !!
يا مَن بُلِيَ " بِإِخشيدٍ " بِمُفْرَدِهِ
ماذا أَقولُ وَ بَلوْايَ " الأَخاشيدُ " ؟!
حُسَّادُ أَمسِكَ مَنْ تَدري ، وها قَدَري
هذي القرامِطَةُ ، العُجْمُ ، العرابيدُ
عَجِبتُ، إِن كان " تَطبيعاً" صَغارُهُمو
فما الذي ، بَعدُ ، قد يَعنِيهِ " تَهويدُ "؟! ..
عاد المماليكُ ، إِلا مِن مُفارَقَةٍ
قُلوبُهم ، لا الوُجوهُ ، الكُلَّحُ السُّودُ
خمسينَ عاماً تَوَلَّوْنا بَطارِقةً
تُعزَى الأُمورُ إِليهم ، والمقاليدُ
حتى تَبَدَّوا عُراةً يومَ أَن زَعَمُوا
" أَنْ زَايَلَتْ وَجْهَ صُهيونَ التجاعيدُ " !!
فَدَعْ لهم ، في فَمِ البُركان ، غَفْوَتَهُم
فإِنَّ رَبَّكَ ، قُلْ والشعبَ ، موجودُ !!



من أعمال الراحل الكبير يوسف الخطيب النثرية
----------------------------------------------------


الـنــاي والـرعــد - مهداة إلى رجاء النقاش - الحركة الأولى
-----------------------------------------------------------


مع أنني أُدرك جيداً أَن هذه الحياة غير جديرة بأن تعاش، إذا هي خلـت من عنصر الكفـاح المرافق لها باستمرار، وبمزيدٍ من الإرادة الإنسـانية الصلبة، والمتماسكة، إزاء تحدّياتها المختلفة ..
ومع أَنني، الآن، أُقاوم وحش الشتاء من داخل خيمتي هذه في مخيم "العَرُّوب"، وأنا أَعزل اليدين تماماً من أَي سلاح مُضادٍ لوحشيته الطاغية، بينما يصارعه في الوقت نفسه، وعلى الشاكلة ذاتها أَيضاً، أطفالي الثلاثة: خالد، وآمنة، ومحمود ..
إلا أَن شتاء هذه السنة، وحشٌ سافلٌ لا يعرف معنى الشرف، ولست أَدري ما معنى أَن تُجَنِّد الطبيعةُ ضدي كل هذه القوى الناقمة الشرسة دون أَن أَملك في مواجهتها أَية مقدرة على الدفاع، إن لم يكن عن النفس، فعن أطفالي الصغار الجياع هؤلاء ..
ابنتي آمنة تحاول النوم منذ ساعات دون أَن يغمض لها جفن حتى الآن، ولا أَعلم إِن كان ذلك بسبب الريح العاصفة، وميازيب السماء المجنونة فوق خيمتنا، أو لِلسبب الآخر الكبير الذي ينهش قلبها الطفل منذ ليلتين.. وهذه هي الليلة الثالثة ..
أعود فأقول لنفسي، لعل النوم يغلبها بعد لحظات، رغم أن البطانية التي تلتفُّ بها لا تقيها رطوبة الأَرض، ولا سياط الريح الحادة..
لقد كنت، إِيَّايَ، على وشك أَن أَغفو، لو لم توقظني الصغيرة بصرختها المذعورة، المفاجئة:
- الرعد يا أَبي !! .. هبطت علينا السماء !!..
- ليتها تهبط فعلاً ..
ذلك ما قلته لنفسي، على حين ضَمَمتُ الطفلة بقوة إلى صدري لأَِطرد عنها مخاوف الليل والرعد والرياح ..
قبل هذه الليلة كان يمكن أَن يضُمّها صدر آخر .. لكن ذلك الصدر واريناه التراب منذ يومين، وأَصبح أطفالي الثلاثة بدون أُمٍّ إلى الأبد ..
جانبٌ من الليل تحرقه تلك الومضه الخاطفة كنواجذ الشر الملتمعة .. ودَويُّ الرعد يتوعد باقتلاع الخيم المنشورة في العراء الجبليّ، وقد يجرفها عما قليل بالسيول المتدحرجة من أعالي القمم، حاملةً معها الحجارة، وبقايا النبت، والطينَ الأَحمرَ كالدم ..
أتوسـل إليك أيها الاله الرحمن، والرحيم، باسم جميع مخلوقاتك الصغيرة، أن ترفع عنا هذا الغضب الرهيب .. فما هي حاجتنا إِلى المطر، الآن في مخيم "العَرُّوب"، من بعد أن ضاعت منا الأرض، ووعود المواسم، وأغمار الحصاد .. رَبَّنا، دَعِ الطفلَ يَنَم.. والخيمةَ لا تَطِر مع الريح.. والجثمان النائمَ أعلى القمة يرقدْ في سلامه الأَبديّ !!..
محمود، أصغر أطفالي الثلاثة - وأناديه عادة "حُودة" - يُلملم البطانية فوق رأسه ونصفه العلوي، بينما قدماه عاريتان على حصير الخيمة .. وحين مررت بيدي لأُسوِّي الغطاء على كامل جسده، تململ قليلاً، ثم انكفأ على وجهه باكياً ..
- آمَّا .. بِدِّي آمَّا ..
- نم يا حبيبي، وسترجع أُمك مع الحُجّاج قريباً، وتأتيك بهدية من عند قبر الرسول..
- بدّي آمّا..
- ستأتيك بصندوق من التمر، وكوفية من الحرير، وعقال مذهّب، ترتديهما في أيام الأفراح، والليالي الملاح.. فماذا تريد أيضاً؟! ..
كان نشيجه المتقطّع، خلال نغم الليل المُتفجِّر بالرعد، والريح، وزخات المطر، كصوت نايٍ يتناهى إليك وانياً ومتوجّعاً من وراء مئات السفوح .. ثم هَدأ النشيج خلال تلاشٍ طويل، وأغفى الطفل على حلم أن ترجع أمه محمّلة إليه بكل هدايا الحجاز ..
غداً يكبر، وغداً يفهم كل شيء !!..
آه يا حبيبتي الراحلة، بماذا تُحسين الآن في عالمك الآخر؟! ..
أَأَنت مثلي تغالبين النوم حتى في حفرتك المهجورة، الباردة، الموحشة كقلب هذا العالم!!.. ومن كان يَعلم أن بدايةً جميلة، كالتي بدأناها معاً في أحضان بيسان ستنتهي هكذا بلا أَيّ معنى، وبلا أيّ منطق .. بل أيُّ عرَّافٍ كان يستطيع ─ في لحظة لقائنا الأَول ─ أن يتفرَّس في ضمير هذا العالم، وأَن يقرأَ فيه كل هذه الدمامة المرعبة ؟! ..
أتُرى تُؤنسُكِ البَلُّوطة التي تجاورينها الآن في قمة "العرّوب"، أم تعلمين أنها هي الأُخرى وحيدة مثلك يا حبيبتي .. شاخصة على القمة بمفردها .. تُباكي الرياح وحدها، وتتوهج أَوراقها المبلولة، في أشعة البرق، كقلبٍ ماسيٍّ يتألَّق من شدة ما هو مصقولٌ بنار العذاب؟! .. أَتُؤنسك الآن مثلما كانت تؤنسك جدائل النخيل على درب نزهتنا في ضاحية بيسان، وعلى ضفاف نهير "المَشْرَع" بالذات ؟!..
أَمواجُ شعرِك الرخِيّةُ كَغَمْرٍ من سنابل الجليل تلفحني بعطر تَفتُّحِ الربيع في طراوة آذار، وترتمي على كتفيَّ شلاّلَ فرح وحنان .. ثم ها نحن معاً على ضفة "المَشْرَع"، فاتركي قدميك لِمُويجاته الصغيرة، وحدثيني، عنك، وعني، وعن صورة طفل آتٍ تلمحينها في الخيال .. أتسألين ماذا نسمِّيه؟ ..
- خالد ؟ .. على اسم الوالد ؟..
- هو كذلك ..
خالد يتململ أيضاً من شدة البرد ..
لَشَدَّ ما أنا خجل من نفسي، ومنك يا حبيبتي الراحلة، ومن انتظار صغيرنا "حودة" الذي يتوقع أن ترجعي إلينا قريباً، ولستُ أَدري إلى متى ستظلُّ كِذبتي مُنطليَة عليه !! ..
وحتى الكَفَنُ، يا حبيبتي، لم أَجد ما أَشتريه به لأجلك، فلذلك أَبقيتُكِ داخل ثوبِك الوحيد، الجليليّ التطريز، الذي كان كُلَّ ما استطعتِ الهروبَ به من عُشِّنا البيساني الصغير .. وبيديَّ هاتين أرحتُ رأسك النبيل على بطّانيتي التي استبدلتها ببطَّانيتك، لِيتذكر أَحدُنا الآخر.. وحين خِفتُ أن يتسرب الماء إلى جسدك في قمة الجبل، غطَّيتك بكل تلك الأَسمال الكرنفالية العجيبة التي فَرَّقها علينا أولئك المُحسنون، البيضُ، "اللُّوثريُّون"، بديلاً لنا عن كل خيرات فلسطين !!.. لقد كان اختياري لمثواك في أعلى القمة خيراً من دفنك في منحدر السفح، وأنت تدركين يا حبيبتي أنه لم يكن باستطاعتي أن أختار لمقرِّ لجوئك الأخير مكاناً أفضل !!..
- سامحيني، بحق الله يا كوثر ..
- وأنا أيضاً سأسامحك عن نفسي، وعن أطفالنا الثلاثة .. فإن حاجتهم إليك كانت أقوى من الموت !!..
النجدة يا أبي .. اليهودي قتل جدتي !!..
إنه خالد الآن، وقد تعوّد أن يهذي هكذا أثناء النوم، منذ أن أبصر دم جدته يسيل على بوابة منزلنا في بيسان .. بل إن هذه الاستغاثة بذاتها هي أكثر ما يهذي به أثناء النوم، وفي كل مرة أُوقِظُهُ كان يقصُّ عليَّ كابوساً مثيراً، ولابد أنه يعاني الآن من مثل هذا الكابوس .. ولولا خشيتي عليه من الإحساس بلذعة البرد الحادة، إِن أنا أيقظته، لمددتُ يدي إليه، وخلَّصته بهزةٍ في كتفه من كابوسه المرعب .. كم أنا مشفق على أعصابه منذ أن قُدِّر لعينيه الصغيرتين، وهو لم يبلغ الخامسة بعد، إن تريا جثث القتلى، ودماء الجرحى، في أَزقَّة بيسان .. كما قُدِّر لعقله الصغير أن يصطدم بمعنى الخيانة والتشريد .. وبمعنى الزعامة المتبطّلة، والسلاح الفاسد، والإذاعات الكاذبة، والجيوش السبعة التي دخلت البلاد من أجل استنقاذها من براثن غُزاتها اليهود، فأخذت تُسلّم إليهم، في كل يوم، سبعة مواقع بالمجان!!..
تلك كانت أحاديثَنا السالفة .. كوثر، وأنا .. وكان هو يسمعنا بِحَدَقَتي عينيه المُتَّسعتين، أكثر مما يصغي إلينا بأُذنيه .. ترى بماذا يحلم الآن ؟!.. ربما هو يستعيد من عمق الطفولة صورة جدته القتيلة خارج بَوَّابة بيتنا الخشبية .. أو لعله يستعيد صورةً ضبابية لِنُهير "المَشْرَع" الصغير، إذ لم يكن شيءٌ أحبَّ إِليه من أن يستحم في مائه الدافيء، عندما كنت أُردفه على ظهري، واقطع به النهر إلى مسافات قريبة .. قد يخيل إليه الآن أنه يقف وحيداً على حافة النهر الحائلة إلى الشحوب في أضغاث أحلامه، وقد تكدّر ماؤه بالأحمر القاني، واستحالت أسماكه الصغيرة إلى عقارب صفراء ..
لا أدري طبعاً ما الذي يراه في نومه، لكنني، أنا نفسي، رأيت ما يشبه هذه الأضغاث!!..
- جدتي يا أبي .. دمها يسيل على العتبة !! ..
وهنا لم يكن بدٌ من إِيقاظه .. فالإحساس بلذع البرد خير له ألف مرة من الرعب الخانق تحت وطأة هذا الكابوس اللعين ..
- خالد .. خالد ..
وغمغم فيما بين النوم واليقظة:
- نعم يا أبي ..
- وسادتك غير مريحة يا بني ..
- نعم يا أبي ..
- إحرفها قليلاً، ونم ..
- حاضر .. تصبح على خير ..
وكان الأصح أن يخاطبني بتحية الصباح ذاتها .. فإن ساعتي القديمة التي تمكنت أن أحتفظ بها حتى الآن ─ ربما لأن أحداً لم يدفع لي مقابلها حتى نصف دينار─ تشير إلى الرابعة صباحاً .. وهذه هي الليلة الثانية على وفاة كوثر التي يجافيني فيها النوم .. وأظن أن أكثر من ليلة قادمة ستمر بي دون نوم مريح .. إنَّ حِلفاً من الحزن والبرد والإعياء يستعبدني .. كلا، لم أعد أبا خالد الأول، وها هي الأخاديد تنحفر في جبهتي وأسفل مقلتيّ، وأتحسس ذراعي اليمنى بخيبة بالغة، فقد ترهلت عضلاتها، ولعل أكثر ما يدهشني أن تظل قادرة على القيام بمثل هذه الأشغال الشاقة التي استجدت علينا هنا في حياة المخيم.. إن ظهري أيضاً آخذ في التقوّس رغم أن سني لم تتعد الخامسة والثلاثين ..
- ظهري .. أكلتني الحَيَّة !! ..
كانت صرخة خالد هذه المرة مفزعة جداً، حتى لقد ارتعدتْ لها مفاصلي المتجمدة .. ومن شدة هولها قَفَزتْ آمنة "وحودة" على رؤوس أقدامهما، وربما لعلع صداها في الخِيَم المجاورة على الرغم من جَلَبة الليل الشتائي .. لم يكن خالد يعاني من كابوس جديد، ذلك أنه لحظةَ أن أطلق صرخته المذعورة هبّ واقفاً على قدميه، وانقذف نحوي، كاشفاً عن أيسر ظهره حيث لسعته الأفعى، وتناول إصبعي بيده الراعشة، لكي ألامس موضع اللسعة بنفسي، أثناء ما ظل يستنجد بي حتى بعد أن استيقظ من كابوسه اللعين .
- إلحقني يا أبي .. قتلتني الحية !! ..
- لكن الثعابين لا تظهر في الشتاء .. إن سُمّها ينطفيء في هذا البرد اللعين .. إهدأ يا خالد.. كن رجلاً ..
كان كل جسده يرتعش .. وكانت عظام قفصه الصدري التي ضمرت طبقة اللحم فوقها كشجيرةٍ عاريةٍ من لِحائها في مَهبِّ الريح .. وأنا الذي كنت هادئاً فعلاً، ونفيتُ بثقةٍ باردةٍ أي احتمال لظهور الأفاعي في الشتاء، لا أُنكر أن الخوف قد تملّكني من الرأس إلى القدم، حين مررت بأصابعي على الموضع الذي عَلّمه خالد، فجاءني ذلك الملمس اللزج الذي يملأ قميصه وجانباً من ظهره .. ولم يكن سهلاً عليَّ لأَول وهلة أن أَفطن إلى احتمال تسرّب الماء الطيني داخل الخيمة .. كان ما لمستُهُ ماءً، مجرد ماء مختلط بلزوجة الوحل، ولكنه في مثل حرارة الثلج.. ولم أُجرّب لسع الأفاعي في أحد الأيام، لكنني لو كنت مكانَ خالد: نائماً، جائعاً، محطَّماً تحت الكوابيس، وأحسستُ بتلك اللسعة الجليدية في ظهري، فلربما صرخت أنا أيضاً، وبالقدر نفسه من الهلع والرعب !! ..
قمت من فوري إلى الجهة التي كان نائماً فيها، وإذا بمساحة غير قليلة من أرض الخيمة، الترابية، قد تجمع فيها الماء، ومازال يرفدها سيل صغير نَقَبَ الحاجز الطيني الملتفّ حول الخيمة من جهتها الشمالية ..
أدركتُ ذلك بحاسة اللمس .. بيديّ فقط .. فقد ألغى الظلام وظيفة عينيَّ تماماً رغم اقتراب الصباح.. ولقد شعرت بالحاجة إلى كل جهد يمكن أن يتوفر في بقية أعضائي المرهقة، لكي أتدارك إمكانية انجراف الخيمة مع السيول المعربدة المتدحرجة من أعلى السفح ..
درتُ أولاً داخل الخيمة لأِتأكد من سلامة الحاجز الطيني حولها في سائر جهاته الأخرى.. إن الجانب الشرقي أيضاً على وشك أن يتصدّع ويثقبه الماء .. يداي تقولان ذلك .. وما عندنا نقطة كاز واحدة ..
وخاطبت الأطفال:
- خالد .. وأنت يا آمنة .. إمسكا بيد "حودة"، وتَكوَّموا ثلاثتكم هنا ..لُفُّوا أنفسكم جيداً داخل البطانيات ..
فالقسم الجنوبي الذي اخترته لهم كان مرتفعاً بعض الشيء عن مستوى أرض الخيمة .. ولكي أتبيّن المساحة التي غمرها الماء لأنزحه منها، شققت باب الخيمة قليلاً عسى أن يرفدني بنوع من الضوء .. ورغم أنني تلفّعت جيداً ببطانية المرحومة، إلاّ أن لفحة من الصقيع اخترقت جسدي حتى العظم ..
- ماذا تريدين أيتها الطبيعة الناقمة الحاقدة.. أليس من هدفٍ واحدٍ لكل هذا الغضب المجنون .. إلى أين ستنتهين بنا .. كفى .. أقول لك كفى .. كفى، كفى !! ..
وكاد أن يقتلني الخجل من نفسي .. خاصةً أمام الأطفال !! ..
كان الظلام باسطاً جناحيه كخفاشٍ هائل حقود، أو كغولٍ خرافي كبير.. والمطر يسحّ بجنون.. بشراسة .. ولم ألمح خلال الفراغ المظلم سوى بعض الخيام القريبة التي بدت لي كلطخات أشد سواداً، على لوحة كبيرة سوداء، وإنما رُشِقَتْ عليها هكذا، بعصبية وبدون اكتراث..
من يدري كم خيمةً أخرى غمرها الماء الآن .. أو ربما جرفها أيضاً إلى قعر الواد ..
ومن خلال جلبة الريح والمطر، جاءني وقع خطوات تقترب في الظلام، وسرعان ما أدركت بسهولة أنه "الشيخ حابس"، وذلك من سعلته المتقطعة، المقصودة، أشبه ما تكون بالنحنحة .. تلك النحنحة التي تتقدمه عادةً، دالَّةً عليه، معلنةً عن قدومه، شارحة لمسعاه، مميزة لمرتبته الاجتماعية الخاصة .. ولم أخمّن خطأً، فقد كان هو بلحمه ودمه قادماً ليطمئن علينا تحت جهنم هذا الغضب الشتائي المنفلت من عقاله..
- خير يا جيران .. سمعت صراخاً عندكم ..
- بسيطة عم حابس .. نقب الماء حاجز الخيمة علينا ..
- وكيف الأولاد؟ ..
- كل الأمور سليمة والحمد لله ..
- أُسكت .. هبطت أيضاً خيمة الحاج علي الفالوجي من أول الليل، وعالجناها ثلاث ساعات ..
- ذلك بسبب هذه الحواجز الطينية اللعينة .. كيف يمكنها أن تقاوم كل هذه السيول دون حجر ولا اسمنت ؟! ..
- خلّها على الله يا رجل، وهيّا نفعل شيئاً ..
كان الشيخ حابس قد ناهز الستين، وهو ذو لحية بيضاء ليست بالكثة أو المسترسلة كما هي عند من يصفون أنفسهم عادةً بأنهم رجال الدين، ولكنها تنحدر من صدغيه، وتتلاقى في أسفل ذقنه على سوية واحدة، مارَّةً بِعظمَيْ حَنَكَيه السفليين فقط، كإِطار بيضاويّ متّسقٍ حول تقاطيع وجهه الصارمة، وعينيه العربيتين، وأنفه الأَقنى، وشفتيه الحازمتين .. وهو إلى جانب ذلك يختصُّ بقامة باسقة، ممتلئة، يشدّها هيكل قروي صلب، كأن كل الأحداث الأخيرة لم تنتقص منه شيئاً بقدر ما تعاقبت كبراهين مثبتة له ومؤكّدة عليه.. على أن تلك الأمور كلها ليست سوى بعض المزايا الثانوية التي جعلت منه مختاراً لقريته، قرابة ربع قرن من أيام هذا الزمان !! ..
والحق أن الشيخ حابس يتحلّى بِحُبٍ فطري لمساعدة الآخرين، وحلّ مشاكلهم وشِجاراتهم بالحُسنى، وبمخزون ما لديه من العلم بأَحكام العُرف، والعادة، والأُصول .. وكان إذا مر أحدهم بمنزله، في الفالوجة ─ قبل سنة اللجوء ─ يشاهد في كل يوم ما يزيد على ثلاثين حماراً، رُبطت أَرسانها في جذوع اشجار التين والزيتون قُبالة منزله، وقد وفدت عليها جماعات الفلاحين من القرى المجاورة، ليحلّوا في مضافته بعض خصوماتهم التي ما كان ليحلها القانون نفسه، ولا محاكم الأَرض قاطبةً ..
يضاف إلى ذلك طيبةٌ في نفسه، ورصانة غير مُستعلية، وسخاءٌ إلى حد التبذير ..
- أبو خالد خُذ المجرفة واترك لي الفأس .. إتبعني ..
- لكن الثغرة بسيطة، وأرجوك ألا تجهد نفسك عم حابس ..
- اتركنا في المهم الآن ..
- أرجوك عم حابس ..
- وأغلِق بابَ الخيمة جيداً على الأولاد ..
وحين بدأنا العمل خارجاً ─ قبل أن ننـزح الماء المتجمّع داخل الخيمة ─ كانت الساعة ربما الرابعة والنصف ليلاً، أو أكثر أو أقلّ ..
إن ميناء ساعتي الفوسفوري لم يعد متوهجاً كالسابق، لكنه ليس منطفئاً تماماً كما هي عين الشمس خلف غيوم هذا الشتاء الرهيب ..
باهتٌ حقاً ميناءُ ساعتي، لكنني أستطيع أن أستدل بواسطته على الوقت .. إن كل شيء لابد أن يبهت يوماً، باستثناء قلب الإنسان النابض أبداً بمواجهة تحديات الحياة، رغم كل الأحلاف المتضافرة عليه .. وقد خطر لي ─ لا أعلم كيف ولا لماذا ─ إن قلوب البشر جميعاً لابد أن تكون في الأصل كقلب الشيخ حابس، طيبة، محبةً للخير، ناصعةً كقطعة من الشمس، لولا كُلَفٌ تُلطّخها بفعلٍ خارجيٍ غريبٍ تماماً عن جوهرها الأصيل ..
وسعل الشيخ حابس بما يشبه الحشرجة في حلقه، فيما هو يلقي بحجرٍ كبير يعترض به مجرى الماء..
وكنت بدوري أَجرف الطين من حولي لأِدعم به حاجز الخيمة حيث ألقى الشيخ حابس بحجره الكبير، والتقطنا معاً كُومة لا بأس بها من الحجارة المتوسطة، لتعضد الحاجز وتحميه من احتمال التحلل والانهيار .. كانت الحجارة في حرارة الجليد، وشعرت أن أصابعي المُتثلجة المتورّمة لم تعد مني..
- جبال الخليل مرعبة في الشتاء ..
قالها الرجل خلال نوبة ثانية من السعال الأَبَحّ الحاد، فأَيقنت في دخيلتي أن مقاومته قد أخذت تنهار أمام البرد .. ثم عاوَدَتهُ نوبة أخرى من السعال شِبهِ الجريحِ الذي بدا لي غير محتمل هذه المرة، وأخذ يجرد حلقه المحتقن، ويقذف بمحتوياته، بقوة، في سحنة الظلام ..
- العافية يا عم حابس ..
- يعافيك ..
- يكفيك أنت الآن، وسأُنهي البقية وحدي ..
- تحسبني عجوزاً تالفاً .. أليس كذلك؟ ..
- خذ لك ساعة نوم واحدة يا رجل .. هذا غير معقول ..
- مازال علينا أن ننـزح الماء من داخل الخيمة .. هيّا بدون أخذٍ وعطاء !! ..



الناي والرعد - الحركة الثانية والثالثة والرابعة
-------------------------------------------------


الحركة الثانية
كانت تعود في مخيلتي ─ بعد أن فرغنا أخيراً من تضبيط حاجز الخيمة الخارجي، ونزح المياه من داخلها ─ صورة منزلٍ حجري في العاصمة، توكّأتُ يوماً على حافة سوره الخارجي، ذي القضبان الحديدية الواطئة، ورحت أتأمل الحديقة، والشرفات، وستائر النوافذ، والتصميم الهندسي البديع لطوابقه الثلاثة وسطحه القرميدي ..
وقد سألت نفسي يومها من أين يأتي كل هذا الماء ليندفق من هذه الخراطيم على أرض الحديقة، بينما بقية أحياء العاصمة الأخرى ميتة من العطش .. متسخة تماماً من شُحِّ المطر.. فاطسة الأنفاس من الروائح الكريهة والحشرات والهوَامّ النـزقة في امتصاص دماء البشر، من قلة الماء؟! ..
أمِن أجل ذلك، إذن، تُمطر السماء الآن !؟ .. لتملأ هذه الخراطيم بالماء حتى لا تذبل أزاهير القصور ؟!.. ..
أجميل حقاً أَن تذبل الزهور اللطيفة، لمجرد أَن يشرب الفقراء، واللاجئون، والناس الوسخون، كِفايَتهم من الماء النقي؟! .. ثم من قال لهم أن يكونوا فقراء، ولاجئين، ووسخين .. بل لماذا لا يغتسلون أبداً بماء الكولونيا ─ بمنطق السِّت ماري أنطوانيت ─ إذا كان ينقصهم الماء ؟! ..
أذكر أن الغرض الذي ذهبتُ من أجله، يومَها، إلى عاصمتنا الجديدة، كان تحصيلَ إمضاءٍ معين على معاملة بطاقة التموين .. وهو التوقيع الذي لا توجد قوة أُخرى سواه يمكن أن تمنحني البطاقة حتى لو هبطت السماء على الأرض .. وأذكر أيضاً أن أوراق المعاملة كانت مرفقة بالمُغلَّف (المغلق حسب الأصول) وفي داخله الدنانير العشرة من ثمن صيغة المرحومة، وخطاب التوصية، وكل شيء .. ولا أعلم كم من الوقت بقيتُ مستنداً على سور ذلك المنزل الحجري ─ لأنَّ "الإمضاء" اللازم كان متغيباً عن دائرته لفترة ما قبل الظهر، ولم أجد ما هو أنسب لي من أن أُنفق الوقت في التفرّج على وجه المدينة الجديد ─ وهكذا بقيتُ مشدوداً إلى شرفات هذا المنزل/القصر، ونوافذه، وخراطيم الماء المتناشبة على أرض الحديقة الفسيحة من حوله إلى أن اقترب مني أحدهم من الشارع في بنطاله الخاكي المهتريء، وحذائه الثقيل، وبادرني على غير توقّع:
- أتبيعُني إياه؟ ..
- وماذا أبيعك ؟! ..(قلتها بتعجب واستخفاف) ..
- القصر ..
وإذ بدا له واضحاً أنني لم أستجب لروح الدعابة الساخرة، داخل قفص صدره الناحل العريان، ومن بين شفتيه الداكنتين تماماً كالطّحال، ولثّته المهترئة الزرقاء، اتكأ بدوره على السور الحديدي إلى جانبي، وقال بنكتة أخرى أقل سماجة من الأولى:
يستطيع (أخونا) في كل يوم أن يشتري سيارة من لون ربطة عنقه .. أو أن يبني منزلاً يتناسب مع قيطان كندرته ..
قلت له بعدم اكتراث: - نعم.. حال الدنيا ..
- من أين الأخ، بلا مؤاخذة؟ ..
- من مخيم العروب حالياً .. وسابقاً من بيسان ..
لقد بدا لي ضرورياً، من طريقة سؤاله، أن أشرح له سبب وجودي في العاصمة، لكي يستلم الشوط مني طبعاً، فيحدثني بدوره عن سبب قدومه إليها .. لذلك أَوجزت كثيراً في سرد حكايتي، إلى أن حدثته أخيراً عن "عطوفة الإمضاء الضروري"، فتكفل هو باختتام حكايتي من عنده:
- هذه الأُمه قلبها كافر يا رجل ..
ولم يكد ينتهي من تقرير هذه الحقيقة المطلقة لديه، حتى استلم الشوط مني ليشرع في سرد حكايته المملّة، الثقيلة فعلاً، حتى بأدق تفاصيلها التي تزخر بقاموس بأكمله من الشتائم الحادة كرؤوس السكاكين، إلى أن كاد أخيراً أن يبلغ ذروة الرواية، عندما تشاجر مع رب عمله "الخنيث" .. ─ هكذا ادعى بلسانه السليط، القاطع، كمقصّ الإسكافي ─ بسبب ذلك الأمر الشائن الذي طلبه منه فلم يستجب إليه .. وعند ذلك ظهر لنا شخص على مدخل المنزل.. القصر.. الفيلا.. لا أدري.. ثم أقبل باتجاهنا فاتحاً ذراعيه للهواء، ومن خلفه كلبان، أجنبيان، ممتلئان صحةً، وعافية، ونباحاً، من ذلك النوع الذي يظهر عادةً في الأفلام البوليسية:
- والله شرفتم وآنستم، حلَّت علينا البركة يا رَبع !! ..
فإزاء هذا الترحيب الحار، سرعان ما ألفيتُني، وصاحبي خفيف الظل، نبتعد عن سور المنزل بصورةٍ آليةٍ نشِطة، وأخذ كل منا سبيله، وإِن ظل هو مغصوصاً لبتر حكايته على هذا النحو المهين، فودعني وهو يشير في اتجاه المنزل:
- يتحدث كأنه هو صاحب القصر .. ابن الخدامه !! ..
ومن أمام ذلك المنزل في العاصمة ─ (وما زلنا ننزح الماء من داخل الخيمة) ─ عدت ثانية إلى دائرة "الامضاء الكُلِّي القدرة".. وعاودتني صورة ذلك الموظف الجلف الذي ما إن رأى المغلف المرفق بالمعاملة على حقيقته الهزيلة التي لا تزيد عن عشرة دنانير، حتى نهرني بقسوة .. وكأن إناءً ممتلئاً بالبذاءة قد أخذ يطفح من داخله:
- بهايم .. دواب .. حشرات !! ..
وإنني لأتذكّر الآن كم كان رائعاً وقتها لو أنني استطعت، ولو في الخيال، أن أمد يدي داخل بلعومه، وأستلّ منه كل هذه الرداءة السامه .. لكنني، عوضاً عن ذلك، وجدتني أخاطبه بجملة من الألقاب الفخرية المفخّمة التي من أقلّها ..∙ "أستاذ" :
- أستاذ .. من فضلك يا أستاذ .. من لُطفك وكَرَم أخلاقك.. ورائي في المخيم زوجة وثلاثة أطفال .. مجموعنا خمسة أفواه بلا كسرة خبز.. أليس لك أطفال..أتتصور طفلك جائعاً دون أن تفعل شيئاً يا أستاذ؟! ..
- تستطيع أن تخرس ..
- أُستاذ لو أنك تتكرم برفع المعاملة إلى عُطوفة الرئيس فقط .. لو تسمح لي بالدخول على عُطوفته لأشرح ....
- أي والله عال .. لم يبق إلا أن تدخل على صاحب العطوفة أيضاً ─ (ثم، وقد تناول الآن قطعة الدنانير العشرة في يده) ─ .. وهذا ما هذا؟! ..
- كلّ صيغةِ المرأة يا أستاذ ..
لكنه لم يكترث لإجابتي .. وبدا لي أنه يستمريء، بوضاعة نادرة، مخاطبته بلقب "الأستاذ" .. وإني لعلى يقين، لا أملك الدليل الحسّي عليه، بأن اسمه الوظيفيَّ عند صاحب العطوفة لا بد أن يكون الجحش .. أو الكلب .. أو ما هو على هذه الشاكلة من أسماء الحيوانات..
- نعم والله .. كل صيغة المرأة يا أُستاذ!! ..
ومع إحساسي الداخلي المتأزم بأنني قد أسأت هكذا إلى كل أستاذة الدنيا، فقد أجابني هذه المرة:
- أين تذهبون بكل هذه البطاقات .. كل فرد في العائلة يستخرج بطاقة عن عشرة انفار .. تجارة مربحة يا أولاد ال .. حلال !! ..
- أقسم لك من ناحيتي ....
- لم تقل لي أين تذهبون بثمن السكر، والطحين، والحليب، والزفت الذي تبلعونه في أول كل شهر!! ..
- لكنني أقسم لك بأنني لم أملك حتى الآن أية بطاقة في عمري .. ولم ....
- لا تجادلني .. كل أساليبكم مكشوفة..
- لا أنا، ولا أي فرد من أسرتي، وحَقِّ المصحف الشريف ..
- أعرفكم .. أعرفكم .. لا أحد يعرفكم مثلي ..
- ثم إنكم تستطيعون التحقيق في سجلاتكم إذا كنت ......
- انتظر هناك ..
كم هو عجيب حقاً أمر الانسان .. و من تُرى قال إن القلب البشري طيب في الأصل، و محب للخير، و ناصع كقطعة من الشمس؟! .. بينما القذارة الكامنة داخل هذا المخلوق تكفي وحدها لأن تُنَجِّس البحر!! ..
وحيث وقفت منتظراً هناك، فقد طَفَوتُ بلا إِرادة مني على سطحٍ مائجٍ بالغضب، والكآبة، والاحساس بالمذلة .. وسألت نفسي .. ما معنى أن تكون أقدار حياتنا مسطورة في هذه البطاقات الصغيرة !! .. وتقاذفتني الأفكار إلى حد التساؤل أيضاً: ماذا لو حصلت على بطاقة، وضاعت مني لأي سبب من الأسباب ؟! .. سُرقت احترقت .. طارت مع الريح .. فهل أضيع معها كإنسان؟!.. وهل تجوع أسرتي حتى الموت ؟! ..
قلت لنفسي مرةً: حبَّذا لو استطعت الذهاب بالعائلة إلى الشام، فربما وجدت عملاً شريفاً هناك.. ابن الشيخ حابس يعمل مُدرِّساً للإنكليزية في حمص ..
لكنهم حَصّنوا الحدود مؤخراً، وشددوا الاجراءات على تنقل اللاجئين .. ثم إن ابن الشيخ حابس وحيد بمفرده، وليس في رَقَبَتِه أربعة أنفار، حِمْلهم ثقيل يقصف الظهر..
وهناك .. انتظرت ثلاث ساعات على السطح المائج بالغضب، والكآبة، والاحساس بالمذلة والهوان .. إلى أن نَبَحَني من وراء مكتبه ..
- شرف يا بيك !! ..
- نعم أُستاذ !! ..
- هذه بطاقتك كما ترى، بخمسة أنفار: الجناب الفاصل .. مدام كوثر .. خالد.. آمنة.. محمود..
- شكراً .. شكراً ..
ولا أعلم حتى الآن لماذا شكرته، مع أن البطاقة أصبحت في يدي، وانتهى الأمر ..
- إذهب، وبِعها غداً .. وارجع لي مدّعياً بأن "البطاقة .. ضاعت .. يا.. "أستاذ"..
ثم لاحقني نباحه حتى بعد أن أصبحت خارج الباب:
- عسى أن أرى وجهك مرة ثانية في هذه الدائرة .. جَرّب وافعلها!! ..

الحركة الثالثة

كنا قد نزحنا الماء تماماً من داخل الخيمة، وإن تكن أرضها الطينية ماتزال طريّة تحت أقدامنا .. وغاب الأَطفال، حيث تكوّموا، في نوم ثقيل بعد عناء ليلة كافرة ..
وأما السماء فلم يرق لها أن تصدِّق، حتى هذه اللحظة، أن أرض المستحقين قد رويت إلى حد الغصّة، وأن خراطيم المياه المتناشية ستُلوِّن هذه الدنيا كلها ببراعم الزهور اللطيفة التي ستطلع علينا غداً في جنائن مخيم العروب!! ..
كلا .. لا أظن أن ثمة شيئاً في الطبيعة أجمل من جنينة صغيرة، تكون مفعمة باللون والشذى، وتشرب عليها فنجان قهوتك كل صباح .. لكن ذلك كان أيام بيسان .. وأما بعد ذلك فإن كل ما في الطبيعة قد فقد انسجامه، وتَناسُبَ أبعاده، ومبدأ الطمأنينة إليه، وربما أصبح كريهاً تماماً، ويخلو من أي جمال على الاطلاق !! ..
- لكنهم يسمون ذلك حقداً.. حقد الفقراء على الأغنياء.. أليس كذلك؟!..
ومرةً ثانية، قفزتْ إلى ذهني كلمات ذلك الوغد:
- "لم تقل لي أين تذهبون بثمن السكر، والطحين، والحليب، والزفت الذي تبلعونه في أول كل شهر"!!.. فتذكرت على الفور أنني لم أستلم مؤونة الشهر الحالي، وسينتهي موعد التوزيع بعد غد، والأَطفال جياع، وما عندنا ذرة طحين ..
- بعد غد ينتهي توزيع المؤن، عم حابس؟ ..
- بل غداً يا رجل .. ألم تأخذ المؤونة بعد؟! ..
- وأنت تعرف السبب .. انشغلت بموت المرحومة ودفنها..
- عليك أن تقوم بذلك اليوم .. إياك أن تفعلها وتنسى!! ..
- غير ممكن طبعاً ..
كان الرجل مؤمناً ..
ولكنه حين استعاد نفسه داخل بطانيته، وألقى على كتفه عُدَّة الإسعافِ المؤلفة من "الفأس والمجرفة"، فقد عاتب السماء بنبرة خافته تكاد لا تسمع:
- عفوك يا رب .. إنها حكمتك ..
وحيَّاني مودعاً، وتوارى في الضباب ..
وقهقه الرعد بغلاظة صارخة في جنوبِ غربيِّ السماء ..
بعد ساعة تقريباً، عندما استيقظ أصغر أطفالي "حُودة"، كان أول ما تلعثمت به شفتاه الصغيرتان:
- غِيف آما .. بِدّي غِيف كُول ..
لم يكن في الخيمة أَي رغيف، ولا حتى كسرة خبز يابسة .. ولا أنكر أنني مذنب بالنسبة لمحمود، أو أن أعذاري لن تكون مقبولة لديه على الأقل، فضممته إلى صدري مداعباً، في حين أيقظت آمنة لتقترض لنا رغيفين أو ثلاثة من خيمة الشيخ حابس .. وأَما خالد فقد استيقظ من تلقاء نفسه .. كان أشد مقاومة من محمود .. وإن لم يكن أقل جوعاً منه ..
- الله يرضى عليك يا خالد، لا تنس اليوم أن تذهب معي للمركز، لتساعدني في تحصيل الاعاشة ..
- حاضر يا أبي ..
وقمت من فوري إلى الجِراب المُتدلّي من سقف الخيمة لإحضار البطاقة منه، وجُستُ بيديَّ خلال أشيائه المنوعة، فلامستْ أصابعي المشط الكبير الذي كانت تستعمله كوثر، ومنديلاً لها، وقطعة مستعملة من الصابون، وعقداً خَرَزياً، وأشياء أخرى كثيرة لا توجد ضمنها ورقة واحدة.. البطاقة !! ..
لقد نفيتُ من ذهني كل احتمال سيء أول الأمر .. لكنني ألفيت نفسي أنتزع الجراب من موضعه بحركة عصبية مباغتة، ثم أُجيل النظر في داخله، ثم أُفرغ كل ما فيه دفعة واحدة على الأرض ..
- مستحيل .. غير ممكن .. هذا غير ممكن أبداً!! ..
وبادلني خالد نظرة حائرة مرتبكة ..
- البطاقة يا خالد؟! .. لماذا تُحدّق فيّ كالأبله!! ..
ولكن جديداً لم يطرأ على تعبير وجهه، وظل باهتاً كمن قد أصيب بذهولٍ شاملٍ.. وجاءني خلال ذلك أنين محمود للمرة الثانية ..
- غِيف آما .. بِدِّي غِيف كُول ..
و أشياءُ الجراب مبسوطة أمامي دون أي معنى, و داخلَ أضلعي نبض ثقيل وسريع، وخالد يوشك أن يبكي .. تتلأَلأ عيناه بقطرات الدموع .. يبكي فعلاً !! ..
عادت آمنة من خيمة الشيخ حابس و في إِحدى يديها خمسة أرغفة، و في اليد الأخرى صحن نحاسي، مليء إلى حافته بحبات الزيتون الأخضر المكبوس .. و على أََرض الخيمة العارية تحلّقنا حول مائدة الصباح ..
كان أَطفالي جياعاً، ولم أشأ أن أُعكِّر دمهم بشأن البطاقة، فأجَّلت البحث عنها إلى ما بعد وجبة الإفطار ..
ومن حيث قصدت أن أشرعَ في تناول الطعام، استقرتْ عيناي على الرغيف الخامس الزائد عن حاجتنا مدةً لا أتذكرها .. و عندما صادفتني أخيراً عينا آمنة، جائعتين، متوسلتين، تعجلتُ فاتحة الطعام :
- بسم الله الرحمن الرحيم ..
فامَّحى من على عينيها انتظار دهر طويل، و شرعت تأكل فوراً، أثناء ما تناول خالد لقمته الأولى بغصّة ثقيلة .. و أما محمود فقد أتى على مساحة كبيرة من رغيفه، خارجاً على تقليد البسملة، وراح يناوبني النظر نحو الرغيف الخامس .. إنما بدافع مختلف كل الاختلاف ..
- إنه رغيفك أنت يا كوثر .. فلماذا خرجت من بيننا؟! ..
و أَعادني صوت خالد من حافة الدوامة إلى غورها العميق:
- و البطاقة يا أبي؟! ..
- لا عليك يا ولدي .. سأجدها .. سأفتش عنها في كل مكان ..
في اللحظة نفسها، ارتفعت يد آمنة عن الصحن النحاسي الذي فرغ الآن إلى نصفه من حبات الزيتون، و أجالت عينيها الخائفتين في وجه خالد، ثم في وجهي، كأنما لتطرد من ذهنها خاطراً مفزعاً، وسألتني نصف باكية، كأني قد انتهيت مع خالد إلى قرارٍ ما، أثناء ما كانت هي خارج الخيمة لتجيء بالخبز و الزيتون من خيمة الشيخ حابس ..
- و هل تفعل ذلك يا أبي؟! ..
- أفعل ماذا يا آمنة؟ ..
- البطاقة؟! ..
- سأجدها يا ابنتي .. لا عليك أنت أيضاًً ..
- لكن ذلك حرام يا أبي !!.. حرام !!..
و لم أدر ما أقول .. لكنها سمعتني أُلجلج في ارتباكٍ خليطٍ بين الحضور و الشرود ..
- إنها الإعاشة يا آمنة.. ما هو الحرام؟!.. طبعاً يا بنيتي !! ..
و ندّت عنها صرخة حادة، مفاجئة، كادت أن تمزق حنجرتها .. و لم تستطع أن تعاود الكلام إلا بعد نوبة طويلة من البكاء:
- فتح القبور يا أبي!! .. و الله العظيم حرام!! ..
- و لكن ما حاجتنا ؟! ..........
نعم، كدت أسألها ما حاجتنا إلى فتح القبور .. لولا أَنني في لحظة واحدة، محتشدة، مدلهمة، صاعقة، أدركتُ كل شيء ..
شعرت بارتخاء يائس في كل أعضائي .. و لا أعلم لأيةِ فترة من الزمن بقيت غائباً عن كل ما حولي .. لكنني أَلقيت جبهتي المرهقة فوق يدي، فأذهلني أنها مغتسلة بالعرق، رغم لذعة الريح الصباحية الصافرة ببين الخيام ..
كنا نضع البطاقة دائماً ضمن أشياء الجراب، ولم نكن نغيّر موضعها أبداً، إلى جيب معطفي مثلاً، أو إلى ذلك الجيب الصغير في ثوب كوثر الريفي داخل عُبَّتها، إلا حين يقترب موعد التوزيع، فعند ذلك كان يتضاعف حرصنا عليها، و قد نتحقق من أنها ما تزال في حوزتنا عدةَ مرات كل يوم ..
لا أعلم معنىّ لذلك!! .. و قد انشغلتُ في الأسبوع الأخير بمرض كوثر، إلى درجةٍ نسيت معها أمر البطاقة .. لم أكن أعلم أنها في هذه المرة قد احتفظت بها داخل عُبِّها قبل كل هذه المدة من موعد التوزيع .. بل إنني لم أفطن إلى كل ذلك يوم الدفن .. ولم تكن آمنة، وهي التي اختنق قلبها بالحزن في مأتم أُمها، لتفطن بدورها إلى موضوع البطاقة، أو ربما لتدرك جيداً ما الذي يعنيه ان يحصل لاجيء على بطاقة تموين !! .. ثم ما الذي يعنيه أن يفقدها من بعد!!..
أحسبني الآن مضطراً لأن أفتح الحفرة .. ليس ثمة أي حل آخر .. ولا يمكن أن أدع اطفالي يموتون من الجوع ..
- لن تفتح قبر أمنا يا أبي .. أتوسل إليك ؟! ..
وأجبتها كاذباً:
- إطمئني يا حبيبتي .. لن أفعل ذلك ..
ومع الارتياح الطفيف الذي شمل تقاطيع الطفلة، عشت حرباً محتدمة داخل نفسي..
ومن حيث قصدت الموازنة، منطقياً، بين الحصول على البطاقة وعدم الحصول عليها، رأيتني معلماً في مدرسة حمصية في أعالي بلادنا الشامية، و أطفالي يأكلون حتى الشبع .. لكن "بلُّوطة" العَرُّوب، هنا - على مرمى حجرٍ كما يقولون ما بين القدس والخليل - وهي التي اخترت موقعها بنفسي في ظهر هذا العراء الجبلي، المشاع، لكي أُسَجِّي إلى جوارها جثة حبيبتي، مُلفّعةً بكل هدومها و حتى بأغلى ما استطاعت أن تحتفظ به من الثياب من أيام عرسها، كتعويضٍِ لروحها الطيبة عن كفنٍ ومأتمٍ لائقين، ستظل تشدني كوثاق حديدي يستحيل عليّ الإفلات منه إلى أي مَهْرَبٍ آخر، حتى في دنيا الخيال ..
فلمن، إذن، سنترك البلوطة إذا نحن شددنا رحال "اللجوء" إلى حمص، أو غيرها؟!.. ومَن تُرى، سيزور قبرك من بعدنا يا حبيبتي؟!..
ماذا أقول لآمنة ─ في حمص ─ إِنْ هي رغبت في أن تقرأ الفاتحة على قبر أمها ؟!
إن ابن الشيخ حابس الذي يعمل هناك لا رفيقة له تنام تحت بلوطةٍ هنا، وأحسب أن هذه القمة الحزينة، ستظل موطن ذكرياتي إلى آخر العمر..
ولكن .. البطاقة؟! ..
الحقُّ أنني كنت منقبضاً إلى حد الرعب من فكرة فتح الحفرة، ولا شكَّ أن شعوراً طاغياً بالإِثم قد اجتاحني عندما فكرت في حمل الفأس والمجرفة والصعود بهما إلى القمة .. ولكنني عدت إلى موازنتي إياها .. وعادت إلى ذاكرتي مرةً أخرى عبارة ذلك الكلب .. موظف بطاقات الغوث في العاصمة:
"لم تقل لي أين تذهبون بثمن السكر، والطحين، والحليب، والزفت الذي تبلعونه في أول كل شهر"؟! ..
كذلك عادت إلى ذاكرتي عبارته الوداعية الأخيرة:
"عسى أن أرى وجهك مرةً ثانيةً في هذه الدائرة" ..
وهنا لم تعد موازنتي قلقة أو مترددة، بل لقد كان من السخف أَصلاً أن أُقيم أية موازنة من هذا الـنوع.. بين جـوع أطفالـي، وإمكانية سـدّ رمقـهم بلقمة الخبز..
وفي الطريق إلى خيمة الشيخ حابس ─ لأستعير منه الفأس والمجرفة ─ لا أدري لماذا رأَيتني معلما في حمص !! ..

الحركة الرابعة

بدا لي المخيم من قرب البلوطة الشائخة في قمة الجبل، كمجموعة من شرانق الدود التي تستكنُّ الحياة داخلها فقط، وكلُّ ما حولها بارد لا حياة فيه..
السماء تبكي .. وجبهتي وقلبي هما أيضاً يذرفان الدموع .. والريح المتلاعبة التي فقدت أي اتجاه ثابت لها، هي الأخرى تعترضني أحياناً حتى لتوشك أن تردّني إلى الخلف، وأحياناً أخرى أشعر كأنها تدفعني صُعداً حتى لتكاد خطواتي لا تلامس الأرض، كمن يرى نفسه وهو يطير في الأحلام ..
وتحت البلوطة، أخيراً، جلست كي أستريح قليلاً من عناء الصعود .. إذا هكذا استطعت أن أقنع نفسي بأن فاصل استراحتي هذا ─ وليس ترددي ─ ما كان إلا لمجرد أنني كنت تعباً فقط !! .. وأخرجت عليه التبغ لأَلفَّ سيجارة ..
كانت يداي مبلولتين، فمررت بهما داخل البطانية حتى جفّتا تقريباً ..
ثم سلّيت نفسي قليلاً بمحاولة التأمل في متعة التدخين، في طراوة هذا الجو الشتائي وتحت سَحِّ المطر الذي تجنبته بعض الشيء تحت فروع الشجرة ..
قبر كوثر يواجهني تماماً، ربما على بعد خمسين قدماً، ولستُ مضطرباً .. بل لماذا أضطرب من حيث المبدأ ؟! ..
هذه سحابة دخان أنفثها من عُمق صدري، فتمتد على استقامة قصيرة، ثم تتلاشى في الريح، وأتنفس بعد ذلك، فيبدو نَفَسي ─ وقد تكوَّنت عليه ذرات البخار─ شبيهاً بنفثات دخان السيجارة .
كلا .. لست مضطرباً أبداً .. وإن هذه التسلية لتروقني تماماً .. فلأجربها كرةً أخرى ..
وأقنعتُ نفسي، إِلى درجة لا بأس بها بأن فتح حفرة القبر ليس من البشاعة أو الفداحة أو حتى الاكتراث إلى ذلك الحد الذي يمنعني من تكرار تسليتي التافهة هذه ..
وحتى بعد أن قذفت عَقِبَ السيجارة في الوحل، بقيت أنفث نَفَسي فيستحيل خيطاً أبيض، مديداً ، من البخار .. والحق أن أزمتي مع الحفرة أخذت تبدو لي، تدريجياً كأنها أزمة شاعرية مثالية، لا قيمة لها في واقع الأرض الدنيوي، ولا بين الناس ..
تذكرتُ حاجة أطفالي إلى المؤونة، وخشيت أن أَقضي سحاية نهاري متردداً تحت البلوطة، فيفوتني صرف البطاقة فيما قد تبقّى من نهاية موعدها الشهري المحدود، كقَدَر مُنزلٍ محتوم .. فعند هذا الهاجس الذي لسعني كأفعى، وجدتني أقفز عن سطح الأرض في هَبَّة واحدة.. وتهيأت لفتح الحفرة ..
نزعت البطانية عن كتفيّ، وعلقتها في نُتوءٍ بارز من جذع البلوطة، وأحسستُ بخطواتي الأولى نحو القبر كأنما قد تجاوبت أصداؤها في الشعاب البعيدة، غير أنني ─ بوعيٍ باردٍ تام ─ قمعت جَلَبتي الداخلية من جذورها، وأنكرت على نفسي ترددها الممل الجبان ..
كانت الريح على القمة أهدأ منها في ذلك السرداب الجبلي الذي زرعونا فيه، وكانت تواجهني على الأفق الشرقي عشرات القمم الهيّنة، التي تنتهي بعيداً، بذلك الفلع الحاد القائم على البحر الميت .. الذي ندعوه عادةً "بحيرة لوط" .. وتساءلت برهةً: لماذا بدَّلو اسم هذه البحيرة بالبحر الميت؟! ..
أفوق تلك التلول إِذن بذلت سدوم وعَمُورة بكارتيهما لأبيهما المخمور؟! ..
آه أيتها الأخيلة الشيطانية الخسيسة والمقدسة لديهم حتى الجحيم، أيُّ شيء لك في بلادنا غير الليل، والعفونة، وأساطير الرذيلة والجريمة التي تقشعر لهولها الأبدان؟! .. على حين لنا نحن القممُ، والمحاريثُ، ومواويلُ الحب التي تعانق صدر السماء ..
ولم تستغرقني هذه الخاطرة طويلاً .. ذلك أنني تقصّدتُ مثل هذه الخواطر والتداعيات، أو الهلوسات في حقيقة الأمر، كأقراص مسكنة، أو حتى مخدرةٍ أيضاً، لاحتمال ما أنا مُقبل عليه.. كما لو أنني سأقوم بعمليةٍ جراحية في سويداء القلب !! ..
لكنني اقتنعت أخيراً أنه ما من أي تداع، إِراديّ أو عفويّ، يمكن أن يصرفني عن ضربة الفأس الأُولى في قبر رفيقتي الراحلة ..
لا جدوى إذن .. فَلأُواجه كل ذلك كأيّما رجل حقيقيّ، ولأَكنْ في هذه اللحظة ─ بقسوة حازمة ─ واقفاً مع أطفالي الصغار الباقين على قيد الحياة، وليس مع ذكرياتي المولّية الهامدة دون حراك .. ولأهوِ بالفأس الآن على تراب القبر !! ..
هذه أول ضربة .. دون أن ينخلع لها قلبي كما كنت متوهماً قبل لحظات !! ..
ثم هذه هي الضربة الثانية .. بلا أي معنى خاص .. والثالثة .. والرابعة .. فالخامسة..
والأرض الطينية الرخوة تستجيب للرأس الحديدية النـزقة .. وهاأنذا ألقي الفأس حينا، لأَغرف بالمجرفة ما قد ضربته بالفأس .. ومن ثم أعود إِلى الفأس .. كي أعود إلى المجرفة .. وكُتل الطين تنعزق بلا نظام على حفاف القبر ..
- كم أعتذر إليك يا حبيبتي ..
وفم الفأس، الآن، ينغرز في أحد الأعواد الخشبية المتقاطعة فوق الجثة ..
- لأن أطفالكِ جياع يا توأم روحي ..
وأحد أثوابها يلتبس مع التراب الطيني، فأُشيح بوجهي جانباً، ولكنني أعود إلى عزق أطراف الحفرة، فأشعر أَن الأرض تغور تحت قدميّ، وأن تلال الطين ترتفع شاهقة، كجبال خرافية، على حفاف الحفرة ..
بل على جانبي الأُخدود !! ..
فالدنيا كلها أخذت تنحدر إلى أدنى .. تغوص إلى غَوْرٍ رهيب مجهول القرار ..
يداي تنبشان، الآن، عن مركز الأرض ..
قدماي تزلاّن فجأة عن حافة الهاوية .. فأغوص بلا قرار .. بلا قرار .. بلا قرار .. إلى أن يردني خَدْشٌ قوي في جبيني مرةً ثانية إلى ما فوق سطح العالم .. فهاأنذا ملقىً بوجهي إلى الأَرض .. ملقىً إلى جوارك يا حبيبتي، ولن أبرحَ هذا المكان أبداً .. أريد أن أموت فقط .. أن أظل معك بلا نهاية .. أن نستعيد معاً زفافنا، وليكن هذه المرة في حدائق السماء !! ..
كوثر .. ما الذي حلّ بنا يا حبيبتي .. أحقيقيّ أننا التقينا يوماً على درب النخيل في بيسان، وأنك أنت أنت، وأنا أنا، وهذا العالم هو نفسه العالم .. أحقيقيّ أنك متِّ، وأنني لم أمت، وأن روحاً واحداً قد أصبح اثنين ؟! ..
بل لماذا لم أمت معك في اللحظة ذاتها ؟! ..
سأظل أبكي هنا إلى جوارك حتى الموت !! ..
مالك يا كوثر .. ما لذي يمنعك الآن أن تبتسمي إليَّ .. أن تعودي لنا .. أن تعاتبيني بكلمة.. أن تطردي من جسدك قشعريرة الموت .. ألَن تسمعيني أبداً؟! ..
كوثر .. ما كانت يداي هاتان لتجيئا إليك في طلب البطاقة من قبرك المفرد ها هُنا في العراء.. ما كانتا إِلا لتضماك على درب النخيل في بيسان، وأمواجُ شعرك الرخيّة كغمرٍ من سنابل الجليل تستريح على كتفيّ.. ها نحن معاً على ضفة "المَشْرَع"، فاتركي قدميك العاجيتين لموجاته الصغار، وحدثيني عنك، وعني، وعن صورة طفل تلمحينها في الخيال.. أَتسألينني عن اسمه؟ .. عن اسمها؟ ..
- حُودة يسألني عنك كلَّ صباح..
- قل له سأعود مع الحُجّاج..
- قلت له ذلك..
- وقل لآمنة أن تزورني في كل عيد..
- وأنا أيضاً، وخالد، وحُودة..
- حُودة يبكي.. يصلني بكاؤه الآن..
- جائع.. ولا رغيف بين يديه..
- خذ البطاقة حالاً واذهب إلى المركز.. ضعها في جيبك، هكذا، واحرص ألا تضيع منك..
- وأنت يا كوثر ألا تعودين معي؟! .. سنعيد تعمير الدنيا بأسرها، وسنمنحها الحب والسعادة من جديد.. كوثر.. كوثر.. أريد أن أموت فقط.. أن أظلّ معك بلا نهاية.. فلماذا لا تجيبين.. وجهك ليس ميتاً، وهذه الزرقة المخضرّة التي فيه، أقسم أن الملائكة لا يمكن أن تختال في أجمل من فيروزها بين النجوم !!
كان المطر يوشك أن يتجمع في قعر الحفرة، فانتفضتُ واقفاً، وركزت الأعواد الخشبية المتقاطعة في مكانها، وبدأت أهدم جانبي الأخدود على حفرة المرحومة في قمة العَرُّوب..
وبعد أن سوِّيتُ التراب الطيني فوقها، أَقمت الحجر الشاهد عليها في مكانه..
وحين تناولت الفأس والمجرفة هامّاً أن أنصرف، لم يكن يرافقني أي شعور أعرفه من قبل.. بل كان نوع من البلاهة يترنح في خطواتي، ويرتخي في شفتيّ، ويتسع في جفوني..
وتحت فروع البلوطة، مرة ثانية، جلست أُدخن سيجارة أخرى، إذ لم أستطع أبداً أن أبرح موضع القبر فور الحصول على بطاقة الاعاشة!! ..
كانت هبّة قوية من الريح قد أسقطت البطانية من نتوئها المعلقة فيه، فنفضتُها من آثار الأرض، وقبعت داخلها خشية أن تلفح الريح صدري وأطرافي الناضحة بالعرَق.. ورغم أن نوعاً من الراحة قد أخذ يشملني ─ لأن البطاقة أصبحت في جيبي الآن ─ فإن حنيناً في قرارة نفسي كان يشدّني إلى أن أمكث مزيداً من الوقت إلى جوار كوثر.. إن العالم مجتمعاً قد استطاع أن يهزم رفيقتي الراحلة، ولشدّ ما يجرفني الحنين أن أشاطرها مرارة الهزيمة، ووحشة الاندحار!!..
- يا للنذالة.. وتترك أطفالك الثلاثة للأَزقة، أو لتجّار الخدم والصانعات!! ..
وحين أتيتُ على نهاية سيجارتي الثانية، كان دفء الشمس الفاتر، وضياؤُها الرمادي، ينكسران خلال الغيوم من نقطةٍ ما في منتصف السماء.. لعلها كانت الثانية عشرة، أو الواحدة ظهراً.. ومعنى ذلك أن أمامي أربع ساعات، أو خمساً على أكثر تعديل، قبل أن تفوتني آخر فرصة لتحصيل إعاشة الشهر الحالي.. لذلك تهيأت للعودة إلى المخيم، فخلَّصت نفسي من البطانية قليلاً، لأَن ما كان مطراً قبل لحظة قد أصبح الآن مجرد رذاذ هَيِّن..
ألقيتُ الفَأس والمجرفة على كتفي، وقبل أن أنطلق تأكدتُ من أن البطاقة موجودة في جيب سترتي..
- نعم، هذه هي..
وزدت على ذلك بأن سحبتها من جيبي، ليطمئن قلبي، ولكي أغتنم مزيداً من المتعة، والسكينة النفسية، من خلال مادتها المحسوسة بين يديّ .
كانت مبلولة بعض الشيء.. ولكنني حين فتحتها.. حين فرجتُ دفتيها بإبهام يدي اليمنى .. أحسستُ بالفأس والمجرفة تنـزلقان من على كتفي الأيسر، وغادرَتني البطانية وحدها لتستقر على الأرض، أثناء ما نقلت خطوتين أو ثلاثاً بدون أي اتجاه معلوم، محدّقاً في فراغ البطاقة في حالة ذهول تام.. أو كمن تشنّج فجاة بمفعول رُقية سحرية متمثلة في تلك الفوضى الغامقة المركبة من تحلّل الحبر الأسود، واندغامه بسطح الورقة الحمراء !! ..
يا للشناعة المجرمة !! ..
أية قوة رتَّبت ذلك كله.. لقد أتلف المطر آخر حرف منها مكتوبٍ بالحبر.. وحتى الخاتم الرسمي، وإمضاء الدنانير العشرة.. من يصدق أنهما كانا على هذه الوريقة الجرداء في أحد الأيام؟! .. لربما كان أحدٌ غيري يملك الشجاعة أن يواجه موظفي وكالة الغوث بمثل هذه الوريقة.. وأما أنا فأعترف بأنني أَجبن من ذلك، أو ربما أشدُّ حفاظاً على ماء وجهي من أن أُريقه بمزيد من التوسلات..
أعرفهم جميعاً، وأعرف طينة الزفت التي انجبلوا منها على مقاس حذاءٍ في أرجل أسيادهم الخواجات !!..
وسلكت قدمايَ الطريق التي تشاءان..
كان رأسي ممتلئاً فراغاً ومثقلاً بخُوائه من أي تفكير.. ولم تبصر عيناي شيئاً خلال أي شيء.. سوى أن خُطاي كانت خفيفة كمن قد تحول فجأة إلى شبح حقيقي.. وأخذت ضحكاتي تنفجر في القمة كصهيل حصان بريٍ مجنون.. وهنا أرخيت جناحَيْ بطاقتي على صهوة أول هبّة قوية من الريح.. واجتاحتني الرغبة في أن أَشرع بغناء مّوال مجهولٍ لا أعرف أي حرف من كلماته، ولكنني أريد أن أستلّه من أعمق أعماق رئتيّ، وألقي به إلى الريح، والمطر، والشمس المتعثرة بين الغيوم !! ..
أذكر أنني تساءلت بسرعة عمَّا أفعل بِقُوتِ أطفالي ─ فلقمة وكالة الغوث لم تفتني عن هذا الشهر وحسب، وإنما إلى الأبد ─ لكنني لم أستجب حتى لهذا الشاغل الأساسي الذي من أَجله فتحت حفرة كوثر.. بل واصلت السير كمن سيجد الجواب على جميع أسئلة الدنيا في نهاية الطريق..
ذلك ما حدث فعلاً..
كانت قدمايَ تتصرفان دون أَي تدخل من جانبي.. وبين الحين والحين كنت أعي حقيقة انقطاع الرذاذ، وتلاشي السحب الثقيلة السوداء إلى دخانية فاتحة.. وكان ثمة نوع من ارتخاء النهاية يشتمل نفسي بسلام عميق..
لا أعلم كم ابتعدت عن البلوطة، أو المخيم.. ودرتُ على محوري دورةً كاملة، لعلّي ألمح خيمة واحدة، فأسعدني أنني لم أُبصر أثراً لِتِلك الشرانق التي تحتوي حَيَواتنا البشرية في مخيم العرّوب !! ..
كان يكتنفني أفق جبلي ضيق..
وعوضاً عن خيام العَرُّوب، أبصرت منازل القرويين المعلّقة في السفوح، وأدخنة الشتاء تتصاعد من كُواها الصغيرة عبر ذلك النقاء الريفي المثير حتى الفرح وفَرْط البكاء..
قطيع من الماعز يتسلق سفحاً بعيداً من جهة الشرق.. ومن تأليف الطبيعة، وعزفها، وأوركستراها، بدا لي كأن راعي القطيع البعيد قد دخل في سجالٍ موسيقي مع السماء.. هو من خلال قصبة الناي الشجيِّ والمُلتّاع ما بين يديه وعلى شفتيه.. وهي من خلال قرعها العنيف على طبول الرعود في أعالي الغيوم.. حتى لقد خطر لي لوهلةٍ خاطفة كالبرق كأن هذه بذاتها هي سمفونية الخلق الأبدية التي تحكي مواجهة الإنسان لأعتى قوى الطغيان..
كذلك استوقفتني لوقتٍ لا أدريه لوحةُ هذا الريف الجبلي، الحزين والجميل معاً، كما رسمتها هنا أصابع الله منذ عهد جدنا الأول كنعان.. وقبل أن يخرجوا هاربين إلى سيناء بحفنة كاملة من ألوف من السنوات!!..
وفيما بين الصخور الرصاصية المترامية حولي، كانت هناك مساحات صغيرة من الأعشاب، تختلط فيها أقراص الفطر، وقرون الجَلَثُون، ومهرجان بأكمله من السواسن والأقاحي البرية وشقائق النَّعمان.. وقد جلست على واحدٍ من تلك الصخور لبعض الوقت.. وحين أسندت رأسي على راحتيَّ لأفكر في حاجة أطفالي إلى الخبز، انصرف كل تركيزي إلى خيط ضعيف من الماء كان ينـزُّ من قاعدة صخرة كبيرة مقابلة، وعاد بي ذلك الخيط إلى لعبة "النهر والبحر" التي كنا نلعبها أطفالاً أيام كنا في الناصرة، وقبل أن نعود إلى بيسان، وتساءلت بدهشة عما يمكن أن يعيب الأَطفال الكبار، مثلي، أَن يلاعبوا الصخر، والطين، والأعشاب، حتى آخر يوم لهم في الحياة ؟! ..
كم أحببنا جمالاتنا الفلسطينية تلك أيامَ كنا في سن الطفولة.. وكم بادلتنا هي الحب، عطاءً بعطاء..
مرة ثانية استدرتُ حولي لأرى أيَّ أثر لمخيم العَرُّوب، فأسعدني أيضاً أنني لم أره، وتمنيت ألا أراه أبداً ما قُدِّر لي أن أعيش، وأن أبتعد عنه بأطفالي إِلى دنيا مجهولة ليس فيها وكالة غوث، ولا لاجئون !! ..
ابن الشيخ حابس يعمل مدرّساً في حمص..
- لكن لا.. أقسم بروح من تسكن هذه الحفرة إلى جوار بلوطة العروب، ألا أَبرحها لغير تلك الدرب النخيلية على ضفاف "المشرع" في بيسان..
لذلك ضمّختني يدُ النسيم بعطر النماء الشتائي الفوّاح..
ولذلك أيضاً طرقت سمعي، في الخيال طبعاً، أجراس ذلك القطيع السارح على السفح المقابل، وكدت أجزم بأن الراعي قد أحس بدنيا السعادة التي أخذت تغمرني آنذاك في فجر تكوينها، فأرسل من نايه القصبي ذلك النغم المرافق لقصيدة إنشاء عالم جديد..
كانت فلول الغيوم تتدافع على متن الريح الجنوبية الغربية، لتتسع مكانها بحيرات الفيروز السماوية الصافية.. وتحسست ذراعي اليمنى فخيّل إِليّ أن كتلة صلبة من العضلات تكسوها.. وأدهشني كم كنت مخطئاً ليلة أمس عندما ظننت أن ظهري قد انحنى، وأن جسدي سينهار!! ..
- حقاً، لابد أنني مخلوق ذو قيمة مذهلة !! ..
وكان راعي السفح مايزال يمجِّد انتصاري الكبير بأنغام نايه المتجاوبة مع هزيم الرعد، عندما نهضت من على تلك الصخرة الرصاصية عائداً إلى المخيم.. وفي نيتي هذه المرة أن أعيد خلق العالم من جديد..





يوتيوب يوس الخطيب :
-------------------------

لحظات مع الشاعر يوسف الخطيب



اعلان براءة







حفل تأبين الشاعر الراحل يوسف الخطيب
--------------------------------------------

سيف فلسطين حاضر في حفل تأبينه
الشاعر يوسف الخطيب بين محبيه وأصدقائه بعد مرور أربعين يوم على وفاته



وزير الثقافة السوري رياض عصمت


دمشق / بيت فلسطين للشعر
وسط حضور جماهيري وثقافي وإعلامي كبير شهدت مكتبة الأسد الوطنية بدمشق مساء أمس الاثنين 25/7/2011 حفل تأبين للشاعر يوسف الخطيب بمناسبة مرور أربعين يوم على وفاته. برعاية وزارة الثقافة السورية .
وقد حضر حفل التأبين ذوي الشاعر ولفيف من أصدقاء الشاعر ومحبيه والشخصيات الثقافية والفنية وعدد من الوزراء وعلى رأسهم وزير الثقافة السورية الدكتور رياض عصمت ووزير النقل فيصل عباس كما حضر الحفل ممثلين عن بعض المؤسسات والهيئات العربية أبرزهم المنسق العام لتجمع اللجان والروابط الشعبية في لبنان الدكتور معن بشور الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي .



الأستاذ انور رجا


بُدأ الحفل بآيات من الذكر الحكيم ألقاها القارئ محمد عارف العسلي . ثم عرض لمدة ربع ساعة تقريبا فيلم وثائقي عن حياة الشاعر يوسف الخطيب وأبرز محطات حياته ومواقفه الثقافية والسياسية الوطنية منها والقومي ولقطات من عدد من مقابلاته المتلفزة . بالإضافة إلى قصائد شعرية بصوته .
الفنانة سلاف فواخرجي ألقت كلمة الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين في رام الله بالنيابة عن الأستاذ الشاعر مراد السوداني الذي تعذر حضوره للحفل . وأكّد السوداني من خلال كلمته أن وفاة يوسف الخطيب خسارة للأدب والثقافة فيقول (نحدّق اليوم في إرثك فنرى طاقة الفعل بالقوة والعناد العارم الذي يعيش بروحك فعلا وإنجازا وانحيادا للحرية الحمراء وشمائل الزمان والحق والصدق .. إنه الخير العام الذي وسّعت فضاءاته وجعلت فلسطين رأس حربتك الثقافية) ولفت السوداني في كلمته إلى الدور المميز الذي لعبه الشاعر في رسم ملامح الأدب الفلسطيني المعاصر في الداخل والشتات مؤكدا على أن المثقفين والأدباء في الأرض المحتلة باقون على عهد الشاعر يوسف الخطيب وعلى مبادئه .



الأستاذ حسين جمعة وعدد من الوجوه الفنية والثقافية


بدوره تحدث الأستاذ معن بشور عن مناقب الشاعر ولفت إلى دوره مع أقرانه من شعراء فلسطين ككمال ناصر وفدوى طوقان وهارون هاشم رشيد في الحض على الثورة استمرارا لما بدأه شعراء الجيل الأول إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي وعبد الرحيم محمود وتمهيدا لولادة جيل جديد ممثلا بمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وأحمد دحبور وعز الدين المناصرة وغيرهم. وأردف قائلا ( تراه شاعرا بين المناضلين ثم تجده مناضلا بين الشعراء لقد كان يقول لي إذا كان الشعر عذوبة في التعبير ورقة في الأحاسيس وجمالا في الأداء فإن النضال هو حلم لا حدود له .. لقد تكونت شاعرية يوسف الخطيب وثقافته معا في وقت مبكر من العمر فحرص أن يتحدث في سيرة طفولته الرائعة عن كل مكون من مكونات شاعريته وثقافته )
بعد كلمة الأستاذ معن بشور تم عرض قصيدة صوتية للشاعر يوسف الخطيب وهي قصيدة ( في أذان العصر) التي كانت من ضمن الإصدار الصوتي الذي أصدره الخطيب في العام 1983



الأستاذ معن بشور


الفنان التشكيلي والكاتب أنور رجا تحدث في كلمة مطولة عن الشاعر ومسيرة حياته وعن لقائه الأول بالشاعر (العندليب المهاجر) يوسف الخطيب ( كان اللقاء من تلك الأشياء التي تقربها فتغيرك .. لهفة وحنين وحلم وما زلت أشعر انها من الطف ما كتبته الذاكرة والروح عن تلك العلاقة الغريبة بين الفلسطيني وأرضه ) وأضاف رجا ..( إن سيف فلسطين كان وطنا للقصيدة وقصيدة للوطن إذ إنه شارك في تشكيل وعينا وذاكرتنا الحميمية وشوقنا إلى فلسطين ... لقدكان الشاعر يوسف الخطيب في شرفة عالية بعيدا عن المتنافسين فكان له إيقاعه الخاص هو ذاته الشاعر يوسف الخطيب العربي الذي يستعيد شكل الهوية العربية بموج قصائده العالية وريحها العاتية )
من جهته استعاد الأستاذ المخرج خلدون المالح أمام الحاضرين ذكرياته مع الشاعر في إذاعة دمشق التي عملا فيها معا لزمن طويل ومن هذه الذكريات التي ذكرها المالح ترديد الشاعر الخطيب كلما دخل إلى مكان عمله لأغنية فيروز (سنرجع يوما) .
وأكد وزير الثقافة السوري الدكتور رياض عصمت على خسارة الشاعر الفلسطيني وتأثير غيابه على المشهد الثقافي بقوله ( لا شك أن رحيل الشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب يشكل خسارة فادحة للأدب العربي الحديث .. كان يدافع عن الحق دون كلل أو ملل وكان صلبا مثل الصخر فقد كان يدافع عن أرض فلسطين وراية المقاومة وهو المقاتل دون هوادة من أجل كلمة الحق .. كان يوسف الخطيب في كل ما كتب وأبدع من أعمل شعرية ونثرية شاعرا حقيقيا ألم بالمشهد الثقافي والعربي وعبر عنه بصوت هادر وحس عال .



الفنانة سلاف فواخرجي تلقي كلمةاتحاد الكتاب الفلسطينيين


وفي ختام الحفل ألقى المهندس بادي الخطيب الابن الأكبر للشاعر يوسف الخطيب كلمة العائلة التي أفصح فيها عن الشاعر يوسف الخطيب الأب والجد ودوره في الحفاظ على عائلته ومنحه حياته وعطاءه لها بالرغم من الظروف التي مر بها الشاعر يوسف الخطيب . كما تحدث عن مسيرة حياة والده في دار فلسطين التي أسسها الشاعر يوسف الخطيب واهمية هذه الدار وأهمية ما انتجته في سنوات قليلة من عمرها .
يذكر ان الشاعر يوسف الخطيب قد وافته المنية في يوم الخميس السادس عشر من يونيو ( حزيران ) 16-6-2011 الموافق الرابع عشر من رجب 1432 للهجرة ، في العاصمة السورية دمشق ووري الثرى فيها



المخرج خلدون المالح


سيرة حياة الشاعر يوسف الخطيب
ولد الشاعر يوسف الخطيب في بلدة دورا قضاء مدينة الخليل الفلسطينية عام 1931 وتلقى تعليمه الابتدائي في مدارسها، ثم انتقل ليكمل دراسته الثانوية في مدينة الخليل، ثم عمل بعدها لفترة قصيرة في إحدى الصحف المحلية في الأردن قبل أن يتوجه إلى دمشق سنة 1951 حيث التحق بكلية الحقوق بالجامعة السورية حيث تخرج منها سنة 1955 بإجازة في الحقوق ، و دبلوم اختصاص في الحقوق العامة. وأثناء دراسته الجامعية انتسب يوسف الخطيب إلى حزب البعث العربي الاشتراكي.
في سنة 1955 قام طلبة الجامعة السورية بإصدار أول ديوان من شعره بعنوان العيون الظماء للنور، وهو عنوان القصيدة التي فاز بها بالجائزة الأولى في مسابقة مجلة الآداب والتي نظمت على مستوى الوطن العربي آنذاك. عمل في الإذاعة الأردنية حتى عام 1957، حيث غادر الأردن عقب أزمة حكومة سليمان النابلسي والتحق بالعمل في الإذاعة السورية. وفي هذه الفترة أصدر ديوانه الثاني بعنوان عائدون عام 1959.
أثر ملاحقة البعثيين إبان الوحدة السورية المصرية، لجأ إلى بيروت، ومنها إلى هولندا حيث عمل في القسم العربي في إذاعة هولندا العالمية. لكنه عاد إلى العراق إثر ثورة 8 شباط ومنها إلى سوريا حيث استقر فيها بشكل نهائي.
بعد فترة وجيزة من عودته أصدر ديوانه الثالث بعنوان واحدة الجحيم عام 1964، وفي عام 1965 تولى منصب المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون. لكنه تخلى عن الوظيفة الحكومية نهائياً عام 1966، ليؤسس دار فلسطين للثقافة والإعلام والفنون والتي أصدر عنها عدداً من المطبوعات، أهمها إصداره للمذكرة الفلسطينية ما بين الأعوام 1967- 1976.
وفي نفس العام الذي ترك فيه الخطيب العمل الحكومي، شارك في أعمال الهيئة التأسيسية (لاتحاد الكتاب العرب) في سوريا، وأسهم في وضع نظامه الأساسي، والداخلي. وفي عام 1968 اختير بإجماع القوى والفعاليات الوطنية الفلسطينية في ذلك الحين، عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني (عن المستقلين)، وما يزال يحتفظ بموقعه هذا حتى الآن. كما شارك في المؤتمر العام التأسيسي (لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين المنعقد في بيروت) تم انتخابه لنيابة الأمانة العامة للاتحاد.
في عام 1988 نشر يوسف الخطيب ديوانين اثنين، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشاعر أصدر سنة 1983 أول ديوان سمعي في الوطن العربي على أربعة أشرطة كاسيت تحت عنوان مجنون فلسطين



المهندس بادي يوسف الخطيب




زوجة الشاعر يوسف الخطيب



اعداد :
سلام الباسل / فلسطين ..... عبير محمد / مصر
زياد السعودي / الاردن








  رد مع اقتباس
/
قديم 03-08-2011, 10:07 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

الراحل يوسف الخطيب
شاعر فلسطيني من أبرز شعراء القرن العشرين. وعضو في المجلس الوطني الفلسطيني منذ عام 1968، إضافة إلى عمله في مجالي الإذاعة والنشر.

لمحة بيوغرافية
ولد يوسف الخطيب في بلدة دورا قضاء مدينة الخليل الفلسطينية عام 1931. تلقى تعليمه الابتدائي في مدارسها، ثم انتقل ليكمل دراسته الثانوية في مدينة الخليل، ثم عمل بعدها لفترة قصيرة في إحدى الصحف المحلية في الأردن قبل أن يتوجه إلى دمشق سنة 1951 حيث التحق بكلية الحقوق بالجامعة السورية حيث تخرج منها سنة 1955 بإجازة في الحقوق ، و دبلوم اختصاص في الحقوق العامة. وأثناء دراسته الجامعية انتسب يوسف الخطيب إلى حزب البعث العربي الاشتراكي

في سنة 1955 قام طلبة الجامعة السورية بإصدار أول ديوان من شعره بعنوان العيون الظماء للنور، وهو عنوان القصيدة التي فاز بها بالجائزة الأولى في مسابقة مجلة الآداب والتي نظمت على مستوى الوطن العربي آنذاك. عمل في الإذاعة الأردنية حتى عام 1957، حيث غادر الأردن عقب أزمة حكومة سليمان النابلسي والتحق بالعمل في الإذاعة السورية. وفي هذه الفترة أصدر ديوانه الثاني بعنوان عائدون عام 1959.

أثر ملاحقة البعثيين إبان الوحدة السورية المصرية، لجأ إلى بيروت، ومنها إلى هولندا حيث عمل في القسم العربي في إذاعة هولندا العالمية. لكنه عاد إلى العراق إثر ثورة 8 شباط ومنها إلى سوريا حيث استقر فيها بشكل نهائي.

بعد فترة وجيزة من عودته أصدر ديوانه الثالث بعنوان واحدة الجحيم عام 1964، وفي عام 1965 تولى منصب المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون. لكنه تخلى عن الوظيفة الحكومية نهائياً عام 1966، ليؤسس دار فلسطين للثقافة والإعلام والفنون والتي أصدر عنها عدداً من المطبوعات، أهمها إصداره للمذكرة الفلسطينية ما بين الأعوام 1967- 1976.

وفي نفس العام الذي ترك فيه الخطيب العمل الحكومي، شارك في أعمال الهيئة التأسيسية (لاتحاد الكتاب العرب) في سوريا، وأسهم في وضع نظامه الأساسي، والداخلي. وفي عام 1968 اختير بإجماع القوى والفعاليات الوطنية الفلسطينية في ذلك الحين، عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني (عن المستقلين)، وما يزال يحتفظ بموقعه هذا حتى الآن. كما شارك في المؤتمر العام التأسيسي (لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين المنعقد في بيروت) تم انتخابه لنيابة الأمانة العامة للاتحاد.

في عام 1988 نشر يوسف الخطيب ديوانين اثنين، أحدهما بعنوان بالشام أهلي والهوى بغداد والآخر بعنوان رأيت الله في غزة وهما آخر ما صدر للشاعر من دواوين مكتوبة. تجدر الإشارة هنا إلى أن الشاعر أصدر سنة 1983 أول ديوان سمعي في الوطن العربي على أربعة أشرطة كاسيت تحت عنوان مجنون فلسطين.

توفي في دمشق عام 2011 وأقيم له عزاء في دار السعادة بدمشق أيام17~19/6/2011






  رد مع اقتباس
/
قديم 03-08-2011, 10:10 PM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

السيرة الذاتية للشاعر يوسف الخطيب بقلمه

أعلمني أبواي أنهما أتيا بي إلى هذه الحياة الدنيا في صبيحة اليوم السادس من شهر آذار من عام 1931 ، و كان ذلك في بلدتنا الفلسطينية الجميلة التي تلاصق مدينة الخليل من جنوبها الغربي، بإطلالة بانورامية فسيحة ، تلتقي فيها السماء على خط الأفق البعيد بشريط الساحل الفلسطيني على مبعدة أربعين كيلومتراً ، فيما بين مشارف يافا شمالاً ، حتى مشارف غزة في أقصى الجنوب ، و تحمل اسم واحدة من إلهات الحب والجمال اللائي لا حصر لهن في تراثنا الكنعاني السحيق .. هي قرية " دورا " …

و لا أدري ، أكانت صرخة الميلاد التي أطلقتها في صبيحة ذلك اليوم من مقتبل الربيع ، مجرد أداء عضوي لتلك الوظيفة الفيسيولوجية الكائنة في فطرة الإنسان ، أم رجع صدى لصراخ وطن بأكمله ، و شعب بأسره ، واقعٍ تحت نير الاحتلال البريطاني ، و الاستعمار الاستيطاني اليهودي ، في حين كانت مآذن فلسطين ، و أجراسها ، ماتزال تنعي بأسىً عميق " ثلاثة الثلاثاء الحمراء"، فؤاد حجازي ،و عطا الزير ، و محمد جمجوم، و هم يتأرجحون تباعاً في أنشوطات إعدامهم في سجن عكا المركزي ، يوم السابع عشر من حزيران من العام الفائت ، ( 1930) ، في أعقاب ثورة البراق..
في ظل هذا المناخ ، زماناً ، و مكاناً ، وُلِدتُ ، و حَبَوْتُ ، و نَمَوتُ .. فما إن بلغت سن الخامسة حتى اقترن وعي الطفولة الأول عندي مع إضرابنا الفلسطيني الكبير عام 1936 ، كمقدمة للثورة الفلسطينية الكبرى في العام اللاحق 1937 … و طبيعي جداً أن ذاكرة الطفولة في مثل هذه السن المبكرة لن تكون قادرة على اختزان الأحداث الكبيرة بمختلف مدلولاتها و أبعادها السياسية، ولكنها ستكون أكثر مقدرة مما هي عند الكبار، على التقاط بعض المواقف و التفاصيل الصغيرة جداً ، و اختزانها بالتالي مدى الحياة ..
و هكذا ، فإن مثل هذه التفاصيل الصغيرة التي تستوطن ذاكرتي و لا أستطيع نسيانها ما حييت، مشهد أمي وقد وقفت لصلاة الفجر أثناء ما كنت أنا و شقيقي الأصغر فيما بين النوم والاستيقاظ، و فجأة ينخلع باب بيتنا الخارجي بِجَلَبَةٍ و صراخ شديدين، و يندفع إلى داخل حجرتنا نفر من الجنود البريطانيين في بساطيرهم الثقيلة وبناطيلهم العسكرية النصفية (الشورت)، وهم يتصايحون برطانة كريهة كذئاب جائعة ، ليس لاعتقال أبي لأنهم يعلمون أنه كان قد وجد لنفسه مَهْرَباً مؤقتاً إلى سوريا، و إنما بحثاً عن أية رائحة لأي سلاح حتى في حدود (الفشكة الفارغة ) ، تلك التي كانت في ذلك الزمان كافية للحكم على من توجد عنده بالأشغال الشاقة لسنوات و سنوات .. و أما إذا كانت رصاصة حيَّة حقيقية فمن غير المستبعد أن توصل من يحتازها إلى أُنشوطة الإعدام !!..
ثمة تفصيل آخر لا أنساه ، هو تلك الآلة الجهنمية الطائرة التي أحسّ كما لو أنها تعربد الآن فوق رؤوسنا.. ثم هاهي أخيراً تمزق بنيرانها جسد مواطن مطلوب كان قد التجأ إلى مقبرة البلدة الجنوبية ، فتتركه جثة هامدة إلى جوار أقرانه في دار الآخرة!!.. و من مثل هذه المواقف والمشاهد والتفاصيل الصغيرة ما ليس يتسع المجال لذكره في مثل هذا السياق .. ولكن ، على اعتبار أن عهد الطفولة بالنسبة لكل إنسان هو حجر الأساس الذي ستنبني عليه شخصيته ، إلى حد كبير ، في مرحلة الوعي والإدراك، فإنني أستطيع أن أفسر الآن لماذا نشأت و ترعرعت ساخطاً إلى حد الثورة والانفجار على جميع أشكال الظلم و التعسف و الطغيان، خاصة من جانب أعدائنا التاريخيين هؤلاء، من صهاينة و صليبيين جُدُدٍ في لُحمة واحدة ...
على أن طفولتي اتسمت في الوقت نفسه ، و ربما بالقدر نفسه، بعشق الجمال بجميع تجلياته في ذلك الزمان ، سواءً بانسراح البصر في مفاتن الطبيعة الفلسطينية الخلابة إلى حد السحر، أو بانسراح الخيال مع حكايات جدتي لأبي "غزلان" ، إذا أنا متكوِّرٌ في حضنها إلى جانب الموقد في ليالي الشتاء ، وهي تسكب في مسمعي ، بمرافقة موسيقى الرعد و البرق و المطر، قصائد شقيقها الشاعر الشعبي الأكثر شهرة في ذلك الحين " محمد كاشور " ، مع ما يرافق ذلك الكلام المنغَّم الجميل ، الذي يُعرَف "بالشعر"، من نوادر و طرائف و عجائبيات كانت تسافر بي خلف حدود الزمان والمكان .. ففي دِفء حضنها ، إذنْ ، كان أن سمعت الشعر لأول مرة في العمر ، و بدا لي أنه أجمل بكثير مما يتبادله الناس من كلام عادي ، و لعلي تساءلت أيضاً ما الذي يمنع كل الناس من أن يكون كل كلامهم على هذا القدر من الرقة و العذوبة و الجمال ؟!..
لاحقاً لذلك كان والدي يصطحبني أحياناً إلى بعض السهرات في ديوان القرية الذي كان يعرف في تلك الأيام باسم " الجامع "و الذي كان الآباء غالباً ما يصحبون إليه أبناءهم منذ نعومة أظافرهم لكي يزرعوا فيهم الرغبة في مجالسة " الكبار " ، والاستماع بوعيٍ إلى أقوالهم "الناضجة، و الراجحة " ، إضافة إلى ما يتبادلونه حتى منتصف الليل من سير و أخبار و طرائف مثيرة للخيال .. على أن أكثر ما كان يطيب لي في تلك العشيات الممتعة هو حصة الشاعر الشعبي بما يسرده على السمار من مغامرات عنترة العبسي ، و أبي زيد الهلالي ، و غيرهما ، و بما ينشده من الأشعار الشعبية على أنغام الربابة ، و هي التي كنت أطرب لسماعها ربما أكثر من وقائع المغامرات ذاتها ، و أحياناً كنت أحفظ بعض من أبياتها و أحاول تردادها .. و حقيقة الأمر أن شخصية " الشاعر الشعبي " خاصة عندنا في أرياف جبل الخليل ، بدت لي أفضل بكثير من شخصية " حكواتي المدينة " كما عرفتها لاحقاً في بعض مقاهي القدس العتيقة ، فالأول أطيب فطرة و سليقة ، و أقرب إلى لغة بادية بئر السبع و النقب ، التي هي أقرب بدورها إلى العربية الأصيلة ، كما أنه يمتاز بقوة الارتجال فيعطيك الحكاية نفسها في كل مرة بلغة مختلفة عن سابقتها، بينما "حكواتي المدينة " يقرأها عليك كتلميذ جاهل من نصٍّ مكتوب بلا أي رونق أو خيال ..
كان والدي العظيم ، تغمده الله برحمته الواسعة ، يقف في الطليعة تماماً من بين حفنة من الأشخاص كانوا لا يزيدون عن أصابع اليد الواحدة ، ممن يقرؤون جيداً ، ويكتبون جيداً ، من بين سكان القرية و أكنافها البرية الذين كانوا يزيدون حتى في ذلك الزمن السحيق عن خمسة آلاف.. وهكذا .. و على مبدأ طلب العلم من المهد إلى اللحد ، فوجئت به ذات يوم ، و بدون سابق إنذار ، و هو يمسك بيدي الصغيرة ويُودِعني في كُـتَّـاب " يوسف الشريف " القريب من منـزلنا على مرمى الحجر كما يقولون ، ثم ، لسبب لا أدريه ، عاد فأودعني في كُـتَّـاب "عبد فقوسة " البعيد تماماً عن منـزلنا في حارة " المسالمة " بآخر القرية .. و كل من الكُـتَّـابين مجرد حجرة صغيرة يتكدَّس فيها الأطفال كما لو في علبة سردين ، و يتمُّ فيها تأهيل " الصبية الذكور حصراً " لدخول الصف الأول الابتدائي في المدرسة النظامية عند بلوغهم السن القانونية لذلك ، فيحفظون عن ظهر قلب جُزئيْ " عَمَّ " و " تبارك " من القرآن الكريم عن ظهر قلب، بإجادة لفظية لمخارج الحروف لا تسامح فيها، و يتعلمون الأبجدية ، ويكتبون بعض المفردات على ألواح من الصاج تُعلَّقُ في أعناقهم .. و يا للحفاوة الكبيرة التي كان ينعم الصبي بها من جميع أفراد أسرته عند اجتيازه لعتبة "الكُـتَّـاب" هذه ، فكان يحتفى به أكثر بكثير من احتفال أهله حتى " بطهوره " ، تماماً كما لو كان عائداً إليهم لِتَوِّه بأرفع الدرجات العلمية من أكسفورد..
في تلك البرهة الوجيزة كلمح البرق التي التحقت فيها بمدرسة "دورا " الابتدائية ، طرأت على جميع أرجاء الوطن الفلسطيني أحداث كبيرة مربكة ، بدت لي في تلك السن الصغيرة المبكرة أكثراً اختلاطاً و التباساً من أن أستوعبها في حينها ، ولكنني سأعلم في السنوات القليلة اللاحقة أن تلك الأحداث غير الاعتيادية كانت نتيجة طبيعية و حتمية لتذاري مرحلة " الإضراب الفلسطيني الكبير ، لستة أشهر ، سنة 1936 " ، في حين كنت ما أزال في أول وعي الطفولة بأحداث الحياة العامة .. فها نحن نفتقر فجأة لرعاية والدنا العظيم على رأس أسرتنا المتحابة المتماسكة كقلب واحد ، رغم أنها تتألف من تسعة إخوة و أخوات من زوجتين اثنتين حتى ذلك التاريخ ، سيصبحون سبعة عشر أخاً و أختاً مع الزوجة الثالثة لأبي في زمن لاحق .. و أما الآن فقد أصبح والدي أحد المطلوبين الكثر لسلطات الاحتلال البريطاني بتهمة إيوائه أو إسناده لبعض الثوار المحليين في نطاق جبل الخليل، فلم يجد بداً من التسلل هارباً عبر شرقي الأردن إلى ريف دمشق ، ملتجأً هناك عند بعض أقاربنا في بلدة " الكسوة " ، وهي التي كان جدي قد غادرها نهائياً على زمن العثمانيين ، لكي يزرع أسرتنا مجدداً في جبل الخليل .. لكن والدي لم ينجُ بنفسه على هذه الشاكلة إلا بعد أن كان قد وفَّر لنا ملجأً آمناً ، و مَهْرَباً بعيداً نسبياً في أعماق برية جبل الخليل ، عند بعض أنسبائنا من آل الشعراوي في " خربة مريش" .. ولعل من الضروري الإشارة إلى أن مفردة "الخربة " هذه ، بالمصطلح البلداني الفلسطيني ، ربما كانت تشبه "العزبة" بالمصطلح البلداني المصري ، مع فارق ما بين الطبيعتين الجبلية الوعرة عندنا، و السهلة المنبسطة المسترخية على ضفاف النيل .. و على أية حال ، فإن عدد سكان الخربة الواحدة لم يكن ليزيد إلا نادراً عن عشر أسرٍ إلى ما هو أكثر من ذلك بقليل، و كانت كل أسرة تقريباً تتخذ لها مسكناً مؤقتاً ، أو حتى دائماً أحياناً ، إحدى المُغُرِ الجبلية الدافئة و الآمنة من غوائل الذئاب و الضباع ، إضافة إلى غرفة أو اثنتين من حجارة البرية الخام المرصوفة بعضاً إلى بعض بدون أية هندسة أو نظام، و بجمالية متوحشة بدائية تعيد الإنسان إلى ما يقرب من فطرته الأولى في قديم الزمان .. ولست أستطيع أن أتذكر الآن ما إذا كانت المدة التي قضيناها مع تلك البرية الجبلية بكامل عذريتها ، و تمام جمالها و جلالها ، تقارب ستة أشهر ، أو سبعة ، أو ربما ثمانية .. لكن ما أستطيع أن أتذكره على الدوام هو أنني في هذه الفترة شاركت بعض الرعاة ممن التجأنا إليهم في رعاية الأغنام ، فكنا " نسرح " مع القطيع قبل طلوع الشمس ، ولا نعود أدراجنا ثانية إلا عند مغيبها.. لقد صعدت في تلك السن سفوحاً ، وهبطت ودياناً ، مجلَّلة ببسط خرافية خضر من الأعشاب ، تزركشها في الوقت نفسه أنواع لا حصر لها من الزهور البرية بجميع ألوان الطيف ، من الليالك ، و السواسن ، وشقائق النعمان .. في تلك الفترة أيضاً أكلت من مائدة الطبيعة المفتوحة قرون " الجلثون " ، و أقماع الفطر الشهية ، و حبوب " السعيسعة " الطرية اللذيذة، وسواءً عطشت أم لم أعطش فكم من مرة أمسكت فيها بضرع النعجة ، أو العنـزة و حلبته في جوفي شراباً عذباً طهوراً إلى حد الري والشبع في آن .. كذلك شهدت في تلك الفترة ، و بأم عينيّ هاتين ، إغارة الذب على فلول القطيع المخلفة وراءه بعض الشيء ، و أبصرت على الطبيعة مباشرة ، لا من خلال أية شاشة صغيرة أو كبيرة ، حميَّة كلاب القطيع ، و دفاعها المستميت عنه، ومطاردتها للذئب إلى أن يختفي عن الأبصار ، لدرجة أصبحت أتمنى معها ( في وقت لاحق من الزمان ) ، لو أن حكامنا و زعمائنا العرب كانت لهم مثل حمية تلك الكلاب !!..
قصارى القول ، لعل هذه الفترة من الحياة البرية الجبلية ، في مطلع الطفولة ، كان لها الأثر الأهم في تأسيس علاقتي الحميمة مع الطبيعة الفلسطينية إلى مرتبة العشق والهيام، كما سيظهر ذلك جلياً في غير قليلٍ من أعمالي الشعرية في سن الإدراك ، وربما إلى سن الشيخوخة الحالي الذي أسرد فيه هذه الذكريات ..
ثم في ختام فترة اللجوء المؤقت هذه ، وجدتني ، في عداد جميع أفراد الأسرة ، نعود أدراجنا ثانية إلى بيتنا في دورا ، كما وجدت هذا الكائن البشري الصغير الذي لم يكن أحداً سواي ، يُعاد مرةً ثانية إلى كـتَّـاب " عبد فقوسة " في حارة "المسالمة" ..
بعد فترة أكاد لا أتذكرها ، و لكن ذلك لا بد أن يكون في بداية السنة الدراسية النظامية في خريف عام 1936 ، وجدت أخي الكبير "علي" ، يأخذني إلى مدرسة البلدة الابتدائية والوحيدة في ذلك الحين ، لكي يسجلني تلميذاً في صفها الأول بين أيدي معلميها الثلاثة أو ربما الأربعة ، وتحت رحمة مديرها "الأزرق الشريف" الذي كان ذائع الشهرة برصفه جَلاَّد جميع الطلاب الكسالى أو المشاغبين ، فكان ، يرحمه الله ، يُنـزل عقوباته العادية المخففة بعصا لَدِنَةٍ من شجر الرمان يهوي بها على باطن كفِّ التلميذ عدداً من المرات ، بينما في حالة العقوبة الاستثنائية المشددة كان على التلميذ أن يقلب راحته إلى الأسفل لكي يتلقى الضربات على ظهرها العظميّ، لا بعود الرمان هذه المرة ، بل بحافة المسطرة الخشبية الحادة التي كانت كل ضربة منها تشوك أن تخلع القلب ألماً وصراخاً و استرحاماً ، و لكنها في الوقت نفسه كانت تلك العقوبات الرادعة الزاجرة مرةً واحدة و إلى الأبد ، مما وضع جميع التلاميذ في حالة شِبه انضباط عسكري،اسبارطيٍّ، في ساعات الدرس و الجد.. بينما في ساعات اللهو و المرح استطاع مديرنا " الأزرق الشريف" إياه أن يوفر لنا ، حتى منذ ذلك العهد البدائي السحيق نسبياً ، جهاز عرضٍ سينمائياً خاصاً بالمدرسة ، و هو غير أجهزة العرض الزائرة ، العابرة ، التي كانت تتردد علينا في ساحة "النبي نوح " على مقربة من المدرسة،بنوبة شهرية ، أو نصف شهرية في بعض الأحيان، لكي تعرض علينا في العشيات الصيفية ، وفي الهواء الطلق ، و بالمجان بطبيعة الحال ، بعضاً من سموم الدعاية العسكرية البريطانية في أوار الحرب العالمية الثانية ضد الألمان و الطليان، مدسوسة بغير ذكاء في كثير من المواد الفلمية الدرامية ، و الغنائية ، لعبد الوهاب ، و فريد الأطرش ، و أم كلثوم ، وأسمهان ، و ألمع نجوم الشاشة الفضية في ذلك الزمان ..و أما عن جهاز عرضنا السينمائي الخاص بمدرستنا الابتدائية ( القروية ) ، فلقد كان أمراً مختلفاً تماماً ، و ربما غير قابل للتصديق بجميع مقاييس ذلك الزمان ، حيث كان يؤدي وظيفة "وسيلة الإيضاح " المدرسية و التربوية و التنويرية عامة ، بما يعرضه من مادة فلمية تطبيقية للطلبة الابتدائيين في مجال الزراعة و الحدادة ، والنجارة، و ما إلى ذلك .. و لعله كان يجدر بي أن أشير من البدء إلى أن مدرستنا الابتدائية ، القروية، تلك، لم تكن أمراً شائع المثال في أية قرية أو مدينة فلسطينية أخرى ، بل كانت أنموذجاً باذخاً نسبياً لما ينبغي أن تكون عليه المدرسة الابتدائية العربية ، في مقابل المدرسة الابتدائية ( اليهودية ) الأكثر تطوراً بوجه عام .. فمن هنا خطر لقائمقام الخليل عبد الله كردوس، المُعيَّن حديثاً آنذاك _(وهو عَلَمٌ فلسطيني ربما كان مقدسياً ؟ ) _ أن يؤسس في قريتنا ، و بإنفاق خالص من أهل القرية أنفسهم ، مدرسة ابتدائية يبزُّ بها حتى أفضل مدرسة ( يهودية ) طارئة على أرض فلسطين . وحقيقة الأمر أنه نجح نجاحاً مذهلاً في تحدِّيه ذاك ، ربما في أواخر عقد العشرينيات من القرن الفائت على ما أستطيع أن أتذكر الآن ..
ذات يوم ، و لا بد أن يكون قد انقضى ما يزيد عن عام من الزمان ، فوجئنا مع عودة أبي من "بلاد الشام " ، بطورٍ جديدٍ هانيءٍ ورائق من الحياة، سواءً على مستوانا العائلي الخاص بفضل ما تُوفِّره خيمة الأبوة من دفءٍ و رعاية وحنان لجميع أفراد الأسرة ،أو حتى على المتسوى العام خارج البيت فيما يتعلق بيُسر الحياة و حسن العلاقات ما بين الناس.. فما أعلمه حالياً علم اليقين هو أنني أصبحت في الصف الثاني الابتدائي ، بدلاً من الأول، بما يؤكد لي انقضاء ما يزيد عن سنة .. و لكنَّ ما سأعلمه لاحقاً ، بعد بضع سنوات ، هو أن السر في مثل هذا الانفراج العابر، على المستويين الخاص و العام ، كان مردُّه إلى إعلان " الكتاب الأبيض " عن الحكومة البريطانية ( سنة 1937 ) ، في مسعىً لئيم منها لاستمالة العرب إلى جانبها ، أثناء ما كانت نُذُرُ الحرب العالمية تحتشد بقوة.. في جميع الآفاق .. وهكذا فَمَن لم يكن سياسياً بطبعه ، أو من هواة الشأن السياسي بوجه عام ، فإن عليه ابتداءً من هذه الأيام أن يتعود على مقاربة هذا الشأن العويص و المثير معاً حتى لو كان ما يزال في سن الطفولة بعد ، لأنه لن يمر من الوقت إلا ما يقل عن سنتين اثنتين حتى تقع الواقعة العظمى ، و حتى تصبح أسماء إفرنجية غريبة من مثل هتلر ، وموسوليني ، و تشرتشل ، تجري على كل لسان كما لو كانوا من أولاد الجيران ..
بعد سنتين أيضاً سيكون عهد إقامتي الدائمة في بلدتنا الحبيبة " دورا" قد انتهى بحكم الضرورة ، لأن مدرستها النموذجية الآنفة الذكر لم تكن في الحقيقة إلا " نصف ابتدائية " تتوقف الدراسة فيها مع ختام الصف الرابع الابتدائي ، و عندئذ سيكون من الحتمي على كل راغب في مواصلة الدراسة أن يطلبها في مدرسة الخليل الثانوية على بعد ستة كيلومترات من " دورا " ولكنها ستة كيلومترات جبلية ، و إن تكن في الوقت نفسه مفعمة بجمال الطبيعة و جلالها ، لأنك ما إن تبتديء طريقك باتجاه المدينة الشمالي الشرقي حتى يكون عليك أولاً أن تضع " مزرعة السمقة " التابعة للمدرسة على شمالك ، مجتازاً " واد أبي القمرة " بكل نمائه الطافر الخضرة ، فمنعطفاً قليلاً على يسارك عند كَرْم " خَلَّة سِيرتا " ، فصاعداً بعد ذلك " عَقَبة كنار " بمشقة بالغة، ثم ها أنت تنحدر من خلفها لتسير ما يقرب من كيلومترين عبر طريق متلولبة كأفعون على حافة وادٍ شديد الانحدار كأخدود عميق ، إلى أن تبلغ " عين لُنقر " ، فتبلَّ ريقك من مائها العذب، أو قد تحاول نوعاً من السباحة الهزلية في بركتها الضحلة التي لا يرتفع الماء فيها حتى "صابونة" الركبة ، ثم تستأنف طريقك بشبه خط مستقيم باتجاه الشمال عبر مسافة هَيِّنة من عرائش الكرمة ، و حقول التين ، و الزيتون ، و السُمَّاق ، و البُطم ، والخرُّوب ، و عشرات الزروع الأخرى ، و قد أرخت جدائلها المثقلة بالثمار لنسائم لاصيف الرخية ، مرسلة إليها مباشرة من بحر يافا على خط الأفق الغربي البعيد.. وأخيراً، فها أنت ذا عند نقطة "الحاووز" تماماً، من حيث تقع عيناك أول ما تقعان ، على "وادي التفاح" الذي كان يشكل _( قبل نَيِّفٍ و ستين سنة ) _ إحدى ضواحي المدينة من جنوبها الغربي ..
لكنني الآن ، و لسنتين قادمتين _ سأواصل الدراسة في مدرسة القرية النموذجية ، و لقد أحسن بناتها اختيار موقعها الفريد في قمة رابية " النبي نوح " إلى جوار جامعه هناك ، من حيث تمتاز بإطلالتها البانورامية الفسيحة ( التي أسلفت الإشارة إليها ) ما يقرب من كامل الربع الجنوبي من الساحل الفلسطيني على خط الأفق البعيد ، و ما بينهما قرابة أربعين كيلومتراً من الطبيعة الفلسطينية الخلابة ، المنحدرة تدريجياً من سفوح الجبال إلى أن تتصل غرباً بالسهل الساحلي الفسيح ، أشبه ما تكون بقطعة من فردوس النعيم رسمتها أصابع الله على أرض فلسطين .. و يقيناً أنني لم أكن في أي يوم من أيام الدراسة تلك من فئة التلامذة الكسالى أو الخائبين ، و لكن أبي أعلمني ذات يوم ، و أنا في الصف الثالث الابتدائي أن معلم الحساب شكاني إليه بعدم التركيز والانتباه الشديد أثناء الدرس، و لم أكن لأعلم في تلك السن الطفولة الغضة ، أنني سأنتظر نيفاً وستين سنة من العمر قبل أن تحين لي الفرصة ، الآن، ( في هذه السطور التي تقع حالياً تحت أعين القراء ) ، لكي أدفع تلك الشكوى بأنني ، في الوقت الذي كانت فيه عيون التلامذة الآخرين تتسمَّر في أرقام اللوح الأسود، أو في دفاتر الحساب ، فلقد كانت عيناني تفضلان الشرود من زجاج النافذة الفسيحة عن يساري ، في مطالعة كتاب الطبيعة الفلسطينية المفتوح أمامي على دفتيه اعتباراً من أزاهير جنينة المدرسة نفسها بجميع ألوان الطيف ، حتى التقاء السماء بخط فيروز البحر المديد في نهاية الأفق البعيد ..
حتى ذلك الصف الثالث، كنا في جميع المدارس الفلسطينية نتعلم قراءة اللغة العربية وكتابتها ، و بعض مبادئها الأساسية التي تناسب أعمارنا و مداركنا ، من الجزء الثالث من كتاب أديبنا الفلسطيني الكبير " خليل السكاكيني " بعنوان "راس روس " ، و لقد كان هذا المربي الجليل حقاً مسيحياً أرثوذكسياً غيوراً على عروبته ، و علمنا لاحقاً ، في سنيِّ التمييز و الإدراك ، أنه قضى شطراً محسوساً من عمره يناضل باستماتة في سبيل استنقاذ الأرثوذكسية العربية الفلسطينية من هيمنة الكهنة الأجانب ، الإغريق، الذي كانوا ، وربما ما يزالون يحتكرون رئاستها ومراتبها الإكليركية العليا ، منذ "عصر الامتيازات" الذي خنعت فيه السلطنة العثمانية بمذلة مخجلة لإملاءات فرنسا "الكاثوليكية " ، و روسيا القيصرية " الأرثوذكسية " .. و كائناً ما كان الأمر فقد كان لهذه الكتب الثلاثة لخليل السكاكيني أعظم الفضل في تلقين أطفال فلسطين مبادئ العربية بصورة علمية ذكية ، و تحبيبها إليهم إلى حد الافتتان بها و الإخلاص لها على مدى الدرجات التالية من سُلَّمِ التربية و التعليم ، و لعلي لا أجانب الصواب إن اعتقدت أنها ربما كانت أفضل بكثير من كتب تعليم الأطفال في هذه الأيام ، برغم ما هي مكتظة به إلى حد التخمة من بهرج الألوان و تلك الرسوم الإيضاحية التي تغتال في الطفولة كل خيال !!..
في الصف الثالث الابتدائي أيضاً ، كان عندنا معلم حسن الصوت اسمه " محمد العزَّة " من بيت جبرين ، و كانت حصته من التدريس أن يعلمنا " تجويد" القرآن الكريم.. و إنها وحق الله لحصة عظيمة النفع ، تَعَلَّمنا من خلالها ، و منذ نعومة أظافرنا ، كيف ينبغي لنا أن نتكل لغتنا بلفظٍ جليٍّ مُبين ، و بأداءٍ سليم لمخارج الحروف ، وتناسب في الأبعاد الصوتية ما بين الحرف والحرف ، و الكلمة و الكلمة ، و ذلك عن طريق الاستماع و المحاكاة ، لا من خلال أية قوننة صارمة ، أو تعقيد جاف ، كما تفعل المناهج التدريسية بأطفالنا هذه الأيام ، فتؤسس حالة مزمنة من العداء و الكراهية ما بين الطفل و لغته الأم . .
هذا ، على أن " محفوظاتنا الشعرية " الوجيزة ، و البديعة ، و المنتقاة لنا بعناية تربوية فائقة ، كانت بدون ريب هي الأقرب إلى نفسي ، و الأحب إلى قلبي ، لدرجة تمنيتُ معها أحياناً لو أ، كل مواد الدراسة ، من ألفها إلى يائها ، كانت تقتصر على حفظ الشعر و إنشاده ، و انتهى الأمر .. لكن الحقيقة المرة لم تكن كذلك مع الأسف العميق ، خاصة عندما تبلغ المرحلة الثانوية بعد سنوات قليلة ، فتجد الخوارزمي كامناً لك داخل الفصلِ بمادة " الجبر " ، ثم لاحقاً لذلك بطلاسم " اللوغاريتمات " كما لو كانتْ " خرابيش " أحجبة ، لا تطرد الجن بقدر ما تجلبهم داخل رأسك .. فعند ذلك فقط ستتذكر مبلغ النعمة التي كنت تعيشها حتى مع امريء القيس ، بل و حتى مع الشنفرى و تأبط شراً ..
و أما خارج المدرسة ، أو تحديداً في بيتنا الذي يتوسط الجانب القبلي من القرية، ما بين "حارة العمايرة " و " حارة العرجان " ، فقد كان أبي يحتفظ في " العِلِّيةِ " الحجرية الخاصة به بخزانة خشبية متواضعة تضم رفوفها ، إلى جانب أوراقه الخاصة ، عدداً محدوداً من الكتب المختلفة ، و من بينها عدد من المصنفات الأدبية ، و مجاميع المختارات الشعرية ، من مثل " مجاني الأدب " للأب اللبناني " شيخو اليسوعي " في ستة مجلدات ، و " جواهر الأدب " لأديب لبناني لا أتذكر اسمه الآن ، ناهيك عن المعلقات السبع و ما إليها ، إضافة إلى كمٍّ وفير حقاً من الكتب أو المجلات الدورية التي كان يأتينا معظمها من نتاج المطبعة المصرية من مثل كتاب " إقرأ " الشهري ، أو مجلة " المختار " الشهرية هي الأخرى مترجمة ، بتمامها عن مجلة " Readers Digest " الإنجليزية .. زد على ذلك أشكالاً و ألواناً من مؤلفات عباس العقاد ، و إبراهيم المازني، و توفيق الحكيم ، و طه حسين ، و عشرات الكتاب المصريين الآخرين ، كنت نشتريها بأزهد الأثمان في تلك الأزمنة الطيبة الخيرة من مكتبة " كمال تفاحة " الواقعة مباشرة إلى يمين مدخل بيتنا الآخر في مدينة الخليل ، و قبالة مكتب عمل والدي في منتصف شارع " باب الزاوية"..
لم تكن هناك بطبيعة الحال " تلفزة " في تلك الأيام ، و لعل تلك هي المنحة الإلهية العظمى التي أنقذت طفولتنا و خيالاتنا من الوقوع في أسر هذا الجهاز الجهنمي إلى حد العبودية الطيِّعة البلهاء .. لقد كانت تحكى لنا الحكاية في طفولتنا ، أو نقوم لاحقاً بقراءتها في عهد الفتوة من مجلة أو كتاب ، فتقوم أخيلتنا الحرة النشطة ، بِرسم ملامح أشخاصها و بتمثيل حركاتهم و سكناتهم ، و تصوير كل ما يجري لهم من وقائع عادية أو مغامرات و أهوال ، و ما يدور على ألسنتهم من حوارات الحب و البغضاء والأفراح و الأحزان ، بكامل استقلا ملكاتنا الذهنية ، عن أية مؤثرات خارجية ، في مجال التخيل المبدع الخلاق .. لقد كنا ببساطة نحن الذين ننتج عوالمنا الداخلية الخاصة بنا ، لا عوالم الآخرين هو التي تنتج طفولتنا كيفما تشاء ..
نعم ، لقد كانت هنالك " الإذاعة " في طورها الطفولي الأول ، و لكن ، لأن التيار الكهربائي لم يكن قد وصل إلى مدينة الخليل نفسها في تلك الأيام ، فمن المستحيل بالتالي أن يكون قد وصل إلينا في قرية ، فلذلك كنت نُشغِّل الراديو البريطاني الصنع المتوفر لدينا من طراز "PYE " بواسطة بطارية سيارة نشحنها في المدينة ، و نقتصد إلى أبعد الحدود في استهلاك مدة صلاحيتها قبل أن نبعث بها إلى المدينة لكي تشحن مرة أخرى .. و أما عن " الفونوغراف" الذي اشتراه والدي لأخي الأكبر " علي " ، لنجاحه الطيب في شهادة الصف " الثاني الثانوي " بمدرسة " عين السلطان " في الخليل ، فلم يكن بحاجة إلى تيار كهربائي نظامي ، بل إلى مجرد تعبئته يدوياً بإدارة ذراعه الجانبية ربما عشر مرات أو أكثر ، فإذا ما أحسست أن صوت محمد عبد الوهاب، أو أم كلثوم، أو غيرهما ، قد بدأ يخبو تدريجياً ، فما عليك سوى أن تسعفه ببضع تدويرات أخرى إلى أن يسترد عافيته ، و حقيقة الأمر أنني ربما كنت أكثر استعمالاً لهذا الجهاز الجهنمي العجيب من أخي الأكبر نفسه و سائر أفراد الأسرة ، لأنه كان يعني لي " لعبة " مسلية تماماً ، بالإضافة إلى وظيفته الأساسية في فن التطريب..
و على أية حال ، فإن كامل الوقت الذي كان باستطاعة هذين الجهازين العفريتين _(الراديو ، و الفونوغراف ) _ أ، يختلساه من إنسانٍ قروي ، في عهد الطفولة أو الفتوة ، لم يكن بذلك الزمن المحسوس الذي يؤبه له ، في حين يبقى لديك قدر هائل من " وقت الفراغ" الذي تحار كيف تقضيه .. فَهَبْ ، مثلاً ، أنك الآن قد ذاكرت دروسك جيداً ، و أنجزت وظائفك المنزلة على أفضل وجه مستطاع .. ثم هَبْ أيضاً أنك قد لعبت " البنانير " مع أترابك ، أو خرجت لِتَوِّكَ غالباً أو مغلوباً من إحدى مباريات الزقاق " بالطجة " _ ( بما يعني كرة القدم بكتلة مخزومة جيداً من الخرق البالية) .. أو قل أخيراً إنك قد شبعت من لعبة " الخِلال " _ ( التي ستقرأ في أزمنة بعيدة لاحقة أنها كانت اللعبة المفضلة لنَبيِّكَ الأعظم محمد صلى الله عليه و سلم وإني لأعجب لاتحاداتنا الرياضية العربية و الإسلامية لماذا لا تحيي هذه اللعبة الرياضية الممتعة إن كانت على علم بها ، فأنا شخصياً لم أعلم بأن الرسول كان يلعبها في فُتوَّته إلا عرضاً من خلال قراءة عابرة ) .. بل هَبْ فوق ذلك كله أنك قد " نكشت " التربة جيداً حول جذوع الأشجار في " حاكورة " الدار ، أو ذهبت بِسَلَّة فارغة إلى كَرْمِكم في قعر " وادي نزار " وَ عُدتَ بها ملأى بعناقيد " العنب الخليلي " ، و التين ، و الزيتون ، وما إلى ذلك من غلال طيبة مباركة يفيض بها صدر فلسطين .. ثم .. ماذا بعد ؟!.. إن تلك، بالنسبة لي ، كانت هي المسألة !!..
لذلك سرعان ما أوجدت حلاً لمسألتي الخاصة هذه عن طريق تلك الخزانة الخشبية التي قد لا يزيد ما فيها من الكتب عن عشرين عنواناً ، و لكنها التي تضم ما بين أغلفتها ألوف الأخبار و الأشعار لمئات الناس من مختلف العصور .. و بدون أن أنتظر بضع سنوات أخرى لكي آخذ علماً بنصيحة أبي الطيب المتنبي بأن خير جليس في الزمان هو " الكتاب " فقد اهتديت بنفسي ، ومنذ عهد الطفولة الباكرة ، إلى هذا الجليس الرائع و الصديق الوفي المؤنس و المزمن في آن .. و لربما كان من طبيعة الأمور بالنسبة لتلميذ صغير يقترب حالياً من الصف الرابع الابتدائي، أو لعله قد أصبح فيه ، أن ينفر بقوةٍ من مصادقة هذا " الجليس " الذي يبدو ثقيلاً من فرط ما يختزن في إهابه من حكمة و وقار ، أو فنونٍ و أشعار ، هي بكل المقاييس ليست من شأن الصغار!!.. وبرغم ذلك أعترف بأنني أنا الذي كنت أسعى إلى مجالسته ، و أخطب وده ، و أنهل من ينبوعه العذب تلك الحَسَوات الصغيرة الرائقة ، لأنه لم يكن في الوسع أن اجترعها دِهاقاً في تلك الأيام .. و لقد كانت مجلدات " مجاني الآداب " الستة ، في إصدارها الأصلي الكامل عن المطبعة الكاثوليكية في لبنان ، تبدو لي شبه قارَّةٍ عظمى مترامية الأطراف ، تمتد من بدايات "الجاهلية السحيقة " إلى نهايات عصور التردِّي و الانحسار ، كيلا أقول " عصر الانحطاط" ، وتشمل على ذلك الكم الهائل شبه الموسوعي من عجائب الأخبار ، و فرائد الأشعار ، و هنا عند هذه الأخيرة ، يقع بيت القصيد ..
في تلك السن تعرفت لأول مرة ، و من خارج المدرسة ، على شيء من الشعر قائمٍ بذاته، بمنزلة رفيعة ، يُعرف " بالمعلقات السبع " ، و في كتب أخرى " بالمعلقات العشر " .. و لقد طال لي إلى حدٍ بعيد أن أتعامل مع أسطر هذه المعلقات المتناظرة في أطوالها ، و كلماتها المشكولة بتمامها تقريباً ، و هوامشها المستفيضة في شرح مفرداتها ومعانيها ، بنوعٍ من القراءة شبيهٍ بالدخول في مغامرةٍ لِفَكِّ رموز رسالة مُشَفَّرة ، فلئن لم أظفر بأية حصيلة تزيد عن العشرة في المئة من مؤدى المعلقة العام ، و نادراً ما كان يتحقق لي ذلك ، فقد كان في متعة المغامرة ، في حد ذاتها، ما يُعوِّض عن نتيجتها القاصرة .. على أن ثمة شيئاً آخر ، أهم بكثير من " متعة المغامرة " هذه ، قد وقع لي من جَرَّاء القراءات المتعاقبة لتلك المعلقات و غيرها من مختلف القصائد ، لمختلف الشعراء.. فبما أنك الآن ما تزال صبياً دون سن العاشرة ، و معنى ذلك أن حبال حنجرتك الصوتية ما تزال في أوج عنفوانها على طبقة " الجواب " الحادة و المرتفعة ..و بما أنك على معرفة طيبة بتجويد الكلمات و إعطاء كل حرف فيها كامل حقه من النطق السليم.. و بما أن الكتب التي بين يديك تعطيك جميع القصائد التي في بطونها كاملة التشكيل حرفاً ، حرفاً على وجه التقريب .. فما الذي يمنعك ، و الحالة هذه ، من أن تقرأ هذه القصائد بأعلى طبقة صوتية تستطيعها ، بكلٍ من ضبط مخارج الحروف ، والالتزام شبه الحنبلي بسلامة التشكيل ؟!.. فلئن لم تتسع صدور أهلك ، ولا باحة البيت ، لكل تلك الجَلَبة ، فأمامك الحاكورة المجاورة للدار اصرخ فيها كما تشاء .. أو إذا كنت ذاهباً في إحدى غدواتك إلى "وادي نزار " ، فاصطحب كتابك معك ، واصعد أعلى ما تستطيعه من فروع شجرة " الخروب " المطلة من علٍ على قعر الوادي السحيق ، و أطلق العنان لحنجرتك من هناك كما لو كنت في أمسية شعرية استثنائية تلقيها في هواء الجبل الطلق على جمهورٍ أسطوري من الأشجار ، و الثمار ، و دوالي السفوح..
تلك ، في الحقيقة ، كانت إحدى تسلياتي المفضلة في عهد الطفولة ومُقتبل الفُتوَّة ، ولست أزعم الآن أنها كانت ، في حينها ، أكثر من "لعب عيال " بالتعبير المصري الشهير .. ولكن " لعب العيال " هذا سرعان ما سيكشف لي في زمن لاحق قريب عن أنه لم يكن مجرد عبث عابر غير ذي بال ، لأنه قد ترتبت عليه في حافظة اللاوعي عندي نتائج بالغة الأهمية في إرساء حجر الأساس المكين الذي سأقيم من فوقه مشروعي الشعري الذي يخصني ، شخصياً ، بحقِّ معنى الكلمة .. فأولاً ، تحقق لي من جرَّاء هذه " اللعبة " عشق طفوليٌّ للعربية ، مخلصٌ لها ، ملتصق بصدرها ، مستعذب لمفرداتها و سائر جمالاتها كما لو كانت قطرات من حليب الأم ، فأصبحت أتعامل معها ، و هي تستجيب لي بالمقابل ، بقدرٍ كبير من العفوية ، و الاستغناء بالسليقة و الفطرة عن كثيرٍ جداً من حنائط القواعد و الإعراب ، و القوانين شبه العرفية للنحو و الصرف .. وثانياً، ولا ريب أن هذا هو الأهم ، توفَّر لي من خلال تلك القراءات " السليمة " ، بصوت " مرتفع"، قدرٌ لا بأس به من استكناه السر في الموسيقى "الخارجية" للشعر ، وهي التي سأتعلم لاحقاً ، في المرحلة الثانوية ، أنها تقع في علمٍ قائم بذاته يعرف "بالعَرُوض" ، كما سأكتشف بنفسي في مراحل تالية أنها تختلف اختلافاً نوعياً بَـيِّـناً عن موسيقى الشعر " الداخلية " من تصوير ، و ترميز، وتخييل ، و إكساء للفكرة الشعرية ذاتها بِحُلَّةٍ لغوية متناسبة متناسقة .. و أما حالياً ، و في أواخر العقد الأول من رحلة العمر هذه ، فلعل أهم ما قد توصلت إليه ، بحاسة السمع ، هو أن "النغم العام"في هذه القصائد ليس واحداً، بل من الممكن جداً أن يختلف اختلافاً بيناً ما بين قصيدة وأخرى، أو جملة قصائد من هنا، وجملة قصائد من هناك، كما أحسستُ أيضاً بأنني في حالة ما إذا وقعت في أيما خطأ في قراءة هذا البيت أو ذاك، بمستوى جيدٍ من الإلقاء إلى مرتبة الإنشاد، فسرعان ما يظهر لي أن خللاً محسوساً قد وقع في سياق ذلك "النغم العام"، فأسعى إلى معاودة القراءة أكثر من مرة إلى أن أشعر بأن البيد الذي بين يدي قد عاد إلى سياقه النغمي الصحيح، وهو السياق الذي أعجبني ، بقدر ما أطربني فيه ، أنه يختلف اختلافاً شديداً في معلقة امرئ القيس، عما هو في معلقة عمرو بن كلثوم، وفي هاتين المعلقتين عما هو في معلقة الحارث اليشكري، ثم في هذه المعلقات الثلاث بأجمعها عما هو في معلقة عنترة العبسي.. فياله من عالم شعري غنيٍّ بتعدد ألوانه النغمية ، و لا وجه للمقارنة ما بينه و بين شعر "الربابة" الشعبي الذي غالباً ما يجري على وتيرة واحدة، رتيبة، تدعو إلى الملالة و السأم كلما طالت السهرة في "الجامع" الذي هو الديوان !!..
ها أنذا الآن قد أتممتُ العاشرة من العمر، ودلفتُ إلى سن الحادية عشرة، و معنى ذلك، عملياً، أنني قد أتممت دراستي حتى ختام "الصف الرابع"، و النهائي، في مدرسة القرية الابتدائية، وأصبح لزاماً عليَّ أن أنتقل من منزلنا في "دورا" إلى منزلنا في الخليل، لأستأنف فيها دراستي في ابتدائية "عين خير الدين" ، في حين كان العالم من حولنا قد دلف بدوره في السنة الثالثة من الحرب الكونية الثانية .. وحياة المدينة اليوم، هي غير حياة القرية البارحة.. ففي هذه الأخيرة كنا نعيش في شبه عزلة عن العالم، لا نتصل به إلا لماماً من خلال جهاز "الراديو" الطارئ على حياتنا منذ سنوات قليلة، أولاً بافتتاح إذاعتنا الفلسطينية في القدس، ثم بافتتاح إذاعة القاهرة ربما في السنة التالية، فسائر إذاعات العواصم العربية الأخرى في سنوات لاحقة .. وأما في المدينة، فها نحن أكثر حضوراً في حالة الحرب، وأخبارها، ومظاهرها المادية و الدعائية المختلفة، فإذا مررتَ بشارع المدينة الرئيسي، "باب الزاوية"، الذي نقيم فيه، فإنك سترى جميع الجدران مَكسُوَّةً تماماً بمئات الملصقات المتعددة الألوان والأشكال بما مؤداه أن "انتصار الحلفاء، على المحور، أمرٌ محقق" ، و سوف تطالعك صورة "ونستون تشرتشل" عند كل منعطف، و على مدخل كل زقاق، و هو يرسم إليك إشارة النصر بإصبعيه، أثناء ما يتدلى "السيجار" من شفتيه المنفرجتين بابتسامة هادئة واثقة، في حين سترى كُلاً من هتلر، وموسوليني، في هيئة كاريكاتورية مزرية ويائسة.. ولسوف تنهال عليك عشرات المطبوعات أو النشرات الدعائية بالمجان .. و راديو "صادق العشي"، إلى جوارك القريب ، مفتوح على استطاعته القصوى بجميع نشرات الأخبار، ومختلف أغاني الأفلام المصرية الطازجة، كأنما ليقوم بدعايته الخاصة هو الآخر منادياً على جميع من في الشارع من سابلة لكي يتذوقوا مآكله الشعبية الرخيصة والطيبة .. ثم ها هو "حسني"، بائع الصحف الأعرج، وقد انبرى منذ صياح الديك ، يصيح بدوره على بضاعته الحافلة من الصحف التي كانت في أغلبها الأعمِّ ، إما محلية فلسطينية، أو مغرقة للسوق تماماً من نتاج المطبعة المصرية دون غيرها من سائر المطابع العربية الأخرى، وكان من بينها ما هو أسبوعي ثقافي رفيع المستوى، كمجلة "الرسالة" لأحمد حسن الزيات، و"الثقافة" لأحمد أمين ، أو ما هو أسبوعي عادي كمجلة "المصور" و جريدة " أخبار اليوم " ، أو ما يقع في فئة الصحافة الإثارية الصفراء كمجلة "الاثنين" .. زد على ذلك عدداً من المجلات و الكتيبات الدورية الأخرى ، من مثل مجلة "الهلال" أو كتيب "إقرأ" الشهري الواسع الانتشار لذلك الحد الذي ستتعجب معه إن كانت هذه المطبوعات و أمثالها أكثر توزيعاً في مصر مما كانت عليه في جميع أنحاء فلسطين .. و أما محلياً ، على مستوى المطبعة الفلسطينية، فلقد كان التنافس على أشده ما بين جريدة " الدفاع " ، و جريدة " فلسطين " ، و كان والدي_ (ونحن في معييته بطبيعة الحال ) _ أكثر ثقة بالأولى ، من الثانية ، و من على صفحاتها المحدودة كنا نطالع أخبار الحرب ، و ما جرى و ما سيجري من المعارك الطاحنة على مختلف ساحات أوروبا ، و مؤخراً على ساحة الشرق الآسيوي الأقصى ، و أخيراً و ليس آخراً في عُقر دارنا العربية فوق رمال " العلمين " .. و هنا تحديداً ، عند هذه المعركة الحاسمة على مقربة من أبواب القاهرة ، و على التخوم الجنوبية الغربية من إقليمنا الفلسطيني ، الأصغر حجماً ، والأخطر دوراً ، بما يشبه قطعة القلب من جسد الوطن العربي الكبير ، فلقد تحولت فلسطين بأكملها إلى ما يشبه " غرفة عمليات عسكرية " لقوات الحلفاء من مختلف جنسيات الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس ، فكنت ترى إضافة إلى العساكر البريطانيين أنفسهم ، ألوفاً أخرى من العساكر الهنود و الأستراليين ، و الأفارقة ، و حتى العرب الذين التزم جميع قادتهم بموالاة الحلفاء من قعر سلم التبعية العمياء ، إما برغمهم ، و إما بزعمهم أن " بريطانيا العظمى " آنذاك، تحتفظ لهم بجوائز سياسية مرضية فور تحقيق النصر على " المحور" ، اللهم باستثناء قائدنا الفلسطيني التاريخي ، محمد أمين الحسيني ، الذي ظل طيلة سِنِيِّ الحرب لاجئاً سياسياً في كَنَف أدولف هتلر ، ليس إعجاباً بعنصريته الجرمانية الطاغية ، و إنما لأن هزيمة بريطانيا ، في أية حرب ، مع أي عدو ، بدت له نافذة الأمل الوحيدة لإبطال " وعد بلفور " و ما يستتبعه من اغتصاب فلسطين ، وتأسيس " جريمة إسرائيل " .. إلا أن رياح الحرب العالمية الثانية جرت بما لا تشتيه سفينة "الحاج أمين " !!..
في هذه الأجواء المحتشدة بأجواء الحرب ، كانت مدرستنا الابتدائية في حي "خير الدين" بالخليل لا يفصلها إلا جدار حجري واطئ عن معسكر للجنود البريطانيين يجاورها من جهة الشمال ، و لك أن تتصور مبلغ الطرافة و السخرية معاً في مشهد هذا الجمع من التلامذة الابتدائيين و هم يؤدون تمارين الصباح الرياضية في باحة المدرسة الفسيحة ، و على مرمى الحجر منهم ذلك الجمع الآخر من الجنود الأجانب الكريهين حقاً ، وهم يقومون بتدريباتهم العسكرية في غير قليل من جَلَبةِ الإيعازات و ضوضاء حركة السيارات .. و أمام باحة المدرسة مباشرة ، من جهة الشرق ، يمتد طريق الإسفلت الرئيسي الآتي من القدس شمالاً ، ليتعرج قليلاً داخل المدينة، ثم لينطلق جنوباً باتجاه بلدة "بئر السبع " ، و ثمة مئات الآليات العسكرية التي تمر من أمامنا يومياً، تقريباً ، ما بين ذاهبةٍ الجبهة المصرية ، أو آيبة منها ، و ما أكثر ما كنت ننصرف عن " معلم الحساب " بوجه خاص ، لكي نسترق النظر إلى مثل ذلك العرض العسكري على الطريق العام، من بين قضبان الحديد على شبابيك الصفوف، ذلك بأن بناء المدرسة في أصله كان " قشلاقاً" للعساكر الأتراك قبل اندحارهم شبه المجاني أمام هؤلاء الصليبيين الجدد ، من بريطانيين وفرنسيين، و قل إيطاليين أيضاً ، لأن هؤلاء مع الألمان هم المعسكر المقابل لجيوش الحلفاء على اتساع رقعة ليبيا ، و حتى مشارف القاهرة الغربية في العلمين ..
في الصف الخامس الابتدائي هذا ، بدا لمدير المدرسة الأستاذ " عيد الخطيب " ، و بعض معلميها الشبان كالأستاذ " مخلص عمرو " _ ( الذي سيكون له لاحقاً شأن سياسي كبير الأهمية في إطار المعارضة الشيوعية ، خاصة على عهد الحكم الملكي الأردني " للضفة الغربية " ) _ أنني أتمتع بمزايا استثنائية عالية في حصة " اللغة العربية " و أنني أقوم بإلقاء " المحفوظات الشعرية " المقررة علينا بطريقة باهرة مثيرة لإعجابهم ، و ربما كان مَرَدُّ ذلك إلى عشرات القصائد التي كنت قد اكتسبت دُربة مبكرة بإنشادها من بين فروع الأشجار على سفوح " دورا"، فكانت أصداؤها البعيدة تتجاوب في الوديان، مختلطة بمواويل الحرَّاثين، أو الحصَّادين، أو بمزامير الرعاة المنسرحة مع الهواء الطلق في المدى البعيد..
كنت أيضاً ، و ما أزال ، شديد الإعجاب بما قد تفَرَّد به والدي العظيم من "خَطٍّ يدوي" أكاد أقسم الآن ، في الثانية و السبعين من عمري ، أنني لم أجد في حياتي خطاً يدوياً عفوياً أجمل منه، فهو سواءً كتب لي قائمة بحاجات البيت التي سأشتريها من السوق على ورقة صغيرة، أو راح يكتب مذكرة إدعاءٍ ، أو دفاعٍ ، سيتقدم بها إلى محكمة المدينة بوصفه "وكيل محامٍ" بمجرد مجهوده الشخصي، ففي كل الأحوال كان يرسل " سِنَّ ريشته " بطلاقة ، و بمستوى من " خط الرقعة " نادر المثال .. و على العكس تماماً من أخي "محمد" الذي يكبرني بما يزيد عن عشر سنوات ، و الذي كان خطُّه اليدوي، و أخطائه الإملائية الصارخة ، مثاراً ، لفكاهات جميع أفراد الأسرة، و قضى بضع سنوات في المدرسة قبل أن يتخرج نهائياً من الصف الثاني الابتدائي (!!) فلقد سعيت جاهداً للسير على خطى والدي ، ليس في مجال خطِّه اليدوي وحسب ، بل و في مجمل نشأته العصامية التي ظلت ردحاً من الزمان مضرب المثل في كل جبل الخليل..
على أن مسألة "الخط اليدوي" هذه تذكرني بواقعة لا أدري إن كانت طريفة أو سخيفة، و لكنني أسوقها إليكم على أية حال.. فلقد حدث في مقتبل فصل الربيع من تلك السنة أن أوعز مدير المدرسة بدهان بعض مرفقاتها ، باللون الأبيض، بما في ذلك الجدار الخارجي لمرفق الحمامات، حتى لقد بدا لي الجدار كقطعة خيش هائلةٍ ، وناصعة البياض تحت أشعة شمس الربيع النقية الهادئة، و لا ينقصها إلا رسامٌ عظيم من مستوى بيكاسو، لكي يرسم عليها لوحة فسيحة من مستوى "الغارنيكا" ، و يا له من إغراء شديد قد تملكني في ذلك الحين لأن أترك أثراً فنياً مرموقاً على ذلك الجدار، و لكنني مع الأسف العميق لا أجيد الرسم حتى على مستوى قطةٍ أو غنمةٍ، أو مجرد جحشٍ صغير مما يركبه صغار الشعراء عادةً على "وزن الرجز" ، و إنما كان التخطيط، بالحرف العربي تحديداً هوايتي المفضلة الثانية بعد إنشاد الأشعار بصوت عال..
نعم .. كنا قد بدأنا نتعلم اللغة الإنكليزية منذ بداية السنة الماضية في مدرسة دورا، بما في ذلك تخطيط "حرفها اللاتيني" الذي تكتب به، بشروط شبه معجزة من الدقة و العناية الفائقة .. و لكنني أقسم الآن ، و في كل آن ، أنني لم أجد في جميع أشكال الكتابة على مستوى الكون ما يمكن أن يرقى إلى مستوى "خَطِّنا العربي" من دقة، وجمال ، و منطق ، و موسيقى داخلية حقيقية تترقرق في حروفه ، و برغم ذلك فإن عسكرياً مغولياً فظَّاً، هو كمال أتاتورك ، لم يجد وسيلة يلتحق من خلالها بقشرة المدنية الأوروبية ، الواقعة بدورها على سطح حضارة الإنسان سوى أن يعتمر "البرنيطة" بدلاً من "الطربوش" ، و أن يكتب بالحرف "اللاتيني" بدلاً من العربي ، فوقع له، نتيجة ذلك، مثل ما وقع للغراب في تقليده الأعمى.
و إذن ، فإن خير ما يمكن أن "أَطلُس" به مساحة هذا الجدار، هو التخطيط عليه ( بالبنط العريض ) ببضع كلمات أخترعها، و يراها جميع التلاميذ ، و الأساتيذ ، من أبعد مكان في ملعب المدرسة..
يف أيامنا الأخيرة المتطورة هذه، تستطيع أن تشتري علبة " دهانٍ بخاخ" باللون الذي ترغب، والقياس الذي تريد، فتكتب ما تشاء على أي جدار حتى لو كان بطول عشرة أمتار .. ولكن مثل هذه الإمكانية السهلة المنال لم تكن متوفرة لنا في تلك الأيام حتى في الخيال، و مع ذلك، و بما أن الحاجة أم الاختراع ، فلقد كنا نلجأ إلى أمنا " الطبيعة" التي لا تبخل علينا بأي عطاء، فيقوم الطفل أو التلميذ منا باحتشاش حزمة مناسبة من أعشاب الربيع الطرية و المفعمة "باليخضور"، ثم يثنيها مرةً ، أو اثنتين، بحيث يتشكل لها رأس مضغوط على نفسه بقوة كافية، وبتمرير هذا الرأس بقوة ضاغطة أيضاً على أي جدار، فإن باستطاعتك أن تكتب ، أو ترسم، ما تمليه عليك قريحة الطفولة العابثة، و يالها من نتيجة مذهلة بارتسام أخضر الطبيعة المشع على أبيض الجدار الناصع، كما لو كان مشتقاً من طيلسان دراويش الفيتورية في السودان !!..
و هكذا ، و بحزمة العشب تلك في أيدي، و بما يشبه _ من بعيد ، لا من قريب _ خط "الثلث" الذي كان الأكثر انتشاراً على لافتات الحوانيت في المدينة ، كتبت في السطر الأعلى فوق الجدار الناصع البياض : " هنا مدرسة عين خير الدين الابتدائية " ، ربما متأثراً في هذه الصيغة الإعلانية بأولئك المذيعين " الروَّاد" الذي كانوا ينادون المستمعين على بضاعتهم الدعائية لمصلحة "الحلفاء" بعبارتهم التقليدية ، و في غير قليلٍ من التنغيم و التفخيم : "هنا دار الإذاعة الفلسطينية في القدس " .. ثم ، في سطرين متعادلين ، و بالبنط العريض، و المديد ، وجدتني أكتب بعبثٍ صبياني يغر محسوب العواقب.. " بيت ماء .. على خطِّ الاستواء " .. و لم أكن لأعلم مسبقاً أن متعة " التخطيط " العابرة هذه سوف يترتب عليها تغريم والدي " بستة و ثلاثين قرشاً فلسطينياً" عداً و نقداً، لإعادة طلاء الجدار ، دون أن يأبه أحدٌ من أعضاء الهيئة التدريسية بما قد بذلك من جهد فنيٍّ في تنميق هذه " الجدارية " التي ربما بدت لي في تلك السن كما لو كانت " جدارية الغارنيكا" في عين بابلو بيكاسو!!..
لكن أعضاء تلك الهيئة التدريسية ، للأمانة مع الحقيقة ، أخذوا يُشعرونني بين الحين والآخر بنوع من الاختلاف إلى حد الامتياز عن سائر التلاميذ الآخرين ، خاصة في حصة اللغة العربية ، و أكثر من ذلك في إلقاء ما يقترن بها من " محفوظات شعرية " ، إلى الحد الذي كانوا يستقرئونني فيه بعضاً من تلك " المحفوظات" خارج حصة الدرس ، فيما يتبادلون بينهم من النظرات و" الوشوشات " ما يَـنُمُّ عن إعجابٍ غير اعتيادي بطريقتي يف الإلقاء ، و كان من بينهم ذلك الأستاذ النابه المرموق، مخلص عمرو ، الذي سيصبح في زمن لاحق قريب من أبرز أعلام فلسطين ، و هو الذي إن يكن في معتقده السياسي " شيوعياً حتى النخاع " فلقد كان محباً للعربية و تراثها الحضاري الحافل، و مسهماً برأس قلمه الحاذق بالعديد من الكتابات و المعالجات السياسية في غير قليل من صحف فلسطين و دورياتها المحلية، و إنما اعتنق الفكر الماركسي ، على ركاكته و تفاهته ، لأنه كان الأكثر اجتذاباً في ذلك الزمان لألباب الطامحين من الشباب، من حيث يَعِدُهم و يُمنِّيهم باستنزال جنات النعيم من غيوب السماوات إلى واقع الأرض، لكي يعيش البشر جميعاً كإخوة متحابين ، مسالمين ، مفعمين بالسعادة ، في أفياء " جمهورية أممية " وارفة الظلال ، تماماً كحكاية أطفال !!.. زد على ذلك أن الانتماء الشيوعي يف تلك الحقبة كان أمراً علنياً ، و ربما مرغوباً فيه أيضاً من جانب الانتداب البريطاني الجاثم على صدر فلسطين و كامل رقعة المشرق العربي ، ما دام رب المادية الشيوعية ، ( الاتحاد السوفياتي ) ، في حالة تحالف مكين مع أرباب المادية الرأسمالية الغربيين ، في حربهم الحاسمة ضد أرباب الاشتراكية القومية العنصرية في كلٍ من برلين و روما .. و لكن ذلك كله لن يجدي الشيوعيين العرب فتيلاً بعد أن تضع الحرب أوزارها بهزيمة دول المحور ، و سيجدون أنفسهم و قد انتقلوا بسرعة قياسية من " نضال ما فوق المنابر " ، إلى " نضال ما تحت الأرض " ، إنتهاءً بتعذيبهم أو حتى بتصفيتهم الجسدية في معتقلات العرش الهاشمي على حدود الصحراء !!.. و على أية حال ، أشهد الآن ، أنه كانت لشخصية الأستاذ مخلص عمرو ألمعيةٌ خاصةٌ، جاذبة و مؤثرة، تمنيت معها ، ( حتى منذ يفاعة الصف الخامس الابتدائي ) ، أن أخرق مرحلة الطفولة و الفتوة معاً ، باستعجال أن أصبح رَجُلاً له كامل وزنه و اعتباره فيما يخوض فيه الكبار من قضايا الحياة و الناس و سائر مفردات الشأن العام..
حقيقة الأمر أن العمر لم يكن ممكناً أبداً أن يتقدم بي كل هذه السنوات العديدة في طفرة واحدة ، فذلك هو رابع المستحيلات .. لكن إحدى الضرورات العائلية المُلِحَّة ، من جهة أخرى، سرعان ما فرضت عليَّ فرضاً أن أظل سابقاً لعمري بسنتين اثنتين في كل ما يتعلق بالمواد الأدبية من مناهجنا الدراسية ، كالعربية ، و الإنكليزية ، و التاريخ ، و حتى الجغرافيا بنسبة أدنى .. ذلك بأن حكومة الانتداب كانت قد أنشأت في مدينة الخليل مدرسة خاصة بجميع عميان فلسطين ، عُرِفت باسم " المدرسة العلائية للمكفوفين" تيمناً بعبقرية أبي العلاء المعري ، و كان أخي "موسى" الذي يكبرني مباشرة ( بين الأخوة الذكور ) بقرابة خمس سنوات ، واحداً من تلاميذ هذه المدرسة في الصف السابع الابتدائي منها ، حيث كان فاقداً نعمة البصر منذ سن الرابعة ، و ها أنذا الآن المرشح الوحيد بين جميع أفراد الأسرة لأن أكون عينه المبصرة في كل ما يتعلق بدراسته ، لأن أخي "عيسى" الذي يصغرني مباشرة بسنتين لم يكن يؤهله صفه الثالث الابتدائي لأن يتحمل مثل هذه المسؤولية .. و معنى أن أكون " العين المبصرة " لأخي الكفيف موسى ، لم يكن ليقتصر على مجرد تلاوة دروسه على سمعه ، بأداء لغوي و صوتي سليم لا تشوبه شائبة ، بل كان يتعدى ذلك إلى واجب إملاء تلك الدروس عليه بما هو أبطأ كثيراً من سرعة السلحفاة ، خاصة في مرحلة كتابة خَطِّ " بريل " بأسلوب المسطرة الحديدة المزدوجة ، ففي هذه الحالة كان يتوجب على الكفيف أن يضغط بمخرزه الحديدي سِتَّ مرات مجتمعة في حيز واحد من ثقوب المسطرة ، لمجرد أن يكتب حرف "الواو" على سبيل المثال .. و لكن ، و ربما بعد سنة أو اثنتين ، جيء لجميع تلاميذ "العلائية" بآلات كاتبة سُداسية الأصابع ، يستطيعون بواسطتها أن يدونوا الحرف الواحد ، بمجهود واحد ، فتظهر نقاطه المدببة على خلفية الورق المقوى الخاص بهم دفعة واحدة ..
قصارى القول، كانت عملية الإملاء تلك تجمع ما بين المشقة الشديدة إلى حد الإرهاق.. و الفائدة القصوى غير المحسوسة في حينها .. فهي ، من جهة أولى ، نازفة للوقت ، و باعثة على السأم ، لأن ما يمكنك إملاءه على مبصرٍ في مدة دقيقة واحدة مثلاً كان يتطلب منك ما لا يقل عن عشر دقائق لإملائه على كفيف .. و لكنك في الوقت نفسه ما إن تترفع إلى الصف السابع الابتدائي ، فالأول الثانوي ، فالذي يليه و يليه ، فسوف تمتلئ نفسك غبطة و حبوراً و ربما امتيازاً على سائر الطلبة الآخرين ، لأنك ستكتشف ببساطة تامة ، أن كامل منهاج " اللغة العربية" مثلاً، (وهو المشترك آنذاك ما بين المبصرين و المكفوفين)، قد سبق لك أن قرأته بدقة وأناة بالغتين، عندما أمليته قبل سنتين على أخيك ، ومن قد ينضمون إليه من أقرانه العميان الذي كثيراً ما كانوا يهتبلون فرصة ثمينة كهذه، فيتحلقون من حولك تحت شجرة التوت الوارفة في باحة مدرستهم في "حارة الشيخ" ، و ينطلقون يطقطقون بمخارزهم الحديدية ، أو آلاتهم الكاتبة الحديثة ، كما لو كانوا أعضاء فرقة موسيقية عجائبية أنت قائدها المطاع ..
كان من بين أولئك الأقران في الصف نفسه كفيف مقدسي حاد الذكاء اسمه " رجائي بصيلي" ، و لن يكتفي مستقبلاً، كأخي، بمجرد الحصول على شهادة الدراسة الثانوية المعروفة آنذاك باسمها الإنكليزي " متريكوليشن _ Matriculation " و إنما سيمضي في دراسته الجامعية ، فالعليا ، إلى أن يحصل على شهادة الدكتوراة في الآداب من إحدى الجامعات الأميركية، فلقد كان هاجسه أن يصبح ذات يومٍ "طه حسين فلسطين " أو من يماثله في آداب الشعوب الأخرى.. و حقيقة الأمرة أنه ما من واحد من جميع أولئك العميان إلا كان يتقمص في نفسه شيئاً من روح " أبي العلاء المعري " ، و يتغنى بالعديد من شواهده الشعرية البارزة، بل و يرتاب في كل شيء يجري من حوله، ليس كموقف فلسفي من الحياة و الناس ، كما هو الحال مع رهين المحبسين، و إنما بحكم عاهته المادية، العضوية، التي تعزله عن جميع مرئيات العالم من حوله.. و أما عن "رجائي بصيلي " على وجه الخصوص، فلقد وجدت فيه من ينافسني، أو ربما يفوقني في مبلغ عشقه للشعر العربي، ربما بحكم تقدمه المحسوس عليَّ في العمر و التحصيل المدرسي ، فكان دائم الإنشاد للعديد من محفوظاته القديمة، و المعاصرة ، بذلك الصوت الأبحِّ، و الأغنِّ، في آن معاً، فأطرب له حقاً ، و لكنني لا أعجب به كثيراً، لأن جميع أغراض الشعر كانت سواءً لديه في الأداء من المديح إلى النسيب إلى الهجاء.. و كائناً ما كان من الأمر فإنني اعترف الآن لهذا الكفيف اللطيف بأنه قد طرح عليَّ منذ تلك السن المبكرة تحدياً هاماً في التعلق بروائع شعرنا العربي، و الاقتراب أكثر فأكثر من شطآن أوقيانوسه اللانهائي العذوبة و الجمال..
كذلك أتذكر الآن من لطائف عالم العميان، تلك السويعات الممتعة من صباحات أيام..الجمع عندما كنت أقود أخي موسى و لفيفاً من أقرانه، من مدرستهم في "حارة الشيخ"، إلى منـزل مدير مدرستهم " صبحي الدجاني" في حيِّ "عين سارة" وهو مكفوف البصر أيضاً من أبناء العاصمة القدس، و قد نال حظاً من التعليم الجامعي في انكلترا، وها قد عاد الآن إلى عمله في الخليل متزوجاً من سيدة أجنبية، بيد لي، من وجها الأبيض و شعرها الأشقر، و عينيها الزرقاوين، و ملابسها اللامألوفة عندنا في كل جبل الخليل كما لو كانت قطعة من الجمال الأخَّاذ قد هبطت علينا من عالم آخر .. و ها هي الآن، بعد تفاهم قصير مع زوجها، تتخذ مقعداً لها قبالة جسم خشبي بديع الصنع، تنبثق من منتصف أصابع طويلة بيضاء، و أخرى قصيرة سوداء، و يُعرف "بالبيانو"، و تصدر عنه أصوات موسيقية يا لها كم تختلف اختلافاً بعيداً كما بين الثرى و الثريا عن "ربابة " شاعرنا الشعبي في عشيَّات "دورا" الساهرة السامرة، أو عن الشبابة أو الناي ما بين أيدي الرعاة و في مناسبات الأفراح ..
و ما هو إلا إيعاز خاطف متفق عليه مع المدير "الدجاني" حتى ينطلق لفيف التلاميذ في أداء محفوظاتهم من الأغاني و الأناشيد المدرسية بمرافقة أصابع "البيانو" التي كانت أصواتها القوية الجليَّة تتعدى كثيراً أربعة جدران المكان .. و لست أستطيع أن أتذكر الآن _( ويا ليتني أستطيع)_ ما إذا كان ذلك المغترب اللبناني النابه الظريف "نجيب حنكش" قد وضع لحنه البديع لقصيدة جبران خليل جبران "أعطني الناي و غني" منذ ذلك الزمن البعيد في مطلع الأربعينيات، ثم جاء ثلاثي الأخوين رحباني و فيروز لينفخ فيها الروح بعد سنوات و سنوات، أم أن جوقة المنشدين المكفوفين هذه كانت تؤديها بلحن مختلف، إلا أن ما أستطيع أن أتذكره جيداً على الحالين كليهما، هو أنني كنت أتابع القصيدة، كلمة بكلمة، من كتيب صغير للمبصرين، فكان إعجابي الشديد بها، مبنىً، و معنى، و صوراً شعرية خلابة، لا يعادله إلا امتعاضي من أصوات هؤلاء المنشدين التي كانت تجأر بأبياتها يميناً، و شمالاً، وخبط عشواء، مَنْ تُصِبْ!!..
و هنا تحديداً سأسجل اعترافاً آخر إزاء قصيدة "جبران" هذه .. فعدا عن التهامي لها المرة تلو المرة و اختزانها بمنزلة خاصة في عمق الذاكرة، فلقد وقفت حيالها كما لو كنت أتعرف لأول مرة على عالمٍ شعري جديد ورائع هو الآخر، و لكن لا علاقة له بروعة كل ما سبق أن قرأته من شعر تراثي أو حتى معاصر في ذلك النصف الأول من القرن العشرين.. ثمة إحساسٌ بالعذوبة والجمال هنا، هو غير ذلك الإحساس بالجلال و الفخامة هناك.. و لعلي قد اختزنت في اللاشعور منذ ذلك الزمن السحيق أن عالم الفن العجيب هذا، بقد ما يتسع لامريء القيس، فلا بد أن يتسع أيضاً لجبران خليل جبران .. و بقدر ما يتسع لشجن الربابة المرسل في ليالي الصيف تحت صمت النجوم، فلا بد أن يتسع كذلك لجهارة هذا البيانو الذي يهيج القلب رقة و ألقاً على حدٍّ سواء.. و أن من يدعي لنفسه امتلاك الحقيقة الشعرية في تعليبه للقصيدة ضمن شكلٍ فني واحد دون سواه، فهو لا شك أشبه بثورٍ حزين، سمين، مصابٍ بعمى الألوان .. و لعل هذه القناعة المبكرة الكامنة في اللاوعي منذ عهد التلمذة الابتدائية، هي التي دفعتني لاحقاً في سِنيِّ الإدراك المتقدمة لأن أضع قصيدتي في "الشكل الفني" الذي أرى، بمحض حريتي واختياري، أنه يناسبها اكثر من غيره، مبتعداً إلى أقصى الحدود عن كثير من انفعالات النقاد الذهنية السقيمة و العقيمة فيما يملونه على المبدعين من مواصفات فنية جاهزة، و غير آبهٍ على الإطلاق بكل ما هو رائج ورديء معاً في سوق الحداثة الأدبية من "بالة" الحضارة الغربية، ساعياً من وراء ذلك كله إلى بابتداع حداثتي المستقلة التي تخصني بمفردي، دون أية استعارة من هنا، أو اقتباس من هناك، لأنه في الوقت نفسه الذي أضنى فيه العديدون من الشعراء قرائحهم الهلامية الرخوة في لهاثهم المستميت وراء ما يوصف اعتباطاً "بالشعر الحر"، خاصة في عَقْدَيْ الخمسينيات و الستينيات فلقد جعلتُ هَمِّي، و أطلقتُ هِمَّتي، باتجاهِ غايةٍ أخرى مختلفة تماماً، هي أن أكون أنا "الشاعر الحر" في المقام الأول، فتأتي بعد ذلك حرية الشعر، و الفكر، و سائر الحريات الأخرى، في موقعها الطبيعي كثمرة في شجرة، و كتتويج منطقيٍ و حتميٍّ لحرية الإنسان..






  رد مع اقتباس
/
قديم 03-08-2011, 10:13 PM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

قصيدة يوسف

بَريئةٌ منكم فِلسطينُ التي تَذبـحُـونْ‏
و لَحْمُها باقٍ على أَنيابِكُمْ‏
يا أَ يُّها الـتُـجارُ، و الفُـجَّارُ، والآثِـمون‏
دَمُ الفدائيينَ في رِقابِكمْ‏
أَقولُها ، جَهْرَ الرياحِ ، وَ لْـيَـكُنْ ما يكونْ‏
سَرقـتُـمُ الثورةَ في جِرابِكمْ‏
أينَ اخْتـفَتْ يافا ، و بيسانُ، وأَينَ الكرمـلُ‏
والطَلْقةُ الأُولى ، و فَـتْحٌ ، والخطابُ الأَوَّلُ‏
وَ مَنْ قَضَوْا ، باسمِ فلسطينَ ، و مَن تَجَنْدَلُوا‏
أم قَد تَبَدَّلتْ رِياحكم ؟..إِذنْ ، تَـبَدَّلُوا!!‏
خُذوا حصادَ عُهْرِكُم إلى الجحيمِ، وارحلوا!!‏
بَريئةٌ منكم هِيَ القدسُ ، و أَقداسُها‏
يا أُمراءَ الثورةِ المُـنَـعَّمهْ‏
أَأَنتمو طُلاَّبُ أَقصاها ، و حُرَّاسُها‏
أَم الضِّباعُ حولَها مُلَمْلَمَهْ‏
مآذِنُ القدسِ ، و ما تَقَرَعُ أَجراسُها‏
تَلعنكُم أَكنافُها المُهَدَّمهْ!!‏
وَ أَنتمُ الباعَةُ ، و الشُّراةُ ، و البِضاعهْ‏
أَرخصتُمُ الأرضَ، و سِعرَ الجِراحْ‏
وَ خُـنـتُـمُ الثَّدْيَ الذي أَتْخَمَكُمْ رِضاعهْ‏
وَ بِـعتُمُ الشيطانَ طُهْرَ الكِفاحْ‏
أنتم ، مِن البَدء،ِ اختلستمُ هذه الأَمانهْ‏
مَرَّغتمُ الثورةَ في مُستنقعِ المهَانهْ‏
طَعَنْتمُ " انتفاضتينِ " خِنجرَ الخِيانهْ‏
والحُلْمُ ، صارَ الحُكْمَ.. واحترفتمُ الكَهانهْ‏
مَن تَخدعون، يا حُواةَ آخرِ الزَّمَنْ‏
يا قادةً، بِصِيغَةِ المَقُودِ والرَّسَنْ؟!‏
أم قد جَنَيتُم – يومَ أن بَخَستُمُ الثمن‏
أُكذوبةَ "الدولةِ"… عن حقيقةِ "الوطنْ"؟!‏
فيا شَياطينُ تَزَيَّني، وَجُودي‏
بدولةِ الوهمِ، لِزُمرةِ العبيدِ‏
ويا هلافيتُ – وليسَ مِن ثَريدِ!!‏
دولتكم هذي، بإمرةِ اليهودِ‏
أعزُّ منها.. " جَبَلايةُ القُرودِ"!!‏
يا مَن تكالبتم على جوائز الحضارهْ‏
مَسَخْتُمُ الشعرَ على مَذابحِ الدَّعارَهْ‏
والوِزْرُ عندكم، غدا مُؤَهِّلَ الوِزراه!!‏
يا مَنْ تَبيعونَ الدماءَ ، خَمرةً مُدارَهْ‏
و الدينَ بِالدُنيا ، و حتى الربحَ بِالخسارهْ‏
تَبَّتْ أياديكُم، وبئسَ هذه التجارهْ !!‏
لكنني سَجَّلتُ لِلآتينَ أَسماءَكُمُ‏
أَقماعَ دَولةٍ ، مُسُوخَ غَفَلَهْ‏
فاتَّبعوا ، يا قادةَ البَلُّوطِ ، أَهواءَكُمْ‏
كُلٌ سَيَـلقى في الجحيمِ عَمَلَهْ‏
لا أَلعنُ "النَّروِيجَ" ، بل أَلعنُ آباءَكُمْ‏
يا أَيـُّـها القتلى، مَعاً، والقَـتَلَهْ‏
فَلَن تموتَ شُعلةٌ مِن كَبِدي لَفُوحُها‏
أَنني القدسُ التي يَسكُنُني مَسيحُها‏
لأَنني شريدُها ، شهيدُها ، جَريحُها‏
فَهذه الصَّيحةُ في وُجوهِكُم أَصيحُها‏
بَريئةٌ مِنكم فِلسطينُ ، فَمَنْ تَخدعُونْ‏
سَيَقرَعُ الشعبُ على أبوابِكمْ‏
يا أَيها المُستَـثمِرونَ الموتَ ، والمُودِعُونْ‏
عَوائِدَ النكبةِ في حِسابِكمْ‏
إلى متى ، يا أُجَراءَ الوَحْلِ، تَستأجِرُونْ‏
زواحِفَ الشعرِ على أَعتابِكمْ‏
أُعلِنُها ، جَهْرَ الرياحِ ، وَ لْيَكُنْ ما يَكُونْ‏
بَريئةٌ منكم فلسطينُ التي تَذبحونْ !!‏
بَريئةٌ منكم فلسطينُ التي تَذبحونْ !!






  رد مع اقتباس
/
قديم 03-08-2011, 10:15 PM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

قصيدة
العندليب المهاجر

أترك مثلي يا رفيق تمر بالزمن

عبر الليالي السود والمحن

لا صاحب يرخي عليك غلالة الكفن

بي لهفة يا صاحبي مشبوبة بالنار

هل بعض أخبار تحدثها وأسرار

للظامئين على متاهة الوحشة العاري.

كيف الحقول تركتها في عرس آذار

ومتى لويت جناحك الزاهي عن الدار

عجباً.. تراك أتيتنا من غير تذكار

لو قشة مما يرف ببيدر البلد

خبأتها بين الجناح وخفقة الكبد

لو رملة من المثلث أو ربا صفد

لو عشبة بيد ومزقة سوسن بيد

أين الهدايا مذ برحت مرابع الرغد

أم جئت مثلي بالحنين وسورة الكمد

ماذا رحيلك أيها المتشرد الباكي

عن أرض غابات الخيال وفوحها الزاكي

أم أن مرج الزهر أصبح قفر أشواك

وتلوّنت أنهارها بنجيع سفاك

داري وفي عيني والشفتين نجواك

لا كنت نسل عروبتي إن كنت أنساك






  رد مع اقتباس
/
قديم 03-08-2011, 10:16 PM رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

قصيدة
القبرة

تلك يا صاح قبَرة



في الحدود

خرقت ألف حرمة

للعهود

فهي تغدو طليقة و تروح

وأنا مثخن هنا

بالجروح

ليتني كنت قبَرة

فأطير

وجناحي مصفق

في الأثير

فوق بيارة لنا

وغدير

ليتني كنت قبَرة






  رد مع اقتباس
/
قديم 03-08-2011, 10:25 PM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

حوار مع الشاعر الفلسطيني الكبير يوسف الخطيب

أجرى الحوار سمير عطية ووسام الباشا


بداية نحن نشرف ونتشرف أن نكون في ضيافة عملاق الشعر العربي الأستاذ الكبير الشاعر يوسف الخطيب وأحد الأعمدة الأدبية والثقافية الملتزمة والجادة التي تربينا من معينها الثقافي والشعري والأدبي محن أبناء فلسطين سعداء كثيرا في هذه الزيارة في بيته الكبير في قلبه الكبير للأستاذ الكبير يوسف الخطيب.
شرفتم أيها الأخوان وأسمي بالبسملة بسم الله الرحمن الرحيم.
1- من دورا إلى دمشق ... الهجرة والشَّتات ، في أيِّ جغرافيا للشعر يسكن شاعرنا اليوم ؟


أولا أنا ككل إنسان فلسطيني يعتز بمسقط رأسه أعتز جدا في مسقط رأسي في دورا الخليل مع أنني طفت قبل سنة 1948 تقريبا 95% من القرى والمدن الفلسطينية من يافا إلى حيفا إلى بيسان إلى نابلس إلى غزة إلا أن لدورا مسقط رأسي مكانة خاصة وبصفة خاصة أيضا أن المدرسة التي كنت أتعلم فيها في مدرسة برهان الابتدائية كان الساحل الفلسطيني مكشوفا أمامنا كمن يقرأ في كتاب مفتوح من شمال يافا إلى جنوب غزة هذه الصفحة الكاملة المتصلة بزرقاء السماء وبفيروز البحر. ولدورا الخليل كل الفضل في منحي الموهبة الشعرية و أنا مدين لها بهذه الموهبة التي هي بنفس الوقت هبة من الله سبحانه وتعالى.

2-

لو .. قَشَّة مما يرف ُ ببيدر البَلَد
خبأتها بين الجناح وخَفقة َ الكَبِد ..
لو رملتان من المُثَلَث أو رُبا صَفَد
لو عُشبة َ بيد ٍ ومزقة َ سوسن ِ بِيَد
أين الهدايا مُذ بَرَحت َ مرابع الرَغد
أم جئت َ مثلي بالحنين وسَوْرة الكمد

ماذا تركت دورا في شخصية الشاعر والإنسان يوسف الخطيب؟ وكيف كانت مسيرة حياتك بدونها؟

لدورا أثر كبير بكل تأكيد وأمر بديهي ومنطقي تركت دورا أثر كبير في تكويني النفسي والأدبي والثقافي كونها جزء من وطني الحبيب فلسطين والوطن الأكبر الذي هو الوطن العربي. ما تركته دورا في نفسي هو التعلق بكل ذرة من تراب هذا الوطن الرائع و لا أعتبر أن مجيئي إلى دمشق سنة1950 للدراسة في الجامعة السورية آنذاك اغترابا ولا هجرة لسبب بسيط جدا لأن في تراثنا الوطني الفلسطيني وكفاحنا عندما دخل اللنبي القدس وتقاسمت فرنسا وبريطانيا إقليم بلاد الشام عند ذلك صدرت أول جريدة فلسطينية رافضة لهذا التقسيم عام 1920 أصدرها علامة كبير اسمه عارف العارف وكان اسمها سوريا الجنوبية ولم يسمها فلسطين إطلاقا ونحن إذا وبدون تملق هذا وطننا .. نحن سوريون جنوبيون اسمنا الإقليمي الخاص فلسطينيين نعتز جدا جدا بهذا الاسم حتى تتحرر فلسطين التي لها الأفضلية في نفسي على ساحة الوطن العربي مع إيماني بأني أنتمي لهذا الوطن بكله وليس بقسم يسير منه. ولكن مادامت فلسطين محتلة فهي الأعز وهي الأغلى.




أستاذ يوسف أريد أن أنتقل بعد هذه الذكريات إلى بعد عامين من نكبة فلسطين إلى ديوان عائدون الذي صدر لكم في عام 1959 يكمل خمسين عاماً من البحث عن عودة إلى وطنه ؟ ألا تزال تحتفظ بالأمل ؟

بمزيد من الأمل يعني ما زلت أحتفظ بمزيد من الأمل بالعودة إلى وطننا الفلسطيني ولكن بالنسبة إلى هذا الديوان الذي صدر في العام 1959 ينبغي الإشارة إلى أنه الديوان الثاني وليس الأول الذي كان بعنوان العيون الظلماء للنور وهذه القصيدة فازت بالجائزة الأولى على ثمانين شاعرا من عقد الخمسينيات في أكبر مسابقة أدبية في العام 1955 عند ذلك التف من حولي أصدقائي من الجامعة السورية وقالوا لي والله لنطبع هذا الديوان فأعطيتهم هذه القصائد وأصدروها في ديوان العيون الظلماء للنور لكن بالنسبة للسؤال بعد ستين سنة من الاحتلال هل مازال الأمل على حاله فأنا ببساطة أجيبك بأن أملي يزداد يوما بعد يوم وأتصور أنه بعد عشرين سنة قادمة إذا لم يزل هذا الخطأ الجغرافي الذي أقم في فلسطين باسم " إسرائيل" فمعنى هذا أن هناك خطأ في التاريخ.وهذا إيماني وأملي وليس مجرد إيمان فقط بل نتيجة لقراءة تاريخنا البشري في حركة التاريخ.. التاريخ لن يتسامح طويلا جدا مع هذه الجريمة التي أقيمت على أرض فلسطين.


3- بصفتك من الشخصيات الأولى في فلسطين التي انتسبت إلى المد القومي العربي ممثلا بحزب البعث العربي الاشتراكي في الخمسينيات وبصفتك احد الذين أسسوا لأدب تلك المرحلة فهل تستطيع أن تحدثنا عن الفرق بين تلك المرحلة وهذه المرحلة أدبيا ؟


تلك المرحلة في الحقيقة كان يسودها الإيمان من عامة الناس ليس مني انا بالذات أكثر مما عليه درجة هذا الإيمان في أيامنا. في الخمسينيات والستينيات حتى عام 1967 الكل ينتظر يوم الزحف لتحرير فلسطين والكل متفائل بمعنويات قومية ووطنية عالية جدا كان ينظر تجاه القضية الفلسطينية. بعد كارثة 1967 بدأ ما يشبه الانهيار في معنويات الجماهير وفي ثقتهم بقادتهم و هذا السبب أثر على الأدب ولكن أدباء تلك المرحلة كانوا أكثر تفاؤلا من أدباء هذه المرحلة . وبما أن عامة الشعب والأمة قاطبة كانت متفائلة في بشكل طبيعي أدباء هذه الأمة كانوا أكثر تفاؤلا من عامة القوم .




أصعب ما في رسالة الشاعر الملتزم، بعد حرب حزيران هو أن عليه، من موقع الهزيمة، أن يبشر بالنصر ومن جوف الظلام، أن يستعجل طلوع الصباح" ، هذه مقدمة قصيدة عناقا لك الصبح ولا نعلم أيها الأبلغ القصيدة أم مقدمتها ؟ استوقفت كبار الكتاب والأدباء من أمثال د. علي عقلة عرسان ، وكانت ضمن 100 قصيدة مختارة شعرية من الأدب العربي في ديوان العودة. كيف ترى الشعر الملتزم بين خيارين خيار المقاومة وخيار التسوية؟
هاتان يا عزيزي الأستاذ سمير قصيدتان كتبتهما في حزيران سنة 1967 عنوان القصيدة الأولى " الطريق إلى محمد" والقصيدة الثانية عناقا لك الصبح كتبت هاتين القصيدتين كاستجابة وردة فعل على هذه الكارثة. كثيرون من الشعراء انهارت أعصابهم وانهارت معنوياتهم كفروا بأمرين اثنين بالعروبة وبالدين وقالوا لو أن في العروبة خير ما سقطت هذا السقوط وانهارت بهذا الشكل في حزيران :
أقول أصعب ما في رسالة الشاعر الملتزم، بعد حرب حزيران هو أن عليه، من موقع الهزيمة، أن يبشر بالنصر ومن جوف الظلام، أن يستعجل طلوع الصباح وفيها أقول بالنسبة لآخرين من الشعراء

ولو كنت في الصعب رخو الجنان
شقي اللسان دني القيم
لأحرى إذن أن أشق الثياب
وأكسر بالكعب هذا القلم
ولكنني غاية في البعيد
وهمّا أحاوره أي هم
يقولون إن لم يكن ما تريد أرد ما يكون فهذا قسم
محال على العربي المحال
عديم على العربي العدم

لكن القصيدة الأساسية التي اعتمدتها كردة فعل على كارثة حزيران ( الطريق إلى محمد) من مؤلفات حزيران الأسود- دمشق أول تعريف بها إلى رسولنا العربي الأعظم مثل الإنسان الأعلى على مر الأجيال وتعاقب العصور.. ووضعت عنوانا ثانيا في القصيدة ليس بالشعائر وحدها يتحقق الإيمان وجل الإسلام دينا أن ندير عاصفته الكونية في قعر الفنجان أنا لا أبحث عن الأمور الصغيرة أو الثانوية في الإسلام ولكن أنظر إلى الإسلام كعاصفة قوية تريد إصلاح الكون ككل وتبرئة هذا الكون من جميع الشوائب التي فيه.





أستاذ يوسف ما الأثر الذي تركته في شعرك الهزائم العربية والاتفاقيات الاستسلامية مع الكيان الصهيوني خصوصا وأن عدد من النقاد يرون أن تلك الاتفاقيات أثرت على مسيرة الشعر الفلسطيني وجعلته منقسما على نفسه؟


إن جريمة أوسلو والاعتراف بالكيان الصهيوني كان خيانة من الخيانات الوطنية وهناك عدد من النقاد وبعض الشعراء الفلسطينيين يعملون على مبدأ التطبيع مع هذا الكيان بعد الاتفاقيات الخيانية, فهناك شاعر فلسطيني يكتب قصيدة عشقه لفتاة يهودية أو أصدقاء يهود والتعاون مع بعض الأحزاب "الإسرائيلية" كحزب ركاح, وأنا لا أقيم وزنا لكل هؤلاء مهما قيض لهم من شهرة .. أنا ألعن الشهرة ..وكل من يقوم بعملية التطبيع أو يروج لها ليس له أي وزن ولا يشكل شيئا. أما المقاومة فهي الأساس إذا كنا شعبا طبيعيا وإذا كنا بشرا نستحق صفة الإنسانية فعلينا أن نسترد وطننا الفلسطيني من أيدي هؤلاء المجرمين.
هل تستطيع أستاذنا الكريم أن توصّف حالتك العاطفية عندما كتبت قصيدتك العصماء التي مطلعها
أكاد أومن من شك ومن عجب*****هذي الملايين ليست أمة العرب...
إن الكثيرين يرددون هذه القصيدة وأنا أعتز بها بالرغم من أنها القصيدة الوحيدة التي احتملت أقصر مدة لي في كتابة قصيدة. فأنا لم اكتبها في أسبوعين أو ثلاثة بل في جلستين أو ثلاث جلسات بهذا التدفق الحمد لله يعني هذه هبة حباني إياها الله تعالى كتبت هذه القصيدة. و شعوري هو شعور أي إنسان يرى أمته تسير باتجاه الخطر على شفير الهاوية فينبه وهذا من نوع التحفيز وليس من نوع جلد الذات من نوع التحفيز لهذه الأمة أن تستيقظ من نومها فقلت:

أكاد أومن من شك ومن عجب*****هذي الملايين ليست أمة العرب...
هذي الملايين لم يدر الزمان بها ولا بذي قار شدت راية الغلب
أأمتي يا شموخ الرأس مترعة مَن غل رأسك في الأقدام والركب
أأنت أنت أم الأرحام قاحلة وُبدّلت عن أبي ذر أبا لهب
كأنما لم تلد في اليتم آمنة ولا حليمة هزت مهد مرتقب

يعني هل كانت هذه القصيدة ردة فعل على حدث معين؟

لا.. هذه القصيد نعايشها ولم تكن ردة فعل أنا أعيش حالة أمتي في حالات النهوض ولكن هناك كثير من المعوقات الخارجية والذاتية داخل هذه الأمة تمنعها من النهوض فلذلك أنا استفز الأمة في هذه القصيدة وهي أيضا حركة هز وإيقاظ للمشاعر القومية.





كيف تقيم الحركة النقدية في مسيرة الشعر الفلسطيني ؟ هل تقدمت على مسيرة النص الإبداعي الشعري ؟ هل كانت هذه الحركة موضوعية وجريئة من وجهة نظرك في رسالتها ؟


في إشكالية النقد والإبداع أنا أنطلق من الحقيقة التي تقول وهي أن النقد الأدبي ككل تأثر بمدارس فكرية ونظريات فلسفية ومناهج نقدية إنما هي طفيليات تعيش على جسد الإبداع والشعر ..النقد كائن طفيلي على جسد الشعر و لهذا السبب كثيرون جدا من النقاد يشوهون عملية الإبداع بآرائهم الخاصة بهم البعيدة جدا عن عملية الخلق الشعري يعني أنا في رأيي لكي يكون الإنسان ناقد شعريا يجب أن يكون شاعرا بالأساس وعليه أن يعرف أسرار عملية النقد الشعري من داخلها أن يعلم كل شيء عنها وان يمارس الشعر حتى يحق له لاحقا النقد الشعري أو الأدبي بشكل عام .


قيم عدد من النقاد تجربتك الشعرية منذ العام 1955أي تاريخ إصدار ديوان العيون الظلماء للنور بأنها مزيج من أنواع الشعر كالمدح والغزل والهجاء والرثاء والحنين امتلكت لغتها بامتياز كيف تقيم أنت تجربتك الشعرية في خمسة عقود؟

أنا لا أقيم أبدا وكل ما هنالك أنا أقول ببساطة تامة أنني راض فقط ..راض عن أعمالي الشعرية فقط لا غير ..إن التقييم من حق الآخرين وليس من حقي.



يرى بعض الأدباء أن الشعر تراجع في الدور والمكانة والتأثير في المجتمعات العربية ، والبعض الآخر لا يزال يرى أن الشعر هو ديوان العرب في كل المراحل ؟ ما رأيك ؟



في الشق الأول من السؤال حول تراجع الشعر في الحقيقة نحن انبهرنا جدا بواجهة الحضارة الغربية الأوروبية والأمريكية بشكل عام. فأصبحنا ننقل عن هذه الحضارة كل شيء بدون تمحيص ولا اختيار ولا انتقاء لدرجة أنه أصبح بعض النقاد الأدبيين العرب يعيشون على فتات مائدة الثقافة الغربية .. في الحقل الشعري بالذات. وابني ووضاح خبير في هذا المجال بشكل جيد فقد درّس في الأدب الإنكليزي في جامعة فيرجينيا في أمريكا حوالي 5 سنوات ويعلم ربما في هذا المجال أكثر مني أن هناك موجة أو أكثر من موجة في أوروبا أو أمريكا ظهرت ببدعة شعر اللغة واسم المجلة هناك LANGUAGE POETRY بمعنى أن الشعر في خدمة اللغة وليست اللغة في خدمة الشاعر وهذا عكس للآية فأصبح الشاعر أهم ما عنده أن يأتي بلغة جديدة سواء أكانت ذات معنى أو غير ذات معنى وتستمع إلى الواحد لغتي لغتي لغتي ...هؤلاء هم شعراء اللغة الذين يخدمون يضعون الشعر في خدمة اللغة بدلا من العكس وهذا أدى إلى عزوف الكثيرين جدا من هواة الشعر وعشاقه عن مثل هذه النتاجات الحديثة لم يجدوا فيها إلا التفاهة أحيانا والغموض لأن شعر اللغة يهمه اللغة أن تكون الجميلة بغض النظر إذا كان لها معنى أو لا .. وهذا أدى إلى انصراف الكثيرين من عشاق الشعر عن قراءة الشعر بالإضافة إلى الهزائم والخيبات و إلى كل ما هنالك والمعاناة الشديدة التي يعاني منها شعبنا العربي على عدة مستويات وأصعدة ولكن هذا برأيي أمر مرحلي آيل إلى الزوال ..وإلى عودة الإنسان إلى الشعر الحقيقي الذي يجتذب إليه الآخرين.





كيف يمكن أن نعيد للأدب رونقه ودوره الفاعل في تحريك الجماهير وهل ثمة وسيلة لدفع الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص ليعلو هرم التحريك؟


هذه مسألة تتوقف على الشاعر ..هناك مثل يقول .. قللي من المغني أقل لك ما الأغنية, هذه تتوقف على الشاعر إما أن يكون أمينا مع رسائله ويظهر قصائده بالرونق المطلوب وبالتأثير المطلوب في الآخرين وإما لا .. الآن هناك نظرية يتبناها بعض الشعراء إنه أنا لا يهمني الآخرون إطلاقا أنا يهمني ذاتي وأقول الشعر كما أريده لا كمان يريده الجمهور ..إلى هذه الدرجة أصبحوا يستغربون أن تقرأ قصيدة مفهومة للآخرين يعتبرون ذلك هبوطا في الشعر وهذا كما قلت لك مرحلة آيلة للسقوط .


أستاذ يوسف كيف ترى المشهد الشعري الفلسطيني هل يمكن أن تضيف شيئا بالإضافة لما تفضلت به .

أنا تفردت ربما برفض مصطلح الشعر الفلسطيني أنا أنتقد هذا المصطلح لأنه مصطلح خاطئ 100% وهناك العشرات من الذين قابلتهم وسألوني عن الشعر الفلسطيني ..هناك شعر عربي قد يتناول القضية الفلسطينية أو لا يتناولها فالشعر الفلسطيني عندي بحسب موضوعه الفلسطيني وليس بحسب جنسية الشاعر ..أرفض ذلك .. هناك شعراء فلسطينيون متغيبين تماما عن كل المأساة الفلسطينية وهناك شعراء عرب وليسوا فلسطينيين ولهم في ديوان الشعر الفلسطيني قصائد بالغة الروعة وخالدة وباقية . وحتى شعراء المهجر لهم قصائد في القضية الفلسطينية قصائد من أروع ما يمكن وهم ليسوا فلسطينيين .
أستاذي الكريم إذا انتقلنا من إشكالية المصطلح إلى مضمون المشهد الشعري في فلسطين؟ هل تراه ضعيفا إذا أردت أن تعطيه تقييما أم من الصعب أن نعطيه تقييما بكلام موجز عن مشهد ثقافي واسع ؟
المشهد الشعري في فلسطيني متراوح على حد اطلاعي وأعتقد أنه كافي إن هناك اختلاف بين فئة من الشعراء وفئة وأخرى والمشهد ليس متجانسا وليس واحدا بعنصر واحد هناك خليط من الموازييك والفسيفساء هناك من الشعراء من هم ملتزمون غاية الالتزام .. هنالك من يتعاملون القضية الفلسطينية كنوع من الواجب الثقيل وهناك من يديرون ظهورهم من حيث المبدأ لكل المأساة الفلسطينية وهناك شعراء فلسطينيون بشهادة الميلاد ..فالمشهد متراوحا.
وعموما أستطيع القول وبدون تردد أن الإبداع الشعري المتعلق بالقضية الفلسطينية إنه يتمتع بمستوى معقول إن لم يكن جيدا. أم في الخارج أو الشتات العالمي أعتقد أن البعد والهجرة هي أكثر ما يعزز بالشاعر وطنيته الفلسطينية وقوميته العربية وتتضاعف كمية الحنين والالتزام وهذا واضح من ديواني الثالث المعنون بواحة الجحيم ومن أفضل قصائدي التي كتبتها في حياتي هي التي كتبتها في هولندا عندما كنت مطاردا أو ممنوعا أو ملاحقا في ستة أقطار مشرقية في آخر أيام الوحدة فاضطررت إلى اللجوء إلى هولندا واشتغلت سنتين هناك وفي هاتين السنتين أظن أنني ارتقيت إلى مستوى مختلف جدا جدا وأفضل من المستوى السابق في عملية الخلق الشعري.


ما رأيك بالشعر المكتوب باللهجة العامية أو المحكية؟ وهل تعتقد أن هذا الشعر هو الأقرب للجماهير حسب ما يدعي بعضهم؟


إذا كان المقصود بالشعر العامي هو مثل الدعوة اللبنانية لسعيد عقل أو غيره أن يكون بديلا لشعر الفصيح فهذا مرفوض وادعاء باطل بالأساس أما إذا كان الشعر باللهجة العامية فهو يستخدم لأغراض الغناء لأغراض بسيطة لأغراض شعبية فأنا أرحب بذلك وأعتقد ان القصيدة العامية قدمت نماذج لا بأس بها خاصة في أغاني فيروز وأغاني غيرها يعني لعبت اللهجة العامية دورا ممتازا جدا ولكنها ليست بالبديل.. وأنا لا أستطيع أن أكتب باللهجة العامية.


يواجه الجيل الشاب مساحة واسعة في منابر النشر لا تتساوى مع المساحة النقدية الموجهة والمطورة للتجربة الشعرية الشابة ؟ وهناك شبه غياب للتوجيه الإيجابي النقدي الذي يطور من الإبداع الشبابي فما رأيك في هذا الموضوع؟


أنا أعتقد بالعكس بالنسبة للنشر العادي الورقي الفرص في الماضي كانت أفضل مما عليه الآن .. في الماضي كان هناك تقدير أكثر للشعر وإقبال أكثر على الشعر الآن باستثناء شاعرين أو ثلاثة لا تجد من يقرأ الشعر وإذا طبع الشاعر ألف نسخة يتبقوا أمامه سنة أو سنتين.. أما بالنسبة للنشر الإلكتروني فهذا موضوع آخر وهذا قد يكون له مستقبل عظيم وأنا لا أستطيع أن أحكم بشكل جيد أنا الآن في الثمانين من العمر ..وبصراحة أنا لا أتعامل مع النشر الإلكتروني إلا في حدود بسيطة جدا ليس لعدم إيماني بالنشر الإلكتروني ولكن لأنني أعتقد أن النشر الورقي الكتابي يبقى هو الأفضل وهو الأكثر وفاءا وهو الذي يؤلف علاقة حميمة وخاصة ما بين القارئ والمقروء ..غير عن شاشة الكمبيوتر.


حين استلمت درع جائزة القدس في العام الماضي قلت إن ( زهرة المدائن القدس ، هي ميلاد يسوع وإسراء محمد عليهما السلام عاصمة فخرية لكل القارة العربية لا استقلال لأي كيان عربي بلا استقلال لها ولا حرية لعربي بدون تحرير لها ) ...اليوم تتعرض القدس لهجمة خطيرة للغاية متزامنة مع احتفالياتنا بالقدس عاصمة للثقافة العربية ...ما رأيك ؟


إن هذه العبارة قلتها في يومية الاحتفال بدمشق عاصمة للثقافة العربية السنة الماضية وعلى الرغم من أنها الاحتفالية هي لدمشق عاصمة للثقافة العربية اعتبرت أن القدس في حقيقة الأمر هي العاصمة الأبدية للقارة العربية من على منبر دمشقي .
أما أن تكون "إسرائيل" تحاول إجهاض هذا الاتجاه فهذا من طبيعة الأمور ولا غرابة في ذلك إسرائيل عدو من بعد انتهب عرضنا وكرامتنا القومية وحتى الإسلامية فهل تتوقع من هذا العدو ألا يحاربك .





قلت في حديث لصحيفة الأهرام العربي في 8-12-2007م إن قصيدة النثر ‏ أشبه بنتاج زواج الفرس بالحمار‏ ؟ هل استطاعت هذه التجربة خلال عامين أن تعدل من رأيك فيها؟


كلا على الإطلاق .. إن هذا التعبير هو ترجمة من جانبي لأصل المصطلح أو التعبير الإنكليزي أو الغربي تسمى قصائد الـ hybrid وتعني الخلاسي أو النغل فهي قصيدة نغلية وهذا ليس تجنيا مني وهو موجود في قلب الثقافة الغربية أيضا.. لا أريد أن يعتبرني رجعي أو متخلف أو غير مطلع لا .. الحمد لله انا مطلع .. الغربيون إذا أراد أحدهم أن يشتم الآخر يقول له you are prose أنت نثر كشتيمة عادية.. ونظن أن أمثال هذه النتاجات الشعرية ذات عمر قصير جدا ومحدود شكسبير منذ أربعمائة سنة شعره باق وخالد والمتنبي منذ ألف سنة شعره باق وخالد. ولكن سان جون بيرس لم يسمع به إلا قليلون حتى داخل فرنسا ..
يقول د. عادل الأسطة في دراسة له بعنوان ( شعر المقاومة الفلسطينية في النقد الأدبي في العالم العربي ) : وثاني الدارسين الذين تناولوا هذا الشعر وأبرزوه هو الشاعر يوسف الخطيب في المقدمة الطويلة التي صدر بها " ديوان الوطن المحتل "(1968). أفصح الخطيب عن دراسته ومنهجها، وأشار إلى أن دارس هذا الشعر لا يستطيع أن يتعمقه أو أن يحياه جيداً دون أن يضعه قدر الإمكان، ضمن المؤثرات المختلفة السياسية والاجتماعية والثقافية التي شكلته على صورته المعطاة .. فالخطيب لم يدرس النصوص دراسة فنية، قدر ما أضاءها من خلال الكتابة عن المؤثرات التي أحاطت بها، ولم يكن ناقداً جمالياً، وإنما كان مؤرخاً وعالمَ اجتماعٍ ومبدئياً، عدا أنه حاكم النصوص السياسية، ما رأيك؟
أولا اشكر الدكتور الأسطة على هذا الكلام ..ثانيا عندما أصدرت ديوان الوطن المحتل لم أكن أهدف بأي شكل من الأشكال أن أقدم دراسة نقدية لهذه الأشعار وإنما دراسة وطنية ثقافية سياسية والبواعث التي حملت هؤلاء الشعر على كتابة هذه القصائد فبعضهم أصاب حينما تعلق بالوطن وبالقوم وبعضهم أخطأ بانتسابه إلى حزب ركاح الشيوعي الإسرائيلي العربي فهذا مرفوض من جانبي من حيث المبدأ فهاجمت هذه الناحية وحاولت أن أبرز الجوانب الوطنية الملزمة في قصائد هؤلاء الشعراء.


ما هي النصيحة التي توجهها لبيت فلسطين للشعر ولهذه التجربة التي تحاول أن تجمع الشعر الفلسطيني أو ما قيل عن فلسطين؟

أولا من حيث المبدأ لا يصح إلا الصحيح .. لا تركضوا وراء الشهرة إطلاقا أو إلى الشعراء المشهورين ..أركضوا والهثوا وراء الإبداع الشعري الذي يرضي ضمائركم ووجدانكم بدون التطلع إلى الإذاعات والتلفزيونات والفضائيات من تبرز وماذا تبرز يعني أن تكونوا مستقلين أنا أشترط في الشاعر أن يكون مستقلا عن أي مؤثر خارجي أن يكون أمينا مع نفسه أمينا مع الآخرين المتبقين لإبداعهم الشعري. وبهذه المناسبة أحيي جهودكم الممتازة والممتازة جدا في تأسيس هذا البيت.






  رد مع اقتباس
/
قديم 04-08-2011, 10:54 AM رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

قصيدة
عمّ صباحاً لبنان


عِمْ صباحاً، لبنانُ عَمَّ الضياءُ

وصحا، يوم أن صحوتَ، الرجاءُ

عُدْتَ تأسو الجراحَ فينا، جريحاً

فَـحَنَـتْ رأسَـها لـكَ الكبـريــاءُ

كان لَمَّا أَنْ شاءَكَ اللهُ فرداً

قالَ كُنْ، فاستَوَيْتَ كيفَ تَشاءُ

***
أَنا، لبنانُ، لستُ لاجئَ دارٍ

سَعَةُ الكونِ حولَ دراي فِناء

أَنا أَهلي، أَهْلُ المسيحِ، وبَيْتي

بَيْتَ لحمٍ، وَجَلَّتِ الأَسماءُ

أنا رَحَّالةُ الرؤى، ضَلَّ سَعيي

في سرابٍ، وضاقت الأَرجاءُ

خاتَلَتْني إلى مرافيءِ حُلْمي

بُوصَلاتٌ كَليلةٌ عمياءُ

قلتُ آتيكَ، أحتسي دَمَ كَرْمٍ

لي تَجَلٍّ في قَطْرِهِ، واجتلاءُ

ليتني قبلةٌ، وَلَيْتَكَ ثغرٌ

فَتَرى كيف يَعشَقُ الشعراءُ

***
عِمْ صباحاً، لبنانُ، عنوانَ بعثٍ

حَلَّقَتْ فيه، من رَمادِها، العنقاءُ

رُبَّ إغفاءَةٍ بِحضنِكَ، مَوْتاً

يَتَشَهَّى مَذاقَها الأَحياءُ

ما الأَهازيجُ، والدفوفُ، وَرَقْصٌ

لِمَنْ العُرْسُ، أَيها الأَصدقاءُ

أَدُمُوعٌ تَلأْلأَتْ، أم شموعٌ

وَيُوارى، أم يُولَدُ الشهداءُ


يا ذُرى عامِلٍ، هنا قد تَماهى

في عُلاكِ، الأَبناءُ، والأَنبياءُ

لِلغطاريفِ مِن بَـنِـيكِ، بُراقٌ،

فِلأَيِّ المَعارِجِ الإِسـراءُ!!

مَن هُمُ الزامرونَ في السُّحْبِ وَجْداً

مَطَرٌ فَيْضُ عِشقِهم، أَم غِناءُ


أَنْجُمٌ تلك أَزْهَرَتْ، أَمْ جُمانٌ

تَتَحَلاَّهُ فاطِمُ الزهراءُ

أَم تُرى تلك في الحديقةِ تَسقي

مَطْلَعَ النور، مَريمُ العذراءُ

فإذا القدسُ، طَيْلَسانٌ، وفِصْحٌ

واكتستْ أرجُوانَها كَرْبَلاءُ

نَخْبَ لُبنانَ، يا صِحابُ، وَعُذْراً

أَنا دارتْ بِرأسِيَ الصَّهباءُ

لستُ أدري، أَبالسماءِ زَفافٌ

أم إلى أرضِكُم، تُزَفُّ السماءُ






  رد مع اقتباس
/
قديم 04-08-2011, 10:55 AM رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

قصيدة
هذي الملايين


أَكادُ أُؤمِنُ ، مِن شَــكٍّ ومن عَجَبِ
هَذيِ الملايينُ لَيْسَـتْ أُمَّــةَ العَـرَبِ

هَـذيِ الملايينُ لم يَـدرِ الزمـانُ بـها
ولا بِـذي قارَ شـَـــدَّت رايةَ الغَلَبِ

و لا تَنــزَّلَ وَحْـيٌ فــي مَرابِعِهــا
و لا تَـبُـوكٌ رَوَتْ منهـا غَليـلَ نَبــي

و لا على طَـنَــفِ اليَرمُوكِ مِن دَمِهـا
تَوهَّـجَ الصبحُ تَيَّاهـاً على الحِقَبِ

و لا السَّـفِينُ اشتعالٌ في المُحيطِ ، ولا
جَوادُ عُـقْـبَـةَ فيـهِ جامِـحُ الخَــبَـبِ

أَأُمَّتـي ، يــا شُــــموخَ الرأسِ مُتلَعَـةً
مَن غَـلَّ رأسَـــكِ في الأَقدامِ والرُّكَبِ

أَأَنــتِ أَنــتِ ، أَم الأَرحــامُ قـاحِــلةٌ
وَ بُـدِّلَتْ ، عــن أبي ذَرٍّ ، أبَا لَـهَبِ !!
* * *


أَكـــادُ أُؤمِـنُ ، مِن شـكٍ ومن عَجَبِ
هذي الملايينُ لَيسَـــتْ أُمَّــة العَرَبِ

لــولا تَشـُـــقُّ سـُـــجُوفَ الليلِ بارقةٌ
يا شُـعلةَ الصبحِ، رُدِّي حالِكَ الحُجُبِ

تَهِيــجُ بي ذِكَــرُ التـاريخِ جامــحةً
و يَعتريني الأَسَى حولي ، فَـيَقعُدُ بي
:
تَــوَزَّعَتْنــي دُروبٌ لا لِقــاءَ لـهـا :
الــذلُّ في الناسِ ، و العلياءُ في الكُتُبِ

كأَنما أَنا جَمْعُ اثنينِ : سَــــيفُ وَغَـىً ،
مُعَـذَّبُ الروحِ فـي غِمْـدٍ من الخَشَــبِ

أَغزو "عَـمُورِيَّــةً" في الليلِ أَحـرِقُها
وشِـــلْوُ أُختـي غِذاءُ الطيرِ في النَّقَبِ
* * *

لو كنتُ مِن مازِنٍ ، لم يَستبِحْ وَطَني
بَنُـــو اللَّقيطَـةِ مـن صَرَّافـةِ الذَّهَـبِ

لَكُنتُ غَمَّسـتُ رُمحـي في حناجـرِهم
أَو غَمَّسوا،هُمْ،رماحَ الغدرِ في عَصَبي

لكنـني ، وَ بَنـي شــعبي ، تَـخَـطَّـفَـنا
قِيـلُ الملـوكِ : أَلا لا بُدَّ من هَـرَبِ

فَكُـلُّ عَـرْشٍ ، علـى بُقْيـــا جَماجِمـِنا
أَرسَــى قوائِمَـهُ مُختالــةَ الطَّــنَــبِ

لــم يَـــدرِ أَنَّ عِظــامَ الأَبريــاءِ بِـهِ
أَلغــامُ ثــأرٍ ، تـُـدَوِّي ســـاعةَ الغَضَبِ
* * *
صَنْعاءُ ، رُدِّي دمــاً مــا أَنتِ ساحَتَهُ
يافــا تَصيحُ بــه مجنونــةَ السَّـــغَبِ

لا أَذَّنـــَتْ فـيكِ يا صَنْعـاءُ مِئذنـــةٌ
واللّـــدُّ تَنـــدُب فــي محرابِهـا الخَرِبِ


لا أَمـطَـرَتْ في سـماءِ العُرْبِ غائِـثـةٌ
و في الجليلِ الرُّبـَـى محبوسـةُ السُّحُبِ

تبكيــــنَ من مَــأْرِبٍ قــانٍ تَفجُّـــرُهُ
وَجَفَّ في القدسِ،حتى الدمعُ في الهُدُبٍ!!
* * *
أَكـادُ أُومِـنُ ، مِن شــكٍّ وَمِن عَجَبِ
هــذي الملايينُ لَيسَــتْ أُمـَّـةَ العَرَبِ

كـــأَنَّمـا لم تَـلِـدْ فـي اليُتْم " آمِنَــةٌ "
ولا " حَلِيمةُ " هَــزَّت مَهْــدَ مُرْتَقَبِ

كــأَنَّمـا الصَنَـمُ الأَعلـى مُـحَـدِّقـــةٌ
عينــــاهُ فـي زُمـــرةِ الأَزلامِ والنُّصُبِ

و كــم مُسَيلِمَـــةٍ ، عَمَّـــت خَوارِقُـــهُ
وَعَلَّــمَ الناسَ دِيناً ، شِــرعةَ الكَـذِبِ



إِزميلَ شَعبِيَ، يامَنْ صُغتَ مِن حَجَرٍ
رَبَّــا، و سُـقتَ له النَّجوَى، ولم يُـجِبِ

كُــنْ مِعْوَلاً في جبينِ الصخرِ ثانيةً
وحَطِّم اللاَّتَ ، وارشُـــدْ مَرَّةً وَثُبِ

* * *
أَكـــادُ أُومِنُ ، مِن شَـــكٍّ وَمِن عَجَبِ
هَذي الملايينُ ليســت أُمَّـةَ العَرَبِ

تَــَبـدَّلَتْ هِمَـمُ الصحـراءِ ، واأَسـفا
بَيَّاعــةَ النفطِ ، عن خَيَّالــةِ الشُّـهُبِ

مَن شَـَّمروا لِلوغَى الأَردانَ، مِن وَبَـرٍ
فانظــر لهم ، في طَرِيِّ القَزِّ والقَصَبِ

سَـــلِ الجـواري ، ومـا وُشِّينَ مِن بُـرُدٍ
والغــانيـاتِ ، ومــا حُلِّيــنَ من ذَهَبِ




أَمــا يُــؤرِّقُ ربَّ القصرِ رَجْعُ صدىً
مُعَــذَّبٍ في طُلــولِ اللّــدِّ ، مُنتَحِبِ

وفي الجليـلِ عـذارى يَـنْـتَـخِـيـنَ ، فما
تَســري الـحَمِيَّــةُ في عِـرقٍ ولا عَصَبِ
* * *
إِنــا سـَـــقَينا خُطـــوطَ النــارِ من دَمِنـا
فَلْيَسقِها الشيخُ بعضَ الزيتِ، إِن يَهَبِ

لا و العُروبـــةِ، لا كَلَّـــت سَــواعِدُنـا
صَوَّالــةً بِسِــــنانِ الـــرَّوْعِ والقُضُــبِ

لا و العُروبـــةِ ، أَو شُـــلَّت سـواعِدُنا
إِن لـم نُفَجِّـر مدى الصحراءِ باللَّهَبِ

إِن لــم نَقُـمْ في حُقولِ النفطِ نُشعِلُها
في جنبِ كلِّ دخيلِ الدارِ ، مُغتَصِبِ




ما لِلجماهيرِ لـم تَفتَــح جَـهَـنَّـمَـهـــا
لِلفـــاتحينَ ، و لــم تَــزْأَر ، و لم تَثِبِ

أَقـــد سَـــرَى خَــدَرُ الأَفيــونِ في دَمِها
فما تُـحِـسُّ عليهِ صَحـوةَ الغَضَبِ؟!
* * *
أَكـــادُ أُومِنُ ، مِن شـــكٍ ومن عَجَبِ
هَذي الملايينُ ليســت أُمَّـةَ العَرَبِ

لولا تَشُـــــقُّ سُــجوفَ الليــلِ بــارقةٌ
يا شُـعلَة البعثِ ، رُدِّي حالِكَ الحُجُبِ

وَقُـمْ ، فَأَنـــذِرْ ، بـأَصنـــامٍ مُـبَـجَّـلـةٍ
غَداً تـَدَحْـرَجُ فـي الأَقــــدامِ كاللُّعَبِ

واسأل ببغدادَ، عن"نُوري"،وخِلفَتِهِ
نَبُــوءَتي في طُغــاةِ الأَرضِ لـم تَـخِبِ




إذا الثعالبُ صِيدَتْ في مَكامِـنِـها
أَيَّـانَ يُفلِتُ من شعبِ العراقِ، غَبي

لَعنتُ تِشـــرينَ ، باســـمِ اللّدِّ أَلعنُـهُ
و باســمِ جُرحٍ على اللَّطرونِ مُنْسَكِبِ

بِــدَيــرِ ياســينَ ، بِــالأَرواحِ هــائمـــةً
علــى الخرائــبِ ، تَرثـي نَخْوَةَ العَرَبِ

لعنتُ تِشـــرينَ، لا بغدادُ مِن وَطَني
ولا العـــراقُ ، و لا كان الرشيدُ أَبي

إِن لم أرَ الرَّكبَ من شعبِ العراقِ ضُحىً
يَلُـزُّ عَرضَ المـدى في زَحفِهِ اللَّجِبِ

كأَنَّ، مِـن قُبْلُ ، لم يَجْلُ النهارُ دجىً
ولا ازدَهَتْ صفحةٌ للعزِّ في كُتُبِ
* * *


وفي الشآمِ ذَوُو بــأسٍ ، مُسَـــرَّجَةٌ
خُيُولُهم قِبْلَـةَ الـمَيْـدانِ كالشُّـــهُبِ

علـى النيـازكِ فُرســــانٌ لهم ، و على
رَحَــى الجنازيــرِ جِـــنٌّ مُـرَّةُ الغَضَبِ

جُنْـــدُ الرســـالةِ ، مَعقُـودٌ لِواؤُهُمـو
لِلبَعثِ ، عَـــزَّ على مَسـعُورِة النُّوَبِ

مـا عَـابَهُـمْ أَنهــم بِالســـيفِ نَخوتُهــم
و غيرُهـم بِضجيــجِ القـــولِ والخُطَبِ

مــا عَـابَـهُـمْ أننــا لســـنا تِـجارَتَـهُم
ولا الخيـامُ بِسُــوقِ العرضِ والطَّـلَبِ

* * *
وقِيل "وَهْرانُ".. هل حادَ السبيلُ بها
تُزجِي القوافلَ،"أَنغولا"،عن النَّـقَبِ!!

هــل الطريــقُ إِلى يــافـا مُضَيَّـعــةٌ
و مِـن دِمــاهـــا مَنـــارٌ أَلفُ مُلتَهِـبِ!!


واخَجْلَتا ، وَ بُـيُـــوتُ الناسِ أَرفُعُها
وبيـتُ أَهلـي عَـوِيـلُ الريحِ في الخِرَبِ

عاتبتُ"وهرانَ" في جُرحي،و تَذكُرني
في جُرحِها،وَسُدىً لَوْمي،سُدىً عَتَبي

* * *
أَكـادُ أُومِنُ ، مِن شـــكٍ ومِن عَجَبِ
هَــذي الملايينُ ليســـت أُمَّةَ العَرَبِ

لـولا رِفــاقُ طــريقٍ، في مَلامِـحِهِــم
وَهْــجُ الرســـالةِ يُذكي سالفَ النَّسَبِ

تَـــدري العـروبةُ مَن أَبنــاءُ بَجْدَتِهـا
مَن الـمُحامـونَ بِــالأَرواحِ والقُضُبِ

مَــن الــذيــن ، إذا أنـَّـت لِنــازِلَــةٍ
يــافـا ، تَـنَـهَّـدت الأَصـداءُ في حَلَبِ



لَيَهْــدِرُ الزَّبَــدُ المَحمُومُ مُصطَخِباً
وَيَسـتحيلُ جُفــاءً ســاعةَ الحـَـرَبِ

وَ يمْكـثُ الحــقُّ ، فـي غَوْرٍ أَرُومَتُـهُ
وَ فَـرعُــهُ فـي جِـوارٍ اللهِ كـالطَّنَــبِ

آمنــتُ بِـالشــامِ، رُوحُ البعثِ تَسكُنُها
مـا جِلَّــقٌ هــذه ، بــل كَعبَــةُ العَـرَبِ






  رد مع اقتباس
/
قديم 04-08-2011, 10:56 AM رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

قصيدة
قُل لنا شِعراً



1

على طريقِ النجومِ ســـــامِرُنـا،
و حيثُ يَعْـرَى و يَشـــرُدُ القَمَرُ

والليلُ أرضُ الخيالِ، فامضِ بنا..
يَلَـذُّ خلـفَ الحقيقــةِ السَّـــفَرُ

دُنــىً رحابُ المدى ، و أَجنحةٌ
علـى ضُلوعِ الكمــانِ تنتظــرُ


مَقرُورةٌ في النهـــار ، مَـيِّــتَـــةٌ ،
تَهِيجُها الأُغنيـاتُ والسَّـمَرُ

فحين يَلتـاعُ قَوْسُ شــاعرِها ،
يَمضي بهــا أَيَّ رحلـــةٍ وَتَـــرُ

إِنـــا تَــخِذْنا الحياةَ أُغنيــةً ،
تَصفُــو لنـــا ، تـارةً ، و تعتكرُ

نُســـقى طِلاها ، فَيَغتلـي دَمُنا ،
أو يرتخـي في جُنوبِنــــا الخَدَرُ

هـــاتِ اســـقنا الـراحَ، بابِـلِـيَّــتَها،
تَشــــتاقُنا ، بَعْدُ ، في المدى جُـزُرُ

لم نـأتِهــا ، مَـــرَّةً ، وَ نُوعَدُها ،
إذا تَعـــرَّى ، وأقبــلَ القمـرُ

و الليلُ أرضُ الخيالِ، فامضِ بنا ،
يَلَــذُّ خـلفَ الحقيقةِ الســفـرُ




2

ياسـادتي .. والغناءُ ذو شَـــجَنٍ
عندي .. وَهَمُّ العَشِــيَّةِ الطَّرَبُ

مــاذا يُغنِّي الــذي أَصـابِعُــهُ
صَمْتٌ ، وأعماقُ رُوحِهِ صَخَبُ !

ماذا .. و دُونَ الغنــاءِ مَلحمـةٌ
تَفُــورُ في أضلُعي ، وتلتهبُ !!

قد أَلبَسَــتني الحِدادَ ذاتُ يدٍ ،
فكيفَ أشـدو ، والقلبُ يَنْـتَحِبُ

و بـي حَنينُ الأَبعادِ ، ما هَدَأتْ
رِجْــلايَ ، إلا وحَثَّني الطَّلَبُ



هـذا جِـرابُ الغريبِ ، ليس بهِ
ما تَشــــتَهُونَ ، الحكايـةُ الذَّهَبُ

ظِـلٌّ على الدربِ ، راحلٌ أبـداً ،
مُشَـــرَّدٌ في ذَوِيــهِ ، مُغتَـرِبُ

ينمو على أَصغريــهِ وَعْــدُ غَـدٍ






  رد مع اقتباس
/
قديم 04-08-2011, 10:57 AM رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

قصيدة
في عِشق مصر




أُعطيكِ وَعْـدَ هَوىً في نُزهةِ القَمَرِ

بين النَّدى، وشَذَى بُستانِكِ العَطِـرِ


مِصرَ الحنانِ ، فلا كان الوَداعُ قِلَـىً

ولا اللقاءُ سوى قَـوسٍ على وَتَــرِ


وليتَ حتى نُجومَ الليلِ أَنــظِمُها

لَكِ الحِـلِـيَّ، ورمزَ الـتَّوقِ والذِّكَرِ


فَجَـنِّحيني رُؤَىً عُليا، وأَخْيِلَـةً

لأن عَذْبَ لَماكِ المُشتَهَى وَطَري


وأَلـهِميني بِراحٍ منكِ رائقةٍ

مِنْ قَـبـلُ ما خَطَرتْ في بالِ مُعتَصِرِ


أنا الذي لِيَ في التأويلِ مُعجزةٌ

وأَنتِ مَن بُورِكَتْ في مُحكَمِ السُّوَرِ


عَهدي أُفـَسِّـرُ أَحزانَ الدُنَى، فَـرَحاً

وظامِيءَ الرملِ ، غُزلاناً على غُـدُرِ




فَمَن يُـفَـسِّـرُ في عينيكِ لي لُغةً

تُحيِي، وتَذبحُ ، في سَهمٍ من الحـَـوَرِ


وَدِدْتـُـني قُبلةً ، يا مِصرُ ، هائمةً

مَشاعَ وَاديكِ ، والشُّطآنِ ، والنَّـهَرِ


وإنْ يكُ العِشقُ أسـراراً مُكَـتَّـمَةً

فإن لي فيكِ عشقاً غيرَ مُستَـتِــرِ


هُوَ الفضيحةُ تحت الشمسِ، عاريةً

إعلانُ شوقٍ إلى لُقياكِ مُستَعِـرِ


وما سَرِيرُكِ، مَدَّ النيلِ، مِن وَطَنٍ

إلا مَـجَازُ نعيمِ اللهِ ذِي السُّرُرِ


رُشِّي سَرِيرَكِ أَغلَى الطِّيبِ، سَيِّدتـي

مِرسالَ وَصْلٍ إلى عُنوانِـيَ الخـَطِـرِ


بين الخليلِ ، وأَكنافِ الجليلِ ، وما

بالقُدسِ مِن حَجَرٍ، يَسمُو على بَشَرِ


هناك سَرَّحتُ رُوحي في فُتـُونِ دُنىً

ما قَبلَها حالَ فِردَوسٌ، إلى سَقَرِ


قد عِشتُ جِيرةَ إبراهيمَ، عَهْدَ صِباً

وأَقصرُ العُمرِ هذا الفَضلُ من عُمُري



يا نارُ كُوني سلاماً حَول مِـنــبَـرِهِ

وَبَلسِمي كلَّ جُرحٍ ، أَدْمُعَ المَطَـرِ


في رُكَّعٍ ، سُجَّـدٍ ، آسَتْ عُروبتُهم

جِراحَهم بِضمادِ اللَّغْوِ ، والـهَـذَرِ


كأَنَّ لا عُرسَ فجرٍ كائنٌ أبداً

إلا بِمَهْرِ دَمٍ ، كالسيلِ مُـنْـهَـمِـرِ


* * *
أُعطيكِ يا مصرُ وعداً لستُ أَحْنَـثُـهُ

وما استطالَ بِـيَ الترحالُ فانتظري


حتى أَجيئَكِ، لا أَدري، أيسبِقُني

فَمي لِثَغرِكِ، أَمْ من لَهفتي، خَبَري


لو قد مَسَسْتِ بِقلبي جُرحَ فاجعةٍ

رَضيتِ عن عَذَلٍ، أَسبابَ مُعتَذِرِ


فما أَشَقَّ مَرامي ، غُربةً ، ونَوَىً

وما أقلَّ لهُ زُوَّادةَ السَّـفَـرِ


لو تَعلمينَ ، لقد ضَيَّعتُ بُوصَلَتي

مَلَّاحَ ليلٍ ، جَـفَـتْهُ طَلعةُ السَّحَرِ




إلا مَرافِيءُ مِن عينيكِ ، أَنـْـشُدُها

تجلُو البصيرةُ فيها ، رِيبَةَ البَصَرِ


قد جئتُ ، لا لاجِئاً يا مصرُ مُنْـتَبـَذاً

وأنتِ تالِدُ أَسلافي ، وَمُدَّخَري


جَدَّايَ، أَزْعُمُ، رمسيسٌ ، وَمَنْقَرَعٌ

وأدَّعي أنكِ العَرباءُ مِن مُضَرِ


هُما المُحيطانِ ، ميراثي ، وَرِزْقُ أبـي

وأنتِ بِكْرُهُما المكنُونَةُ الدُّرَرِ


فَلَو سَمحتِ ، دَعِي رأسي إلى سِنَةٍ

في دِفءِ صدركِ داني الشَّهدِ والثَّمرِ


دَعي تَـميمةَ عِشقٍ فيكِ تَـحفَظُني


على سِجالي وهذا العَسفِ من قَدَري


مالي سِوى قَلبِيَ الدَّامي أُقَلِّدُهُ

مِن حولِ جِيـدِكِ ، ياقُوتاً من الذِّكَرِ


* * *



مِصرَ الحنانِ ، أيا مِفتاحَ أُغـنِـيَـةٍ

على رِحابِ غَدٍ لِلشَّرقِ مُنْـتَـظَرِ


أُعطيكِ يا نَزْرَ ما أُعطي كَفافَ يَدي

مُزَيـْـنَـةً ، فوق بحرٍ منك مُنـسَجِـرِ


أُعطيكِ ، في مَوْطِني ، عُنوانَ دالِـيــةٍ

تَسقي الطِّـلى اثنينِ ، في أرجوحةِ السَّمَرِ

أنا ، وأنتِ ، وعُرسُ الكونِ ثالـثُـنا

وزامِروُنَ على الأفلاكِ ، في زُمَـرِ


إذِ الصَّبا كَرْمِــلِـيٌّ ، والزمانُ صِباً

والمرجُ مِن سارحاتِ الريمِ في أُزُرِ


إذِ السلامُ أَغانٍ حُرَّةٌ ، ودُنـَـىً

تَهمي الدموعُ بها ، مِن بَهجةِ النَّظَرِ


أَمْتَصُّ ثَغركِ، حتى الغَيْبِ، يا كَرَزاً

يَطيرُ بي جُزُرَ الأحلامِ ، إنْ يَطِــرِ


* * *



حَبيبتي ، لَكِ سَيفي وردةٌ ، وَدَمي

خَمرٌ ، ورُوحي عِناقُ الطَّــلِّ لِلزَّهَرِ


أَتِلكَ إلا يَدُ الرحمنِ قَد بَدَعتْ

هذا الجمالَ ، قِياسَ العينِ بالأَثـَـرِ


كِنانـَـةَ اللهِ ، لو أَحظى بِمَغْـفِـرَةٍ

سَألتُكِ اللهَ ، عن فِردَوسِهِ النَّضِرِ






  رد مع اقتباس
/
قديم 04-08-2011, 10:58 AM رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

قصيدة

نشيد الثورة



1

بِـاســمِ التُرابِ ثائرونَ ، باسمِ الشعبْ
باســمِ الغدِ النبيلِ ، فَـلْـيَـمُـرَّ الركبْ

جـبـاهُـنا على المدى
يَـلْفَحُـها هَجيُر الشـمـسْ
مُشْـــرَعَـةٌ على الردى
تَضرِبُ في جبينِ الـيـأسْ

إِزميلـَهـا المقدودَ من ذراعِ الشــعبْ

إنَّـــا نَـدُقُّ بوقَ البعثْ
نُـــدني إلى الجذورِ الحرثْ
أَيـَّـتهــــا الجِـبـــاهُ ، بالدمِ
خُـطِّــي على الثرى ، و أَقسِـــمي
أَنَّ لـنـا الخلودَ و الصبــــاحَ الرَّحـبْ

عُــدنا ، أَتـينا ، نُـعَـذِّبُ الدجى
نَحرِقهُ فينـــا
نَبني ، نُـغَنـِّي ، نعـانِـقُ الرجـــا
نَصنـعُ آتينــــا


تَـمَـزَّقي أَعِـنَّــةَ الغَـضَـبْ
لَـنرفَعَـنَّ دولةَ العربْ

باسم التراب ثائرونَ ، باسم الشــعبْ




2

في الليلِ أَيـدينـــــــا تَـدُقُّ بابَ الصُّبحْ
تَــــدُقُّـــهُ ، تَـــدمَى ، يَشِــعُّ منها الجرحْ

تَــضَـوَّئـِـي يا أَرضَــنا
عُـبِّـي مِن العــروقِ الزَّيـتْ
حتى يَـجِـيءَ بَعْـــدَنـا
جيلٌ يَــفِــيءُ نُـعمىَ البَـيـتْ
حتى يَـفِـيضَ في السـماءِ نَبْـــعُ الصبحْ

إَنـا نَـــدُقُّ بـــوقَ البعثْ
نُــدني إلى الجذورِ الحرثْ
أيَّتهــــا الطليعةُ اُخطَفي
ناصِيةَ الرياحِ ، واعصِفِي

وَ لْــنُــطْــعِـم التِّــنِّــينَ ، بَعْدُ ، وَهْجَ الرُّمحْ

عُـدنا ، شَــــرَعنا المُــظَـفَّـرَ المُـضاءْ
يا أيـُّـهـا الغالي
حَلِّــقْ ، وصَـفِّـقْ ، تَــوَّطنِ السماءْ
مَنــــــارَ أَجيالِ

تَــمزَّقي أَعِـنَّـــــةَ الغضبْ
لَنَرْفَعَــــنَّ دولةَ العربْ

باســـمِ التُرابِ ثـائرونَ ، باســمِ الشــعْبْ



3

نادَى النَّـفـــــيُر ، والمســـيُر دَرْبٌ وَعــــرْ
رُحنـــا لَهُ ، عَــدَّ الرمـــالِ ، مَدَّ البَحرْ


جِـيلٌ يَمُوتُ ، ألفُ جيلْ
يَـخلفُـهُ لِشَوْطِ الغــــــدْ
الدربُ دوننـــا طويـــلْ
فَـلْـتُـجــزِلِ البُحورُ المـــدْ

حتى نَــشُـدَّ في الجبــــاهِ غارَ النَّـصـرْ

ِإنــا نَـــدُقُّ بُـوقَ البعثْ
نُـــدني إلى الجذورِ الحرثْ



أَيَّتهــــا المرابِـــعُ اشـــرَبي
دمــاً طليعيَّــاً ، و قَــرِّبـي

مِن أجلِ عــالَـمِ السـلامِ وَعْــدَ الفَـجـرْ

عُـدنا ، خُـطــانا الضياءُ والسلامْ
فَلْتَشــهد الدنيـــا
هَلَّـــتْ ، أَطَـلَّـتْ ، تُـزَحـزِحُ الظلامْ
مَشـــاعِلُ الرُّؤيا

تـمزَّقي أَعِنَّــــةَ الغَضَبْ
لَنَرْفَعَـــنَّ دولةَ العربْ

باسـمِ الــتُرابِ ثـائرونَ ، بـاسمِ الشعبْ






  رد مع اقتباس
/
قديم 04-08-2011, 10:59 AM رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

قصيدة
سلم لكنّ إناث العروبة!





سأَرسُمُكِ الآنَ، عذراءَ كل النساءِ،
وفي عَطَشِ الأَرضِ، حُبْلى غيومِ السماءِ،
تواعدتِ، سِرَّاً، وصُبحَ قِيامتنا المُنتَظرْ..

أَماناً لِقلبي.. أيا امرأةً وحدَها
تَتكَحَّلُ، في الصعب، بارودَ خطِّ القتالِ..
ويا روحَ زوبعةٍ.. في سِماتِ الخَفَرْ

سَأرسُمُكِ الآن، عَبْرَ زِقاقِ المُخَيَّمِ
عفراءَ.. حافيةً.. تحت زَخِّ الرصاصِ
كأَنْ قد تَوَهَّجَ في راحتيكِ الحَجَرْ..

فما بالُ سيف الرقيبِ.. اللبيبِ!!..
أَقد ظنَّ يَحتَزُّ منا رِقابَ الحروفِ
جزاءَ سُراهُنَّ، عبرَ الدَّياجي، حَبَالى شَرَرْ؟!..





هنا.. مِن تَقَصُّفِ أعناقِهِ الخَضِلاتِ
يَفُوحُ شَذَى الرَّندِ.. والأقُحوانِ..
وتَنتَزِعُ الخُلدَ - ساعةَ مَقْتَلِهِنَّ - الفِكَرْ
* * *
سَأرسُمُكِ الآن، في عُمْقِ سِرِّ الخليجِ
مَحارةَ عشقٍ، تَخَبَّأَ في قلبكِ الحبُّ، والحُلمُ،
واستوطنت جانحيكِ عذارى الدُّرَرْ

إلى أن يغوصَ عليكِ غداً.. آخرونَ..
فها أنتِ - إذَّاك - بَوْحُ النهارِ،
وَفَوْحُ العرارِ، وفي عَطَشِ الرملِ سَحُّ المطرْ

سَأَرسُمُكِ الآنَ، سَيِّدةَ النحلِ، والزهرِ،
وَحدَكِ أنتِ المليكةُ، والعَسَلُ الأُنثوِيُّ..
وقحطانُ "هذا الزمانِ"، مُجَرَّدُ ذاك الذَّكَر!!..
* * *
سلامٌ لأَهدابِكُنَّ.. إناثَ العُروبةِ..
إِني لأَلمحُ في نائِساتِ الرموشِ
سِقاءَ مُحمَّدِنا بالحليبِ، وتهويمةً في سريرِ عُمَر

كأني بِمَريَمنا الناصريةِ تَسري بأعطافِكُنَّ
مَشاعَ الندى، والشذى، في أَقاحي الجليلِ..
وأسمعُ أجراسَ قافلةٍ.. تَستَحِثُّ خَلاصَ البَشَرْ..



فَأطلِقنَ هذي الجدائلَ، رَسْلَ النسيمِ،
وَمَزِّقنَ أسجافَ أحلامِكُنَّ.. هو الوطنُ الآنَ
قد دَقَّ فيكنَّ.. أنتُنَّ.. ناقوسَ داهي الخَطَرْ!!..

سلامٌ لأَرحامِكُنَّ.. إناثَ العروبةِ..
قد وَهَنَ العظمُ من "زَكَرِيَّا الهزيمةِ"،
فاحمِلنَ (مِن وَحَمِ العشقِ في اللهِ) جيلَ القدر!!..
* * *
وأنتِ التي أَنتِ.. سَيِّدةَ البَوْحِ والصمتِ..
هاكِ البشارةَ، من عُمْقِ جُرح فِلسطينَ:
"قد دَلَفَ السالكونَ الدجى.. في رِحابِ السَّحَرْ"..

سَأَرسُمُكِ الآنَ، دالِيةً تحت ثلجِ الخليلِ
تُؤرِّثُ في أَضلُعِ الأرضِ كُلَّ سعيرِ الكويتِ،
فَتَنسَغُ منكِ العناقيدُ وَهْجَ الطِّلى، واشتعالَ الذِّكَرْ

وإنكِ - لو قد أَسِيتِ – فما قد نَسيتِ
بأن "التشارينَ" نُطفَةُ حُلمِ الربيعِ..
وأيَّانَ سُنبلةٌ، غيرَ ما قمحةٍ دُفِنَتْ في الحُفَر؟!..

فحتَّى يجيءَ الذي (عُنْوةً سيجيءُ)، اسمعي:
سَأَظَلُّ هنا.. تحت ما شُرفةٍ في الخيالِ..
أُلَوِّنُ بالوجدِ أُنثى الرؤى، وأُلَوِّعُ نجوى الوتر..

سَأَرسُمُكِ الآن، فارسةً.. فَرَساً.. صهلةً
في الرياحِ.. تَعَلَّيتِ مَتْنَ الصباحِ،
تَشُكِّين في عينِ غاشيةِ النومِ، لَسْعَ الإبر
* * *
أيا "نُونَ نِسْوَةِ" هذا الدجى "اليَعرُبيِّ !!"
سَأُعرِبُكِ الآن - فوق ادِّعاءِ جميعِ النُّحاةِ:
فَمُبتَدأُ الزرعِ أنتِ، وفي غَلَّة الصيفِ أنتِ الخَبَرْ..

فَطُوبى لمن كان فَلاَّحَ هذا الجمالِ،
ومن كان حَصَّادَ هذا الجَنَى.. وشَهِيِّ الغِلالِ..
ويا ليت كان لِـحُورِ السماواتِ، هذا الحَوَرْ..

عَدا أَحمرِ الشفتينِ هُوَ الشَرَفُ االمُستباحُ :
ابتذالُ جِباهِ الرجالِ.. وعُهْرُ النضالِ ..
وَعَسْفُ المماليكِ في مَدِّ ما يتمادى البَصَرْ..

فأَنتُنَّ.. كُنَّ قِيامَتنا.. والنُشُورَ..
وَ طَلِّقْنَ ، أُفتي -"ثَلاثاً "- جَناحَ الحريمِ،
وَ كِزلارَ ، والشَهرَيارَ ،وحُرَّاسَ هذا الدجى المُحتَضَرْ..

أٌفَجِّرُ، في سِحرِ أعيُنِكُنَّ، أَسى ريشتي
فمتى.. يا إِناثَ العروبةِ.. أنتُنَّ
تَرسُمنَ من حَدقاتِ النجومِ بَكارى الصُوَرْ؟!..
* * *
كأَنْ ما يزالُ إلى الصبحِ شوطٌ بعيدٌ
وما زال - يا عازفَ الليلِ - أن تَستفيضَ
جوىً، والتياعاً، وبَوْحَ هوىً، في مَحاقِ القَمَرْ!!..






  رد مع اقتباس
/
قديم 04-08-2011, 11:00 AM رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

قصيدة
في آذان العصر





في أَذانِ العَصْرِ..
كانتْ تنَحَني مَرْكَبَةُ الشَمسِ إلى الوادي،
ويَلتاعُ صَهيلاً فَرَسُ الموتِ المُطَهَّمْ..
أَعطِني نَاراً.. و قِيثاراً..
سَأُهدي الصَّمتَ سِكُّينَ أغانيَّ
وأُلقي شعراءَ التاجِ في قعرِ جَهَنَّمْ !!..
أَعطِني ناراً.. و قِيثاراً..
أُغنُّي الليلَ غِرنَاطيةَ الأشْجانِ..
ولِيذهَبْ بهمْ عَرَّابُ مَدريدَ إلى قعْرِ جَهَنَّمْ!!..
في أَذانِ العَصْرِ..
كانَ الموتُ سَكرانَ ثُمالاتِ الشرايينِ،
وَيُورِي زُرْقَ أَنْيابِ الشياطينِ، و يَنهَمْ..

إنني أُشْهِدُكَ، اللَّهمَّ،
أنَّ الموتَ سَرَّاقٌ يهوديٌ
و يَسْقي مِنْ دَمِ الأَطْفالِ
مَعْجُونَةَ «فُوريم» على كَوْنٍ مُهَدَّمْ..
في أَذانِ العَصْرِ..
كانَت وردَةٌ قدْ سَفَحَتْ أَشذاءَها الريحُ..
و كانَ الغَيْمُ حِنَّاءً على الأُفْقِ، و عَنْدَمْ..
عِنْدَما جِيءَ بِهِ مِنْ ضفةِ النَّهْرِ
على أَذْرُعِ أَتْرابٍ،
وشُقَّتْ حُفرَةٌ، في الحُرجِ، شَرقيَّ المُخَيَّمْ..
في أَذانِ العَصْرِ..
دَلَّى رَأْسَهُ في أَبَدِ الصَمْتِ
سِوى ما حَجَرٍ في قَبْضِ يُمْناهُ..
يقولون.. تَهَجَََّ لَفْظَ «أُمُّي»، و تَكَلَّمْ..
فخُذي أَعْوامَهُ التِسعَةَ في حِجْرِكِ..
رِفْقاً..
أرضِعيهِ لَبَنَ الروحِ، إلى الريُّ،
هنا آخِرُ ما عُصفورُ أَحشائِكِ يُفْطَمْ..
في أَذانِ العَصْرِ..
كان الريحُ زَمَّارَ تَبَاريحَ
يُغَنُّي، في زُرُوعِ السَفْحِ
تَغْريبَةَ أعْشاشِ العَصافِيرِ
عَلى أضْلاعِ قِيثارٍ مُحَطَّمْ..
عِندَما حَفَّ بِهِ غَسَّالَةُ المَوْتتت
على تَشرِيحةٍ مِنْ خَشَبِ البَلِّوطِ
سَحَّتْ غَيمَتا رَنْدٍ.. و كافورٍ..
سخاءَ اللَّهِ.. حَتى يَتَحمَّمْ..
في أَذانِ العَصْرِ..
كانَ الحزنُ صُعلوكاً على قارِعَةِ الدَرْبِ
أتى يَسْأَلُنا زَاداً..
فَبِتْ لَيْلَكَ فيِنا، طارقَ الليلِ المُلَثَّمْ..
هذِهِ الخَمْرُ التي تَشْرَبُ كَنْعانُ
عَتِيقُ الجُرْح من عِيسى..
و قطْرُ الدَمْعِ مِنْ مُقْلَةِ مَريمْ..
في أَذانِ العَصْرِ..
كانت طِفْلَةٌ تَرْكُضُ خَلْفَ النعْشِ
لما لاذَ دُورِيٌّ إلى نَافِذَةِ الكُوخِ، و حَوَّمْ..
ما تُغَنُّي تِلكُمُ الجَوقةُ
في أعلى أراجِيحِ السَماواتِ..
وما الوَردُ الذي يضفرُ رِضوانُ،
وحتى الجِنِّ، والأَفلاكُ.. ماذا تَتَرنَّمْ ؟!..
في أَذانِ العَصْرِ..
لَمَّا سُدَّ بَابُ القَبْرِ.
صَلَّى، في نَسيمِ القِبْلَةِ، السَّرْوُ عليهِ..
وعَبيرُ الزَعتَرِ البَريُّ.. سَلَّمْ..
فأَدِرْ، يا أَيِّها الساقي، عَلينا الكَأْسَ..
لا بأسَ..
أَظنِّ اللَّهَ لَمَّا أَبدَعَ الإِنسانَ
خَلْقاً.. طَيَّ خلْقٍ..
كانَ مِنْ فَرْطِ خَيالٍ، وجَمالٍ، يَتَأَلَّمْ !!..
كانَ مِنْ فَرْطِ خَيالٍ، وجَمالٍ، يَتَأَلَّمْ !!..






  رد مع اقتباس
/
قديم 04-08-2011, 11:01 AM رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

ثلاث قصائد للرفاق


1- في الصعب

لَـيْـلَـةَ أَسْــــرَجنا خُيولَ الرجــاءْ
مِـن تَـوْقِــنا الشَّـــهمِ سَــــقَيناها
وَ هْيَ على مُـتونِــها الكبرياءْ
تَـنَـهَّـدَتْ أَعرافُها بالضِّـيـاءْ
و في الأَعاصيرِ هَـمَـزْناها
وَحُـمّـَـت الظُّـلمــةُ حُـمَّـاهما!!..
تَـقُـــولُ :
وَحْشُ الليلِ شَــــكَّ في العيونِ وَبَـــرَهْ
وَدُلِّـيَـتْ سُـــودُ العرابيدِ بأَيــدي سَـــحَرَهْ
مِـن صَــدْعِ كـلِ حائطٍ ..
من فَــرْعِ كلِ شَــجَـرَهْ ..
تَــفُحُّـنا .. تَـنْـبَـحُـنا ...
تُــورِي النُّـيوبَ كَشَـرَهْ..

كَأَنَّ روحــاً فــي الظــلامِ ،
تَســـــكُنُ الظــلامْ ..
تَـغضَـبُ أَن نَشُــوطَ خيَــلنــا
بِــــلا لِــجـــــامْ !!..

لكنَّ خيلَـنا مَـهِـيجَـةٌ تَــوْقا
بَــرقاً يَـجُوزُ في دُجُـنَّـةٍ بَــرْقا



وما اجتَـبَـيْـنا الخيلَ
إِلا الشُّــهْبَ من عِـرابِـها
لأَنَّ كُلَّ غايــةٍ
تُوصَفُ مِن رِكابِـها !!..

فكــان في الأَرضِ لَـظىً ،
وفي الســماءِ حَـمْـحَـمَهْ ..
و نحن كالجـِنِّ
على النيازكِ الـمُطَـهَّـمَهْ
نَـعْدُو فلاةَ الليلِ
نَـطوي أَرضَـهُ الـمُهَدَّمَـهْ
نَـخُـطُّ بالجرحِ الـمُضاءِ ..
فـي الســماءِ ..
ملحمــــهٍْ !!..






2- في الســهل

لَسـْـتُ أَنا إِيَّــايَ ..
ما هذه كَـفِّـي ..
ولا الســيفُ بها ســيفي

ولا حِصانـي مـن تَـعَلَّـيتُـهُ
بالأمسِ ..
في غاشـــيةِ العَسْــفِ

و هامـدٌ حَـرْفي على شِــلوِهِ
و كان رَسَّـــامَ الضحى حرفي !! ..

لَســتُ أَنـا إِيَّـــايَ ..
صَدْرُ المدى قُـبالَـتي
أَم جُدُرُ الكهفِ ؟!..

وَجيِعَــةٌ روحـــي
وبــي غُـربــةٌ عَـنِّـي
و أَقفُــو ، عَـبَـثاً ، طيفي

مات الذي فِــيَّ ..
تُـرى كُـنْـتُــهُ ،
أَم نحن كُـنَّـا اثنينِ في عِطْـفِ ؟!..

أَم ما تَـوَسـَّمتُ على جَبهتي ،
ما كان إِلا أَلَــقَ الزَّيْــفِ ؟!..

لستُ أَنــا إِيَّــايَ ..
غيري الذي
أَجُسُّ في العينِ ، وفي الأَنـفِ

غَيري الذي أَصْهَلُ في رُوحِهِ ،
لكنَّني أُخْنَقُ في الجَوْفِ
قد ضاعَ مني الشَّوطُ لَـمَّـا ارتمى
بَيْـداءَ لاتعيا على خُفِّ ..

وَ كُنتُ في الوَعْرِ دليلَ الذُّرَى
أُعَـلِّـمُ الدربَ لَـمَن خلفي

يـا أَيُّـها الـَميِّـتُ فِـيَّ اسْـــتَـفِـقْ ،
وَ رُدَّ لـي ثانيــةً حتفي !!..



3- والشـــعب

يُمَـثِّـلُـنا دُمَـىً ثلجيةً في الشـــمسِ ،
يَـرْصُـفُنا مَـراتِـبَ لاتَـعِي :
آجُـرَّةً ..
فَـخَّـارةً ..
صَـنَـمـاً ..
وحين يَـمَـسُّ ، مِـن عَـبَـثٍ ، مَلامِـحَنا
نُـقَـدِّرُ أَننا اللاَّهونَ ،
وهو هُـناك يَـرْمُـقُـنا ،
فَـإِمَّـا دُمْـيَـةٌ جَحَـظَتْ
يُـقَـهقِـهُ للســماءِ !!..

هناكَ أَنتَ ..
هُـنـا أَنـــا ..
نَـنْـحَـلُّ بين يـديـهِ ثانيــةً
لِقاعِ النهـــرِ ، أَتْــرِبـَــةً ،
وَ أَوداجي مُـصَـعَّـرةٌ
وَكلي أَنـفُ دُمْـيَـتِـهِ ..

أُحِــسُّ يـديـهِ فيما تـَجْبِـلانِ الطِّـينَ
يَـجْبِـلُـني
كَـأَنـي الآنَ بين يــديهِ
حُفرةُ مقلةٍ حَـوْلاءَ ،
لَـيَّـةَ إِصبـعٍ شَـــوْهاءَ ،
يَـعبثُ بـي ..

كَـأَني الآنَ بين يـديـهِ
فِـكرةُ فـارسٍ لم يأتِ ،
يَـطْـرَحُنى ..

وحينَ أَرادني ثغراً
كَـأَني قـد عَـيِـيتُ
فلم أَقُـلْ ما قالي لي ..
أَتُــراهُ يَـطمِسُـني
وَ يَسْــخرُ من غَـباءِ الطِّــينِ ؟!..

ذاكَ أَنـــا ..
وذاك أَبــو الدُّمَــى .. شَـــعبي !!..






  رد مع اقتباس
/
قديم 04-08-2011, 11:02 AM رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

قصيدة
الفاتحة




1
مَعاً ، أَيها الصَّحْبُ ، فلنقرأ " الفاتـحـهْ "
على روحِ دهرٍ.. من القهرِ..
غَـيَّـبَهُ الموتُ سبعينَ باعاً
بأعْماق مقبرةِ الأَبَدِ، الليلةَ البارحهْ..

وفي عُرس جيلٍ .. جديدٍ ..
غَرَسناهُ بالدِّمِ، والدمعِ
فانشقَّ ،عن جِذرِهِ ، كَبِدُ الصخرِ
واختطَّ عَـقْدَ قِرانِ المصيرِ
بِزَوبعـةِ الـقـَدَرِ الجامـحـه ..
2
معاً، أَيها الصحبُ ، فلنقرأ " الفاتـحـهْ "..
أَهِيلُوا الترابَ على " شُعراءِ البلاطِ "
وَخِصْيانِ ماضي الزمانِ
وَكُـلِّ قياصرةِ الشمعِ ..
قد عَـفَّنتْ جُثَثُ الـخَيْبةِ الكالحهْ ..


وَهـا شَقَّ صَمْتَ الـفَجِيعةِ " جيلُ الحجارةِ " ..
أَوْ سَمِّهِ بَعْدُ .. " بَـرْقَ البشارةِ " ..
-لاتَجـلِدُوهُ بِـغَثِّ الأَغاني -
هُوَ الآنَ أَحلى عريسٍ لأُنثى الحضارةِ
وازَّيـَنَتْ مِنهُ مَهْـرَ جراحاتِهِ السائحهْ ..
3
معاً ، أَيها الصحبُ ، فلنقرأ " الفاتـحـهْ "..
بِبَطْـنِ الثرى يَرقُـدُ الآنَ :
زَهْـوُ جميعِ العُروشِ ،
وَوَقْـعُ بساطيرِ كُلِّ الجيُوشِ ،
وَجَلَّ المُصابُ بِكُلِّ كلابِ الدجى النابحهْ ..

وَدُقُّـوا رِتاجَ غـَدٍ ، والصُّنُوجَ ..
هُنا قد تَعَـلَّى مُتـونَ المَشيئةِ
مَن يَخْطَفُ الشمسَ ، كَيْ يَخطُبَ القدسَ..
جيلٌ ، يموجُ على خيلِ أَحلامِهِ السابحه ..

4
معاً ، أَيها الصَّحبُ ، فلنقرأ " الفاتـحـهْ "..
على كلِّ شاهدِ قـبرٍ
تعاطى الهزيمةَ .. " مشروعَ شِعـرٍ "..
وفي وارف " الظِّلِ ".. من قامةِ " البَعْلِ "..
رَشَّ على الموتِ ، طَعْمَ قصائِدِهِ المالحـهْ ..

دَعُوهم ، سُدىً ، وَخُذُوا فَجرَكُم بالعناقِ ..
لقد وَضَعَتْ ، بالسلامةِ ، غِيدُ الجليلِ
وأَرحامُ كلِّ صبايـا الخليلِ
طليعةَ جيلٍ - على سَغَبِ القهـرِ -
يأكلُ جُمجُمَةَ الحـيَّـةِ القارحهْ ..
5
معاً ، أَيها الصحبُ ، فلنقرأ " الفاتـحـهْ "
وَأَنعِي إِليكم ..( بِغير مَزيدِ الأَسى )..
ذلك الطِّرْحَ ، مِن رَحِمِ القِمَّـةِ العـربيـةِ
يُدعى " مُنظَّمةً " .. فَليكُن ما يكونُ ..
تَـهَـرَّأَ .. صَدَّأَ .. فاحَتْ لـهُ رائحـه ..

وَعَفْواً ، أَبي ، إِنْ جَزِعتَ عَلَيَّ
فإِني قَصَصتُ على مَلأَ الكونِ رُؤْيايَ :
قلتُ متى سَيجيءُ - الذي جاءَ - جِيلُ الخلاصِ ،
بِصدرٍ تَـعـرَّى لِـزَخِّ الرصاصِ ،
كما السيفُ صِيغَ بِنارِ جَهَنَّمِـهِ اللافحهْ ..
6
معاً ، أَيها الصحبُ ، فلنقرأ " الفاتـحهْ "..
لِـغَـزَّةَ بَحرٌ يَفُورُ.. سوى بحرِ " أُوسلو " ..
" أَعَذْبٌ فُراتٌ .. ومِلحٌ أُجاجٌ " ؟!‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ..
وبينهما بَرْزَخُ المستحيلِ ؟‍‍‍‍‍!
هنيئاً " جُحـا " لكَ صفقةَ أَوهامِكَ الرابحه !!‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍..

ولكنَّ جيلاً، جَميلاً .. " مِن البحرِ .. للنهرِ " ..
لم يَـتـفَطَّن لِميلادِهِ حَاسبٌ
من " إلكْترونِ " هذا الزمانِ ..
تَبَدَّلَ " عَجْزَ " البطاريقِ .. " مُعجِزةً " طامحه ..


7
معاً ، أَيها الصحبُ ، فلنقرأ " الفاتـحـهْ "..
دَعُوا الآنَ " مدريدَ " في عارِها الأَبَديِّ
و " غرناطةً ".. لِلأَسى ، و الرثاءِ..
أَلا أَلفَ مَعْصِيَةٍ " لأُولي أَمرِكُم " هؤلاءِ
وَكُهَّـانِهم ، وَعِصِيِّ الرُّعاةِ
وَرُوحِ " الرَّعِيَّـةِ " .. والغَنَمِ السارحه ..

دعوا الآنَ شَوْطَ غـدٍ .. لِنِساءِ العروبةِ ..
هُنَّ البُطُونُ التي مِن وِحامِ قديمِ الزمانِ
ومن حَبَلِ الوردِ .. بالسنديانِ ..
ومن مصرعِ العُنفِ .. بالعنفوانِ
حَمَلْنَ المَجِيءَ الذي يَتَأَبـَّى على الجائحه ..


8
معاً ، أَيها الصحبُ ، فلنقرأ " الفاتـحـهْ " ..
لقد حَجَّ " لِلدَّنِمَرْكِ " هَلافِيتُ كُلِّ الوَلائِمِ..
تَبَّاً " لِراكاحِهم " ، ولأَشعارِ هذا السلامِ
وأَغصانِ زيتونِهِ المُستضامِ
وكلِّ حـمائِمِهِ .. الخـُـنَّـعِ .. النائحه ..

وياأَلفَ مَرْحَى لِنَبْضِ قِيامـةِ كُلِّ القُبورِ
وَدَفْـقِ الملايينِ ، يومَ النُّشورِ
وَوَقْـدِ اللظى في عُيونِ الصقورِ
وميلادِ شَـوْكَـتِـنـا ..المـُرَّةِ .. الـجـارحه ..
9
معاً ، أيها الصحبُ ، فلنقرأ " الفاتـحـهْ "..
بِلارَجعةٍ ، ماتَ عبدُ القديمِ
" وَكِـزلارُ " قصرِ الحريمِ
وِسِمسارُ كلِّ دمٍ مستباحٍ
وَعَـرَّى ، إِلى الدود ، عَوْرَتَـهُ الفاضحه ..


معاً ، نشهدُ البعثَ ، مِن رَحِمِ الموتِ ..
وَلْنـقـرأ " الفاتـحـه "..
وَدُقُّـوا المهاميزَ ، خَيَّـالةَ الكبرياءِ
ويا جَـوْقَـةَ الجِنِّ ، والإِنسِ ، والأَنبياءِ
لِنَرْقُصْ ، معاً ، جَذَلاً في الهواءِ
ونُـطـلِقْ حناجِرَنا لِـعَنانِ السماءِ ..
هِيَ ، الآنَ ، أُنشودةُ الفَرَحِ الصادحهْ ..
هِيَ ، الآنَ ، أُنشـودةُ الفَـرَحِ الصـادحـهْ !!..






  رد مع اقتباس
/
قديم 04-08-2011, 11:03 AM رقم المشاركة : 17
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

بطاقة معايدة إلى إبي الطيب المتنبي




عِيدٌ، حَلَلْتَ كما حَوَّلتَ ياعيدُ

فما وَحَقِّكَ تحت الشمسِ تجديدُ

أَما الأَحِبَّةُ ، فالأَسلاكُ دُونَهُمو

ودُونَ غَزَّةَ ، فُولاذٌ وبارودُ

والساقيانِ ، سُقاةٌ ، والطِّلى كَذِبٌ

لا أُنسَ فيها ، ولا هَمٌّ وتَسهيدُ

أَصخرةٌ أَنا ، مِن لَحمٍ وَ دَفْقِ دَمٍ ؟

و" صَخرةُ القُدس" رَقَّت وَهْيَ جُلمودُ!!

يُرِيبُني الظَّنُّ ، إِمَّا جادَها غَدَقٌ

كأَن قَطْرَ دُموعِ " السِّدرَةِ " الجُودُ

طَغى الخُوَارُ بِها ، " واللّهُ أَكْبرُها "

تَحَشْرَجتْ ، وَطَوى القرآن تَلمودُ

* * *
نحن التَفَعْنَا الدجى سُكنى ، وباتَ لنا

في آسِنِ العالَمِ السُّفليِّ تأبيدُ



حتى كأن خُيوطَ الشمسِ ، إِنْ عَرَضاً

مَرَّتْ على سَمْتِنا ، قالت لنا : حِيدوا

وأَين أَضحى بنا " الأَضحى" وَفِديَتُهُ

سِماطُ شعبٍ ثخينِ الجرحِ ، ممدودُ

نَبكي ، وَ نَذبحُ مَن نَبكي ، و شافِعُنا

أَنَّا أَحِبَّةُ قَتلانـا المعاميدُ‍‍!!

* * *
" نَبِيَّ كِنْدَةَ "، فاهنأ أن قَضَيتَ رَدىً




فَغيرُكَ اليومَ ، يحيا وَ هْوَ مَوْؤُودُ

يا من تَغَرَّبتَ ، لا مُستعظِماً أَحداً

ما بِيدُ أَمسِكَ ، مما أَضحتِ البِيدُ ؟!

ذاكَ الزمان الذي مِنهُ بكيتَ أسىً

عليهِ أَبكي ، و بعضُ الجرحِ تَضميدُ !!

إِن ضِقْتَ من عَجَمٍ تَطوي إلى عَرَبٍ


جُرْدَ القِفارِ ، و سَلْواكَ الأَناشيدُ

إلا أَنا ، راصِداً رَهْنَ الدجى حُلُماً

لكنني باقترافِ الحُلْمِ ، مَرصودُ


ما " شِعْبُ بَوَّان " من حَيْفا وكَرمِلِها

و التَّرجُمانُ ، سُليمانٌ ، وداوودُ !!

وما " الفَتى العربيُّ " الحُّر ، في وَطَنٍ

لَهُ الدَّوالي بِهِ .. إِلا العناقيدُ ؟!

فاكْبَحْ جَوادَكَ ، ما الفُسطاطُ دانِيَةً

يـبـقى لِقَصْدِكَ بالشهباءِ مَقصودُ

تَحوَّلَتْ بُوصَلاتٌ عن مَرافِئِها

وَ مَكَّةُ الحُلْمِ أَمْسَتْ وَهْيَ " مَدريدُ "

و اشهدْ بِرَبِّك هذا "السِّلمَ " تُوقِنُهُ

سُمَّاً ، وَ يَغشاهُ " شُعَّارٌ " كما الدُّودُ !!

* * *

يا مَن بُلِيتَ " بِإِخشيدٍ " بِمُفْرَدِهِ

ماذا أَقولُ وَ بَلوْايَ " الأَخاشيدُ " ؟!

حُسَّادُ أَمسِكَ مَنْ تَدري ، وها قَدَري

هذي القرامِطَةُ ، العُجْمُ ، العرابيدُ

عَجِبتُ، إِن كان " تَطبيعاً" صَغارُهُمو

فما الذي ، بَعدُ ، قد يَعنِيهِ " تَهويدُ "؟! ..



* * *
عاد المماليكُ ، إِلا مِن مُفارَقَةٍ

قُلوبُهم ، لا الوُجوهُ ، الكُلَّحُ السُّودُ

خمسينَ عاماً تَوَلَّوْنا بَطارِقةً

تُعزَى الأُمورُ إِليهم ، والمقاليدُ

حتى تَبَدَّوا عُراةً يومَ أَن زَعَمُوا

" أَنْ زَايَلَتْ وَجْهَ صُهيونَ التجاعيدُ " !!

فَدَعْ لهم ، في فَمِ البُركان ، غَفْوَتَهُم

فإِنَّ رَبَّكَ ، قُلْ والشعبَ ، موجودُ !!






  رد مع اقتباس
/
قديم 04-08-2011, 11:07 AM رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

من أعمال الراحل الكبير
يوسف الخطيب النثرية


الـنــاي والـرعــد - مهداة إلى رجاء النقاش - الحركة الأولى






مع أنني أُدرك جيداً أَن هذه الحياة غير جديرة بأن تعاش، إذا هي خلـت من عنصر الكفـاح المرافق لها باستمرار، وبمزيدٍ من الإرادة الإنسـانية الصلبة، والمتماسكة، إزاء تحدّياتها المختلفة ..

ومع أَنني، الآن، أُقاوم وحش الشتاء من داخل خيمتي هذه في مخيم "العَرُّوب"، وأنا أَعزل اليدين تماماً من أَي سلاح مُضادٍ لوحشيته الطاغية، بينما يصارعه في الوقت نفسه، وعلى الشاكلة ذاتها أَيضاً، أطفالي الثلاثة: خالد، وآمنة، ومحمود ..

إلا أَن شتاء هذه السنة، وحشٌ سافلٌ لا يعرف معنى الشرف، ولست أَدري ما معنى أَن تُجَنِّد الطبيعةُ ضدي كل هذه القوى الناقمة الشرسة دون أَن أَملك في مواجهتها أَية مقدرة على الدفاع، إن لم يكن عن النفس، فعن أطفالي الصغار الجياع هؤلاء ..

ابنتي آمنة تحاول النوم منذ ساعات دون أَن يغمض لها جفن حتى الآن، ولا أَعلم إِن كان ذلك بسبب الريح العاصفة، وميازيب السماء المجنونة فوق خيمتنا، أو لِلسبب الآخر الكبير الذي ينهش قلبها الطفل منذ ليلتين.. وهذه هي الليلة الثالثة ..

أعود فأقول لنفسي، لعل النوم يغلبها بعد لحظات، رغم أن البطانية التي تلتفُّ بها لا تقيها رطوبة الأَرض، ولا سياط الريح الحادة..

لقد كنت، إِيَّايَ، على وشك أَن أَغفو، لو لم توقظني الصغيرة بصرختها المذعورة، المفاجئة:

- الرعد يا أَبي !! .. هبطت علينا السماء !!..
- ليتها تهبط فعلاً ..

ذلك ما قلته لنفسي، على حين ضَمَمتُ الطفلة بقوة إلى صدري لأَِطرد عنها مخاوف الليل والرعد والرياح ..

قبل هذه الليلة كان يمكن أَن يضُمّها صدر آخر .. لكن ذلك الصدر واريناه التراب منذ يومين، وأَصبح أطفالي الثلاثة بدون أُمٍّ إلى الأبد ..

جانبٌ من الليل تحرقه تلك الومضه الخاطفة كنواجذ الشر الملتمعة .. ودَويُّ الرعد يتوعد باقتلاع الخيم المنشورة في العراء الجبليّ، وقد يجرفها عما قليل بالسيول المتدحرجة من أعالي القمم، حاملةً معها الحجارة، وبقايا النبت، والطينَ الأَحمرَ كالدم ..

أتوسـل إليك أيها الاله الرحمن، والرحيم، باسم جميع مخلوقاتك الصغيرة، أن ترفع عنا هذا الغضب الرهيب .. فما هي حاجتنا إِلى المطر، الآن في مخيم "العَرُّوب"، من بعد أن ضاعت منا الأرض، ووعود المواسم، وأغمار الحصاد .. رَبَّنا، دَعِ الطفلَ يَنَم.. والخيمةَ لا تَطِر مع الريح.. والجثمان النائمَ أعلى القمة يرقدْ في سلامه الأَبديّ !!..

محمود، أصغر أطفالي الثلاثة - وأناديه عادة "حُودة" - يُلملم البطانية فوق رأسه ونصفه العلوي، بينما قدماه عاريتان على حصير الخيمة .. وحين مررت بيدي لأُسوِّي الغطاء على كامل جسده، تململ قليلاً، ثم انكفأ على وجهه باكياً ..

- آمَّا .. بِدِّي آمَّا ..
- نم يا حبيبي، وسترجع أُمك مع الحُجّاج قريباً، وتأتيك بهدية من عند قبر الرسول..
- بدّي آمّا..
- ستأتيك بصندوق من التمر، وكوفية من الحرير، وعقال مذهّب، ترتديهما في أيام الأفراح، والليالي الملاح.. فماذا تريد أيضاً؟! ..

كان نشيجه المتقطّع، خلال نغم الليل المُتفجِّر بالرعد، والريح، وزخات المطر، كصوت نايٍ يتناهى إليك وانياً ومتوجّعاً من وراء مئات السفوح .. ثم هَدأ النشيج خلال تلاشٍ طويل، وأغفى الطفل على حلم أن ترجع أمه محمّلة إليه بكل هدايا الحجاز ..

غداً يكبر، وغداً يفهم كل شيء !!..
آه يا حبيبتي الراحلة، بماذا تُحسين الآن في عالمك الآخر؟! ..

أَأَنت مثلي تغالبين النوم حتى في حفرتك المهجورة، الباردة، الموحشة كقلب هذا العالم!!.. ومن كان يَعلم أن بدايةً جميلة، كالتي بدأناها معاً في أحضان بيسان ستنتهي هكذا بلا أَيّ معنى، وبلا أيّ منطق .. بل أيُّ عرَّافٍ كان يستطيع ─ في لحظة لقائنا الأَول ─ أن يتفرَّس في ضمير هذا العالم، وأَن يقرأَ فيه كل هذه الدمامة المرعبة ؟! ..

أتُرى تُؤنسُكِ البَلُّوطة التي تجاورينها الآن في قمة "العرّوب"، أم تعلمين أنها هي الأُخرى وحيدة مثلك يا حبيبتي .. شاخصة على القمة بمفردها .. تُباكي الرياح وحدها، وتتوهج أَوراقها المبلولة، في أشعة البرق، كقلبٍ ماسيٍّ يتألَّق من شدة ما هو مصقولٌ بنار العذاب؟! .. أَتُؤنسك الآن مثلما كانت تؤنسك جدائل النخيل على درب نزهتنا في ضاحية بيسان، وعلى ضفاف نهير "المَشْرَع" بالذات ؟!..

أَمواجُ شعرِك الرخِيّةُ كَغَمْرٍ من سنابل الجليل تلفحني بعطر تَفتُّحِ الربيع في طراوة آذار، وترتمي على كتفيَّ شلاّلَ فرح وحنان .. ثم ها نحن معاً على ضفة "المَشْرَع"، فاتركي قدميك لِمُويجاته الصغيرة، وحدثيني، عنك، وعني، وعن صورة طفل آتٍ تلمحينها في الخيال .. أتسألين ماذا نسمِّيه؟ ..

- خالد ؟ .. على اسم الوالد ؟..
- هو كذلك ..

خالد يتململ أيضاً من شدة البرد ..

لَشَدَّ ما أنا خجل من نفسي، ومنك يا حبيبتي الراحلة، ومن انتظار صغيرنا "حودة" الذي يتوقع أن ترجعي إلينا قريباً، ولستُ أَدري إلى متى ستظلُّ كِذبتي مُنطليَة عليه !! ..
وحتى الكَفَنُ، يا حبيبتي، لم أَجد ما أَشتريه به لأجلك، فلذلك أَبقيتُكِ داخل ثوبِك الوحيد، الجليليّ التطريز، الذي كان كُلَّ ما استطعتِ الهروبَ به من عُشِّنا البيساني الصغير .. وبيديَّ هاتين أرحتُ رأسك النبيل على بطّانيتي التي استبدلتها ببطَّانيتك، لِيتذكر أَحدُنا الآخر.. وحين خِفتُ أن يتسرب الماء إلى جسدك في قمة الجبل، غطَّيتك بكل تلك الأَسمال الكرنفالية العجيبة التي فَرَّقها علينا أولئك المُحسنون، البيضُ، "اللُّوثريُّون"، بديلاً لنا عن كل خيرات فلسطين !!.. لقد كان اختياري لمثواك في أعلى القمة خيراً من دفنك في منحدر السفح، وأنت تدركين يا حبيبتي أنه لم يكن باستطاعتي أن أختار لمقرِّ لجوئك الأخير مكاناً أفضل !!..

- سامحيني، بحق الله يا كوثر ..
- وأنا أيضاً سأسامحك عن نفسي، وعن أطفالنا الثلاثة .. فإن حاجتهم إليك كانت أقوى من الموت !!..
النجدة يا أبي .. اليهودي قتل جدتي !!..
إنه خالد الآن، وقد تعوّد أن يهذي هكذا أثناء النوم، منذ أن أبصر دم جدته يسيل على بوابة منزلنا في بيسان .. بل إن هذه الاستغاثة بذاتها هي أكثر ما يهذي به أثناء النوم، وفي كل مرة أُوقِظُهُ كان يقصُّ عليَّ كابوساً مثيراً، ولابد أنه يعاني الآن من مثل هذا الكابوس .. ولولا خشيتي عليه من الإحساس بلذعة البرد الحادة، إِن أنا أيقظته، لمددتُ يدي إليه، وخلَّصته بهزةٍ في كتفه من كابوسه المرعب .. كم أنا مشفق على أعصابه منذ أن قُدِّر لعينيه الصغيرتين، وهو لم يبلغ الخامسة بعد، إن تريا جثث القتلى، ودماء الجرحى، في أَزقَّة بيسان .. كما قُدِّر لعقله الصغير أن يصطدم بمعنى الخيانة والتشريد .. وبمعنى الزعامة المتبطّلة، والسلاح الفاسد، والإذاعات الكاذبة، والجيوش السبعة التي دخلت البلاد من أجل استنقاذها من براثن غُزاتها اليهود، فأخذت تُسلّم إليهم، في كل يوم، سبعة مواقع بالمجان!!..

تلك كانت أحاديثَنا السالفة .. كوثر، وأنا .. وكان هو يسمعنا بِحَدَقَتي عينيه المُتَّسعتين، أكثر مما يصغي إلينا بأُذنيه .. ترى بماذا يحلم الآن ؟!.. ربما هو يستعيد من عمق الطفولة صورة جدته القتيلة خارج بَوَّابة بيتنا الخشبية .. أو لعله يستعيد صورةً ضبابية لِنُهير "المَشْرَع" الصغير، إذ لم يكن شيءٌ أحبَّ إِليه من أن يستحم في مائه الدافيء، عندما كنت أُردفه على ظهري، واقطع به النهر إلى مسافات قريبة .. قد يخيل إليه الآن أنه يقف وحيداً على حافة النهر الحائلة إلى الشحوب في أضغاث أحلامه، وقد تكدّر ماؤه بالأحمر القاني، واستحالت أسماكه الصغيرة إلى عقارب صفراء ..

لا أدري طبعاً ما الذي يراه في نومه، لكنني، أنا نفسي، رأيت ما يشبه هذه الأضغاث!!..
- جدتي يا أبي .. دمها يسيل على العتبة !! ..
وهنا لم يكن بدٌ من إِيقاظه .. فالإحساس بلذع البرد خير له ألف مرة من الرعب الخانق تحت وطأة هذا الكابوس اللعين ..
- خالد .. خالد ..
وغمغم فيما بين النوم واليقظة:
- نعم يا أبي ..
- وسادتك غير مريحة يا بني ..
- نعم يا أبي ..
- إحرفها قليلاً، ونم ..
- حاضر .. تصبح على خير ..

وكان الأصح أن يخاطبني بتحية الصباح ذاتها .. فإن ساعتي القديمة التي تمكنت أن أحتفظ بها حتى الآن ─ ربما لأن أحداً لم يدفع لي مقابلها حتى نصف دينار─ تشير إلى الرابعة صباحاً .. وهذه هي الليلة الثانية على وفاة كوثر التي يجافيني فيها النوم .. وأظن أن أكثر من ليلة قادمة ستمر بي دون نوم مريح .. إنَّ حِلفاً من الحزن والبرد والإعياء يستعبدني .. كلا، لم أعد أبا خالد الأول، وها هي الأخاديد تنحفر في جبهتي وأسفل مقلتيّ، وأتحسس ذراعي اليمنى بخيبة بالغة، فقد ترهلت عضلاتها، ولعل أكثر ما يدهشني أن تظل قادرة على القيام بمثل هذه الأشغال الشاقة التي استجدت علينا هنا في حياة المخيم.. إن ظهري أيضاً آخذ في التقوّس رغم أن سني لم تتعد الخامسة والثلاثين ..

- ظهري .. أكلتني الحَيَّة !! ..
كانت صرخة خالد هذه المرة مفزعة جداً، حتى لقد ارتعدتْ لها مفاصلي المتجمدة .. ومن شدة هولها قَفَزتْ آمنة "وحودة" على رؤوس أقدامهما، وربما لعلع صداها في الخِيَم المجاورة على الرغم من جَلَبة الليل الشتائي .. لم يكن خالد يعاني من كابوس جديد، ذلك أنه لحظةَ أن أطلق صرخته المذعورة هبّ واقفاً على قدميه، وانقذف نحوي، كاشفاً عن أيسر ظهره حيث لسعته الأفعى، وتناول إصبعي بيده الراعشة، لكي ألامس موضع اللسعة بنفسي، أثناء ما ظل يستنجد بي حتى بعد أن استيقظ من كابوسه اللعين .

- إلحقني يا أبي .. قتلتني الحية !! ..
- لكن الثعابين لا تظهر في الشتاء .. إن سُمّها ينطفيء في هذا البرد اللعين .. إهدأ يا خالد.. كن رجلاً ..

كان كل جسده يرتعش .. وكانت عظام قفصه الصدري التي ضمرت طبقة اللحم فوقها كشجيرةٍ عاريةٍ من لِحائها في مَهبِّ الريح .. وأنا الذي كنت هادئاً فعلاً، ونفيتُ بثقةٍ باردةٍ أي احتمال لظهور الأفاعي في الشتاء، لا أُنكر أن الخوف قد تملّكني من الرأس إلى القدم، حين مررت بأصابعي على الموضع الذي عَلّمه خالد، فجاءني ذلك الملمس اللزج الذي يملأ قميصه وجانباً من ظهره .. ولم يكن سهلاً عليَّ لأَول وهلة أن أَفطن إلى احتمال تسرّب الماء الطيني داخل الخيمة .. كان ما لمستُهُ ماءً، مجرد ماء مختلط بلزوجة الوحل، ولكنه في مثل حرارة الثلج.. ولم أُجرّب لسع الأفاعي في أحد الأيام، لكنني لو كنت مكانَ خالد: نائماً، جائعاً، محطَّماً تحت الكوابيس، وأحسستُ بتلك اللسعة الجليدية في ظهري، فلربما صرخت أنا أيضاً، وبالقدر نفسه من الهلع والرعب !! ..

قمت من فوري إلى الجهة التي كان نائماً فيها، وإذا بمساحة غير قليلة من أرض الخيمة، الترابية، قد تجمع فيها الماء، ومازال يرفدها سيل صغير نَقَبَ الحاجز الطيني الملتفّ حول الخيمة من جهتها الشمالية ..

أدركتُ ذلك بحاسة اللمس .. بيديّ فقط .. فقد ألغى الظلام وظيفة عينيَّ تماماً رغم اقتراب الصباح.. ولقد شعرت بالحاجة إلى كل جهد يمكن أن يتوفر في بقية أعضائي المرهقة، لكي أتدارك إمكانية انجراف الخيمة مع السيول المعربدة المتدحرجة من أعلى السفح ..

درتُ أولاً داخل الخيمة لأِتأكد من سلامة الحاجز الطيني حولها في سائر جهاته الأخرى.. إن الجانب الشرقي أيضاً على وشك أن يتصدّع ويثقبه الماء .. يداي تقولان ذلك .. وما عندنا نقطة كاز واحدة ..

وخاطبت الأطفال:
- خالد .. وأنت يا آمنة .. إمسكا بيد "حودة"، وتَكوَّموا ثلاثتكم هنا ..لُفُّوا أنفسكم جيداً داخل البطانيات ..

فالقسم الجنوبي الذي اخترته لهم كان مرتفعاً بعض الشيء عن مستوى أرض الخيمة .. ولكي أتبيّن المساحة التي غمرها الماء لأنزحه منها، شققت باب الخيمة قليلاً عسى أن يرفدني بنوع من الضوء .. ورغم أنني تلفّعت جيداً ببطانية المرحومة، إلاّ أن لفحة من الصقيع اخترقت جسدي حتى العظم ..

- ماذا تريدين أيتها الطبيعة الناقمة الحاقدة.. أليس من هدفٍ واحدٍ لكل هذا الغضب المجنون .. إلى أين ستنتهين بنا .. كفى .. أقول لك كفى .. كفى، كفى !! ..
وكاد أن يقتلني الخجل من نفسي .. خاصةً أمام الأطفال !! ..
كان الظلام باسطاً جناحيه كخفاشٍ هائل حقود، أو كغولٍ خرافي كبير.. والمطر يسحّ بجنون.. بشراسة .. ولم ألمح خلال الفراغ المظلم سوى بعض الخيام القريبة التي بدت لي كلطخات أشد سواداً، على لوحة كبيرة سوداء، وإنما رُشِقَتْ عليها هكذا، بعصبية وبدون اكتراث..

من يدري كم خيمةً أخرى غمرها الماء الآن .. أو ربما جرفها أيضاً إلى قعر الواد ..
ومن خلال جلبة الريح والمطر، جاءني وقع خطوات تقترب في الظلام، وسرعان ما أدركت بسهولة أنه "الشيخ حابس"، وذلك من سعلته المتقطعة، المقصودة، أشبه ما تكون بالنحنحة .. تلك النحنحة التي تتقدمه عادةً، دالَّةً عليه، معلنةً عن قدومه، شارحة لمسعاه، مميزة لمرتبته الاجتماعية الخاصة .. ولم أخمّن خطأً، فقد كان هو بلحمه ودمه قادماً ليطمئن علينا تحت جهنم هذا الغضب الشتائي المنفلت من عقاله..

- خير يا جيران .. سمعت صراخاً عندكم ..
- بسيطة عم حابس .. نقب الماء حاجز الخيمة علينا ..
- وكيف الأولاد؟ ..
- كل الأمور سليمة والحمد لله ..
- أُسكت .. هبطت أيضاً خيمة الحاج علي الفالوجي من أول الليل، وعالجناها ثلاث ساعات ..
- ذلك بسبب هذه الحواجز الطينية اللعينة .. كيف يمكنها أن تقاوم كل هذه السيول دون حجر ولا اسمنت ؟! ..
- خلّها على الله يا رجل، وهيّا نفعل شيئاً ..

كان الشيخ حابس قد ناهز الستين، وهو ذو لحية بيضاء ليست بالكثة أو المسترسلة كما هي عند من يصفون أنفسهم عادةً بأنهم رجال الدين، ولكنها تنحدر من صدغيه، وتتلاقى في أسفل ذقنه على سوية واحدة، مارَّةً بِعظمَيْ حَنَكَيه السفليين فقط، كإِطار بيضاويّ متّسقٍ حول تقاطيع وجهه الصارمة، وعينيه العربيتين، وأنفه الأَقنى، وشفتيه الحازمتين .. وهو إلى جانب ذلك يختصُّ بقامة باسقة، ممتلئة، يشدّها هيكل قروي صلب، كأن كل الأحداث الأخيرة لم تنتقص منه شيئاً بقدر ما تعاقبت كبراهين مثبتة له ومؤكّدة عليه.. على أن تلك الأمور كلها ليست سوى بعض المزايا الثانوية التي جعلت منه مختاراً لقريته، قرابة ربع قرن من أيام هذا الزمان !! ..
والحق أن الشيخ حابس يتحلّى بِحُبٍ فطري لمساعدة الآخرين، وحلّ مشاكلهم وشِجاراتهم بالحُسنى، وبمخزون ما لديه من العلم بأَحكام العُرف، والعادة، والأُصول .. وكان إذا مر أحدهم بمنزله، في الفالوجة ─ قبل سنة اللجوء ─ يشاهد في كل يوم ما يزيد على ثلاثين حماراً، رُبطت أَرسانها في جذوع اشجار التين والزيتون قُبالة منزله، وقد وفدت عليها جماعات الفلاحين من القرى المجاورة، ليحلّوا في مضافته بعض خصوماتهم التي ما كان ليحلها القانون نفسه، ولا محاكم الأَرض قاطبةً ..

يضاف إلى ذلك طيبةٌ في نفسه، ورصانة غير مُستعلية، وسخاءٌ إلى حد التبذير ..
- أبو خالد خُذ المجرفة واترك لي الفأس .. إتبعني ..
- لكن الثغرة بسيطة، وأرجوك ألا تجهد نفسك عم حابس ..
- اتركنا في المهم الآن ..
- أرجوك عم حابس ..
- وأغلِق بابَ الخيمة جيداً على الأولاد ..

وحين بدأنا العمل خارجاً ─ قبل أن ننـزح الماء المتجمّع داخل الخيمة ─ كانت الساعة ربما الرابعة والنصف ليلاً، أو أكثر أو أقلّ ..

إن ميناء ساعتي الفوسفوري لم يعد متوهجاً كالسابق، لكنه ليس منطفئاً تماماً كما هي عين الشمس خلف غيوم هذا الشتاء الرهيب ..

باهتٌ حقاً ميناءُ ساعتي، لكنني أستطيع أن أستدل بواسطته على الوقت .. إن كل شيء لابد أن يبهت يوماً، باستثناء قلب الإنسان النابض أبداً بمواجهة تحديات الحياة، رغم كل الأحلاف المتضافرة عليه .. وقد خطر لي ─ لا أعلم كيف ولا لماذا ─ إن قلوب البشر جميعاً لابد أن تكون في الأصل كقلب الشيخ حابس، طيبة، محبةً للخير، ناصعةً كقطعة من الشمس، لولا كُلَفٌ تُلطّخها بفعلٍ خارجيٍ غريبٍ تماماً عن جوهرها الأصيل ..

وسعل الشيخ حابس بما يشبه الحشرجة في حلقه، فيما هو يلقي بحجرٍ كبير يعترض به مجرى الماء..

وكنت بدوري أَجرف الطين من حولي لأِدعم به حاجز الخيمة حيث ألقى الشيخ حابس بحجره الكبير، والتقطنا معاً كُومة لا بأس بها من الحجارة المتوسطة، لتعضد الحاجز وتحميه من احتمال التحلل والانهيار .. كانت الحجارة في حرارة الجليد، وشعرت أن أصابعي المُتثلجة المتورّمة لم تعد مني..

- جبال الخليل مرعبة في الشتاء ..
قالها الرجل خلال نوبة ثانية من السعال الأَبَحّ الحاد، فأَيقنت في دخيلتي أن مقاومته قد أخذت تنهار أمام البرد .. ثم عاوَدَتهُ نوبة أخرى من السعال شِبهِ الجريحِ الذي بدا لي غير محتمل هذه المرة، وأخذ يجرد حلقه المحتقن، ويقذف بمحتوياته، بقوة، في سحنة الظلام ..

- العافية يا عم حابس ..
- يعافيك ..
- يكفيك أنت الآن، وسأُنهي البقية وحدي ..
- تحسبني عجوزاً تالفاً .. أليس كذلك؟ ..
- خذ لك ساعة نوم واحدة يا رجل .. هذا غير معقول ..
- مازال علينا أن ننـزح الماء من داخل الخيمة .. هيّا بدون أخذٍ وعطاء !! ..






  رد مع اقتباس
/
قديم 04-08-2011, 11:09 AM رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

الناي والرعد - الحركة الثانية والثالثة والرابعة





الحركة الثانية


كانت تعود في مخيلتي ─ بعد أن فرغنا أخيراً من تضبيط حاجز الخيمة الخارجي، ونزح المياه من داخلها ─ صورة منزلٍ حجري في العاصمة، توكّأتُ يوماً على حافة سوره الخارجي، ذي القضبان الحديدية الواطئة، ورحت أتأمل الحديقة، والشرفات، وستائر النوافذ، والتصميم الهندسي البديع لطوابقه الثلاثة وسطحه القرميدي ..

وقد سألت نفسي يومها من أين يأتي كل هذا الماء ليندفق من هذه الخراطيم على أرض الحديقة، بينما بقية أحياء العاصمة الأخرى ميتة من العطش .. متسخة تماماً من شُحِّ المطر.. فاطسة الأنفاس من الروائح الكريهة والحشرات والهوَامّ النـزقة في امتصاص دماء البشر، من قلة الماء؟! ..

أمِن أجل ذلك، إذن، تُمطر السماء الآن !؟ .. لتملأ هذه الخراطيم بالماء حتى لا تذبل أزاهير القصور ؟!.. ..
أجميل حقاً أَن تذبل الزهور اللطيفة، لمجرد أَن يشرب الفقراء، واللاجئون، والناس الوسخون، كِفايَتهم من الماء النقي؟! .. ثم من قال لهم أن يكونوا فقراء، ولاجئين، ووسخين .. بل لماذا لا يغتسلون أبداً بماء الكولونيا ─ بمنطق السِّت ماري أنطوانيت ─ إذا كان ينقصهم الماء ؟! ..

أذكر أن الغرض الذي ذهبتُ من أجله، يومَها، إلى عاصمتنا الجديدة، كان تحصيلَ إمضاءٍ معين على معاملة بطاقة التموين .. وهو التوقيع الذي لا توجد قوة أُخرى سواه يمكن أن تمنحني البطاقة حتى لو هبطت السماء على الأرض .. وأذكر أيضاً أن أوراق المعاملة كانت مرفقة بالمُغلَّف (المغلق حسب الأصول) وفي داخله الدنانير العشرة من ثمن صيغة المرحومة، وخطاب التوصية، وكل شيء .. ولا أعلم كم من الوقت بقيتُ مستنداً على سور ذلك المنزل الحجري ─ لأنَّ "الإمضاء" اللازم كان متغيباً عن دائرته لفترة ما قبل الظهر، ولم أجد ما هو أنسب لي من أن أُنفق الوقت في التفرّج على وجه المدينة الجديد ─ وهكذا بقيتُ مشدوداً إلى شرفات هذا المنزل/القصر، ونوافذه، وخراطيم الماء المتناشبة على أرض الحديقة الفسيحة من حوله إلى أن اقترب مني أحدهم من الشارع في بنطاله الخاكي المهتريء، وحذائه الثقيل، وبادرني على غير توقّع:
- أتبيعُني إياه؟ ..
- وماذا أبيعك ؟! ..(قلتها بتعجب واستخفاف) ..
- القصر ..

وإذ بدا له واضحاً أنني لم أستجب لروح الدعابة الساخرة، داخل قفص صدره الناحل العريان، ومن بين شفتيه الداكنتين تماماً كالطّحال، ولثّته المهترئة الزرقاء، اتكأ بدوره على السور الحديدي إلى جانبي، وقال بنكتة أخرى أقل سماجة من الأولى:

يستطيع (أخونا) في كل يوم أن يشتري سيارة من لون ربطة عنقه .. أو أن يبني منزلاً يتناسب مع قيطان كندرته ..

قلت له بعدم اكتراث: - نعم.. حال الدنيا ..
- من أين الأخ، بلا مؤاخذة؟ ..
- من مخيم العروب حالياً .. وسابقاً من بيسان ..

لقد بدا لي ضرورياً، من طريقة سؤاله، أن أشرح له سبب وجودي في العاصمة، لكي يستلم الشوط مني طبعاً، فيحدثني بدوره عن سبب قدومه إليها .. لذلك أَوجزت كثيراً في سرد حكايتي، إلى أن حدثته أخيراً عن "عطوفة الإمضاء الضروري"، فتكفل هو باختتام حكايتي من عنده:

- هذه الأُمه قلبها كافر يا رجل ..
ولم يكد ينتهي من تقرير هذه الحقيقة المطلقة لديه، حتى استلم الشوط مني ليشرع في سرد حكايته المملّة، الثقيلة فعلاً، حتى بأدق تفاصيلها التي تزخر بقاموس بأكمله من الشتائم الحادة كرؤوس السكاكين، إلى أن كاد أخيراً أن يبلغ ذروة الرواية، عندما تشاجر مع رب عمله "الخنيث" .. ─ هكذا ادعى بلسانه السليط، القاطع، كمقصّ الإسكافي ─ بسبب ذلك الأمر الشائن الذي طلبه منه فلم يستجب إليه .. وعند ذلك ظهر لنا شخص على مدخل المنزل.. القصر.. الفيلا.. لا أدري.. ثم أقبل باتجاهنا فاتحاً ذراعيه للهواء، ومن خلفه كلبان، أجنبيان، ممتلئان صحةً، وعافية، ونباحاً، من ذلك النوع الذي يظهر عادةً في الأفلام البوليسية:

- والله شرفتم وآنستم، حلَّت علينا البركة يا رَبع !! ..
فإزاء هذا الترحيب الحار، سرعان ما ألفيتُني، وصاحبي خفيف الظل، نبتعد عن سور المنزل بصورةٍ آليةٍ نشِطة، وأخذ كل منا سبيله، وإِن ظل هو مغصوصاً لبتر حكايته على هذا النحو المهين، فودعني وهو يشير في اتجاه المنزل:

- يتحدث كأنه هو صاحب القصر .. ابن الخدامه !! ..
ومن أمام ذلك المنزل في العاصمة ─ (وما زلنا ننزح الماء من داخل الخيمة) ─ عدت ثانية إلى دائرة "الامضاء الكُلِّي القدرة".. وعاودتني صورة ذلك الموظف الجلف الذي ما إن رأى المغلف المرفق بالمعاملة على حقيقته الهزيلة التي لا تزيد عن عشرة دنانير، حتى نهرني بقسوة .. وكأن إناءً ممتلئاً بالبذاءة قد أخذ يطفح من داخله:

- بهايم .. دواب .. حشرات !! ..
وإنني لأتذكّر الآن كم كان رائعاً وقتها لو أنني استطعت، ولو في الخيال، أن أمد يدي داخل بلعومه، وأستلّ منه كل هذه الرداءة السامه .. لكنني، عوضاً عن ذلك، وجدتني أخاطبه بجملة من الألقاب الفخرية المفخّمة التي من أقلّها ..∙ "أستاذ" :
- أستاذ .. من فضلك يا أستاذ .. من لُطفك وكَرَم أخلاقك.. ورائي في المخيم زوجة وثلاثة أطفال .. مجموعنا خمسة أفواه بلا كسرة خبز.. أليس لك أطفال..أتتصور طفلك جائعاً دون أن تفعل شيئاً يا أستاذ؟! ..
- تستطيع أن تخرس ..
- أُستاذ لو أنك تتكرم برفع المعاملة إلى عُطوفة الرئيس فقط .. لو تسمح لي بالدخول على عُطوفته لأشرح ....
- أي والله عال .. لم يبق إلا أن تدخل على صاحب العطوفة أيضاً ─ (ثم، وقد تناول الآن قطعة الدنانير العشرة في يده) ─ .. وهذا ما هذا؟! ..
- كلّ صيغةِ المرأة يا أستاذ ..

لكنه لم يكترث لإجابتي .. وبدا لي أنه يستمريء، بوضاعة نادرة، مخاطبته بلقب "الأستاذ" .. وإني لعلى يقين، لا أملك الدليل الحسّي عليه، بأن اسمه الوظيفيَّ عند صاحب العطوفة لا بد أن يكون الجحش .. أو الكلب .. أو ما هو على هذه الشاكلة من أسماء الحيوانات..

- نعم والله .. كل صيغة المرأة يا أُستاذ!! ..
ومع إحساسي الداخلي المتأزم بأنني قد أسأت هكذا إلى كل أستاذة الدنيا، فقد أجابني هذه المرة:
- أين تذهبون بكل هذه البطاقات .. كل فرد في العائلة يستخرج بطاقة عن عشرة انفار .. تجارة مربحة يا أولاد ال .. حلال !! ..
- أقسم لك من ناحيتي ....
- لم تقل لي أين تذهبون بثمن السكر، والطحين، والحليب، والزفت الذي تبلعونه في أول كل شهر!! ..
- لكنني أقسم لك بأنني لم أملك حتى الآن أية بطاقة في عمري .. ولم ....
- لا تجادلني .. كل أساليبكم مكشوفة..
- لا أنا، ولا أي فرد من أسرتي، وحَقِّ المصحف الشريف ..
- أعرفكم .. أعرفكم .. لا أحد يعرفكم مثلي ..
- ثم إنكم تستطيعون التحقيق في سجلاتكم إذا كنت ......
- انتظر هناك ..
كم هو عجيب حقاً أمر الانسان .. و من تُرى قال إن القلب البشري طيب في الأصل، و محب للخير، و ناصع كقطعة من الشمس؟! .. بينما القذارة الكامنة داخل هذا المخلوق تكفي وحدها لأن تُنَجِّس البحر!! ..

وحيث وقفت منتظراً هناك، فقد طَفَوتُ بلا إِرادة مني على سطحٍ مائجٍ بالغضب، والكآبة، والاحساس بالمذلة .. وسألت نفسي .. ما معنى أن تكون أقدار حياتنا مسطورة في هذه البطاقات الصغيرة !! .. وتقاذفتني الأفكار إلى حد التساؤل أيضاً: ماذا لو حصلت على بطاقة، وضاعت مني لأي سبب من الأسباب ؟! .. سُرقت احترقت .. طارت مع الريح .. فهل أضيع معها كإنسان؟!.. وهل تجوع أسرتي حتى الموت ؟! ..

قلت لنفسي مرةً: حبَّذا لو استطعت الذهاب بالعائلة إلى الشام، فربما وجدت عملاً شريفاً هناك.. ابن الشيخ حابس يعمل مُدرِّساً للإنكليزية في حمص ..

لكنهم حَصّنوا الحدود مؤخراً، وشددوا الاجراءات على تنقل اللاجئين .. ثم إن ابن الشيخ حابس وحيد بمفرده، وليس في رَقَبَتِه أربعة أنفار، حِمْلهم ثقيل يقصف الظهر..

وهناك .. انتظرت ثلاث ساعات على السطح المائج بالغضب، والكآبة، والاحساس بالمذلة والهوان .. إلى أن نَبَحَني من وراء مكتبه ..
- شرف يا بيك !! ..
- نعم أُستاذ !! ..
- هذه بطاقتك كما ترى، بخمسة أنفار: الجناب الفاصل .. مدام كوثر .. خالد.. آمنة.. محمود..
- شكراً .. شكراً ..

ولا أعلم حتى الآن لماذا شكرته، مع أن البطاقة أصبحت في يدي، وانتهى الأمر ..
- إذهب، وبِعها غداً .. وارجع لي مدّعياً بأن "البطاقة .. ضاعت .. يا.. "أستاذ"..
ثم لاحقني نباحه حتى بعد أن أصبحت خارج الباب:
- عسى أن أرى وجهك مرة ثانية في هذه الدائرة .. جَرّب وافعلها!! ..



الحركة الثالثة




كنا قد نزحنا الماء تماماً من داخل الخيمة، وإن تكن أرضها الطينية ماتزال طريّة تحت أقدامنا .. وغاب الأَطفال، حيث تكوّموا، في نوم ثقيل بعد عناء ليلة كافرة ..

وأما السماء فلم يرق لها أن تصدِّق، حتى هذه اللحظة، أن أرض المستحقين قد رويت إلى حد الغصّة، وأن خراطيم المياه المتناشية ستُلوِّن هذه الدنيا كلها ببراعم الزهور اللطيفة التي ستطلع علينا غداً في جنائن مخيم العروب!! ..

كلا .. لا أظن أن ثمة شيئاً في الطبيعة أجمل من جنينة صغيرة، تكون مفعمة باللون والشذى، وتشرب عليها فنجان قهوتك كل صباح .. لكن ذلك كان أيام بيسان .. وأما بعد ذلك فإن كل ما في الطبيعة قد فقد انسجامه، وتَناسُبَ أبعاده، ومبدأ الطمأنينة إليه، وربما أصبح كريهاً تماماً، ويخلو من أي جمال على الاطلاق !! ..

- لكنهم يسمون ذلك حقداً.. حقد الفقراء على الأغنياء.. أليس كذلك؟!..
ومرةً ثانية، قفزتْ إلى ذهني كلمات ذلك الوغد:
- "لم تقل لي أين تذهبون بثمن السكر، والطحين، والحليب، والزفت الذي تبلعونه في أول كل شهر"!!.. فتذكرت على الفور أنني لم أستلم مؤونة الشهر الحالي، وسينتهي موعد التوزيع بعد غد، والأَطفال جياع، وما عندنا ذرة طحين ..
- بعد غد ينتهي توزيع المؤن، عم حابس؟ ..
- بل غداً يا رجل .. ألم تأخذ المؤونة بعد؟! ..
- وأنت تعرف السبب .. انشغلت بموت المرحومة ودفنها..
- عليك أن تقوم بذلك اليوم .. إياك أن تفعلها وتنسى!! ..
- غير ممكن طبعاً ..

كان الرجل مؤمناً ..
ولكنه حين استعاد نفسه داخل بطانيته، وألقى على كتفه عُدَّة الإسعافِ المؤلفة من "الفأس والمجرفة"، فقد عاتب السماء بنبرة خافته تكاد لا تسمع:
- عفوك يا رب .. إنها حكمتك ..
وحيَّاني مودعاً، وتوارى في الضباب ..
وقهقه الرعد بغلاظة صارخة في جنوبِ غربيِّ السماء ..
بعد ساعة تقريباً، عندما استيقظ أصغر أطفالي "حُودة"، كان أول ما تلعثمت به شفتاه الصغيرتان:
- غِيف آما .. بِدّي غِيف كُول ..
لم يكن في الخيمة أَي رغيف، ولا حتى كسرة خبز يابسة .. ولا أنكر أنني مذنب بالنسبة لمحمود، أو أن أعذاري لن تكون مقبولة لديه على الأقل، فضممته إلى صدري مداعباً، في حين أيقظت آمنة لتقترض لنا رغيفين أو ثلاثة من خيمة الشيخ حابس .. وأَما خالد فقد استيقظ من تلقاء نفسه .. كان أشد مقاومة من محمود .. وإن لم يكن أقل جوعاً منه ..
- الله يرضى عليك يا خالد، لا تنس اليوم أن تذهب معي للمركز، لتساعدني في تحصيل الاعاشة ..
- حاضر يا أبي ..
وقمت من فوري إلى الجِراب المُتدلّي من سقف الخيمة لإحضار البطاقة منه، وجُستُ بيديَّ خلال أشيائه المنوعة، فلامستْ أصابعي المشط الكبير الذي كانت تستعمله كوثر، ومنديلاً لها، وقطعة مستعملة من الصابون، وعقداً خَرَزياً، وأشياء أخرى كثيرة لا توجد ضمنها ورقة واحدة.. البطاقة !! ..

لقد نفيتُ من ذهني كل احتمال سيء أول الأمر .. لكنني ألفيت نفسي أنتزع الجراب من موضعه بحركة عصبية مباغتة، ثم أُجيل النظر في داخله، ثم أُفرغ كل ما فيه دفعة واحدة على الأرض ..

- مستحيل .. غير ممكن .. هذا غير ممكن أبداً!! ..
وبادلني خالد نظرة حائرة مرتبكة ..
- البطاقة يا خالد؟! .. لماذا تُحدّق فيّ كالأبله!! ..
ولكن جديداً لم يطرأ على تعبير وجهه، وظل باهتاً كمن قد أصيب بذهولٍ شاملٍ.. وجاءني خلال ذلك أنين محمود للمرة الثانية ..
- غِيف آما .. بِدِّي غِيف كُول ..
و أشياءُ الجراب مبسوطة أمامي دون أي معنى, و داخلَ أضلعي نبض ثقيل وسريع، وخالد يوشك أن يبكي .. تتلأَلأ عيناه بقطرات الدموع .. يبكي فعلاً !! ..
عادت آمنة من خيمة الشيخ حابس و في إِحدى يديها خمسة أرغفة، و في اليد الأخرى صحن نحاسي، مليء إلى حافته بحبات الزيتون الأخضر المكبوس .. و على أََرض الخيمة العارية تحلّقنا حول مائدة الصباح ..

كان أَطفالي جياعاً، ولم أشأ أن أُعكِّر دمهم بشأن البطاقة، فأجَّلت البحث عنها إلى ما بعد وجبة الإفطار ..

ومن حيث قصدت أن أشرعَ في تناول الطعام، استقرتْ عيناي على الرغيف الخامس الزائد عن حاجتنا مدةً لا أتذكرها .. و عندما صادفتني أخيراً عينا آمنة، جائعتين، متوسلتين، تعجلتُ فاتحة الطعام :
- بسم الله الرحمن الرحيم ..
فامَّحى من على عينيها انتظار دهر طويل، و شرعت تأكل فوراً، أثناء ما تناول خالد لقمته الأولى بغصّة ثقيلة .. و أما محمود فقد أتى على مساحة كبيرة من رغيفه، خارجاً على تقليد البسملة، وراح يناوبني النظر نحو الرغيف الخامس .. إنما بدافع مختلف كل الاختلاف ..
- إنه رغيفك أنت يا كوثر .. فلماذا خرجت من بيننا؟! ..
و أَعادني صوت خالد من حافة الدوامة إلى غورها العميق:
- و البطاقة يا أبي؟! ..
- لا عليك يا ولدي .. سأجدها .. سأفتش عنها في كل مكان ..
في اللحظة نفسها، ارتفعت يد آمنة عن الصحن النحاسي الذي فرغ الآن إلى نصفه من حبات الزيتون، و أجالت عينيها الخائفتين في وجه خالد، ثم في وجهي، كأنما لتطرد من ذهنها خاطراً مفزعاً، وسألتني نصف باكية، كأني قد انتهيت مع خالد إلى قرارٍ ما، أثناء ما كانت هي خارج الخيمة لتجيء بالخبز و الزيتون من خيمة الشيخ حابس ..
- و هل تفعل ذلك يا أبي؟! ..
- أفعل ماذا يا آمنة؟ ..
- البطاقة؟! ..
- سأجدها يا ابنتي .. لا عليك أنت أيضاًً ..
- لكن ذلك حرام يا أبي !!.. حرام !!..
و لم أدر ما أقول .. لكنها سمعتني أُلجلج في ارتباكٍ خليطٍ بين الحضور و الشرود ..
- إنها الإعاشة يا آمنة.. ما هو الحرام؟!.. طبعاً يا بنيتي !! ..

و ندّت عنها صرخة حادة، مفاجئة، كادت أن تمزق حنجرتها .. و لم تستطع أن تعاود الكلام إلا بعد نوبة طويلة من البكاء:
- فتح القبور يا أبي!! .. و الله العظيم حرام!! ..
- و لكن ما حاجتنا ؟! ..........

نعم، كدت أسألها ما حاجتنا إلى فتح القبور .. لولا أَنني في لحظة واحدة، محتشدة، مدلهمة، صاعقة، أدركتُ كل شيء ..

شعرت بارتخاء يائس في كل أعضائي .. و لا أعلم لأيةِ فترة من الزمن بقيت غائباً عن كل ما حولي .. لكنني أَلقيت جبهتي المرهقة فوق يدي، فأذهلني أنها مغتسلة بالعرق، رغم لذعة الريح الصباحية الصافرة ببين الخيام ..

كنا نضع البطاقة دائماً ضمن أشياء الجراب، ولم نكن نغيّر موضعها أبداً، إلى جيب معطفي مثلاً، أو إلى ذلك الجيب الصغير في ثوب كوثر الريفي داخل عُبَّتها، إلا حين يقترب موعد التوزيع، فعند ذلك كان يتضاعف حرصنا عليها، و قد نتحقق من أنها ما تزال في حوزتنا عدةَ مرات كل يوم ..

لا أعلم معنىّ لذلك!! .. و قد انشغلتُ في الأسبوع الأخير بمرض كوثر، إلى درجةٍ نسيت معها أمر البطاقة .. لم أكن أعلم أنها في هذه المرة قد احتفظت بها داخل عُبِّها قبل كل هذه المدة من موعد التوزيع .. بل إنني لم أفطن إلى كل ذلك يوم الدفن .. ولم تكن آمنة، وهي التي اختنق قلبها بالحزن في مأتم أُمها، لتفطن بدورها إلى موضوع البطاقة، أو ربما لتدرك جيداً ما الذي يعنيه ان يحصل لاجيء على بطاقة تموين !! .. ثم ما الذي يعنيه أن يفقدها من بعد!!..

أحسبني الآن مضطراً لأن أفتح الحفرة .. ليس ثمة أي حل آخر .. ولا يمكن أن أدع اطفالي يموتون من الجوع ..
- لن تفتح قبر أمنا يا أبي .. أتوسل إليك ؟! ..
وأجبتها كاذباً:
- إطمئني يا حبيبتي .. لن أفعل ذلك ..
ومع الارتياح الطفيف الذي شمل تقاطيع الطفلة، عشت حرباً محتدمة داخل نفسي..
ومن حيث قصدت الموازنة، منطقياً، بين الحصول على البطاقة وعدم الحصول عليها، رأيتني معلماً في مدرسة حمصية في أعالي بلادنا الشامية، و أطفالي يأكلون حتى الشبع .. لكن "بلُّوطة" العَرُّوب، هنا - على مرمى حجرٍ كما يقولون ما بين القدس والخليل - وهي التي اخترت موقعها بنفسي في ظهر هذا العراء الجبلي، المشاع، لكي أُسَجِّي إلى جوارها جثة حبيبتي، مُلفّعةً بكل هدومها و حتى بأغلى ما استطاعت أن تحتفظ به من الثياب من أيام عرسها، كتعويضٍِ لروحها الطيبة عن كفنٍ ومأتمٍ لائقين، ستظل تشدني كوثاق حديدي يستحيل عليّ الإفلات منه إلى أي مَهْرَبٍ آخر، حتى في دنيا الخيال ..

فلمن، إذن، سنترك البلوطة إذا نحن شددنا رحال "اللجوء" إلى حمص، أو غيرها؟!.. ومَن تُرى، سيزور قبرك من بعدنا يا حبيبتي؟!..

ماذا أقول لآمنة ─ في حمص ─ إِنْ هي رغبت في أن تقرأ الفاتحة على قبر أمها ؟!

إن ابن الشيخ حابس الذي يعمل هناك لا رفيقة له تنام تحت بلوطةٍ هنا، وأحسب أن هذه القمة الحزينة، ستظل موطن ذكرياتي إلى آخر العمر..

ولكن .. البطاقة؟! ..
الحقُّ أنني كنت منقبضاً إلى حد الرعب من فكرة فتح الحفرة، ولا شكَّ أن شعوراً طاغياً بالإِثم قد اجتاحني عندما فكرت في حمل الفأس والمجرفة والصعود بهما إلى القمة .. ولكنني عدت إلى موازنتي إياها .. وعادت إلى ذاكرتي مرةً أخرى عبارة ذلك الكلب .. موظف بطاقات الغوث في العاصمة:

"لم تقل لي أين تذهبون بثمن السكر، والطحين، والحليب، والزفت الذي تبلعونه في أول كل شهر"؟! ..
كذلك عادت إلى ذاكرتي عبارته الوداعية الأخيرة:
"عسى أن أرى وجهك مرةً ثانيةً في هذه الدائرة" ..

وهنا لم تعد موازنتي قلقة أو مترددة، بل لقد كان من السخف أَصلاً أن أُقيم أية موازنة من هذا الـنوع.. بين جـوع أطفالـي، وإمكانية سـدّ رمقـهم بلقمة الخبز..

وفي الطريق إلى خيمة الشيخ حابس ─ لأستعير منه الفأس والمجرفة ─ لا أدري لماذا رأَيتني معلما في حمص !! ..




الحركة الرابعة


بدا لي المخيم من قرب البلوطة الشائخة في قمة الجبل، كمجموعة من شرانق الدود التي تستكنُّ الحياة داخلها فقط، وكلُّ ما حولها بارد لا حياة فيه..

السماء تبكي .. وجبهتي وقلبي هما أيضاً يذرفان الدموع .. والريح المتلاعبة التي فقدت أي اتجاه ثابت لها، هي الأخرى تعترضني أحياناً حتى لتوشك أن تردّني إلى الخلف، وأحياناً أخرى أشعر كأنها تدفعني صُعداً حتى لتكاد خطواتي لا تلامس الأرض، كمن يرى نفسه وهو يطير في الأحلام ..

وتحت البلوطة، أخيراً، جلست كي أستريح قليلاً من عناء الصعود .. إذا هكذا استطعت أن أقنع نفسي بأن فاصل استراحتي هذا ─ وليس ترددي ─ ما كان إلا لمجرد أنني كنت تعباً فقط !! .. وأخرجت عليه التبغ لأَلفَّ سيجارة ..

كانت يداي مبلولتين، فمررت بهما داخل البطانية حتى جفّتا تقريباً ..
ثم سلّيت نفسي قليلاً بمحاولة التأمل في متعة التدخين، في طراوة هذا الجو الشتائي وتحت سَحِّ المطر الذي تجنبته بعض الشيء تحت فروع الشجرة ..

قبر كوثر يواجهني تماماً، ربما على بعد خمسين قدماً، ولستُ مضطرباً .. بل لماذا أضطرب من حيث المبدأ ؟! ..

هذه سحابة دخان أنفثها من عُمق صدري، فتمتد على استقامة قصيرة، ثم تتلاشى في الريح، وأتنفس بعد ذلك، فيبدو نَفَسي ─ وقد تكوَّنت عليه ذرات البخار─ شبيهاً بنفثات دخان السيجارة .

كلا .. لست مضطرباً أبداً .. وإن هذه التسلية لتروقني تماماً .. فلأجربها كرةً أخرى ..
وأقنعتُ نفسي، إِلى درجة لا بأس بها بأن فتح حفرة القبر ليس من البشاعة أو الفداحة أو حتى الاكتراث إلى ذلك الحد الذي يمنعني من تكرار تسليتي التافهة هذه ..

وحتى بعد أن قذفت عَقِبَ السيجارة في الوحل، بقيت أنفث نَفَسي فيستحيل خيطاً أبيض، مديداً ، من البخار .. والحق أن أزمتي مع الحفرة أخذت تبدو لي، تدريجياً كأنها أزمة شاعرية مثالية، لا قيمة لها في واقع الأرض الدنيوي، ولا بين الناس ..

تذكرتُ حاجة أطفالي إلى المؤونة، وخشيت أن أَقضي سحاية نهاري متردداً تحت البلوطة، فيفوتني صرف البطاقة فيما قد تبقّى من نهاية موعدها الشهري المحدود، كقَدَر مُنزلٍ محتوم .. فعند هذا الهاجس الذي لسعني كأفعى، وجدتني أقفز عن سطح الأرض في هَبَّة واحدة.. وتهيأت لفتح الحفرة ..

نزعت البطانية عن كتفيّ، وعلقتها في نُتوءٍ بارز من جذع البلوطة، وأحسستُ بخطواتي الأولى نحو القبر كأنما قد تجاوبت أصداؤها في الشعاب البعيدة، غير أنني ─ بوعيٍ باردٍ تام ─ قمعت جَلَبتي الداخلية من جذورها، وأنكرت على نفسي ترددها الممل الجبان ..

كانت الريح على القمة أهدأ منها في ذلك السرداب الجبلي الذي زرعونا فيه، وكانت تواجهني على الأفق الشرقي عشرات القمم الهيّنة، التي تنتهي بعيداً، بذلك الفلع الحاد القائم على البحر الميت .. الذي ندعوه عادةً "بحيرة لوط" .. وتساءلت برهةً: لماذا بدَّلو اسم هذه البحيرة بالبحر الميت؟! ..

أفوق تلك التلول إِذن بذلت سدوم وعَمُورة بكارتيهما لأبيهما المخمور؟! ..
آه أيتها الأخيلة الشيطانية الخسيسة والمقدسة لديهم حتى الجحيم، أيُّ شيء لك في بلادنا غير الليل، والعفونة، وأساطير الرذيلة والجريمة التي تقشعر لهولها الأبدان؟! .. على حين لنا نحن القممُ، والمحاريثُ، ومواويلُ الحب التي تعانق صدر السماء ..

ولم تستغرقني هذه الخاطرة طويلاً .. ذلك أنني تقصّدتُ مثل هذه الخواطر والتداعيات، أو الهلوسات في حقيقة الأمر، كأقراص مسكنة، أو حتى مخدرةٍ أيضاً، لاحتمال ما أنا مُقبل عليه.. كما لو أنني سأقوم بعمليةٍ جراحية في سويداء القلب !! ..

لكنني اقتنعت أخيراً أنه ما من أي تداع، إِراديّ أو عفويّ، يمكن أن يصرفني عن ضربة الفأس الأُولى في قبر رفيقتي الراحلة ..

لا جدوى إذن .. فَلأُواجه كل ذلك كأيّما رجل حقيقيّ، ولأَكنْ في هذه اللحظة ─ بقسوة حازمة ─ واقفاً مع أطفالي الصغار الباقين على قيد الحياة، وليس مع ذكرياتي المولّية الهامدة دون حراك .. ولأهوِ بالفأس الآن على تراب القبر !! ..
هذه أول ضربة .. دون أن ينخلع لها قلبي كما كنت متوهماً قبل لحظات !! ..
ثم هذه هي الضربة الثانية .. بلا أي معنى خاص .. والثالثة .. والرابعة .. فالخامسة..
والأرض الطينية الرخوة تستجيب للرأس الحديدية النـزقة .. وهاأنذا ألقي الفأس حينا، لأَغرف بالمجرفة ما قد ضربته بالفأس .. ومن ثم أعود إِلى الفأس .. كي أعود إلى المجرفة .. وكُتل الطين تنعزق بلا نظام على حفاف القبر ..
- كم أعتذر إليك يا حبيبتي ..
وفم الفأس، الآن، ينغرز في أحد الأعواد الخشبية المتقاطعة فوق الجثة ..
- لأن أطفالكِ جياع يا توأم روحي ..
وأحد أثوابها يلتبس مع التراب الطيني، فأُشيح بوجهي جانباً، ولكنني أعود إلى عزق أطراف الحفرة، فأشعر أَن الأرض تغور تحت قدميّ، وأن تلال الطين ترتفع شاهقة، كجبال خرافية، على حفاف الحفرة ..
بل على جانبي الأُخدود !! ..

فالدنيا كلها أخذت تنحدر إلى أدنى .. تغوص إلى غَوْرٍ رهيب مجهول القرار ..
يداي تنبشان، الآن، عن مركز الأرض ..
قدماي تزلاّن فجأة عن حافة الهاوية .. فأغوص بلا قرار .. بلا قرار .. بلا قرار .. إلى أن يردني خَدْشٌ قوي في جبيني مرةً ثانية إلى ما فوق سطح العالم .. فهاأنذا ملقىً بوجهي إلى الأَرض .. ملقىً إلى جوارك يا حبيبتي، ولن أبرحَ هذا المكان أبداً .. أريد أن أموت فقط .. أن أظل معك بلا نهاية .. أن نستعيد معاً زفافنا، وليكن هذه المرة في حدائق السماء !! ..

كوثر .. ما الذي حلّ بنا يا حبيبتي .. أحقيقيّ أننا التقينا يوماً على درب النخيل في بيسان، وأنك أنت أنت، وأنا أنا، وهذا العالم هو نفسه العالم .. أحقيقيّ أنك متِّ، وأنني لم أمت، وأن روحاً واحداً قد أصبح اثنين ؟! ..

بل لماذا لم أمت معك في اللحظة ذاتها ؟! ..
سأظل أبكي هنا إلى جوارك حتى الموت !! ..
مالك يا كوثر .. ما لذي يمنعك الآن أن تبتسمي إليَّ .. أن تعودي لنا .. أن تعاتبيني بكلمة.. أن تطردي من جسدك قشعريرة الموت .. ألَن تسمعيني أبداً؟! ..

كوثر .. ما كانت يداي هاتان لتجيئا إليك في طلب البطاقة من قبرك المفرد ها هُنا في العراء.. ما كانتا إِلا لتضماك على درب النخيل في بيسان، وأمواجُ شعرك الرخيّة كغمرٍ من سنابل الجليل تستريح على كتفيّ.. ها نحن معاً على ضفة "المَشْرَع"، فاتركي قدميك العاجيتين لموجاته الصغار، وحدثيني عنك، وعني، وعن صورة طفل تلمحينها في الخيال.. أَتسألينني عن اسمه؟ .. عن اسمها؟ ..
- حُودة يسألني عنك كلَّ صباح..
- قل له سأعود مع الحُجّاج..
- قلت له ذلك..
- وقل لآمنة أن تزورني في كل عيد..
- وأنا أيضاً، وخالد، وحُودة..
- حُودة يبكي.. يصلني بكاؤه الآن..
- جائع.. ولا رغيف بين يديه..
- خذ البطاقة حالاً واذهب إلى المركز.. ضعها في جيبك، هكذا، واحرص ألا تضيع منك..
- وأنت يا كوثر ألا تعودين معي؟! .. سنعيد تعمير الدنيا بأسرها، وسنمنحها الحب والسعادة من جديد.. كوثر.. كوثر.. أريد أن أموت فقط.. أن أظلّ معك بلا نهاية.. فلماذا لا تجيبين.. وجهك ليس ميتاً، وهذه الزرقة المخضرّة التي فيه، أقسم أن الملائكة لا يمكن أن تختال في أجمل من فيروزها بين النجوم !!

كان المطر يوشك أن يتجمع في قعر الحفرة، فانتفضتُ واقفاً، وركزت الأعواد الخشبية المتقاطعة في مكانها، وبدأت أهدم جانبي الأخدود على حفرة المرحومة في قمة العَرُّوب..

وبعد أن سوِّيتُ التراب الطيني فوقها، أَقمت الحجر الشاهد عليها في مكانه..
وحين تناولت الفأس والمجرفة هامّاً أن أنصرف، لم يكن يرافقني أي شعور أعرفه من قبل.. بل كان نوع من البلاهة يترنح في خطواتي، ويرتخي في شفتيّ، ويتسع في جفوني..

وتحت فروع البلوطة، مرة ثانية، جلست أُدخن سيجارة أخرى، إذ لم أستطع أبداً أن أبرح موضع القبر فور الحصول على بطاقة الاعاشة!! ..

كانت هبّة قوية من الريح قد أسقطت البطانية من نتوئها المعلقة فيه، فنفضتُها من آثار الأرض، وقبعت داخلها خشية أن تلفح الريح صدري وأطرافي الناضحة بالعرَق.. ورغم أن نوعاً من الراحة قد أخذ يشملني ─ لأن البطاقة أصبحت في جيبي الآن ─ فإن حنيناً في قرارة نفسي كان يشدّني إلى أن أمكث مزيداً من الوقت إلى جوار كوثر.. إن العالم مجتمعاً قد استطاع أن يهزم رفيقتي الراحلة، ولشدّ ما يجرفني الحنين أن أشاطرها مرارة الهزيمة، ووحشة الاندحار!!..

- يا للنذالة.. وتترك أطفالك الثلاثة للأَزقة، أو لتجّار الخدم والصانعات!! ..
وحين أتيتُ على نهاية سيجارتي الثانية، كان دفء الشمس الفاتر، وضياؤُها الرمادي، ينكسران خلال الغيوم من نقطةٍ ما في منتصف السماء.. لعلها كانت الثانية عشرة، أو الواحدة ظهراً.. ومعنى ذلك أن أمامي أربع ساعات، أو خمساً على أكثر تعديل، قبل أن تفوتني آخر فرصة لتحصيل إعاشة الشهر الحالي.. لذلك تهيأت للعودة إلى المخيم، فخلَّصت نفسي من البطانية قليلاً، لأَن ما كان مطراً قبل لحظة قد أصبح الآن مجرد رذاذ هَيِّن..

ألقيتُ الفَأس والمجرفة على كتفي، وقبل أن أنطلق تأكدتُ من أن البطاقة موجودة في جيب سترتي..

- نعم، هذه هي..
وزدت على ذلك بأن سحبتها من جيبي، ليطمئن قلبي، ولكي أغتنم مزيداً من المتعة، والسكينة النفسية، من خلال مادتها المحسوسة بين يديّ .

كانت مبلولة بعض الشيء.. ولكنني حين فتحتها.. حين فرجتُ دفتيها بإبهام يدي اليمنى .. أحسستُ بالفأس والمجرفة تنـزلقان من على كتفي الأيسر، وغادرَتني البطانية وحدها لتستقر على الأرض، أثناء ما نقلت خطوتين أو ثلاثاً بدون أي اتجاه معلوم، محدّقاً في فراغ البطاقة في حالة ذهول تام.. أو كمن تشنّج فجاة بمفعول رُقية سحرية متمثلة في تلك الفوضى الغامقة المركبة من تحلّل الحبر الأسود، واندغامه بسطح الورقة الحمراء !! ..

يا للشناعة المجرمة !! ..
أية قوة رتَّبت ذلك كله.. لقد أتلف المطر آخر حرف منها مكتوبٍ بالحبر.. وحتى الخاتم الرسمي، وإمضاء الدنانير العشرة.. من يصدق أنهما كانا على هذه الوريقة الجرداء في أحد الأيام؟! .. لربما كان أحدٌ غيري يملك الشجاعة أن يواجه موظفي وكالة الغوث بمثل هذه الوريقة.. وأما أنا فأعترف بأنني أَجبن من ذلك، أو ربما أشدُّ حفاظاً على ماء وجهي من أن أُريقه بمزيد من التوسلات..

أعرفهم جميعاً، وأعرف طينة الزفت التي انجبلوا منها على مقاس حذاءٍ في أرجل أسيادهم الخواجات !!..
وسلكت قدمايَ الطريق التي تشاءان..
كان رأسي ممتلئاً فراغاً ومثقلاً بخُوائه من أي تفكير.. ولم تبصر عيناي شيئاً خلال أي شيء.. سوى أن خُطاي كانت خفيفة كمن قد تحول فجأة إلى شبح حقيقي.. وأخذت ضحكاتي تنفجر في القمة كصهيل حصان بريٍ مجنون.. وهنا أرخيت جناحَيْ بطاقتي على صهوة أول هبّة قوية من الريح.. واجتاحتني الرغبة في أن أَشرع بغناء مّوال مجهولٍ لا أعرف أي حرف من كلماته، ولكنني أريد أن أستلّه من أعمق أعماق رئتيّ، وألقي به إلى الريح، والمطر، والشمس المتعثرة بين الغيوم !! ..

أذكر أنني تساءلت بسرعة عمَّا أفعل بِقُوتِ أطفالي ─ فلقمة وكالة الغوث لم تفتني عن هذا الشهر وحسب، وإنما إلى الأبد ─ لكنني لم أستجب حتى لهذا الشاغل الأساسي الذي من أَجله فتحت حفرة كوثر.. بل واصلت السير كمن سيجد الجواب على جميع أسئلة الدنيا في نهاية الطريق..

ذلك ما حدث فعلاً..
كانت قدمايَ تتصرفان دون أَي تدخل من جانبي.. وبين الحين والحين كنت أعي حقيقة انقطاع الرذاذ، وتلاشي السحب الثقيلة السوداء إلى دخانية فاتحة.. وكان ثمة نوع من ارتخاء النهاية يشتمل نفسي بسلام عميق..

لا أعلم كم ابتعدت عن البلوطة، أو المخيم.. ودرتُ على محوري دورةً كاملة، لعلّي ألمح خيمة واحدة، فأسعدني أنني لم أُبصر أثراً لِتِلك الشرانق التي تحتوي حَيَواتنا البشرية في مخيم العرّوب !! ..

كان يكتنفني أفق جبلي ضيق..
وعوضاً عن خيام العَرُّوب، أبصرت منازل القرويين المعلّقة في السفوح، وأدخنة الشتاء تتصاعد من كُواها الصغيرة عبر ذلك النقاء الريفي المثير حتى الفرح وفَرْط البكاء..

قطيع من الماعز يتسلق سفحاً بعيداً من جهة الشرق.. ومن تأليف الطبيعة، وعزفها، وأوركستراها، بدا لي كأن راعي القطيع البعيد قد دخل في سجالٍ موسيقي مع السماء.. هو من خلال قصبة الناي الشجيِّ والمُلتّاع ما بين يديه وعلى شفتيه.. وهي من خلال قرعها العنيف على طبول الرعود في أعالي الغيوم.. حتى لقد خطر لي لوهلةٍ خاطفة كالبرق كأن هذه بذاتها هي سمفونية الخلق الأبدية التي تحكي مواجهة الإنسان لأعتى قوى الطغيان..
كذلك استوقفتني لوقتٍ لا أدريه لوحةُ هذا الريف الجبلي، الحزين والجميل معاً، كما رسمتها هنا أصابع الله منذ عهد جدنا الأول كنعان.. وقبل أن يخرجوا هاربين إلى سيناء بحفنة كاملة من ألوف من السنوات!!..

وفيما بين الصخور الرصاصية المترامية حولي، كانت هناك مساحات صغيرة من الأعشاب، تختلط فيها أقراص الفطر، وقرون الجَلَثُون، ومهرجان بأكمله من السواسن والأقاحي البرية وشقائق النَّعمان.. وقد جلست على واحدٍ من تلك الصخور لبعض الوقت.. وحين أسندت رأسي على راحتيَّ لأفكر في حاجة أطفالي إلى الخبز، انصرف كل تركيزي إلى خيط ضعيف من الماء كان ينـزُّ من قاعدة صخرة كبيرة مقابلة، وعاد بي ذلك الخيط إلى لعبة "النهر والبحر" التي كنا نلعبها أطفالاً أيام كنا في الناصرة، وقبل أن نعود إلى بيسان، وتساءلت بدهشة عما يمكن أن يعيب الأَطفال الكبار، مثلي، أَن يلاعبوا الصخر، والطين، والأعشاب، حتى آخر يوم لهم في الحياة ؟! ..

كم أحببنا جمالاتنا الفلسطينية تلك أيامَ كنا في سن الطفولة.. وكم بادلتنا هي الحب، عطاءً بعطاء..

مرة ثانية استدرتُ حولي لأرى أيَّ أثر لمخيم العَرُّوب، فأسعدني أيضاً أنني لم أره، وتمنيت ألا أراه أبداً ما قُدِّر لي أن أعيش، وأن أبتعد عنه بأطفالي إِلى دنيا مجهولة ليس فيها وكالة غوث، ولا لاجئون !! ..

ابن الشيخ حابس يعمل مدرّساً في حمص..
- لكن لا.. أقسم بروح من تسكن هذه الحفرة إلى جوار بلوطة العروب، ألا أَبرحها لغير تلك الدرب النخيلية على ضفاف "المشرع" في بيسان..

لذلك ضمّختني يدُ النسيم بعطر النماء الشتائي الفوّاح..
ولذلك أيضاً طرقت سمعي، في الخيال طبعاً، أجراس ذلك القطيع السارح على السفح المقابل، وكدت أجزم بأن الراعي قد أحس بدنيا السعادة التي أخذت تغمرني آنذاك في فجر تكوينها، فأرسل من نايه القصبي ذلك النغم المرافق لقصيدة إنشاء عالم جديد..

كانت فلول الغيوم تتدافع على متن الريح الجنوبية الغربية، لتتسع مكانها بحيرات الفيروز السماوية الصافية.. وتحسست ذراعي اليمنى فخيّل إِليّ أن كتلة صلبة من العضلات تكسوها.. وأدهشني كم كنت مخطئاً ليلة أمس عندما ظننت أن ظهري قد انحنى، وأن جسدي سينهار!! ..
- حقاً، لابد أنني مخلوق ذو قيمة مذهلة !! ..
وكان راعي السفح مايزال يمجِّد انتصاري الكبير بأنغام نايه المتجاوبة مع هزيم الرعد، عندما نهضت من على تلك الصخرة الرصاصية عائداً إلى المخيم.. وفي نيتي هذه المرة أن أعيد خلق العالم من جديد..






  رد مع اقتباس
/
قديم 04-08-2011, 11:13 AM رقم المشاركة : 20
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

تكتب عنه هدى بارود
في فلسطين أونلاين\ غزة :



عِشقٌ ربَطَهُ بالأرض فأنجبت قريحتُهُ "شعرا"..
يوسف الخطيب.. عادَ بعمرِه إلى يوم تأسَّسَ "شاعراً"



اسمها.. "آلهة" حب وجمال كنعانية، تَرفّق النهار بها، وأهداها الله باقة سِحر كوني.. تَرتسمُ حدودها بالتقاء الأفق مع الساحل الفلسطيني، فهي الصغيرةُ "متوسطةً" بين يافا شمالا، وغزة من أقصى الجنوب، مكانها جبال الخليل، بالتحديد مُلاصَقَةً بالمدينة".

تلك هي قرية دورا الفلسطينية كما وصفها ابنها الشاعر يوسف الخطيب، والذي أطلق فيها صباحَ السادسِ من آذار "صرخته الأولى"، أي بعد عام واحد فقط من إعدام شهداء ثورة البراق (فؤاد حجازي وعطا الزير ومحمد جمجوم) والذين سرقت أعمارهم "بريطانيا" عام 1930.. مُعلنا "بها" أنه وُلد لـ "فلسطين" مواطنا، وللعالم "إنسانا" وشاعراً..

الشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب بحديثه لـ" فلسطين"، نَظَم عِقد كلامه عن قريته وماضيه فيها كأنه بيتُ شعرٍ تَفنن بإبداعه، فهو فيه ذاك الصغير الذي يحاول "بمتعة" فَكَ رموز المُعلقات التسع التي اقتنصها من "عِلْية" منزله، وهو أيضا الشابُ الذي "تَقَّلد" إدارة الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون السورية كأول فلسطيني يُنصَّب رئيسا لها..

وهو كذلك الشاعر الذي "بالعيون الظِماءُ للنور" صَدح كالبلبل معلنا أنه أُنذرَ لـ " الوطن المحتل"، كـ "مجنون فلسطين"، ومُقسما بأننا "عائدون".. وبالمناسبة كُل ما بين الأقواس هي "دواوين شعرية" لضيفنا الخطيب..

في اتصال هاتفي لـ "سورية" ملأه "الحنين"، ونضح من جود ذكرياته "الحدَيث"، نَقلَ "الخطيب" لنا ماضيه في مُذكراتٍ أسعفنا "التسجيل"، -رغم رداءته- في حِفظها، ننقلها "هاهنا" على صفحة "مذكراتي"، بين يديك عزيزي القارئ، لتستمتع كما "نحن" ببساطة "الفلسطيني" وإبداعه ما قَبل النكبة...


ربما كانت صرختي يوم ولدت هي رجع صدى لوطن بأكمله، أرهق كاهله نير الاحتلال البريطاني، والاستيطان الإسرائيلي، إذ أن حياتي كأي فلسطيني سَجلت الكثير من الظلم تِباعا
الخطيب

في عقله "الغض".. مكان
يوسف الخطيب كما ذكرنا سابقا، ولد سنة 1931 أي بعد عام من إعدام شهداء البُراق، وهو إن لم يكن قد عاصَر أحداث الثورة، إلا إن تبعاتها أحاطته، يقول بِحسٍ أدبي ربطه بذكراها:" ربما كانت صرختي يوم ولدت هي رجع صدى لوطن بأكمله، أرهق كاهله نير الاحتلال البريطاني، والاستيطان الإسرائيلي، إذ أن حياتي كأي فلسطيني سَجلت الكثير من الظلم تِباعا"..

بعمر الخامسة فقط، ولما بدأ يتشكل وعي الخطيب الإدراكي لما يحدث حوله، سجّل عقله ذكرى الإضراب الفلسطيني الكبير، والذي كان احتجاجاً على هجرة اليهود المتواترة إلى فلسطين، ومن ثمّ ( بعد عام) استوعب عقله "الغض" الثورة الكبرى..

فكانت الأحداث بتفاصيلها تجد مكانها في "دماغه" كثير الاستيعاب، نظرا لصغر عمره، يقول: "والتفاصيل الصغيرة التي استوطنت ذاكرتي لا أستطيع نسيانها مُطلقا.. خاصة ذلك المشهد الذي اقتحم فيه الجنود البريطانيون منزلنا مع الفجر باحثين عن رائحة سلاح يُمكن أن يكون والدي قد أخفاه في المنزل قبل رحيله إلى سورية، كغيره، هارباً من الاعتقال بحجة التكتم على مقاومين فلسطينيين"..

البريطانيون بـ "شورتاتهم" القصيرة و" بساطيرهم" الثقيلة تصايحوا في منزله بـ "بلهجة كريهة، كالذئاب بحثا عن سلاح، يوصلوا بتهمة حيازته، صاحبه إلى حبل المشنقة"، تبعا للخطيب الذي اعتبرها أحداثاً تُفسر "سخطه إلى حد الثورة على أشكال العنف والظلم والطغيان جميعها"..

وإن كان "ظلما" أحاط بحياة الخطيب صغيرا، حركَ فيه ثورة وانتفاضة، فإن "الخليل" بطبيعتها الساحرة، "ودورا" برونقها الخاص جَبَلا عمره على حب الشعر وتذوق فنه، لا لأنه يُحب الشعر فقط، ولكن لأن والده كان أول "الحانين" عليه صغيرا، وأعظم "الآخذين" بيده نحو احتراف الشعر..

أولُ "الحانين" أبي
"أبتي أظن غسول ذي الأرض من دمنا.. وإن يداً تعتق للصباح صفاءَ أدمعنا.. وإن غدا سيولد من مخاض غُرٍ.. فَيرحمُ حزنَ هذا الكون في أحناء أضلعنا".. محمود الخطيب والد الشاعر يوسف الخطيب وبعد عودته من سورية، كان أول من أخذ بيد ابنه إلى كتاتيب القرية، فهو واحد من القلائل الذين يكتبون اللغة العربية جيدا ومقرؤونها ذلك الزمان..

يقول الخطيب : "فوجئت صباح يومٍ بوالدي يأخذني من يدي إلى كُتاب "يوسف الشريف" القريب من منزلنا، ومن ثلم نقلني إلى كُتاب قرية "المسالمة" المجاورة لنا والذي يُسمى " عبد فقوسة".. ولم يكن صفَّ التعليم إلا حجرة صغيرة يتكدس فيها الأطفال كما علبة السردين، تمهيدا لدخولهم الابتدائية النظامية، وفيه يحفظون جزئي "عَمّ وتبارك" عن ظهر قلب، إجباريا.."

عُلق على رقبة الخطيب كأقرانه في الكتاتيب "صاج" سجلت فيها الأبجدية وبعض المفردات ليحفظها، وحظي " حالَ غيره" بالكثير من التقدير والاحترام من أهله وجيرانه، فهو تربية "الكتاتيب"، وأي واحدة.. إنها كتاتيبُ الخليل المشهورة بمُدرسيها "العباقرة"..

أنهى الخطيب دراسته في " عبد فقوسة" خاتما الحروف الأبجدية العربية، وحفظها بإتقان، فهي التي تُشكل سلاسل الحكايات والأشعار الشعبية المُلقاة على مسامعه "طفلا" في ديوان القرية، وهي "طارحةُ" التساؤل الكبير على عقله الغض.. "ما الذي يمنع الناس من أن يكون كلامهم بقدر الشعر من الرقة والعذوبة والجمال؟!!"...


فوجئت بوالدي يأخذني من يدي إلى كُتاب "يوسف الشريف" القريب من منزلنا، ومن ثلم نقلني إلى كُتاب قرية "المسالمة" ولم يكن صفَّ التعليم إلا حجرة صغيرة يتكدس فيها الأطفال كما علبة السردين، وفيه يحفظون جزئي "عَمّ وتبارك" عن ظهر قلب، إجباريا
الخطيب

وفي ترتيب للأحداث، فإن الثورة الكبرى، ورحيل والد الخطيب إلى سورية، كانا قبل دخوله الأخير مدرسة "دورا" الابتدائية، وتخرجه من الكتاتيب "بنجاح".. يقول: "ستة أشهر دام الإضراب الفلسطيني الكبير، وهي المدة التي خرجها والدي مسافرا إلى سورية فيها بعد أن شن البريطانيون حملة اعتقال لكل من يأوي ويتكتم على الثوار، فرحل متسللا إلى الأردن ومن ثم إلى دمشق"..

"يقولون كان فتى لاجئاً. إلى خيمة في الربى مُشرعة، تطل بعيدا وراء الحدود... على الجنة الخصبة الممرعة، وكانت له ذكريات هناك. مُجنحة حلوة، ممتعة". هي أبيات من قصيدة للخطيب تُعبر إلى حد كبير عن رحلة والده "الاضطرارية" إلى دمشق، ورحلته الإجبارية بعد ذلك لذات المدينة.

رحل والد الخطيب بعد أن وفر له ولعائلته ملجأ مناسباً في "خربة مريش" عند أقربائهم.. وإن كان يجوز القول، فإن تلك المرحلة شكلت بعض التفاصيل "الدقيقة" في وعي "خطيبنا" الصغير آنذاك، وأكملت "إدراكه" للحياة.. ولكن المرةَ في "جمالية جبلية متوحشة وبدائية تُعيد الإنسان إلى ما يقرب من فطرته الأولى"، وفق قوله..

مُدة "لا يذكرها" من الزمن، قضاها الخطيب راعياً ومُتأملا، فهو لمّا كان يسوقُ الأغنام على الجبل أمامه.. تسرحُ عيناه في الليالك والسواسن وشقائق النعمان التي تَرسمُ بجمال ألوانها في الجبل الأخضر لوحة "عَبقرية"..

الأزرق "جَبّار".. والأبيض "تحايل"
عَشقٌ "جارف" ربطَ شاعرنا بالطبيعة البرية "الحُرة" مُزج فيما بعد بقصائده ونثره، إذ إنه حتى "الرجعة" لدورا بعد انتهاء "الإضراب" لم تنسه ذلك "الهَيام"..، يقول :"القليل من الذكريات جمعتني بالطبيعة في الجبل، وعشق بريته مُزج بسحرٍ في أعمالي الشعرية، ناهيك عن أنه ما زال يطرق عقلي في عمر الشيخوخة الذي أعيشه".

ورجوعا إلى طفولة الخطيب، نذكر أنه في خريف عام 1936 انتقل إلى المدرسة "نصف" الابتدائية في دورا تُدعى " عين خير الدين الابتدائية" يدرسُ مع طلابها ومدرسيها "الأربعة" اللغة العربية والحساب، وكانت مدرسة القرية تضاهي المدارس اليهودية حديثة الطراز آنذاك.

يقول الخطيب عنها: "هي مدرسة نصف ابتدائية شديدة المنافسة للمدارس اليهودية الحديثة، أسسها الخليل عبد الله كردوس، وهو علمٌ فلسطيني ربما يكون مقدسيا، بمساعدة أهلها، وقد نجح نجاحاً باهرا في ذلك".

يُتابع بسلسلة أحداث هي الأطرف في الحوار :" كان مدير مدرستنا يُدعى الأزرق الشريف، وهو ذو صيت شائع بالقسوة، يُعرفُ بالجلاد الذي يلتزم الطلاب في حضرته الصمت ويصطفون مُنظمين كأنهم في طابور عسكري، مُنضبطين انتظارا للأوامر وخشية من العقاب، إلا أنه أيضا كان صاحب مُفتاح "السينما" المدرسية – وهو جهاز عرض امتلكته مدرسة دورا وحدها من بين مدارس الخليل- التي عَرضت بعض التطبيقات العملية لدروس الحدادة والنجارة وخلافها".


القليل من الذكريات جمعتني بالطبيعة في الجبل وعشق بريته مُزج بسحرٍ في أعمالي الشعرية ناهيك عن أنه ما زال يطرق عقلي في عمر الشيخوخة الذي أعيشه
استمر الخطيب في مدرسته وحياته على طبيعتها، رغم الأحداث السياسية التي كانت تطرقُ "رَحم" فلسطين بين لحظة وأخرى.. فوالده رجعَ من سورية، وبريطانيا خطبت ودَّ فلسطين وسكانها بكتابها الأبيض.. رُبما لأن الحرب العالمية الثانية اقترب قدومها!!..

يقول الخطيب: "الهدوء الذي شهدته فلسطين تلك الفترة كان مرده للكتاب الأبيض 1937، والذي استصدرته بريطانيا لكسب العرب إلى جوارها، خاصة وأن الحرب العالمية أُنذرَ قُدومها".. والكتاب الأبيض بالمناسبة هو "إصدار بريطاني" حَظر تغيير ملكية الأرض العربية ذلك الوقت وحدد الهجرة الإسرائيلية إلى فلسطين.

سوداء على "فنجان قهوة"..
بعد عامين من تلك الفترة، انتقل الخطيب إلى مدرسة الخليل الثانوية، وكان عليه لزاما أن يغادر قريته "دورا" قاطعا ستة كيلومترات جبلية يومياً وصولا إلى "المدينة"، وفي الطريق لم تكن المناظر الطبيعية تَغفل عن باله، إذ إنه رَسم الطبيعة فيها في مخيلته رسماً، حتى أن أسماء وديانها وأراضيها مطبوعة حتى اللحظة في ذهنه..

عامان قضاهما الخطيب ذاهبا وراجعا من الطريق ذاته، كُل مرة يستكشف فيها الجديد، خاصة وأنه كان قد أتقن تعلم سلسلة من كُتب "خليل السكاكيني" التي تحدثت بحس "قومي" عن فلسطين وتاريخها وأدبها.. "أسلوب يُثري حياة الطفل ويُربيه، لا كالأساليب الحديثة ذات الكُتب مليئة الصور"، عَلّق الخطيب..

ومن الطريف في المواقف التي حدثت معه، أنه يوم عَلقت مدرسته السابقة "الابتدائية عين خير الدين" لوحاً أبيض من القِماش، كتب عليه بخطه "هنا مدرسة عين خير الدين الابتدائية"، متأثرا بإذاعة "هنا القاهرة" والصحوة الإعلامية القوية تلك الفترة..

خلالها.. وما بين الابتدائية والثانوية، قرأ الخطيب المُعلقات التسع، والكثير من الكتب التي يحتفظ بها والده في عِلّية منزلهم، وكانت أشد مُتعته وقتها أن يَحمل كتاب الشعر إلى حاكورة منزله، وينشده بصوته الجهوري كالأغاني..

يقول: "كنت أحمل كُتب الشعر معي إلى الحاكورة المجاورة للدار، أو أصحبه إلى وادي نزار، وهو واد عميق يبعد عن دورا قليلا، وما أن أصل هناك أعتلي أي شجرة وأنشد بأعلى صوتي بالشعر، كأنها أمسية خاصة استثنائية في الهواء الطلق"..

هكذا استمرت حياته، حتى أثناء دراسته الثانوية، التي عُرف فيها أمام أساتذته ومُعلميه "الأكثر قراءة للشعر وأمتعها"، إذ أن أستاذه مخلص عمرو ولفيف من المُعلمين كانوا يستمعون له بإمعان وهو يلقي على مسامعهم شِعر السكاكيني أو حتى أمرئ القيس وعنترة..

وربما تميز الخطيب كذلك عن أقرانه في المدرسة الثانوية، لأنه يعرفُ المنهج الدراسي قبل عامين منهم!.. يقول :" كُنت أُدرّس أخي الكفيف موسى، والذي يُشابه منهجه موادي الدراسية قبل وصولي عمرَ دراسته بعامين، فكنت أقرأُ له بهدوء وروية، الأمر الذي أهّلني لأن أحفظ وأفهم دروسي أكثر من أقراني، وهو كذلك الأمر الذي زاد إعجاب مدرسي مُخلص بي، وتعقلي به".. مُخلص عمرو أصبح واحداً من الإعلاميين المشهورين آنذاك، وكان بشخصيته "القومية" قُدوة احتذى بثقافتها الخطيب، لما كَبُر.


كنت أحمل كُتب الشعر معي إلى الحاكورة المجاورة للدار، أو أصحبه إلى وادي نزار وما أن أصل هناك أعتلي أي شجرة وأنشد بأعلى صوتي بالشعر كأنها أمسية خاصة استثنائية في الهواء الطلق
تواترت تلك الفترة الأحداث العالمية والفلسطينية، فالحرب العالمية حدثت، وأسماء "كموسيلني" و"هتلر" و"تشرشل"، صعدت نجومها رافعة معها وعي الخطيب لأعلى، فأصبح هو "القومي".. مُحب للشعر ومُتقنٌ فهمه.. إلى أن كانت الهجرة "وأجهضت فلسطين أبناءها قسرا" (كناية عن تهجير الفلسطينيين من أراضيهم وقراهم عام 48) .. فرَحل الخطيب وأهله إلى سورية..

وُهناك كانت حياة أخرى، فيها أصبح "الشاعر" يوسف الخطيب.. بعد أن كان طالبا يدرس المحاماة ويعمل في عامه الجامعي الأول مذيعاً في إذاعة دمشق، مُتنقلا بين الإذاعات العربية في سورية والسعودية والأردن بعد ذلك، ومُرتحلا " مُهاجراً" بين الدور العربية بعد ضياع دورا وطردهم منها..

"وأنا الذي وطني ارتحال الشمس ملء الأرض، لكني بلا وطن.. من ذا يصدقني؟".. قالها الخطيب مُعبرا عن "ضياع" قريته الجميلة ومدينته من بين يديه، ومُقسما أن لا عودة يريدها لـ"فلسطين" إلا إن كانت مُحررة، " فأنا لا أفكر بالرجوع لفلسطين، الضفة منها أو غزة إلا إذا تحررت من الصهيونية الإسرائيلية فيها".. قال، مُضيفا: (إسرائيل) نقطة سوداء قد تختفي على فنجان قهوة، وهي بعد 100 سنة لا تحتل في كتب التاريخ إلى صفحات سوداء قليلة، مرفوضة"..

وها هو الخطيب يوجه دعوة عَبر " فلسطين" للتحرك فـ"لمن تلد النساءُ إذن.. إذا لم يَغزُ ليل القُدس قديسٌ.. ولم ينجز على الطاغوت رمحُ!!".






  رد مع اقتباس
/
قديم 04-08-2011, 11:15 AM رقم المشاركة : 21
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

بيان نعي في الراحل
يوسف الخطيب



بسم الله الرحمن الرحيم
(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً)



ببالغ الحزن والتسليم بقضاء الله تعالى ،ينعى بيت فلسطين للشِّعر إلى الساحة الشعرية والثقافية وإلى عموم الشعب الفلسطيني والعربي الشاعر :

يوسف الخطيب

الذي وافاه الأجل يوم الخميس السادس عشر من يونيو ( حزيران ) 16-6-2011 الموافق الرابع عشر من رجب 1432 للهجرة ، في العاصمة السورية دمشق ووري الثرى فيها ، بعد سنوات من معاناته مع المرض .
ولد الشاعر يوسف الخطيب في بلدة دورا قضاء مدينة الخليل الفلسطينية عام 1931 وتلقى تعليمه الابتدائي في مدارسها، ثم انتقل ليكمل دراسته الثانوية في مدينة الخليل، ثم عمل بعدها لفترة قصيرة في إحدى الصحف المحلية في الأردن قبل أن يتوجه إلى دمشق سنة 1951 حيث التحق بكلية الحقوق بالجامعة السورية حيث تخرج منها سنة 1955 بإجازة في الحقوق ، و دبلوم اختصاص في الحقوق العامة. وأثناء دراسته الجامعية انتسب يوسف الخطيب إلى حزب البعث العربي الاشتراكي.
في سنة 1955 قام طلبة الجامعة السورية بإصدار أول ديوان من شعره بعنوان العيون الظماء للنور، وهو عنوان القصيدة التي فاز بها بالجائزة الأولى في مسابقة مجلة الآداب والتي نظمت على مستوى الوطن العربي آنذاك. عمل في الإذاعة الأردنية حتى عام 1957، حيث غادر الأردن عقب أزمة حكومة سليمان النابلسي والتحق بالعمل في الإذاعة السورية. وفي هذه الفترة أصدر ديوانه الثاني بعنوان عائدون عام 1959.
أثر ملاحقة البعثيين إبان الوحدة السورية المصرية، لجأ إلى بيروت، ومنها إلى هولندا حيث عمل في القسم العربي في إذاعة هولندا العالمية. لكنه عاد إلى العراق إثر ثورة 8 شباط ومنها إلى سوريا حيث استقر فيها بشكل نهائي.
بعد فترة وجيزة من عودته أصدر ديوانه الثالث بعنوان واحدة الجحيم عام 1964، وفي عام 1965 تولى منصب المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون. لكنه تخلى عن الوظيفة الحكومية نهائياً عام 1966، ليؤسس دار فلسطين للثقافة والإعلام والفنون والتي أصدر عنها عدداً من المطبوعات، أهمها إصداره للمذكرة الفلسطينية ما بين الأعوام 1967- 1976.
وفي نفس العام الذي ترك فيه الخطيب العمل الحكومي، شارك في أعمال الهيئة التأسيسية (لاتحاد الكتاب العرب) في سوريا، وأسهم في وضع نظامه الأساسي، والداخلي. وفي عام 1968 اختير بإجماع القوى والفعاليات الوطنية الفلسطينية في ذلك الحين، عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني (عن المستقلين)، وما يزال يحتفظ بموقعه هذا حتى الآن. كما شارك في المؤتمر العام التأسيسي (لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين المنعقد في بيروت) تم انتخابه لنيابة الأمانة العامة للاتحاد.
في عام 1988 نشر يوسف الخطيب ديوانين اثنين، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشاعر أصدر سنة 1983 أول ديوان سمعي في الوطن العربي على أربعة أشرطة كاسيت تحت عنوان مجنون فلسطين.
جاءت وفاة الشاعر في أيام يتجهز فيها الشعب الفلسطيني لعودته إلى دياره، ويدفع مزيدا من الشهداء في مسيرة العودة التي ما توقفت يوما عن المضي منذ العام 1948 .

وإِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ






  رد مع اقتباس
/
قديم 04-08-2011, 11:18 AM رقم المشاركة : 22
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

يوسف الخطيب.. كم في الكلام من أسى
بقلم : بسام الهلسه ‏




قرأت الخبر على النِت: رحل يوسف الخطيب. لم يبدُ لي الخبر واضحاً، فثمة عديدون يحملون هذا الاسم. لعله ليس هو المقصود- قلت لنفسي- فتحرَّيتُ، لأجد تأكيداً له على عشرات المواقع الاخبارية: رحل الشاعر يوسف الخطيب.. وبصورة تلقائية، أمسكت بهاتفي وتحدثت مع ابنه، الصديق المخرج باسل، لأعزيه بالأب الراحل الذي رأيته للمرة الاخيرة في حفل زفافه- باسل- ذات ليلة دمشقية غمرها الثلج الصاخب الحميم.

أتذكر الآن أول مرة قرأت فيها شعراً له.. كان ذلك في "مكتبة أمانة العاصمة" في عمَّان التي اعتدت التردد عليها مع زملاء لي منذ أيام الدراسة الابتدائية. وفي ذاكرتي الفتية، رست عميقاً مقاطعُ وأبيات من قصيدته المُستفزة، الساخطة، المُحرِّضة "هذي الملايين":

أكاد أؤمن من شكٍ ومن عجبِ = هذي الملايين ليست أُمة العربِ
هذي الملايين لم يَدرِ الزمانُ بها = ولا بذي قار شدَّتْ راية الغلبِ
ولا على طنفِ اليرموك من دمها = توهج الصبحُ تيَّاهاً من الحقبِ
أأُمتي: يا شموخ الرأس، متلعة = من غلَّ رأسك في الأقدام والرُكبِ
أأنت أنت؟ أم الأرحام قاحلة = وبدلت من أبي ذرٍ أبا لهب؟

وحينما قرأت دواوينه المنشورة آنذاك: "العيون الظماء إلى النور" و"عائدون" و"واحة الجحيم"، لم تفتني ملاحظة ما في شعره من تدفق وحرارة صادرين عن روح عروبية تتقد بالايمان والصدق، وعن طاقة مشحونة بالأمل والإباء والغضب الشامخ المحرض على المقاومة والثورة. وفي هذا كان يوسف الخطيب، المولود في العام 1931 في بلدة "دورا" في جبل الخليل، ابن جيله من الشعراء الذين عاينوا- وعانوا- هول ومرارة النكبة والتشرد واللجوء. ومثلهم، وَسَمت الفاجعة والحنينُ المُمِض الكثيرَ من قصائده برومانسية شفيفة، حزينة، غاضبة. وعزيمة مصممة على ابقاء الوطن حيَّاً في الوعي والوجدان، كالذي نقرأه في قصيدته المتضرعة، المفعمة باللوعة الحارقة " العندليب المهاجر":


"لو قشة ممَّا يرفُّ ببيدر البلدِ
خبأتها، بين الجناح وخفقة الكبدِ
لو رملتان من المثلث أو رُبَا صَفدِ
لو عشبة بيدٍ ومزقة سوسنٍ بيد
أين الهدايا مذ برحت مرابع الرغدِ؟
أم جئت مثلي بالحنين وسورة الكمدِ!"

وهي قصيدة تتواشج مع العديد من قصائد تلك السنوات العصيبة التي تلت النكبة، التي قالها شعراء كعبد الكريم الكرمي"أبو سلمى" وكمال ناصر ومعين بسيسو وفدوى طوقان وسواهم. وتذكرنا بالمزاج الهامس، المتلألىء، للقصيدة الشهيرة التي غنتها العذبة فيروز لمُجايله الشاعر هارون هاشم رشيد:

"سنرجعُ يوماً إلى حيِّنا
ونغرق في دافئات المُنى
سنرجع، خبَّرني العندليب
غداة التقينا على مُنحنى"

سيتجاوز يوسف فيما بعد هذه المرحلة دون أن يقطع معها، ويعزز طابعه الخاص الموسوم بلغة قوية ثرية تستمد نسغها من لغة القرآن الكريم والشعر العربي القديم- وبخاصة من المتنبي وأبي تمام- فيما تعالج، بحساسية معاصرة وأساليب فنية متنوعة، موضوعات عربية حالية. وسنرى في شعره الملامح "الأصولية" و"المحدثة"- بحسب عبارة له- التي صاغها كتعبيرعن الهوية الخاصة، الذاتية والعربية معاً، كما فهمها وطبقها في نصوصه الشعرية، آخذاً على اتجاه في الشعرالعربي الجديد انشغالاته "الشكلية" التي بدت له كألاعيب عدمية، فيما لم يرَ في شعرائه سوى "محض أتباع":

"ما دهى الشعر؟
غدا سحراً وترقيص أفاعي
وسراويلَ مَحِيكاتٍ بأنوال العَدَم
قيل:"ابداع" فلم ألقَ سوى
محضَ "أتباعٍ"..
بين "مهيارٍ" دمشقي.. ومهيار عَجَم!"

في موقفه هذا، الذي قد يُرى فيه تعدياً واتهاماً متجنياً، كان يوسف متسقاً متناغماً مع رؤيته للشعر ووظيفته. ومع مبادئه ورسالته التي أراد لها أن تكون بيان الأُمة العربية ونداءها الصائح من أجل ما نذر له نفسه منذ وعى واختار: النهوض والمقاومة والتحرر والوحدة:

"- فما تريدُ؟
أُريدُ يا مولاي:
أن أُشيعَ في علاكَ بددا
أُريد جبريلاً وتنزيلاً
وخيلاً لا تُرى
ومَددا
أريد أن أصوغ أُقنومين في هواكَ، أحَدَا
أريد يا مولاي، بعدُ
أن أصبَّ دجلةً في بردى!"

ولقد مضى حتى اليوم الأخير في حياته بيقين وهمَّة لا تفتر، وراء هذه المبادىء والرسالة، ذائداً عنها ومترجماً لها، في شعره، كما في حضوره المتعدد: السياسي والاعلامي والتوثيقي والتنظيمي والبحثي. ولم تكن ثمة مسافة فاصلة بين فلسطينيته وعروبته، فثلما غنى لسورية والعراق في مطولته "بالشام أهلي والهوى بغداد" وعينه وقلبه على فلسطين، أنشد لِغزَّة الباسلة وحَيَّاها كوعدٍ للعرب:

"لأنكِ أنتِ صقرَ قريشنا،
وبقية الرمقِ
لأنكِ أنتِ آخر راية لم تهوِ،
فاصطفقي
لأنكِ أنتِ طير البعثِ،
فاحترقي
وعبر رمادك، انبثقي"

في يوم الخميس، السادس عشر من حزيران- يونيو، ودَّعنا يوسف الخطيب، أو "مجنون فلسطين" كما أحبَّ أن يصف نفسه في ديوان له بهذا الاسم صدر في العام 1983مُسجلاً بصوته.
لم يَمَل، كما هي عادة من يتقدم بهم العمر ولا يجدون ما يشغلهم. ففي مقابلة صحفية أجراها معه الأستاذ طلعت سقيرق، أفضى بما يشبه البوح " لعل الشاعر الحقيقي، كما أتصوره، هو الذي يفارق الدنيا وما يزال في نفسه شيء من التوق". ولا نعرف ما "التوق" الذي ظل في نفسه.. ربما، توقه لفلسطين التي طال كثيراً احتلالها؟ وربما، توقه لقيامة أُمة العرب الحرة الواحدة التي كرَّس لها عمره وأحلامه وقصائده..؟
لا نعرف.. لكننا قد نجد رداً في إجابته على سؤال مُحاوره في المقابلة السابقة: "ماذا يقول... للشعراء الفلسطينيين الشباب؟"
"...الأكثر أهمية هو أن تجد في مثل هذه الأيام من يمكن أن يصغي إليك..."
- أن تجد من يصغي إليك...!؟
- يااااه.. كم في هذا الكلام من أسى!






  رد مع اقتباس
/
قديم 04-08-2011, 11:19 AM رقم المشاركة : 23
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

شـــيء عن يوســف الخطيب
بقلم : عبد الكريم الناعم

عبد الكريم الناعم

صحيفة الثورة السورية 29/ 6/ 2011



الكتابة عن الشاعر العربي الكبير يوسف الخطيب، بالنسبة لي، ذات أشجان عميقة،ليس لما كان بيننا من مودة واحترام، على مستوى شخصي فقط، بل لأن الزمن الذي عرفته فيه، هو الآخر،حين استرجعه، يحرك الكثير من المشاعر المتداخلة.‏

يوم تعرفت إلى شيء من شعر يوسف الخطيب، كان ذلك في أواسط خمسينيات القرن الماضي، كان لشعره حضوره النوعي، في زمن نوعي، فقد كان (البعث)، آنذاك، يعد بالكثير الكثير، وكان هو ثاني اثنين مشهورين من شعرائه في سورية، في تلك المرحلة، الأول كان شاعر العروبة الشاعر الكبير سليمان العيسى مدّ الله في عمره، ومتّعه بالصحة، وإذا كان أستاذنا العيسى حاضراً بقوة في جميع المهرجانات النضالية التي كان يزينها شعره القومي، فإن شاعرنا الراحل بزغ مكتملاً، قوي الحضور، وحين تعرفنا على مجموعته الأولى «العيون الظماء للنور»، كانت تلك القصائد محمولة على أجنحة البلاغة المتماسكة، والصياغة المحكمة، تشم منها عبق التراث، ويملأ رئتيك شذى التجديد، وقد ظلت هذه السمة ملازمة لشعر يوسف الخطيب، حتى كأنه كان في شكل شعره يجسد حلم عودة هذه الأمة إلى مسرح التاريخ آخذة من الماضي أجمل مافيه، وأكمله، مضافاً إليه روح المعاصرة ولعل ما لفت النظر، يومذاك في تلك المجموعة أن مقدمتها كتبها الأستاذ ميشيل عفلق، الأمين العام للبعث العربي الاشتراكي آنذاك، وهذا امتياز لم يحظ به غيره، وكان الأستاذ ميشيل قد ترك الكتابة الأدبية، ليكون التنظير القومي همه الأكبر.‏
لقد حمل يوسف الخطيب همّ القضية الفلسطينية غير معزول عن الهم القومي لهذه الأمة، بل من خلال إدراك عميق لمسألة أن خطر الصهيونية هو خطر يهدد جميع العرب، وهذا يجعل المعركة قومية في مراميها البعيدة والقريبة، وكان يطل على هذا المشهد من أفق (البعث)، أقول (البعث) للتفريق الآن بين (البعثي) و(الحزبي)، ولاسيما أن المياه تدفقت بعيداً جداً عن صفاء تلك الينابيع.‏
كانت (الوحدة) نقطة مركزية في تفكيره، وحدة الأمة، ومن ثم وحدة (الحزب) بين سورية والعراق، والتي فشلت، أو أفشلت لأسباب قد تنكشف أوراقها ذات يوم، ولذا فقد ظل في شعره كجبل (سنجار)، بحسب تشبيهه هو، ذلك الجبل الذي يقع قسم منه في العراق، وقسمه الآخر في سورية.‏
هبت الكثير من الرياح والمتغيرات على مدى قرابة الستين عاماً، بما كان فيها من آمال وانكسارات، وظل يوسف الخطيب، فوق تلك الشرفة ينشد قصائده، وكان أول من لفت الانتباه إلى شعراء الأرض المحتلة، وقدمهم على الساحة العربية توفيق زياد، محمود درويش، سميح القاسم، وظل سمت فلسطين، بوعيها قومياً، القبلة التي لم يغادرها، وكان موزعاً بين مشاعره، ومشاغله، و«المذكرة الفلسطينية» التي حمل فيها جغرافية فلسطين وتاريخها، وجزئيات أحداثها، وعبق مفردات الحياة فيها، لكأنه حين لم يستطع العودة إلى الوطن، حمله على بياض الصفحات والقلوب، يوم انطلقت «حركة التحرير الفلسطيني»- ولست متأكداً ما إذا كنت قد سمعت هذا منه أو من غيره،- أرادوا أن يأخذوا أول حرف من كل كلمة، لتكون رمزاً تعرف به، فكانت الكلمة (حتفاً)، ولكن الشاعر الراحل هو من اقترح قلبها لتكون (فتحاً)، كاستبشار بالفتح التحريري المنتظر، ورغم هذه المواكبة لافتتاح تلك المرحلة، فلم يمضِ زمن طويل حتى برزت على الساحة الفلسطينية، وانتشرت عربياً، أسماء شعراء عدة، وغيّب يوسف الخطيب حتى لكأنه ليس فلسطينياً (!!) لا لشيء إلا لأنه رفض أن يغادر تلك الشرفة.‏
لقد قلت في تكريم الشاعر الأخ خال أبوخالد، قبل سنوات إن شاعرين فلسطينيين، ظلما كثيراً من قبل المنظمات الفلسطينية، هما: يوسف الخطيب، وخالد أبوخالد.‏
يوسف الخطيب جرى تغييبه للسبب الذي ذكرناه، وخالد أبوخالد الشاعر،المقاتل، الذي كان قائد قطاع في (الأغوار)، وذكره في كتابه جان جينيه الذي عايش الفدائيين فوق تلك الأرض.. خالد لأنه شم رائحة لاترتاح إليها الروح النظيفة المقاتلة، فسجن أيام عرفات، وكاد موقفه يودي به، ويوم كانت الدولارات الرسمية ترسل برزمها لعدد من أدباء العرب، لاستقطابهم عرفاتياً، كان يوسف الخطيب غارقاً في الكتابة عن فلسطين، وإلى فلسطين، وخالدأبوخالد يعارك ظروف الحياة.‏
لقد كان يوسف الخطيب، في شعره، نتاج ثقافة عصره وكان شديد الحرص ألا يقطع صلته بالجذور الإبداعية، والإبداع الحق، ليس ابن زمن محدد، بل هو ابن المطلق، فوازن بين حداثة الصورة، والتشكيل والأصالة، والمعاصرة، وأنى لمن لم يعرف قيمة الإيقاع الشعري أن يطلع على أن يوسف الخطيب قد ابتكر بحرين جديدين في عروض البحور الإيقاعية، وكتب شعراً يلتزم بذلك الإيقاع الجديد، وهذه موهبة لايمتكلها إلا الراسخون في الذوق، وموسيقية التلقي، ولاسيما أن الأذن لم تترب على هذين الوزنين، ولقد تنبه الخطيب باكراً إلى الفضاء الهرموني الجديد الذي حمله نظام التفعيلة إلى الشعر العربي، فقد جاء بعنوان: «هامش» ص 76، من مجموعته «واحة الجحيم» الصادرة عن دار الطليعة- بيروت 1964- مايلي:‏
«مازلت أعتقد أن القصيدة الحرة ليست الشكل النهائي،أمامنا، للتجديد في الشعر العربي، إن لم تكن الشكل الأقل شأناً في هذا المجال..‏
في «دمشق والزمن الرديء» حاولت أن أحرر الوحدة النغمية من حاجزين:‏
أولاً: من أسار القافية التقليدية.‏
وثانياً من نشاز البتر في القصيدة الحرة.‏
وفي المقاطع الموصولة، من هذه القصيدة، توخيت الدفق النغمي، على إطلاقه حتى ليبلغ المقطع الواحد خمسين تفعيلة، أويزيد بدلاً من التفعيلات الست التقليدية، المحبوكة الصدر والعجر. وبدلاً من أسطر القصيدة الحرة الممزقة الأطراف.‏
وقد اعتمدت التقفية الداخلية، ضمن المقطع الواحد، لتخليصه من «عي الرتابة..».‏
إن في هذا الكلام وعياً مبكراً لحساسية إيقاعية لم يتحدث النقد العربي عنها إلا بعد ثلاثين عاماً مما قاله الخطيب، وبذا يمكن اعتباره أول من فتح آفاق القصيدة المدورة، وفيما أعرف أنه أول من أشار إلى التداخل النغمي بين البحور التي هي من دائرة واحدة، وقد جاء في مجموعته المذكورة آنفاً، ص140.‏
«الرجز ووحدته مستفعلن، والرمل ووحدته فاعلاتن، والهزج ووحدته مفاعيلن، ثلاثة أبحر في عروض الخليل، يمكن للشاعر الحديث أن يصهرها في عمل واحد.. إن تكرارنا لأي واحدة من هذه التفعيلات الثلاث هو في الوقت نفسه تكرار للتفعيلتين الأخريين».‏
وفي قصيدة نشيد الثورة يشير إلى أنه «ذو نظام خاص، وليس كله على أوزان الخليل التقليدية» ومثل هذا لايقدم عليه إلا من كان ضالعاً بقراءات التراث، ويمتلك حساسية إيقاعية موسيقية عالية الرفعة.‏
وهو لم يكن ريادياً في شعره فقط، بل في استشرافه لدور التقنيات الحديثة في نشر الشعر، فكان فيما أعلم أول شاعر سجل قصائده بصوته الإذاعي الفريد، واختار لها من السمفونيات الغربية ما رآه أكثر مناسبة، وهذا دليل على سعة ثقافته الفنية العالية.‏
آخر لقاء لنا كان في السويداء في واحد من النشاطات المميزة التي تقيمها مديرية الثقافة، في ذلك اللقاء كان احتفاء الجمهور بيوسف الخطيب حاراً وصادقاً وتقدمت طفلة لايتجاوز عمرها تسع سنوات وأنشدت على خشبة المسرح قصيدة «رأيت الله في غزة» من أولها إلى آخرها، وهي قصيدة طويلة، ولعل تلك الطفلة بلسمت شيئاً من الجراح التي تركها الأهل عارية، مكشوفة للرياح.‏
في العام الماضي اتصل بي الصديق الشاعر ثائر زين الدين، مدير الثقافة في السويداء، لأشارك في الكتابة عن يوسف الخطيب، في ندوة تكريمه، وكم كنت حزيناً لأنني لم أستطع تلبية رغبة موجودة في نفسي قبل نفوس الآخرين، بسبب ارتباطي بنشاط آخر.‏
في سياق الكلام عن الراحل يوسف الخطيب لابد من الإشارة إلى الكتاب النقدي المهم الذي كتبه عنه ناهض حسن (فايز العراقي) بعنوان: «يوسف الخطيب- ذاكرة الأرض- ذاكرة النار»، وقد صدر عن اتحاد الكتاب العرب ولولا أنه يتنبه ناهض العراقي إلى هذا الشاعر الكبير لظل مغيباً في الزوايا التي اختار أن يذهب إليها، في وقت مايكاد يتسع بياض الصفحات للكتابة عن الذين لم يتكونوا بعد!!.‏
سلاماً يوسف الخطيب لروحك حيث كانت، ولآمالنا الكبرى التي لن نتنكر لها مادام ثمة عرق ينبض






  رد مع اقتباس
/
قديم 04-08-2011, 11:53 AM رقم المشاركة : 24
معلومات العضو
عبير محمد
الإدارة العليا
عضو تجمع الأدب والإبداع
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
مصر

الصورة الرمزية عبير محمد

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

حفل تأبين الشاعر الراحل يوسف الخطيب

سيف فلسطين حاضر في حفل تأبينه
الشاعر يوسف الخطيب بين محبيه وأصدقائه بعد مرور أربعين يوم على وفاته



وزير الثقافة السوري رياض عصمت


دمشق / بيت فلسطين للشعر
وسط حضور جماهيري وثقافي وإعلامي كبير شهدت مكتبة الأسد الوطنية بدمشق مساء أمس الاثنين 25/7/2011 حفل تأبين للشاعر يوسف الخطيب بمناسبة مرور أربعين يوم على وفاته. برعاية وزارة الثقافة السورية .
وقد حضر حفل التأبين ذوي الشاعر ولفيف من أصدقاء الشاعر ومحبيه والشخصيات الثقافية والفنية وعدد من الوزراء وعلى رأسهم وزير الثقافة السورية الدكتور رياض عصمت ووزير النقل فيصل عباس كما حضر الحفل ممثلين عن بعض المؤسسات والهيئات العربية أبرزهم المنسق العام لتجمع اللجان والروابط الشعبية في لبنان الدكتور معن بشور الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي .



الأستاذ انور رجا


بُدأ الحفل بآيات من الذكر الحكيم ألقاها القارئ محمد عارف العسلي . ثم عرض لمدة ربع ساعة تقريبا فيلم وثائقي عن حياة الشاعر يوسف الخطيب وأبرز محطات حياته ومواقفه الثقافية والسياسية الوطنية منها والقومي ولقطات من عدد من مقابلاته المتلفزة . بالإضافة إلى قصائد شعرية بصوته .
الفنانة سلاف فواخرجي ألقت كلمة الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين في رام الله بالنيابة عن الأستاذ الشاعر مراد السوداني الذي تعذر حضوره للحفل . وأكّد السوداني من خلال كلمته أن وفاة يوسف الخطيب خسارة للأدب والثقافة فيقول (نحدّق اليوم في إرثك فنرى طاقة الفعل بالقوة والعناد العارم الذي يعيش بروحك فعلا وإنجازا وانحيادا للحرية الحمراء وشمائل الزمان والحق والصدق .. إنه الخير العام الذي وسّعت فضاءاته وجعلت فلسطين رأس حربتك الثقافية) ولفت السوداني في كلمته إلى الدور المميز الذي لعبه الشاعر في رسم ملامح الأدب الفلسطيني المعاصر في الداخل والشتات مؤكدا على أن المثقفين والأدباء في الأرض المحتلة باقون على عهد الشاعر يوسف الخطيب وعلى مبادئه .



الأستاذ حسين جمعة وعدد من الوجوه الفنية والثقافية


بدوره تحدث الأستاذ معن بشور عن مناقب الشاعر ولفت إلى دوره مع أقرانه من شعراء فلسطين ككمال ناصر وفدوى طوقان وهارون هاشم رشيد في الحض على الثورة استمرارا لما بدأه شعراء الجيل الأول إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي وعبد الرحيم محمود وتمهيدا لولادة جيل جديد ممثلا بمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وأحمد دحبور وعز الدين المناصرة وغيرهم. وأردف قائلا ( تراه شاعرا بين المناضلين ثم تجده مناضلا بين الشعراء لقد كان يقول لي إذا كان الشعر عذوبة في التعبير ورقة في الأحاسيس وجمالا في الأداء فإن النضال هو حلم لا حدود له .. لقد تكونت شاعرية يوسف الخطيب وثقافته معا في وقت مبكر من العمر فحرص أن يتحدث في سيرة طفولته الرائعة عن كل مكون من مكونات شاعريته وثقافته )
بعد كلمة الأستاذ معن بشور تم عرض قصيدة صوتية للشاعر يوسف الخطيب وهي قصيدة ( في أذان العصر) التي كانت من ضمن الإصدار الصوتي الذي أصدره الخطيب في العام 1983



الأستاذ معن بشور


الفنان التشكيلي والكاتب أنور رجا تحدث في كلمة مطولة عن الشاعر ومسيرة حياته وعن لقائه الأول بالشاعر (العندليب المهاجر) يوسف الخطيب ( كان اللقاء من تلك الأشياء التي تقربها فتغيرك .. لهفة وحنين وحلم وما زلت أشعر انها من الطف ما كتبته الذاكرة والروح عن تلك العلاقة الغريبة بين الفلسطيني وأرضه ) وأضاف رجا ..( إن سيف فلسطين كان وطنا للقصيدة وقصيدة للوطن إذ إنه شارك في تشكيل وعينا وذاكرتنا الحميمية وشوقنا إلى فلسطين ... لقدكان الشاعر يوسف الخطيب في شرفة عالية بعيدا عن المتنافسين فكان له إيقاعه الخاص هو ذاته الشاعر يوسف الخطيب العربي الذي يستعيد شكل الهوية العربية بموج قصائده العالية وريحها العاتية )
من جهته استعاد الأستاذ المخرج خلدون المالح أمام الحاضرين ذكرياته مع الشاعر في إذاعة دمشق التي عملا فيها معا لزمن طويل ومن هذه الذكريات التي ذكرها المالح ترديد الشاعر الخطيب كلما دخل إلى مكان عمله لأغنية فيروز (سنرجع يوما) .
وأكد وزير الثقافة السوري الدكتور رياض عصمت على خسارة الشاعر الفلسطيني وتأثير غيابه على المشهد الثقافي بقوله ( لا شك أن رحيل الشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب يشكل خسارة فادحة للأدب العربي الحديث .. كان يدافع عن الحق دون كلل أو ملل وكان صلبا مثل الصخر فقد كان يدافع عن أرض فلسطين وراية المقاومة وهو المقاتل دون هوادة من أجل كلمة الحق .. كان يوسف الخطيب في كل ما كتب وأبدع من أعمل شعرية ونثرية شاعرا حقيقيا ألم بالمشهد الثقافي والعربي وعبر عنه بصوت هادر وحس عال .



الفنانة سلاف فواخرجي تلقي كلمةاتحاد الكتاب الفلسطينيين


وفي ختام الحفل ألقى المهندس بادي الخطيب الابن الأكبر للشاعر يوسف الخطيب كلمة العائلة التي أفصح فيها عن الشاعر يوسف الخطيب الأب والجد ودوره في الحفاظ على عائلته ومنحه حياته وعطاءه لها بالرغم من الظروف التي مر بها الشاعر يوسف الخطيب . كما تحدث عن مسيرة حياة والده في دار فلسطين التي أسسها الشاعر يوسف الخطيب واهمية هذه الدار وأهمية ما انتجته في سنوات قليلة من عمرها .
يذكر ان الشاعر يوسف الخطيب قد وافته المنية في يوم الخميس السادس عشر من يونيو ( حزيران ) 16-6-2011 الموافق الرابع عشر من رجب 1432 للهجرة ، في العاصمة السورية دمشق ووري الثرى فيها



المخرج خلدون المالح


سيرة حياة الشاعر يوسف الخطيب
ولد الشاعر يوسف الخطيب في بلدة دورا قضاء مدينة الخليل الفلسطينية عام 1931 وتلقى تعليمه الابتدائي في مدارسها، ثم انتقل ليكمل دراسته الثانوية في مدينة الخليل، ثم عمل بعدها لفترة قصيرة في إحدى الصحف المحلية في الأردن قبل أن يتوجه إلى دمشق سنة 1951 حيث التحق بكلية الحقوق بالجامعة السورية حيث تخرج منها سنة 1955 بإجازة في الحقوق ، و دبلوم اختصاص في الحقوق العامة. وأثناء دراسته الجامعية انتسب يوسف الخطيب إلى حزب البعث العربي الاشتراكي.
في سنة 1955 قام طلبة الجامعة السورية بإصدار أول ديوان من شعره بعنوان العيون الظماء للنور، وهو عنوان القصيدة التي فاز بها بالجائزة الأولى في مسابقة مجلة الآداب والتي نظمت على مستوى الوطن العربي آنذاك. عمل في الإذاعة الأردنية حتى عام 1957، حيث غادر الأردن عقب أزمة حكومة سليمان النابلسي والتحق بالعمل في الإذاعة السورية. وفي هذه الفترة أصدر ديوانه الثاني بعنوان عائدون عام 1959.
أثر ملاحقة البعثيين إبان الوحدة السورية المصرية، لجأ إلى بيروت، ومنها إلى هولندا حيث عمل في القسم العربي في إذاعة هولندا العالمية. لكنه عاد إلى العراق إثر ثورة 8 شباط ومنها إلى سوريا حيث استقر فيها بشكل نهائي.
بعد فترة وجيزة من عودته أصدر ديوانه الثالث بعنوان واحدة الجحيم عام 1964، وفي عام 1965 تولى منصب المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون. لكنه تخلى عن الوظيفة الحكومية نهائياً عام 1966، ليؤسس دار فلسطين للثقافة والإعلام والفنون والتي أصدر عنها عدداً من المطبوعات، أهمها إصداره للمذكرة الفلسطينية ما بين الأعوام 1967- 1976.
وفي نفس العام الذي ترك فيه الخطيب العمل الحكومي، شارك في أعمال الهيئة التأسيسية (لاتحاد الكتاب العرب) في سوريا، وأسهم في وضع نظامه الأساسي، والداخلي. وفي عام 1968 اختير بإجماع القوى والفعاليات الوطنية الفلسطينية في ذلك الحين، عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني (عن المستقلين)، وما يزال يحتفظ بموقعه هذا حتى الآن. كما شارك في المؤتمر العام التأسيسي (لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين المنعقد في بيروت) تم انتخابه لنيابة الأمانة العامة للاتحاد.
في عام 1988 نشر يوسف الخطيب ديوانين اثنين، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشاعر أصدر سنة 1983 أول ديوان سمعي في الوطن العربي على أربعة أشرطة كاسيت تحت عنوان مجنون فلسطين



المهندس بادي يوسف الخطيب




زوجة الشاعر يوسف الخطيب








"سأظل أنا كما أريد أن أكون ؛
نصف وزني" كبرياء " ؛ والنصف الآخر .. قصّـة لا يفهمها أحد ..!!"
  رد مع اقتباس
/
قديم 04-08-2011, 12:01 PM رقم المشاركة : 25
معلومات العضو
عبير محمد
الإدارة العليا
عضو تجمع الأدب والإبداع
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
مصر

الصورة الرمزية عبير محمد

افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

الموقف النقدي في شعر يوسف الخطيب

يمتلك الشاعر العربي الفلسطيني وعياً وطنياً وقومياً ثورياً حاداً، وعميقاً، ساعده كثيراً في بناء موقفه النقدي من أحداث وواقع أمتنا العربية في تاريخها المعاصر.

ومن يدرس قصائده بإمعان في مجموعاتهِ الشعرية الخمس سيتلمس طبيعة هذا الموقف النقدي وأهدافه ومدى حدتهِ، وعمقهِ، ولعل الملاحظة الأولى التي نروم تسجيلها حول هذا الموقف هي أن شاعرنا الخطيب في نقده لحالات الخور والهزال والانكسارات التي أصابت أمتنا العربية، وفي نقده للجماهير العربية، أو للذات العربية، لم يكن يستهدف النقد من أجل النقد، ولا النقد من أجل التجريح، أو النقد من أجل إعلاء الذات الفردية الشاعرة، بل هو يستخدم مبضع الجرّاح لكي يستأصل الأورام التي نهشت جسد الأمة.

وفي قصائد عديدة يقرن هذا الموقف النقدي ـ التشريحي بالبديل، أو ضرورة المعالجة وإسعاف الجراح.

أي أن موقفه النقدي مبنيٌ على أساس هدف مركزي واضح: وهو إعلاء شأن الأمة العربية بين أمم الأرض، وبناء مجدها المعاصر كوريث شرعي لمجدنا السالف التليد.

إنه باختصار نقد إيجابي بنّاء لا نشمُّ فيه رائحة المواقف العدمية أو التبخيسية التي تقود إلى تكريس عقدة الدونية التي تمنعنا من التجاوز والتخطي وعدم الثقة بإمكانات أمتنا الهائلة، وقدرتها على اللحاق بالمستوى الحضاري الذي بلغته الأمم الأخرى.

لم يكن الخطيب في أشعاره مجاملاً على حساب القضايا الوطنية والقومية الكبرى التي آمن بها، بل كان صدامياً، شاهراً قناعاته الحادة ضد الدجل والزيف والخضوع لأي حاكم أو نظام عربي لا يُعبر عن المصالح العليا للأمة العربية، وعن قضيتها المركزية، فلسطين، ونقرأ في قصائدهِ دلالات عديدة: فهو الناقد، والمنقِذ، والفادي، والمخَلِّص، والمحرِّض، والدليل، والمتشوِّف، والتنويري، والمتوعد والمنذر، والمتنبئ، والمُنشِد، والحادي، ولسان حالة الأمة... إلخ.

وقد قاده موقفه النقدي الصادق هذا من الحياة والواقع إلى توجيه هجاء لاذع للشعراء الذين أصبحوا بوقاً بيد الحاكم المستبد، أو الحاكم المفرِّط بالقضايا القومية.

أما الملاحظة الثانية، فهي أنه في موقفه النقدي هذا انطلق من رؤية قومية شاملة تجاوزت القطري، وآمنت بأنَّ خلاص الأمة كامن في وحدتها وفي تجاوز حالات الانقسام والتمزق التي تنوء تحت ثقلها.

لنقرأ لـه هذا الموقف النقدي الحاد للذات العربية:

((نحن يا ابن البتول، دولارنا الله

تعالى، وجلّت الأسماءُ))( )(1)

وهو في رؤيته القومية والنقدية يعتقد بأن سبب انكساراتنا لا يعود إلى عدوانية وهمجية "اليهود" فحسب، بل إن العرب الخاضعين والمنقسمين على أنفسهم يشكلون السبب الجوهري في هزائمنا كقوله: ((يظل الله يقتله اليهودُ، يموت في العربِ...))( )(2).

يمكن القول إن عشرات الشعراء العرب المحدثين سجلوا موقفاً نقدياً إزاء القضايا المهمة التي تمس واقعنا العربي المعاصر، أو إزاء الحالة المزرية التي تعيشها أمتنا العربية، وإذا كان بعض هؤلاء لم يمتلكوا موقفاً نقدياً متكاملاً ومتبلوراً في قصائدهم فإننا وعلى أقل تقدير لمسنا المسحة النقدية أو الانطباع النقدي الذي غلف العديد من قصائدهم، ومع ذلك فإن القليل من هؤلاء الشعراء العرب تركوا بصماتهم الخاصة والمتفردة على الشعر العربي في هذا المجال، أي في مجال الشعر العربي المعاصر ذي الرؤية النقدية التي تستند إلى موقف نقدي حاد من أهم الأحداث المعاصرة التي عاشتها أمتنا العربية. وإذا كان نزار قباني وعمر أبو ريشة والجواهري ومظفر النواب من أبرز هؤلاء القِلة ـ حسب وجهة نظري ـ الذين تفردوا في هذا المجال، فإننا يمكن أن نضع الشاعر العربي الفلسطيني يوسف الخطيب ضمن هذه الكوكبة اللامعة فيما يتعلق بهذه النقطة تحديداً.

صحيح أنني لا أضع هؤلاء الشعراء في خانة واحدة، فلكل منهم خصوصيته الفنية وتجربته الشعرية الفريدة والمتميزة، وهم يتمايزون ـ قطعاً ـ في مستواهم الفني والفكري وعمق الأثر الذي تركوه في الشعر العربي المعاصر، إلاّ أن الموقف الرؤيوي النقدي قد جمع هؤلاء جميعاً إذ يمكن القول دون تردد أن الموقف النقدي هو أحد أهم الخصائص الفكرية التي وسمت أو طبعت العديد من قصائد هؤلاء ومن ثم كان لذلك الموقف الفكري انعكاساته الفنية والجمالية المتمايزة على نصوصهم الشعرية.

ويمكن الإتيان بالعديد من الشواهد والأمثلة الشعرية التي تؤكد صحة ما ذهبنا إليه، فهاهو ذا الشاعر العربي السوري الشهير "عمر أبو ريشة" يصرخ ناقداً ومتألماً في قصيدته الميمية المشهورة بعد نكبة حزيران:

((أمتي هل لكِ بين الأمم

منبرٌ للسيف أو للقلمِ

أتلقاكِ وطرفي مطرقٌ

خجلاً من أمسكِ المنصرمِ

ويكاد الدمعُ يهمي عابثاً

ببقايا كبرياء الألم

ألإسرائيل تعلو رايةٌ

في حمى المهد وظلِّ الحرمِ!

كيف أغضيتِ على الذل ولم

تنفضي عنك غبار التُهم

أو ما كنتِ إذا البغي اعتدى

موجةً من لهبٍ أو من دم

ودعي القادة في أهوائها

تتفانى في خسيسِ المغنمِ

أمتي! كم صنمٍ مجدّتهِ

لم يكن يحمل طهر الصنمِ))( )(3)

واضح هنا الموقف النقدي الحاد الذي وسم هذه القصيدة وطبعها بطابعه، والذي شمل عموم الأمة، الأمّة بجماهيرها العريضة، وحكامها وقادتها على حد سواء. ليس أكثر إيلاماً للأمة من أن يصفها الشاعر بارتضاء حالة الذل والخضوع بعد أن كانت مثالاً للأمم الأخرى في العز والفخار ودفع العدوان والظلم عن ذاتها، والشاعر هنا يقارن بين عهدين: الماضي المجيد لهذه الأمة، والحاضر البائس لها، إذ ليس لها مكانة متميزة بين الأمم الأخرى في مجالي القوة والعلم.

واضح هنا النبرة التقريعية والتأنيبية الساخرة التي تفوح بين ثنايا القصيدة، وكذلك مدى الألم الذي ينتاب الذات الشاعرة التي تصل إلى مشارف البكاء، ولم ينس الشاعر أن يصب جام غضبه على غالبية القادة والحكام العرب الذين يتحملون القسط الأكبر من المسؤولية في ضياع فلسطين وفي الهزائم المتكررة التي حاقت بأمتنا العربية، ولعل الجرأة الاقتحامية التي ميّزت هذه القصيدة والتي تجسدت بمهاجمة الحكام المتخاذلين أمام العدو الصهيوني والغارقين في انتهازيتهم و"أمجادهم" الشخصية المزعومة، وتكالبهم على كراسي السلطة والمغانم الرخيصة بالتضافر مع الموقف النقدي العام لأحوال أمتنا العربية هي أحد الأسباب الرئيسية المهمة وراء ذيوع وانتشار هذه القصيدة بين صفوف وجماهير أمتنا العربية، حتى غدت واحدة من أكثر القصائد العربية المعاصرة شهرة وجرياناً على ألسنة الناس، وخاصة المثقفين أو المتعلمين منهم. والسبب الآخر الموازي للأول في الأهمية هو القيمة الجمالية والفنية التي كشفت عنها هذه القصيدة، التي تميزت بجزالة ومتانة مفرداتها، ولغتها الفنية الموحية والواضحة في ذات الوقت، وبجوها الإيقاعي الساحر ذي النبرة المجلجلة، وصورها الفنية الموحية والمشرقة: "موجة من لهبٍ أو من دمٍ".


وبالرغم من اتهام الشاعر لأمته بالذل والخنوع وبؤس المستوى الحضاري الذي وصلت إليه، إلاّ أنه لم يكن يستهدف من وراء نقده التجريح أو التيئيس، بل إنه من خلال رؤيته النقدية القائمة على المقارنة بين ماضٍ مجيد لهذه الأمة، وحاضر بائس، كان يريد شحن الجماهير العربية بطاقة تحريضية عالية تستهدف دفعهم إلى ضرورة الانقلاب على الذات وكنس ركام الذل والخنوع ومقاومة العدو الصهيوني المغتصب والحاكم العربي الجائر في ذات الوقت.

أما الشاعر العربي السوري الشهير الآخر الذي ذاعت قصائده ذات الطابع الرؤيوي النقدي وحفظها الملايين من أبناء أمتنا العربية، والتي كان لها أثر كبير في شعبية الشعر ودخوله إلى بيوت ملايين الناس العرب فهو نزار قباني صاحب المدرسة الفنية المستقلة والقصيدة ذات النكهة النزارية المتميزة والمتفردة: بلغتها، وأجوائها، وصورها، ومفرداتها، ومواقفها الفكرية وبنيتها الجمالية العامة. ولعل موقف نزار النقدي يتجلى في أبهى صوره في قصيدته الشهيرة: "رسالة عتاب إلى دمشق" والتي كتبها إثر نكبة حزيران. يعاتب الشاعر في مطلع قصيدته مدينته العربية العظيمة "دمشق"، إلاّ أنه عتاب المحب لحبيبتهِ ومعشوقته، عتاب من يريد أن يرى "حبيبته" بأبهى حللها، وأجمل زينتها، وأحسن أحوالها، مع التأكيد على طهر ثراها، وتشبيهها كأغنية تراود حلم الشاعر، ويبقى طول الدهر مترنماً بها:

((نثرتُ فوقَ ثراكِ الطاهر الهدبا

فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا

حبيبتي أنت فاستلقي كأغنيةٍ

على ذراعي ولا تستوضحي السببا

أنت النساء جميعاً ما مِن امرأة

أحببت بعدك إلاّ خلتها كذبا))( )(4)

وبعد هذه المقدمة يوجه الشاعر نقده الجريء واللاذع للحكام العرب الذين شكلت مواقفهم المتخاذلة أو المتواطئة مع العدو، بالإضافة إلى رؤيتهم وموقفهم غير العلمي من الأحداث سبباً رئيسياً وحاسماً في نكسة حزيران. وقد تميز الموقف النقدي لهذه القصيدة بنكهة نزارية معروفة وهي السخرية اللاذعة من الحكام العرب وفضحهم وتعريتهم واتهامهم "بالإدمان" على الذل والخنوع، بل وتقبيل أيادي العدو!!. واضح هنا أن تطرف الشاعر في رؤيته النقدية هو لكشف زيف وهزالة الواقع والحاكم العربي أمام الجماهير العربية وذلك من أجل دفعها للتمرد والنهوض وإزاحة الحكام الخانعين، والشاعر حينما يمعن في روح التهكم والسخرية من الحكام العرب يستند إلى الرمز التاريخي العربي ـ الإسلامي الكبير، خالد بن الوليد، وذلك لكشف خور حالة الحاكم العربي بمقارنته أمام حالة النهوض والشجاعة التي يحتلها الرمز خالد، ومن خلال حالة المقارنة هذه شحن قصيدته بشحنة تحريضية كبيرة تدفع الجماهير لتغيير أحوال الأمة من خلال الاقتداء ببطولات القائد العربي الكبير خالد بن الوليد الذي تقزّم أمام بطولاتهِ غالبية الحكام العربي المتصاغرين، فيقول في القصيدة نفسها:

((أدمت سياطُ حزيران ظهورَهم

فأدمنوها وباسوا كفَّ من ضَرَبا( )(5)

يا ابن الوليدِ ألا سيفٌ تؤجره

فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا))

كما تميز الشاعر العربي العراقي الكبير، محمد مهدي الجواهري، بمواقفه النقدية الجريئة ضد الحكام التابعين للأجنبي، أو الظالمين لأبناء شعبهم، وقد تميزت هذه المواقف بالجرأة الاقتحامية، والعنفوان والبسالة النادرة، حتى أن الجواهري لجأ أكثر من مرّة إلى شتم الحكام الجائرين بشكل مباشر وصريح من على المنبر فقاده موقفه هذا إلى السجن، وإلى مديرية الأمن العامة للتحقيق كما حصل لـه بعد إلقاء قصيدته الشهيرة "هاشم الوتري" التي ألقاها في حفل تكريم الطبيب العراقي هاشم الوتري، والتي كان مطلعها:

((إيه عميد الدار شكوى صاحب

طفحت لواعجه فناجى صاحبا))( )(6)

وقد كلفته هذه المواقف النقدية الجريئة ثمناً باهظاً، حيث ذاق مرارة السجن والنفي والتشرد وخسران الوظيفة ومرارة العوز والفاقة. لذلك نال الشاعر مكانة أثيرة في صفوف الشعب العراقي ولدى عموم أبناء أمتنا العربية، وفي موضع آخر من قصيدته المذكورة تعلو نبرة تحديه بلغة نارية مسربلة بالعنفوان:

((أنا حتفهم ألجُ البيوت عليهم

أغري الوليد بشتمهم والحاجبا))( )(7)

واضح هنا في هذا البيت مقدار ضخامة الروح الشاعرة وقدرتها على التحدي، كما يتميز هذا البيت بالجرأة الاقتحامية والهجومية النادرة التي يمثلها الفعل "ألج" الذي أعطى للصورة حركية كبيرة. الشاعر هنا لا يهدد أو يتوعد الحكام الجائرين بالموت والويل والثبور فحسب بل يحرض عموم الشعب على شتمهم. إن قوة وبسالة وجرأة الجواهري دفعت الحكام الظالمين والتابعين للأجنبي في العراق لكي يحسبوا لـه ألف حساب، بل كانوا يخشون أشعاره ومواقفه النقدية الجريئة لأنها كانت قادرة على بث روح التحدي والمقاومة في نفوس الملايين من أبناء الشعب، لذلك كله يمكن القول عن الجواهري بأنه قائد جماهيري بامتياز وذلك من خلال أشعاره الثائرة والمتمردة، حتى أن قصيدة واحدة منه كانت كافية لبث روح التمرد ضد السلطة في نفوس العديد من أبناء الشعب العراقي، أو كافية لدفعهم إلى التظاهر وإعلان غضبهم بأشكال وتجليات عديدة. وحينما كان الجواهري يشعر "أحياناً" بأن الشعب ركن ـ مؤقتاً ـ للهدوء أو للانكفاء والتراجع، فإنه يلجأ إلى توجيه النقد له، لكنه النقد الإيجابي البنّاء الذي يتضمن التحريض على ضرورة عدم اليأس والانكفاء في مقاومة الظالمين والطغاة، إنه النقد الممزوج باللوم وكشف سوء الحال التي وصل إليها الشعب، إنه موقف يستهدف التعرية لحالة الركود السلبية التي قد يعتادها الشعب في مرحلة من مراحل حياته التاريخية، وهو موقف يستهدف دفع الشعب إلى الانقلاب على ذاته ومحاربة كل صفات الكسل والسلبية واللا أبالية كما ترمز إلى ذلك مفردة "النوم" في قصيدته الميمية الشهيرة:

((نامي جياع الشعب نامي

حرستكِ آلهةُ الطعامِ

نامي فإنْ لم تشبعي

من يقظةٍ فمنَ المنامِ

نامي على زُبْدِ الوعو

دِ يُدافُ في عسلِ الكلامِ

نامي فقد أنهى "جميـ

ـيعُ الشعبِ" أيامَ الصيامِ

نامي تُريحي الحاكميـ

ـنَ من اشتباكٍ والتحامِ

نامي فجدرانُ السجو

نِ تعجُ بالموتِ الزؤامِ))( )(8)

أما شاعرنا العربي الفلسطيني يوسف الخطيب فقد تميز بمواقفه النقدية الجريئة، حتى يمكن القول إن هذه السمة "الموقف النقدي" هي من أهم السمات الفكرية والرؤيوية التي ميّزت غالبية قصائده، ويمكن اعتبار قصيدته الشهيرة: "هذي الملايين" من الأمثلة والنماذج المهمة التي تؤكد ذلك، لنقرأ لـه منها هذه الأبيات الذائعة الصيت:

((أكادُ أُومنُ، من شكٍ ومن عجبِ

هذي الملايينُ ليست أُمّةَ العربِ

هذي الملايينُ لم يدرِ الزمانُ بها

ولا بذي قارَ شدّت رايةَ الغَلَبِ

ولا تنزّل وحيٌ في مرابعها

ولا تبوكُ روتْ منها غليلَ نبي

ولا على طنفِ اليرموكِ من دمها

توهَّج الصبحُ تيَّاهاً على الحقبِ

ولا السفينُ اشتعالُ في المحيط ولا

جوادُ عقبةَ فيه جامحُ الخببِ

أَأُمتي، يا شموخَ الرأس مُتلعةً

من غَلَّ رأسكِ في الأقوامِ والرُكبِ

أَأَنتِ أنتِ، أم الأرحامُ قاحلةٌ

وبُدِّلت، عن أبي ذرٍّ، أبا لهبِ!!))( )(9)

بهذه النبرة الضخمة، والرؤية النقدية الحادة، والموسيقى المُجلجِلة، يفتتح الشاعر قصيدته. إلاّ أن نقده الواضح لحال أمّتهِ العربية الهزيل لم يدفعه إلى حكم إطلاقي يقودنا إلى فقدان الأمل، وكما يبدو واضحاً فإن الوعي هنا يتدخل بقوة لكبح جماح الغليان العاطفي للشاعر، فلا تصل شكوكه بجماهير أمته إلى حد ضياع الأمل بصحوتها وقدرتها على الانبعاث مجدداً، فالفعل "أكاد" يضع حداً لهذه الشكوك ولا يقودها إلى الحكم المطلق كما أسلفنا.

والشاعر يوسف الخطيب باتكائهِ على التاريخ يقارن بين مرحلتين تاريخيتين: الأولى: المرحلة الماضية وهي مرحلة نهوض وشموخ وانتصارات عسكرية باهرة قادها قادة عظام "كعقبة بن نافع" وغيره، والمرحلة الحاضرة التي تتسم بالضعف والتمزق والخضوع بِذُل للقيود الأجنبية، وتبديل الرموز التاريخية العظيمة "كأبي ذر" برموز تاريخية مرفوضة عند العرب والمسلمين "كأبي لهب" الذي نزلت بحقه الآية القرآنية الكريمة والشهيرة: تبّت يدا أبي لهب: "وهي في سورة المسد ـ آية رقم واحد".

إلا أن الشاعر يستدرك فاتحاًَ أمامنا كوة للنور تبدد الظلمة الحالكة، مؤكداً على أن شعلة البعث هي التي ستمزق "سجوف الليل" لنقرأ لـه ما يدلل على ذلك:

((أَكادُ أُومن، من شكٍ ومن عجبِ

هذي الملايينُ ليست أمة العربِ

لولا تشقُ سجوفَ الليلِ بارقةٌ

يا شعلةَ البعثِ، رُدِّي حالكَ الحُجبِ))( )(10)

ثم نتلمس بعد ذلك بوضوح الرؤية القومية للشاعر، فالوطن العربي كله هو مركز همومه وانفعالاته وطموحاته القومية، وهو يتنقل بأبياتهِ من اليمن إلى يافا إلى بغداد، إلى الشام، إلى وهران...الخ مؤكداً وحدة البيت العربي. لنقرأ لـه دعوته لصنعاء كي تهب لنجدة يافا واللد:

((صنعاءُ رُدِّي دماً ما أنتِ ساحَتَهُ

يافا تصيحُ به مجنونةَ السَّغَبِ))( )11

لا أذَّنت فيكِ يا صنعاءُ مئذنةٌ

واللّد تندبُ في محرابها الخرِبِ))

ثم يتحدث الشاعر عن "نبوءته" التي تؤكد حتمية سقوط الطغاة وانتصار الشعب والأمة، متخذاً من سقوط طاغية العراق نوري السعيد دليلاً على ذلك، ومؤكداً على بسالة الشعب العراقي وقدرته على التمحيص والفرز الذكي: ـ

((واسأل ببغدادَ، عن نوري، وخلفتهِ

نبوءَتي في طغاةِ الأرضِ لم تخبِ

إذا الثعالبُ صَيدت في مكامِنها

أَيّان يُفلِتُ من شعب العراقِ، غبي))( )(12)

ثم يؤكد الشاعر في خاتمة قصيدتهِ على أن الشام هي كعبة العرب، هي روح الأمة، وعنوان مجدها، وأملها بالنصر والانبعاث، ونلمس هنا تبدد حالة الشك وظهور حالة الإيمان محلها ضمن عملية نفي جدلية: لنقرأ لـه هذه الخاتمة المتفجرة بالعنفوان والمتأججة بالروح القومية الغاضبة، والمؤمنة بوحدة المشاعر العربية في مختلف أصقاع الوطن العربي الكبير:

((أكاد أُومنُ من شكٍ ومن عجبِ

هذي الملايينُ ليست أُمةَ العربِ

لولا رفاق طريقٍ في ملامحهم

وهجُ الرسالةِ يُذكي سالف النَّسبِ

تدري العروبةُ من أبناء بَجْدَتِها

من المُحامونَ بالأرواحِ والقُضُبِ

من الذين، إذا أنّت لنازلةٍ

يافا، تنهَّدت الأصداءُ في حلب

آمنتُ بالشامِ، روح البعثِ تسكنها

ما جلّقُ هذه، بل كعبةُ العرب))( )13








"سأظل أنا كما أريد أن أكون ؛
نصف وزني" كبرياء " ؛ والنصف الآخر .. قصّـة لا يفهمها أحد ..!!"
  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:00 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط