العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ▂ ⟰ ▆ ⟰ الديــــــوان ⟰ ▆ ⟰ ▂ > ⊱ عناقيد من بوح الروح ⊰

⊱ عناقيد من بوح الروح ⊰ للنصوص التعاقبية المتسلسلة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 08-02-2012, 06:34 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
د.محمد رفعت الدومي
عضو أكاديميّة الفينيق
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


د.محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً


افتراضي إسهار بعد اسهار

إسهار بعد اسهار











محمد رفعت الدومي








إهداء


إلي الذي رائحته لا تشبه روائح الآخرين

إلي الذي .. الخزامي وأكثر .. التوليب أيضاً ، وأكثر من أي وقت ٍ مضي

الشيخ رفعت عبد الفتاح أحمد سالم

مرة ً أخري وذهباً أقلَّ



محمد












الكلُّ في واحد
عندما يصير الوقتُ خلوداً
سوف نراك من جديد
لأنك صائرٌ إلي هناك
حيث الكلُّ في واحد (*)






(*) : نشيد الموتي













(1)


الآن ..
يعود الألم الطرفيُّ إلي المركز ، ويفلت البالونات عامٌ أتمَّ امتلاء خسائري ، وتسقط البالونات في الدقيقة الطليعية من عام ٍ يعد بالكثير من خسائري المؤجلة ، وأمرُّ منحنياً ، لكن بكثافة ٍ شديدة . تحت أقواس خسائري ، وأخلد هذا المنعطف الشهير بسلة ٍ من الشوك المقدس ، والمكدس ، في بهو ٍ سحيق ٍمن الزهور الذابلة ، تكريماً لشبه ِ أبي البشريِّ لا أكثر ، وأسأل كل القوي الإيجابية في الطبيعة أن تجعل من هذا الطقس البسيط أفعالَ وفاءٍ لعابر ٍ يرج قامته المرتفعة في روحي الفردية بتصرفات ٍ مرتفعة ، وأستطيع أن التقط خيوط حميميته بوضوح ٍ أخاذ ، من بين غابة من الخيوط المتشابكة . والمتشابهة أيضاً .
وربما أكون في الطريق إلي إسبوع ٍ مزدحم ٍ باللهجات المتسرعة ، حيث يرتفع القانون عن الأرض بضعة ملليمترات ، أو لهجات الذين يرجمون قابيل بغابة ٍ من اللعنات المزمنة تعقيباً عصبياً علي قتله أخاه ، أو الجريمة الأولي كما يعتقد البالون وأصحاب الحد الأدني ، وربما أراد الرجلُ أن يربِّي في جسد أخيه الألم الشهير لا أن يربِّي في جسد أخيه ، الموت الوافد من أصقاع الصفر .
لا تكترث لهم ، لك قصيدتك أيضاً ، ولك أبوك ، وأبوك تعبيرٌ محميٌّ ، لا يستطيع امرؤٌ أيَّاً كان ، أن يدَّعي صلاحيته للاختصاص باستثنائيته ، حيث لا يوجد تراجع ، سوي الذين ارتجل لهم أًصيصُه ، بفعل استحواذ تسع ٍ من حماقاته المؤدية ، جذوراً .
لكن أباك مات ، وقام القبرُ بهضم عبثيته تماماً ، مات أبوك بتصرفات مرتفعة ، مات صاحبُ المساحة الوحيدة البيضاء في زمن ٍ مكتظٍّ بالمساحات الأخري ، مات الذي كان بوسعي أن أخبئ هزائمي بمأمن ٍ خلف دفئه الطليق .
وكان له أن يحظي بمأتم ٍ يعكس تلك القيم المرتجلة التي واظب علي حراسة جذور الإخلاص لها بعرض العمر وعلي طول التحفظ الصحيِّ تماماً ، وكان عليَّ أن أفسح له سلة ً من قيود الإخلاص لشاعر ٍ لا يميلُ إلي دين ٍ قط ، وأن أوطن نفسي علي مواجهة التقاليد السخيفة بوجه ٍ مطهَّم ٍ بالنفاق والدجل .
وربما بدقة ٍ أكثر ، أن أفسح له سلة ً من قيود الإخلاص لشاعر ٍ ، يدين بدين السيد محيي الدين بن عربي ، ذلك المسخ ُ. ذلك المرجع ، والعلمانيُّ السابقُ لأوانه .
كم هي محيِّرة ٌ تلك الرياضة التي أسلمت ِ الرجلَ إلي قناعته الممتلئة إلي حد بعيد ، وربما إلي مدي أبعد جمال ذلك الشيطان الذي انخرط في سرِّه بإفراط ٍ حين عزف أبياته الشهيرة .
لقد كنت ُ قبل َ اليوم أنكر صاحبي : إذا لم يكن ديني إلي دينه داني
لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ : فمرعي لغزلان ٍ ودير ٌ لرهبان
وبيتٌ لأوثان ٍ ، وكعبة طائف : وألواح توراة ٍ ومصحف قرآن
أدين ُ بدين الحب ِّ ، أنّي توجهت : ركائبه ، فالحبُّ ديني وإيماني
جدِّف جدِّف . ليست الحياة سوي حلم ، وليس الموضوع في إطاره ، وربما كان تعقيباً سخيفاً علي مشيئة ٍ غامضة ٍ ، لكن تدور حول محور ٍ واضح ، مواصلة التعاسة في لهجات البسطاء انتشارها .
ولأنني لا أتوقع الطاعة ، ولا الصمت َ ، أؤكد أننا في الطريق إلي عالم شامل ليس به موطأٌ لقيم ٍ سوي الاستقلالية والحرية الشخصية ، وليس به أيضاً موطأٌ لمقدَّس ٍ سوي الإنسان .
واقع ليس من الحكمة اختباره ، ولن يواجه أبداً إلغائه .

(2)



كان الذين لا يرون أبعاد شخصية أبي في ضوء قريب ، يردّون عراءَ أعصابه الدائم إلي ولادته المبكرة ، الشاعر القديم جرير أيضاً ، ولدَ لسبعة أشهر ، ولقد اتخذ الفرزدق ، الشاعر القديم ، من ذلك المنعطف الأليف من منعطفات حياته ذريعة ً لهجائه ، يقول :
وأنت ابن ُ صغري لم تتم َّ شهورها .
ولأنني انحاز علي الدوام إلي أبي ، انحزتُ مباشرةً ، منذ أن وقفتُ علي هامش المعركة الشهيرة بين الشاعرين ، وقرأت هذا المنحدر الشعري من منحدراتها ، إلي ائتلاف المتواطئين مع الشاعر الكبير جرير ضدَّ الفرزدق الشاعر الكبير ، الشاعر الكبير بحماية مقاييس الشعر في عصره طبعاً ، فإنَّ شعرَه لايصمدُ أمام مقاييسنا الحديثة للشعر فقط ، بل ويضاف الكثيرُ منه إلي آثامه العديدة ِ أيضاً ، آثامه التي لم يتَّسع ِ المؤرخون للوشاية بها منجَّمة ً ، فعمَّروا لها شارعاً علي طرف الزمن ، وعلقوا عليه لافتة ً كبيرةً . ليلة الفرزدق .
يزعمون الفرزدق مرَّ ذات ليلة ٍ بدير ، وعرضت راهبة الدير استضافته فقبل ، وجاءته بشرائح لحم الخنزير فأكل . وبخمر ٍ فشرب . ثم فتحت له خزائنها فزني بها ، ثمَّ .. ليزيِّن ذكري الليلة علي مايبدو ، سرق وشاح الراهبة وانسلَّ بالليل إلي الضياع .
لقد اقترف الرجل كلَّ الموبقات في ليلة ٍ واحدة .
أشكُّ كثيراً في صحة هذه الوشاية ، ولا أشكُّ كثيراً في وقوفها علي حافة الخلق الشهيرة ، وإن كان الفرزدقُ بكلِّ ظن سيئ منوطاً .
لكن الذين يعرفون أبعادَ شخصية أبي ، لا يرضون بهذه المقاربة المتسرعة ، ولا أرضي بالطبع ، وأري أن وجه حنانه المدوَّر مشرعٌ لمغفرة هزائم العالم ، وإن كان عراءُ أعصابه يلسعُ أحياناً ، فهو لسع الورد لا أكثر .
وأري أن أفعال أبي ، أبعد الأفعال تعبيراً عن ضيق الأفق والبعد الواحد ، هذا يقودني إلي ذكري بعيدة .
أتذكَّر أنَّ أبي صعد يوماً ذروة َ نقطةٍ من نقاط صفائه الذهنيِّ ، وكانت تتواكبُ عادةً مع انسياب القطرات الأولي من عصير الأفيون الأسود في دمه ، وكنت أعرف أنها قافيةٌ ملائمةٌ للوقوف بذهن ٍ معلن ٍ علي كافة التابوهاتِ دون مراقبةِ العواقب ، وأنشدته خلف حديثٍ عالقٍ بالطرح بيت أبي العلاء :
أفيقوا ، أفيقوا يا غواة فإنما ، دياناتَكم مكرٌ من القدماء
وانتزعَ ذهنَه برفق ٍ من عالمه ، فجأةً ، ونظرَ إليَّ في دهشة ٍ، والتقطتُ خيوط رائحة الأدرينالين تتناسل في دمي ، ثمَّ ابتسمَ ابتسامةً معقوفةً انخرطت في سرِّي إلي الأبدِ ، وعاد إلي عالمه ، شعرتُ بالخوف يتبدَّد .

ذكَّرني في اليوم التالي ، بمساري الأزهريِّ ، وما يمكن أن تشكِّله قناعاتي الطارئةُ من مخاطر علي مستقبلي لا أكثر ، مع ذلك كان متسامحاً جداً .
ربما كان ذلك التماهي معي تعليقاً جارحاً علي شكه في سلامة عقلي ، وهو شكٌّ يقومُ علي الكثير من الدعائم التي تسبق ركام التحول عادةً بشجاعةٍ صلبةٍ ، نزوعي الشديد إلي العزلةِ الصارمةِ ، وما تشكِّل العزلةُ من التعابير الشهيرة ، خجلي المتفاقم ، وجهي المستغرق ، نظراتي المحاطة بالتوترات ، أحاديث النفس التي تنمو بصوتٍ مسموعٍ علي أسيجةِ العزلة ، طبيعتي القلقة ، وشرودي المسرفِ في التكرار ، خارج الآخرين وخارج قواعد المنظور تماماً .
ربما اعتقدَ الكثيرون ، أنَّ مرونة أبي الممتلئة حيال قناعاتي المتطرفة ، هي صفر امتلائها ، وهذا اعتقادٌ يجري في يقين الخطأ ، فلقد اخترتُ خرزتي من العقد بعزيمةٍ لا تقيمُ لرضا أبي ولا لسخطِه وزناً .
حدث هذا بالطبع بعد أن سيَّجتُ ذهني بأفكار ٍفولاذيةٍ ، حتي لا يستطيع امرؤٌ أيَّاً كان أن يسمِّرَ فيه أوراقاً مقدَّسةً ، حيث توقف الوقتُ وتجاوز الأساليب ، حتي القشرة الأكثر عمقاً .
أصبحتُ خارج التسريحة القومية المرتبكة ، وأصبحتُ أيضاً خارج عالم البالين وأصحابِ الحدِّ الأدني تماماً ، وإن كانت تربطني به غابةٌ من العواطف المبتذلة .

(3)
علي جسر اللوزية ، تحت وراق الفي
هب الغرب ، وطاب النوم ، وأخدتني الغفوية
وسألوا كتير علي ، علي جسر اللوزية
لا أريد الانزلاق في شرخ الحديث عن إشكالية الحبِّ والحرب .
وبذهن مسيّج ٍ بأفكار ٍ فولاذيةٍ ، أسمي السيدة فيروز ، قوقعة المثقفين من الماء إلي الماء وأبعد ، أو من المحيط الأطلسيِّ إلي الخليج الفارسيِّ وأبعد .
وبذهن مسيَّج بأفكار ٍ فولاذية أسمي الأنقياء ، والنقاءُ كاسمه ، أولئك المتواطئين علي حراسة جذور الإخلاص لقهوة الصباح الشهيرة ، وغلالة العطر المسائيِّ المسرفة من الماء إلي الماء وأبعد ، فهناك الكثيرون من الذين زهدوا في مياهنا الآثمة ، وارتجلت أصص المنافي لهم جذوراً ، وبعضَ الحنين .
وبذهن ٍ مسيَّج ٍ بأفكار ٍ فولاذيةٍ ، أؤكد ألا صوتَ يتَّحد بصوت السيدة فيروز نبلاً إلا صوت السيدة ميراي ماثيو ، وما يكتظُّ في أجراسه من العطر الفرنسيِّ الجارح .
ويلزمُ لبنان ، ويلزم اللبنانيون أن يمرُّوا منحنين ، ولكن بعدالةٍ صلبةٍ ، تحت أقواس هذه المرأة ، وعمارتها الفينيقية الطابع ، فما من مرةٍ تدقُّ أوقاتنا ، إلا وينحسر الصوت ُعن لبنان وقد أحرز نقاطاً إضافيًَّةً في مقاييسنا للجمال ، حقيقةٌ لا تحتاج إلي الوقائعية للحكم علي امتلائها ،
ولقد أصغي اللبنانيون ، متأخرين ، إلي ماضي لبنان في ظلِّ صوتها الذي يعي لبنان بكلِّ جلال ، ويعكس تقويمه علي سطحه اللامع بذاكرةٍ مشتعلة ، فنوَّهوا عن خفاياهم ، وتزاحموا في لحظةٍ داخليَّةٍ ، ولكن جماعية ، حول جدل الفارغ والممتلئ ، فجعلوا من السيدة فيروز معادلاً إيجابيَّاً للشطربة الفارسيِّ في جنوب لبنان ، أو البالون المملوء بروث عبدالله بن سبأ ، أو السيد حسن نصرالله .
لست ُ أدري لماذا كلما رأيت وجه ذلك الرجل ، انتزع بعنفٍ ذهني ، وألقي به علي أطراف الكلمات الحادة ، في بيت الشاعر القديم ذي الإصبع العدوانيِّ ، الشهير :
لو يشربون دمي لم يرو شاربَهم : ولا دماؤهمو للغيظ تشفيني
لا لما ينطوي عليه البيتُ من عنفٍ فقط ، وإنما لإصبعه المدجج بالوعيد في كلِّ إطلالاته التي تستهدف القطيعَ من الماء إلي الماء ، والأعداء اللبنانيين خاصة ، لقد تجاوزت مذهبيةُ الرجل كلَّ الثوابت التي تحكم العلاقة بين الطوائف بشكل ٍ واضح ٍ ، حتي أنه غامض ، بل شديد الغموض ، كأنَّ الرجلَ يعتبر القومية اللبنانية تعبيراً محميَّاً ، فلا يحلُّ للبنانيٍّ خارج قناعاته هو ، أن يدَّعي صلاحيته للاختصاص بها ، وهو الذي يضبط إفطارَه في أيام الصوم الشيعيِّ علي توقيت "قم" !
مهزلة ، بل يقين المهزلة ، غير أنَّه كان داخل تقدير أبي تماماً ، العم عبدالباسط أيضاً ، لقد تسلل الرجل تحت درع ٍ كثيفٍ من الأوجه المرتعدة ، وحاجة البسطاء إلي أدني بقعةٍ من ظلِّ البطل ، وإن ِ البطل الضدّ ، إلي شغافهما ، واستطاع أن يعلق ببساطة صورة له تجاور صورة عائق نهضتنا المقدس ، أو السيد جمال عبدالناصر لا أكثر .
وأتذكر أنني لم أر أبي ، أو العم عبد الباسط في حالة من نار المرح الداخليِّ أكبر من حالتهما يوم انهيار البرجين الأمريكيين ، هذا دفعني إلي الانضمام إلي ائتلافهما لبعض الوقت ، والتقطت من حواسي بعض المشاعر الشريرة ، ونسجت منها قصيدة إطراء لأسامة بن لادن ، لقد نفق الرجلُ مؤخراً ، وتوقفت جرائمه إلي الأبد .
صبيحة نفوق السيد صدام حسين أيضاً ، ربما لتوقيت قتله المعاير بعناية شديدة ، ومهينة لكل المتوقفين وبني تميم ، فوق جذور واحدة .
أتذكر أيضاً أن العمَّ عبد الباسط ، كان ينشطُ كثيراً في ظروف تبادلات إطلاق النار الشهيرة بين السيد نصرالله وبين إسرائيل ، لا يكون فقط متحمساً بشكل ٍ رائع ، بل يكرس حنجرته نبعاً للشائعات التي تنشط علي الدوام في مثل هذه الظروف ، ويدعي صباحَ كلِّ يوم أنه في عصر ذاك اليوم سوف يحتل " تلَّ أبيب " ، ويقتل اليهود ، حتي الأطفال في بطون الأمهات اليهوديات ، ثم .. يصلي في المسجد الأقصي ، ياللنقاء !
وأسكتُ ، كنت أعرفُ أنه ينوِّه عن حلمه الأبيض كوجه هملايا ، وكنت أعرف أنَّ تشويه تلك اللحظات الشحيحة من وخزات الكبرياء في روحيهما المتعبين ، حماقةٌ ، لا تطاولها حماقة .
كنتُ أعرف أيضاً أن الرجلَ ، بفعل استحواذ حماقته الجديدة سوف يؤكد لبنان ، علبة بريد عالمية لتبادل الرسائل السياسية تماماً ، كما أكدت فيروز بطقس بسيط جسرَ اللوزية في شطربيته الجنوبية ، أثراً مؤجلا يتصدر قائمة المزارات السياحية اللبنانية ، ورغبة الكثيرين من الماء إلي الماء المتفاقمة في زيارته ، أتمني وأبي ، كما أتمني وأبي ، أن يعود الرجل إلي راية بلاده الناقصة ، أو أتمني وأبي ..
أن يصبح الإسرائيليون أشد خشونةً تدريجياً .
انتبه اللبنانيون أيضاً إلي حقيقة أن شادي فيروز لم يمت كما يتوهم الحمقي ، وإنما هو مفقودٌ لا أكثر ، بل أشهر المفقودين من الماء إلي الماء ، وكان تعقيب اللبنانيين نكتة ، وربما بدقةٍ أكثر ، كان تعقيب اللبنانيين جسراً يربط بين رائعتين من روائع فيروز بطريقة مضحكة ، لكنه الضحك الذي كالبكاء .
يقول اللبنانيون أن السيد أيهود باراك ، وزير دفاع اسرائيل ، اتصل بالسيدة فيروز أثناء حرب من حروب السيد نصرالله الآلهية ، وقال لها :
- قولي لنا وين جسر اللوزية ، واحنا نرد لك شادي !
صورة تعكس الصورة كاملة ، وتشوهها كصورة مرتجلة في نفس الوقت .
ذلك يعني ، أنهم يدركون تماماً ، أن مواطئ الخسائر اللبنانية أصبحت منعدمة تماماً ، ويدركون أيضاً ، أن شادي سوف يظل يلعب علي الثلج ، إلي الأبد .

(4)

عشرين مرة إجه وراح التلج
وأنا صرت إكبر ، وشادي بعدو صغير
عميلعب عَ التلج .....

كان شادي في الطريق إلي يقين الأسر ، وكان أخي حازم ، في الطريق إلي أفكاري المضجرة ، محمود أبو عبد المنعم أيضاً ، لم أكن قبل دقائق ، أعلم شيئاً عن الموكب الذي ذهب وفي صدارته مرض أبي ، إلي الطبيب ، أخبرتني أمي أنه لم ير ضرورة لإيقاظي مبكراً ، لقد تحلَّلت تعابيرُ وجه حازم إلي تعبير واحد فقط ، الجمود ، وشهقة متحجرة عليه أيضاً ، مع ذلك كانت قامته عادية ، أو هكذا خيِّلَ إليَّ ، قال محمود :
- رحنا للدكتور !
ونظرت مباشرةً إلي حازم في قلق ، تضخم قلقي عندما أسكت محمود فيروز بعصبية ، وأدركت أن حجراً يتهيأ ، تساءلت :
- خير انشاء الله ؟
قال حازم بصوت كأنه يخرج من خلال شوكٍ وحجارة :
- الدكتور قال ، عنده لحمية في الحوض !
تلك اللحظة التي تخترق فيها الكارثة القلبَ والعينين .
وتنبهت إلي الذهول يهيمن ، وانخرطت من حوليَ الأشياءُ في ذهولي ، وانتبهت إلي يدٍ هائلةٍ ترجُّ في روحي عصا غليظة .
آه ، لحمية في الحوض ، هذا هو المصطلح الطبي للسرطان في الدومة ، وهذا أيضاً يعني أنَّ أبي ، أنَّ سطح خيمتنا ، صار ضيفاً علينا ، أوصرنا ضيوفاً عليه ، لسلةٍ من الشهور لا أكثر .
الآن يا أبي ؟
الآن ونحن في مفترق الموج ، تطيرُ طرقُ ريشك ؟
الآن ، وإسلام يمارس خطواته الأولي علي طرف الوجود المتاح ؟
بسطت يديَّ في لحظة ذهول واضحة . وأخذتُ أجلدُ وجهي بعصبية وقسوة ، وصاح حازم مستنكراً ، في غضبٍ حقيقيٍّ ، وبصوتٍ طارئ مزَّق ذهولي :
- أمانة يا محمد ما تعمل كده ، إحنا عارفين الموضوع هيرسي علي ايه ؟
كان في تلك اللحظة خارج ذاته تماماً ، وكانت أعصابُه عارية تماما ، لقد أدركتُ أنَّ غضبه تعقيبٌ علي شعوره الهائل بالفقد المؤجل ُ ، وقطرات الذعر التي تسللت إلي أعماقه دفعة واحدة ، حتي شكلت مستنقعاً مساور .
كان يريدني أن أطرد أعشاشها ، وألقي بها في حوض الصباح البعيد ، أو كان علي الأقل ، ينتظر مني ولو لبعض الوقت ، بعض الكلمات الملونة بالتفاؤل ، ليشكل منها درعاً كثيفاً يدرأ عن ذاته انعكاسات الواقع الشرير ، الذي لا يتسع له ، حتي يرتب من جديد بيته الداخليِّ المنهار .
وأعترف .. أن التنويه عن قلبي في ذلك الوقت كان خطأً كبيراً ، وكان من اللائق أن أتمسكَ بجذر الصمت ، لكن عذري أنَّ بيتنا ..أصبح مباشرةً ، في مواجهة السرطان .
وأصبح إحساس أبي المرتعش واقعاً ، وأصبح من اللازم أن نحدد أيَّ قدر من المشكلة علينا الإمساك به حتي تصبح المشكلة قابلة للتجاوز .
مهما كان الأمر ، لقد رمي حازم بحجر، في بحر حياتنا الآمنة ، في صباح يوم جمعة ، سوف يثور له بعد عامين وبعض العام ساحلٌ بعيد .
(5)
لا يمكن التغاضي عن تذبذبات النفس الحادة حيال العواطف الإنسانية ، التي تجد التعبير عنها بشكلٍ واضح ٍ ، وتواجه إلغائها بالغموض نفسه ، وبالصرامة نفسها أيضاً ، برغم هذا ، وربما بفضله ، يظل القليل من العواطف حبيساً ، في غرف مغلقةٍ ، يتشبث بجذور التحامه ، بلا مشروعية ، بأشياء بعينها بشكل خاص .
تتبدل الرغبات والمخاوف وسطوح الأحلام ومنظومة الإدراك الذاتيِّ ، صعوداً وانخفاضاً ، وتبقي راسخة ذلك الرسوخ الانفعاليِّ كخنجر معلق في البال ، وبالنسبة لي أنا .
هضمَت قشرة ُطفولتي عبثيتها ، وحلَّ الشبابُ تمائمي ، ونضجتُ في أدني بقعة ٍ من ظلِّ الألم ، آلاف المرات ، وكراهيتي حيال يوم الجمعة تتمسك بامتلائها .
قد يتردد الفراغ من حين لحين في النفس كالمكيدة ، ولكن يضيع ، حتي يمكنني أن أعتبر كراهية هذا اليوم تناذري الخاص ، غير أني أستطيع أن أمسك بيدي أشجار ذاك التناذر ببساطة ، السماد الذي عتَّقَ تلك الأشجار داخل العمق الأليف لروحيَ الصغيرة أيضاً .
ربما كان أطوله تخصيباً وحضورا ذلك التحذير من ذلك اليوم تحديداً، الذي يجثم علي ألسنة الأمهات جثوم العادة ، وما ينطوي عليه من ساعة نحس ، تسرح فيها الجنيَّات ، لكي يعكِّرن سلام الأمهات ، فينخرط الفقد في لهجاتهن ، وهو اعتقادٌ لا يتحد بالموضوعية أبداً .. وبرغم ذلك ، وربما بفضله ، أجد يوم الجمعة يجد التعبير عنه بغابةٍ من النبض الأكيد في أوردة الفواجع التي تتصدر لائحة التراث الدومي الحزين ، بطول اللوحة المرسومة علي جدران الذاكرة ، وبعرض حصارها الصحيِّ .
لا أظنُّ الأمرَ ينطوي علي شئِّ من الغرابة ، ذلك أن الفلسفة الشعبية تعقيبٌ صادقٌ علي غابة من التجارب الإنسانية السحيقة .
هناك سببٌ آخر أتمُّ امتلاءاً ، لا يزال يوم الجمعة عطلة تجمِّد الحياة المدرسية ، ويكرس نفسه جداراً يفصلنا عن يوم السبت ، أقسي أيام الأسبوع المدرسيِّ وأطولها ، لذلك كنا نحب ليلته أكثر من نهاره ، حيث يكون الجدار في عنفوانه ، وحيث يمتد غابة من الساعات تفصلنا عن الإلتزامات المدرسية ، وتفصلنا أيضاً عن ديكتاتورية العم ياسين ، فراش مدرسة الدومة ، وسلبية الناظر حيالها .
العم ياسين الذي كنت أخافه أكثر من مخافتي الناظر ، والأستاذ فريد ، والأستاذ عمر والآخرين ، طوله الفارع ، بطنه المنتفخة ، عيناه العدائيتان .
العم ياسين ، ذلك المارد الذي يزعم الدوميون أنه أكل جرناً صغيراً من الفطير وخمسة من كيلوات الدهن البقري الخالص في وجبة واحدة !
لقد أصابني الغثيان لمجرد كتابة هذه الوشاية الرائجة ، وأقسم علي هذا .
العم ياسين ، ذلك العاشق الذي انخرطتُ في سره ، ذات صباح ، خلف انتباهه ، فضبطته في لحظة رغبةٍ واضحةٍ ، يفكر بصوت مرتفع :
- آه لو قطمة ف خدك يا كوثر !
المرحوم ياسين ، ذلك الطيب الذي كنت أسبقه غالباً إلي المدرسة ، في الصباحات الشتائية بشكل خاص ، فأجد الباب مغلقاً ، وأتسلل إلي بيت الخالة لطيفة ، لأنعم بحرارة الشاي وعطاء النار ، ويدهم سلام البيت فجأة .. فتطوق المكان في عينيَّ هالة ٌمن التوتر ، وأهم بالنهوض ، وأنا ألعنه في سري . فيردني بصوت مسور بالرقة ، ويفتح بيني وبينه بوابة الحنان لبعض الوقت ، ثم .. بمجرد الدخول إلي سياج المدرسة ، يعود وجهه إلي مائدته الأولي .
كأنما خلق الرجلُ خلقاً جديداً .
ديكتاتورية العم السادات أيضاً ، فراش المدرسة .
كان يأتي من البطحة علي حمارةٍ رماديةٍ قصيرة ، جثم نهيقها بمجرد الاقتراب من المنحني المفضي إلي المدرسة جثوم العادة ، وما إن ترفع رأسها ، وينتصب ذيلها ، وتغور خاصرتاها وتصيح :
- هي هان ، هي هان ، هي هان ، هئ !
يتزاحم المنافقون من الصغار علي الترحيب بوفادتها ، وربطها في مربطها للحصول علي نصيب أوفر من التغذية المدرسية التي يوزعها الرجل .
العم السادات الذي رأيته ذات ضحي ، يدخل حقل قصب قريب ٍ ، ويعود بسلة من الجراء العمياء ، تحت درع معتني به تماماً ، من غياب أمهم ، ثم وضعهما بمأمن خلف انتباه الناظر ، وعاد ليوزع التغذية ، تملكني إحساس بالرغبة في القئ ، لمجرد إحساسي بتداخل الخبز والجبن برائحة الجراء العمياء ، وأفضيت بسرِّي إلي قريب القاع ، زميلي "عبادة" ، فذهب مباشرةً ، وأطلع الرجل علي سري ، طمعاً في الحصول علي نصيبي من التغذية .
طاردني العم السادات ، وفشل في اللحاق بذعري ، فقذفني برغيف خبز ، أصاب مباشرة وجهي ، تألمت وسط شعوري بالحرج من ضحكات الرفاق ، فعدوت مذعوراً، لأستدعي أبي ليستعيد لي كرامتي الضائعة ، فارتطمت ، فجأة ، بتحفز الكلبة الأم ، ونباحها العصبيِّ ، لقد فكَّت شفرة رائحة جرائها ، تملكني الرعب التام الدوائر .
وتراجعت راضياً بالمقاربة المخزية .
المرحوم السادات ، الذي انخرطت في سر أيامه الأخيرة ، وكان أحد أحب عملاء صيدليتي إلي نفسي ، لقد كابد المسكين في شيخوخته الكثير من أصداء الآلام الشاقة .
وجمال المرحوم مرعي أيضاً ، فراش المدرسة ، لقد وجد الرجل حبه في قلوبنا الصغيرة التعبير عنه منذ البداية ، عندما انصرف الرجل منذ البداية عن ضربنا إلي ضرب المدرسين مباشرة ، وأقسم علي هذا ، كانوا يخافون أعصابه العارية علي الدوام ، وكانوا يقولون عنه أنه غشيم ، من الممكن أن يضرب خصمه في ساعة الغضب ، بأي شئ تقع عليه يداه دون مراقبة العواقب .
هناك سماد آخر وحديث ، وأكيد ، يغذي أشجار ذلك التناذر ، لقد تجاوزت فاجعة أبي التي لم أتجاوزها حتي الآن ، وأظن أني لن أتجاوزها إلي الأبد ، العتبة النقية لبيتنا العتيق ، بين الساعة التاسعة والساعة العاشرة ، لابد أن ساعة النحس المظنونة تختبئ بين التاسعة والعاشرة ، وهي ساعة نسبية بالتأكيد ، وكان من الممكن أن تواجه إلغائها .
لولا أن شبه أبي البشريَّ ، خرج من بيتنا محمولاً علي سواعد الرجال دون أن يخبِّئ في نيته كالعادة خط الرجعة ، بين الساعة التاسعة والساعة العاشرة ..
من صباح يوم جمعة أيضاً .

(6)
وراحت الأيام وشوي شوي
سكت الطاحون عَ كتف المي
وجدي صار طاحون ذكريات
يطحن شمس وفي .. يا سهر الليالي ..

كانت ليالي الصيف الخالية من الأحداث ، مغلفة علي الدوام بالضجر ، تتماسك أيضاً بانكسارها الحاد مثل الوتد المتغلغل في مغارات القلب ، وتطير طرق النوم في الوقت المناسب ، فتنهار عضلة النوم تماماً ، حتي لابد من إنفاق الكثير من الجهد للدخول إلي متاهاته السائلة ، في مثل هذه الليالي يتضاءل الإحساسُ بالجمال ، ومثل هذه الليالي ، بالنسبة للقلب ، قلب الضجر ، تدعوني لأن أن أجاور انطباعات المتعة التي أعيشها في ليلة عادية بالانخراط في متاهات الوجود البديل ، بالتمدد فوق مساحات سفر الآخرين الذين تباشر عمة أبي ، تربية وجودهم في بيتنا ، أمام عينيَّ .
بمجرد اللجوء إلي وجه حنانها المدور ، ونحافتها الشديدة ، ومسحة الجمال علي وجهها التي تشي بجمال هادئ قديم ، ورائحة دهان أبوفاس التي تنبعث من ساقيها المريضتين :
- عمة فتحية ، حجي لي أمانة !
وسرعان ما أسبح علي أمواج صوتها الدافئة ، في عوالم من الذهب المرصع بمانجو الوقت ، وينخرط في سرنا الشاطر حسن ، وست الحسن ، وطيزان ، وأمنا الغولة ، وأسراب من الذئاب الشريرة والماعز الرقيقة .
تتخلخل أمواج صوتها من آن لآن ، ثم تنزلق أنة في شرخ الحكاية ، لكنها تتماسك مرة أخري ، لقد سيطر الروماتيزم علي أفق ساقيها بأكمله ، وتوحَّش حتي لم تكن أكياس عقاقيرها الكثيرة تفلح علي الدوام في تهدئة قلبه ، وكنت أتألم علي الدوام لألمها ، بل كنت أبكي لبكائها أحياناً ، وكثيراً ما خرج بكائها عن إطاره ، وتحوَّل إلي رثاء للذات ، فتصيح بصوتٍ مختنق بالدموع الحقيقية :
- لحدّْ ميتا العذاب دا يا ربِّـ .. بي ، الصليل هيموتني يبووويه ، ميتا نرتاح
يا ربِّـ . بي ؟!
وذات ليلةٍ تسلقت إلي مرقدها ، وقلت في ضراعة :
- حجي لي ياعمة أمانة !
وربما لنفاذ رصيدها من الحكايات ، أو ربما لتتفادي مغاراتها التي تضلل الذهن . ولقد ضبطت الأحداث ، والأمكنة ، والأزمنة تتغير كثيراً ، ربما كان الألم السري يستقطب إدراكها ووعيها .
قالت وهي تربت علي ظهري ، بصوت منغم :
مقطف رقيق رقيق ، والكلبة تحلق فـ الطريق ، والكلبة عايزة البتاوة ، والبتاوة فـ عين الفرن ، والفرن عايزة المحساس ، والمحساس عند النجار ، والنجار عايز البيضة ، والبيضة فـ ضهر الفروجة ، والفروجة عايزة الغلاية ، والغلاية فـ الجرون ، يروح يجيبها محمد بسبع قرون !
ما هذه المتاهة السائلة التي لم ترمم رغبتي في السفر البعيد ، بل لم يتحرك لها ذهني ملليمترات خارج بيتنا ؟
ومن هو محمد الذي بسبع قرون ؟ .. لم أفهم علي أي حال .
حاولت مجدداً ترميم الليلة ، وقلت وأنا يملأني الحقد عليها :
- حجي لي حجيوة تانية يا عمة ! ..
قالت وهي تربت مجدداً علي ظهري بصوت منغم :
- مقطف رقيق رقيق ، والكلبة تحلِّـ ..
قاطعتها بصوت حملته كلَّ ضيقي وكلَّ نفوري :
- مش الحجيوة دي ، حجيوة "طيزان ومليحة" !
كان تصرفاً غبياً ، فقد أضأتني ، دون أن أقصد ، فريسةً ، لوقت الحاجة ، لسخريتها التي تقطع بها مرضها ، وهيأت لها ذريعةً لمضايقتي .
كانت رغبتها في إضحاك الجميع عليَّ لا تنتهي ، خاصة في وجود أبي ، كانت فيما بعد تبادرني في أي وقت قائلةً وهي تحمل في جيب وجهها غابة من وجوه الأطفال :
- محمد ، نحجي لك ؟
وأصيح ، بعد أن أسرف الطقس في التكرار ، بصوت محتقن بالرفض :
- لااااااه !
مع ذلك ، وبرغم نفيي العصبيِّ الرغبة في سماع حكاياها ، أو بفضله بالتأكيد ، تستأنف وعلي وجهها فائض من الضحكات الحقيقية :
– مقطف رقيق رقيق .....
ويضحكون ، وأبكي ، ويحتد إيقاع ضحكاتهم ، فأبتعد عن الحيز الممكن لأي حماقةٍ موجعةٍ من أبي ، وأقول مكايداً :
- يا أم صليل !
تزداد مساحات الضحك اتساعاً .
للذهب هذه المرأة ، لا شك أن موقدنا العائليَّ أحرز بموتها أكبر خسائره علي الإطلاق ، لقد كانت القامة الطويلة ، والوحيدة ، التي تستطيع أن ترجَّ نزوات أبي فتتساقط من ذهنه قبل تفجيرها تماماً .
كان قد مضي علي رحيلها عقدٌ وبعض العقد حين عدت في إجازةٍ من أسيوط ، ذات ليلةٍ يبدو أنها كانت خالية من الأحداث أيضاً ، فلقد حطَّ أخي بهاء ، الذي كان يطارد عامه السابع في ذلك الوقت ، بقرب تعبي ، كنت أعرف أنه يحبُّ حكاياي ، ربما لأني ، بفضل غابة من التجارب السابقة ، تجسست خلالها علي رغباته ، كنت أستطيع إبهاره تماماً ، وكنت أحني رؤوس الكلمات لكي يستطيع ذهنه أن يمرَّ ببساطة تحت أقواسها .
– حجي لي !
لا أدري ما الذي دفعني في ذاك الوقت إلي الرغبة في تقييم طفولتي ، ربما متاعبي ، وربما كان شكي في رجاحة عقلي تحت ضغط من شكوك الآخرين ، تعقيباً علي رفضي الذوبان في تسريحة القطيع المرتبكة ، ربت علي ظهره وأنا أقول بصوت منغم :
مقطف رقيق رقيق ، والكلبة تحلق فـ الطريق ، والكلبة عايزة البتاوة ، والبتاوة فـ عين الفرن ، والفرن عايزة المحساس ، والمحساس عند النجار ، والنجار عايز البيضة ، والبيضة فـ ضهر الفروجة ، والفروجة عايزة الغلاية ، والغلاية فـ الجرون ، يروح يجيبها بهاء بسبع قرون .
لم تكن لديَّ أدني فكرةٍ عن أثرها في نفسه حتي قال في ضيق :
- حجي لي حجيوة عصفورة وقمرية !
أغرتني هالة التوتُّر التي سوَّرت وجهه فجأة ، أن أربت مجدداً علي ظهره ، وأقول بصوتٍ منغم :
مقطف رقيق رقيق ، والكلبة تحلق فـ الطريق ، والكلبة عايزة البتاوة ، والبتاوة فـ عين الفرن ...
قبل أن أتمَّها ، انزلق بهاء من فوق السرير ، وخرج في منتصف دهشتي تماماً ، ثمَّ سمعت بعد قليل صوت ارتطام صغير بالباب ، لقد أصاب الباب حجرٌ صغير ، نهضت أستطلع الأمر ، وتفاديت حجراً كان في الطريق إلي الباب ، ثم .. أضحكني كثيراً أن أجدَ بهاء ، قد ملأ حجره بالحجارة ، ووجد التعبير عن غضبه في استهداف الباب ، أو استهدف أوَّل الأمر انتباهي إلي خطأي بجلد الباب ، وعندما رأي ضحكاتي ، تفاقم غضبه ، ثم استهدفني تحديداً وبعنايةٍ شديدة ، حتي أصابني حجرٌ أمطر في أوجاعي مباشرة .
أدركتُ أن طفولتي كانت تسير في طريقها الصحيح .

(7)

كان أبي عنيداً لا يقبلُ النقد ، ولا يرضي بأيِّ مقاربةٍ لا ترضيه . وأتذكَّر أنني ، وإخوتي ، كنا دائمي الشجار معه حول مائدة الأعوام الأخيرة من حياته .
ليس شجاراً بالمعني الشهير للكلمة ، وإنما هو عتابٌ جارحٌ لا أكثر ، يواجه إلغائه بمجرد أن تتسع المساحات البيضاء من عينيه المنوطتين .
تخرج العينان عن إطارهما أحياناً وترميان بالشرر ، يتغلغل الذعرُ في شغافنا بتصرفات مرتفعة ، ونخبئ ذعرنا بمأمن خلف صمتنا أحياناً ، وخلف انسحابنا من هامش الحلبة العائلية في أغلب الأحيان .
نستعيد بعد قليل صلابة أطرافنا ، ونتحالف علي ترقيع فشلنا باعتزاله ، لا نكلمه ، ولا نشاركه الطعام ، ثمَّ .. لا يكترث لنا .
له أساليب عقابه أيضاً ! .
في مثل تلك الأيام كان يكايدنا ، ويعمل بكثافة شديدة ، علي انهيار حلفنا الاعتباطي ، كان يستعين بما أكسبه التجسس علي رغبات أطفال الحلف بمرور الوقت ، ويشتري بإفراطٍ كلَّ ألوان الطعام التي يعرف أنها اختياراتهم الأولي ، ودرأً لانهيار الحلف ، كنا ننخرط في المنافسة إلي مديً أبعد .
يالألاعيب الصبيان !
وفي مثل تلك الأيام ، كان إسلام يزداد ، بمقارنةٍ بسيطةٍ بين ألوان الطعام علي المائدتين ، إحساساً بالائتلاف الذي ينبغي له أن ينضم إليه ، ولذلك كان بهاء يضربه في حسدٍ واضح ٍ وهو يقول له :
- إنتا مع اللي طابخ ، يا بطيني !
وفي مثل تلك الأيام ، كانت جدتي تنحاز إلي أبي علي الدوام ، وفي بعض محاولاتها للتهدئة التي تتواكب عادة مع وجود إسلام علي مائدتنا ، كانت يدها تتسلل أحياناً إلي الآنية بلا خجل ، وبوضوح أكثر مما ينبغي ، وكنا مرغمين علي معاملة أعوامها السبعين وبعض العقد ، معاملة إسلام !
وفي مثل تلك الأيام كانت أعباء أمي ، الواقفة علي الدوام ، في منتصف المسافة بين الفريقين ، تتضخم بوضوح ، ويصبح ذهنها مشتتاً بين خدمة أكثر من مائدة ، تبكي أحياناً ، وبرغم هذا ، لم تسلم من الرجم بالتواطؤ من الفريقين والنقمة .
هي حزمةٌ من الآثام قد التصقت ، بلا مشروعية ، بيومياتنا ،
وهي حزمة من الآثام قد التصقت ، بلا مشروعيةٍ ، بيومياتنا ، تعقيباً علي تعاطي أبي الأفيون بشهيةٍ تتضاعف وتيرتها أسبوعياً .
وتعقيباً علي تعاطي ذلك المتطلب ورحيق الحنظل كانت الطريق إلي بيتنا تهبط تدريجياً ، وتنهار عضلاتها تدريجياً ، حتي كان في النهاية ، يلزمنا كلِّ يوم بذل المزيد من الجهد للخروج إلي ضوء الشارع الأول ، وذلك الهبوط التصاعديُّ ، جعلنا نشعر أننا نسكن قبواً لا بيتاً ، لكن القبو انخرط في سرِّنا .
وانخرط في سرِّنا العمُّ عبدالباسط أيضاً ، لم يتمكن من الاطلاع علي أعصاب قبونا العارية سواه ، ولم يكن أحدٌ سواه يستطيع أن يقتحم قبونا اقتحاماً ، حتي أصحاب الدم الأكثر قرباً ، كان الرجل يلمس ذلك العمقَ الأليف لحبنا الهائل السعة له ، وكنا نستطيعُ أن نثق في حبه لنا تماماً ، وكان إلي مدي بعيد الوردة الطليعية في أحواض صباحاتنا ، اليتيمة أيضاً ، إلي مدي أبعد ، ويجدنا غالباً في انتظاره ، ويصبح صباحنا فاكهةً للأغاني ، وهذا المساء ذهب .
وجد أبي ذات صباح ٍ شديد العصافير ، عاكفاً علي قراءة سورة الواقعة ، لدرأ الفقر كما تقول الأسطورة ، فاهتزَّ جسدُه بفعل استحواذ الضحكات ، وكأنما كان يركب جملاً مسرعاً ، وضحكنا مبكراً ، وصاح هو من بين ضحكاته :
- والله ما تقرا ألف واقعة ، بردا الفقر وراك وراك !
احتدَّ إيقاع ضحكاتنا ، وتقاطعت الأحرف في حلق أبي ، وفشل في السيطرة علي ضحكاته ، وتوقف عن القراءة ، وأطلق العنان لضحكاته الحرة ، وهوينحِّي المصحف جانبا ، واستأنف العم عبد الباسط :
- عايز تغني وتسيِّبني ، لا يا حبيبي ، أبحمد – كنية الفقر في الدومة – ، ولد أصول ، مش عيسيِّب صحابه واصل !
استعاد الضحك عنفوانه من جديد . وعيوننا دموعها .
لكن برغم شجارنا معه ، وأقسم علي هذا بالعطر ، كنا نتألم كثيراً عندما كنا نراه ، يتنفس كحيوان ضاق به المكان ، لفشله في الحصول علي الأفيون ،إن كان لنقصه في السوق ، أو لعدم وفرة المال اللازم لشرائه ، وعندما نراه يعدَّ البنَّ المرَّ ليسكت به حاجته الملحة للأفيون أيضاً .
وأتذكر أنَّ أمي خلف نوبةٍ من نوبات عتاب الأفيون تلك ، انتحت بي بحيادها القاسي جانباً ، وهمست لي :
- امبارح قال لي أنه عيتسيَّر بالقوة ، وأنه خايف يكون عنده زي اللي كان عند المرحوم عصام !
اتهمتها في همس عصبيٍّ بالتواطؤ أو السذاجة ، واحتدَّ إيقاع عصبية الهمس حتي تحول فائضٌ منه إلي صوتٍ مرتفع وأنا أقول :
- كل رجالة الشقِّ الغربي ، كل رجالة الدومة ، خايفين يكون عندهم زي اللي كان عند المرحوم عصام !
كان الخوف في تلك الأيام من مصير يتَّحد بمصير عصام ، يكاد يكون رياضة الدوميين المحلية ، علي أنه كان هائل السعة إلي درجة العدوي ، وكنت أستطيع أن ألتقط رائحة الأدرينالين في كلِّ مكان .
برغم هذا ، وربما بفضله ، انتبهت عيناي متأخرتين ، إلي نحافة أبي الطارئة .

(8)

لقد اقترفتُ سلة من الساعات مع بودلير ورائعته الجنة الزائفة ، والشرف هنا يتنحي جانباً ، فإنَّ بودلير ، بالنسبة للإنسانية ، ممر صادقٌ نحو اكتشاف الذات ، ضرورة أيضا لابدَّ من الانزلاق في شرخ جمالها ، وعسرها أيضاً ، فقارب ذهني مفاهيم كنت أهملها فيما سبق ، وانحسرت أرعي يقيناً .
كان أبي يعيش بيننا علي الحافة ، لم تتسع أصصُ عالمنا الكريه لأن ترتجل له جذراً ، وإن ارتجلت له أطرافاً بفعل استحواذ تسع من حماقاته المؤدية .
لكن زهرة الأفيون الرقيقة ، استطاعت أن ترتجل له عالماً خاصاً ، يستطيع فيه أن يرتِّبَ مشاعره وفقاً لمشيئته الخاصة ، وبعيداً عن رقابة الآخرين ، وهذا هو الأهم ، فقط يلزمه الصعود علي درجاتها .
كان أبي كالمسيح إذن ، عالمه خارج هذا العالم تماماً .
الفارق الرحبُ هو أنَّ أبي لم يغلف عالمه السلبيَّ بالرمز ، لتطير طرقُ الرمز ، ويتحقق وجوده ، ويمتدّ ، والفارق الوحيد هو أنَّ حوارييِّ أبي كانوا قد رتَّبوا قناعاتهم علي التعايش مع تراث الرمل تماماً ، أو اعتادوا ، مهما ادعوا ، ألا يقروا بوجود شئٍّ غير الذي يرون ويلمسون ! .
(9)

تترك الخالة " بهجة غرابة " باب بيتها في الجيب الشرقيِّ من الدومة مشرعاً ، وتأتي إلي ساحة بيتنا في وقتٍ مبكِّر جداً من النهار ، حتي أنه متأخرٌ جداً من الليل ، مرةً كلَّ عام ، رحلة موسمية انهار بموتها ، جمالُ طقوسها بتصرفاتٍ مرتفعة .
كانت أمي التي تتوقع بالتجربة ريقها المسائيَّ ، تستيقظ مبكراً لتعدَّ لها الإفطار عن طيب خاطر .
بمجرد أن يحتدَّ نباح الكلاب الصيفيُّ ، وتبدو واضحةً ارتطامات أقدامها القصيرة بأعواد الذرة ، تنادي من داخل بيتنا بصوت ركيك نوعاً ما :
- خالة بهجة !
وسرعان ما يعلن صوتها الخائف تحققها ، وتفتح الباب أمي ، وتختبئ الخالة بمأمن خلف باب بيتنا حتي يتمَّ الضوء دوائره .
كنت أعرف أنَّ أبي لابد أرسل لها في العشية الفائتة رسولاً ، يخبرها بأن مظانَّ الذرة من مساحات أرضنا قد أتمت عطائها ، وأنَّ جِمالنا قد نقلت أعوادها إلي ساحة بيتنا ، وأنَّ عليها الحضور لمساعدتنا في تحرير كيزانها من أغلفتها الجافة جفافاً اعتباطيا ،
كنتُ أدرك أيضاً ، أنها لابدَّ تدرك تماماً ، موعد طقسنا الحوليِّ ، ولكن بروتوكول الاستدعاء جزء أساسيٌّ من معادلة الرحلة .
كانت هي تميمة ذلك الطقس التي أمَّنت له الصمود أمام اكتفاء الكثير من بيوتنا ، تعقيباً علي سفر الكثيرين من رجالنا إلي دول النفط ، وارتفاعها عن الحاجة عن سلةٍ ممتلئةٍ من كيزان الذرة يعودون بها بعد يوم مرهق من العمل ، ولذلك كان أبي يضبط موعد التقشير علي احتمال مجيئها من عدمه .
لقد كان الكثيرون يأتون فقط للتمتع بما تجيد هي العثور عليه من المضحكات في الظلال السهلة ، هولا يسلم تماماً من التكرار الموسميِّ ، هذا صحيح ، ولكنه يكتسب ، بما تضيف إليه هي من شخصيتها المتجددة كلَّ مرةٍ ، نقاطاً إضافيةً في مقاييس القلوب المفعمة بآلام الفقد ، وآلام الشوق إلي من ابتلعهم يقين الاغتراب ، للسكينة القليلة ، القليلة .
ما إن ينتظم عقد المقشِّرين حتي تزداد النظرات إلي هدوءها الصناعيِّ استنكاراً ، فجأة ، تتصيد لحظة تختارها بعناية ، تتواكبُ عادة مع تكدس أعواد الذرة المخلاة بجوار المقشرين بما يتَّسع للولد عصام ، والعم خيري أبو همام ، والعم عدلي بظيو ، أن يبدأوا العمل المنوط بهم ، وينقلوها في حزم ٍ، علي سلم من الخشب ، إلي سطح بيتنا ، وتقول بصوتٍ مرتفع :
- وعايزلو فتلت صوف !
وأمسك بالملل يتبدد ، وتنبسط الوجوه ، وتهتزُّ أعواد الذرة في الأيدي المرتجفة بفعل استحواذ الضحكات ، ثمّ .. وكأنما انهار وعيها ، واختلطت في ذهنها الحقائق بالأوهام ، تردد كالمجنونة ، وبصوت منغم ، كلمات احتفظ بها ذهنها من مسلسل قديم ، أكاد أتذكر أنها كلمات من إطار شخصية جسَّدها الفنان علي الغندور :
– ياسيدي دفتر وكراسة ، يا سيدي دفتر وكراسة !
يحتد إيقاع الضحكات ، وتردد هي نفس الكلمات بإيقاع مغاير :
- يا سي دي ، دااا فتر ، وي كوراسة داا فتر ، يا سي دي .. !
ويشتعل الهواء مكاناً أفضل للعيش ، ثم .. تضع يدها مفتوحة ومنحرفة خلف أذنها كالمقرئين وتصيح :
– البت قالت لابوها ولا اختشت منِّيه ،
يبايا توب الحيا بان . والنهد بان . منِّيه !
ويسري الجنون من نفس إلي نفس ، ويتوقف العم خيري أبو همام عن العمل فجأة ويصيح :
- يبي يبي يبي يبي !
وتستأنف هي جنونها المدبر :
- يبايا زرعك الوخري طاب ، لمّو
يتوقف الولد عصام عن العمل فجأة ، ويمسك سريعاً بطرف الموال :
– لاحسن عيال الأواهر ، يقطفوا وردو ، ويعوِّلوك ، همّووو ، يا بووووي !
تشاركهم الضحكات الجنون ، فيتوقف البعض عن العمل تماماً ، يظلُّ العم عدلي بظيو داخل اتزانه المزمن تماماً ، وتتباكي الخالة بهجة فجاة ، وتصيح نادبة :
- وزرعنا الحنة ، وكترت لحزانيييي ، إهه إهه إهه ، وووووووووووه !
يتداخل عصام سريعاً مع حالتها :
- كان بدري عليك يا قنيَّان ، سيَّبتني لمين يبايه ، يا بووووووووي !
تنفجر الضحكات ، وتفلت من جدتي خيوط السيطرة علي تماسك العمل ، وتضطر ، دفعاً للانهيار إلي التدخل :
- بهجة ، خليك فـ حالك ، وخلي الأنفار يشتغلوا !
تزداد العيون تطلعاً ، كان يطربون لأيِّ سخرية تطال جدتي ، كانت العضلة العصية التي تدرأ الطامعين عن أشياءنا ، ولا تخيب الخالة بهجة عادةً أملهم ، وتنظر إلي جدتي في ازدراء مدبر وتصيح في تهكم :
- ها ها هأ ، ها ها هأ ، مين ؟ نورا ، يا سيدي نورا ، يا عيني نورا ، والعفشة نورا ، وعايزالها فتلت صوف ! .
وأري الأعواد ترتجف في عصبية مع إيقاع الغناء ، وأري عصام ممسكاً بعود من الذرة ، رفعه بإحدي يديه إلي الأعلي ، وانخرط في الرقص .
وأري جدتي تخبئ ضحكاتها في جيب طرحتها ، وبعينين دامعتين ، وبصوت مكدس بالضحكات تقول لي :
– يا واد روح عيِّط أبوك !
لا أذهب ، ولا ينهار السامر ، كانت تعرف ، وكنت أعرف أن أبي ، حتي لا يقمع حرية هؤلاء المتعبين ، يفضل في ذلك اليوم ، مراقبة الطقس بكلِّ جوارحه من البيت ، ويشاركنا ضحكاتنا أيضاً ، ويبارك جنون الخالة بهجة والآخرين .
وأنه سوف يجئ بمجرد أن ينتهي العمل من تلقائه ، ليوزع أجور العاملين ذرة ، وسوف يخص الخالة بهجة بكرم ٍ إضافيٍّ ، وإيماءةٍ ضروريةٍ لتستمرَّ الرحلة .
وأنا أستعيد الآن حداثة تلك الصور يدهشني كثيراً أنني كنت أبكي بعيون حقيقية ، إذا لم يعاملني أبي كالغرباء ، فلا يعطيني أجري من الذرة ، يدهشني أيضاً تلك السعادة الممتلئة التي تستحوذ عليَّ عندما يستأنف كرمه ، ويعطيني أكثر من حقي .
أنتبه الآن .. أنه كان يخدعني بتظاهره بالإسراف في الكرم حيالي ، لقد كان يعرف بالتأكيد الزائد عن الحد ، أني عما قليل ، وبعد أن أعرض ممتلكاتي الخاصة من الذرة علي أمي ، والصبيان ، سوف أتسلق السلم الخشبيَّ ، وسوف أجد سطحنا قد أصبح جزيرة حقيقية من الذهب الأبيض ، مسورة بأعواد الذرة الخضراء الفارغة ، وسوف ألقي بممتلكاتي بين ممتلكاته .
أعتقد أنَّ لموت الخالة بهجة ، نبضٌ أكيد في انهيار ذلك الطقس ، أو ربما بدقةٍ أكثر انهيار جماله ، فإنَّ الطقس لا يزال قائماً ، ولكنه يتم بآليةٍ ركيكة ، مجرد عمل .
لا أدري هل إحساس الطفل بجمال الأشياء الضخم تعقيبٌ علي إسقاطات نفسه البسيطة . أم أنَّ الندرة ، طالت الجمال حقيقةً من تلقائه ، وأن السعادة للطفولة فقط .
ياحقول الذرة .. يا ماضي أبي المجيد ! ..

(10)

أستعيدُ عصام ، فيغلِّف الألم إحساسي تكريماً لذكري عصام ، ويطير الاسمُ كاليمامة في ريش ذاكرتي ، وأشعر أني تسلَّلتُ إلي قافيةٍ من الشفق السحيق وافرة الشجن ، ويكتظ سطح ذاكرتي بغابةٍ من الصور الواضحة الأخاذة ، للبهجة في أسنِّها ملامحاً نبضٌ أكيد ، ونبضٌ أكيدٌ لمتون الألم الطليق في الطازجة الملامح منها تماماً .
ولأنَّ الصور هي ، قبل كلِّ شئٍّ ، كلماتٌ مرسومة ، يصبح الباب الوحيد ، بالنسبة للخيال ، لأيِّ محاولةٍ لرسم عصام بالكلمات هو ذلك الملمح البارز في شخصيته القريبة القاع إلي مدي بعيد ، ظرف عصام ، وكلِّ الدروب بعدُ لا تصل ، إنه المحور الذي تدور حوله في كلِّ أطواره .
من كان يري عصام سوف يجده تعبيراً حقيقيا بشكل متحيز ، عن أفكاره السابقة عن جحا .
كان من القلائل .. القلائل جداً ، المطبوعين علي الظرف ، وإذا كان السيد جحا قد احتمي بمأمن ٍ خلف اسم ٍ انتحله في كلِّ صقع ٍ تسلّل إلي تراثه الساخر ، فلقد احتمي في تراث الدومة الساخر خلف اسم " عصام أبو قنين " .
وكانت غرابة اسم أبيه ، يدعمها جهله بالعلاقات بين الأحرف ، والأرقام أيضاً ، مدخلاً ملائماً إلي الكثير من نوادره .
كان كلَّما ذهب إلي جهة حكومية ليستخرج مستنداً رسميِّاً يرشد انتباه الآخرين إلي وجوده ، ارتطم بخطأ أذني الموظَّف في التقاط اسم أبيه صحيحاً ، ربما استيعابه بدقةٍ أكثر ، فموظف يكتبه عصام جنين ، وآخر يكتبه عصام جميل ، وثالث يكتبه عصام جنيه ، ويستأنف الآخرون كثيراً من الأخطاء البسيطة ، والمبررة أيضاً .
واهتدي بغريزته إلي حلٍّ ركيك ، لقد احتفظ بورقةٍ ، كان قد استكتب عليها أحد المعلمين اسمه كاملا ، وبحروفٍ شديدة الوضوح ، وكلما ترصد لموظفٍ ، سأله عن اسمه ، أخرج الورقة من جيبه ، وبسطها أمام عينيه صامتاً ، وسداً لكلِّ الثغرات ، كان يستبدل الورقة القديمة بأخري جديدة كلما بهتت الحروف علي سطحها .
ولكن ذلك الحلّ الذكيَّ – بالنسبة لعقل عصام طبعاً – ، لم يسلم بالطبع من المقاربات المباغتة لكلِّ الوقت . قال له موظف مرة ، وهو ينظر إلي ورقته مأخوذاً :
- عصام مين ؟
وأجابه في عدائية :
- ارسمها !
كان اسم أبيه جرحاً يكابده ، وتناسلت في دم هذا الجرح ، الكثير من سخافات الآخرين ، مساوئ الحرج الذي طاله كثيراً أيضاً ، وتقاطعت في ذهنه فكرة ، وأطلَّ وجهه الشتائي علي قوميِّتنا الصغيرة حول الموقد العائليِّ ذات ليلة ، كان جمال الخاطر الذي ارتاح إليه واضحاً علي شتاء وجهه ، وقال مخاطباً أبي قبل أن يكمل دوائر جلسته ، ودون استهلال ما :
- عم رفعت ، عايز نغير اسم أبويا !
وسورت هالة ٌ من الضحكات دفئنا ، وسحب أبي قطعة مشتعلة من الخشب من طرفها البارد إلي الوراء قليلاً ، فأسكت اللهب قليلاً ، كان أحد أساتذة النار برهافةٍ بالغة ، تلك الموازنة بين حاجة الأجساد الباردة وقوة اللهب ، انعدام الدخان أيضاً ، ثم صدمه صدمة ميسَّرة ، هو لا يستطيع ، علي حد علمه ، أن يغيِّر اسم أبيه ، المرحوم أبوه فقط لو كان حياً ، وكان أبوه حياً أيضاً ، وخاصمه أمام القضاء ، ورجح القاضي حجته ، متاهة صلبة ، تبدد البشر من وجهه سريعاً ، وفتر حماسه ، وتساءل بانكساره الحاد :
- والحل ؟!
التقط العم عبدالباسط بسرعة أكثر مما ينبغي ، خيط انكساره ، وقال في شماتة واضحة :
- إنتا تروح الجبانة ، وتخلي المنتول أبوك ، يرفع قضية عَ المنتول جدك !
ضحكنا ، ولم يشاركنا ضحكنا ، وعرفنا من نظراته الجادة إلي ألسنة اللهب الواطئة أن عقله يعمل ، رفع رأسه بعد قليل وتساءل :
- ومين حيحكم له فيها ؟ .. سيدنا جبرين ؟!
حاصر النار شلال من الضحكات العصبية ، وقليلٌ من الذنوب أيضاً .
كانوا ،لا كان موتهم ، يجيدون العثور علي السخرية في أكثر الظلال صلابة .

(11)

كان لابدَّ أن أذهب بأبي مرة أخري إلي طبيب أثقُ في شهرته أكثر ، ربما كنت أرغب في أن أشحن حيِّزاً غامضاً بأمل ٍ ركيك يحطُّ بقربي ، ويتوحد بالنبض العالق بالمأساة ، ليتحقق وجوده ، كانت رغبتي كافية ً لانخراطي في اعتبارها تتحد باليقين .
أردت أن أجعل من أمر تلك الرحلة سراً مغلقا ، أخفيه في أعماق ٍ سحيقة ، كنت أضيق حقيقة ً بأولئك المتزاحمين حول مرض أبي إلي حد بعيد ، وفضولهم العاري أكثر مما ينبغي ، وكنت في الوقت نفسه ، حريصاً علي التماهي معهم تماماً .
تسللنا بمجرد أن أضاءت الشمسُ حوضَ الصباح إلي السيارة التي تنتظر في جوف الطلل ، العصارة في الدفاتر الأقدم ، الحوش أيضاً في الدفاتر الأكثر قدماً .
ما إن أتمَّ أبي استقراره في مقعده ، حتي توافدوا كيفما تشاء الوشاية بتصرفات مرتفعة ، كان واضحاً أنهم يتوقعون الرحلة ، كانوا داخل أهبتهم تماماً ، وانخرطوا في سرنا ، طعنتُ عينيَّ في لحم الصباح صامتاً .
كان ، د. محمود مصطفي ، ربما لعلاقة ٍ سابقةٍ ، وعالقةٍ ، ربطتني بأفقه المستدير ، والمنعزل ، كريماً ، لقد سمح بدخولنا دون التقيد بأسبقيةٍ ما .
رفضت ، في تذمر عصبي أن ينخرط في السر الذي سوف يدور في غرفة الطبيب حول مرض أبي سواي ، وفيما بدا أنه اندفاع وراء الحرص علي التماهي معهم ، منعت حازم من الدخول أيضاً .
أتمَّ أستاذ المسالك البولية دوائر قلقه منذ الفحص الأول ، وأعاد الفحص علي عجل ، ثم انتحي بي جانباً ، وعينا أبي تلاحقنا وقلبه ، وأكد لي بالإنجليزية أنه السرطان .
تلك اللحظة التي تخترق فيها الكارثة القلب والعينين .
هنا فقط يبلغ الألم ذروة النقطة ، ثم يبدأ في الهبوط تدريجياً إلي القدر الذي يكفي عادةً لأن انطباعات السلوي تعمل ، وأصابني تحت ضغط الألم ، وانهيار الأمل ، غباءٌ مفاجئٌ ، وسألته تفسيراً للغزه ، أخلي وجهه من أيِّ تعبير سوي الرثاء . وتمسك بالصمت القاتل ، أفقتُ من غيبوبتي الركيكة ، وتساءلت بلغة هذيل :
- ممكن يكون حميد ؟
تنبهتُ إلي سخافة الكلمة قبل أن تذوب علي شفتيَّ ، إن الصواب يتنحي جانباً لمجرد انزلاقها في شرخ الحديث عن ورم ، وهو يؤكد أنَّ شكله شجريٌّ ، وأنه في مرحلة متقدمة ، لقد تأخرنا في اكتشافه كثيراً .
اتهم الكثيرون الأفيون فيما بعد ، بتعمية إحساس أبي عن ألمه السري ، أو إضفاء نوع من الأصداء الأليفة علي وخزات إبره الأولية ، وهذا اتهامٌ خاطئ تماماً
فإذا كان اكتشاف أبي المتأخر لمرضه تعقيباً علي تعاطيه الأفيون ، فما الذي أخَّر اكتشاف الورم المتجذر ، عند المرحوم عزي أبو عيسي ، والمرحوم عبد العزيز أبو محمود ، والمرحوم هنداوي أبو اسماعين ، والمرحوم عثمان أبو موسي ، والمرحومة حميدة ، والمرحوم وليم أبو عبد الشهيد ، والمرحوم محمد أبو شاكر ، والمرحومة فتيحة ، والمرحوم عصام أبو قنين ؟ .
إن اكتشاف الورم بعد فوات الأوان يكاد يكون تقليداً يجثم علي الدوميين جثوم العادة ، ربما لأنهم لا يذهبون إلي الطبيب إلا بعد أن يعطِّل الورم وظيفة عضو من الأعضاء تماماً ، فيصبح الألم فوق الطاقة .
اتجه الطبيب نحو مكتبه ، ربما لينهي كلَّ جدل حول تفاصيل تافهة ، هو أشبه بالدق علي الماء لا أكثر ، وأوصاني ، وهو يدون خطاب تحويل أبي إلي مستشفي سوهاج الجامعي ، كخطوةٍ أولي سوف تضئ لنا خطواتنا القادمة ، بضرورة تفجير سلةٍ من قِرب ِ الدم في جسده الشحيح بأسرع وقت ممكن .
نظرت إلي أبي فوجدته مأخوذاً ، ذابت فجأة كل الغيوم علي جسده تماماً ، لكنه كان يخبئ جسداً بديلاً في جيب جسده ، سوف أعرف هذا في الدقائق القادمة .
في طريق العودة كنت أحاول الانسحاب من المشكلة ، لأنني لا أقف علي مسافة كافية من نفسي ، وأحسست بالعاصفة تهب بخشونةٍ علي ذاكرتي ، وامتلأت كثيرٌ من الأخلاط الضامرة ، وطفت في إلحاح ، وتصدرت سطحها مفردة "حميد" القريبة العهد ، وتساءل ذهني عن السبب الذي جعلها تلتصق بلا مشروعيةٍ بورم أياً كان حجم ضراوته ، ربما أفتي البعض أنها من باب التفاؤل لا أكثر ، كما يسمون الصحراء "مفازة" تفاؤلاً بالفوز بالنجاة من الانزلاق في شرخ قسوتها ، وهو تساهلٌ محض ، ليست الصحراء كالسرطان قسوة ً، وإن كان سهلا .
تلك اللحظة التي تخترق فيها الكارثة القلب والعينين ، وليس جمال الدمع الإفراط ، واستدرتُ ، ونظرتُ في عيني أبي ، فلم أجد فيهما سوي بريق ٍ مرتب ٍ في النظرة ، يتخلخل أحياناً ويمرُّ منحنياً تحت أسيجةٍ غامضة ، وغلَّف الألم إحساسي لعزوفه عن الصمت ، بل انحيازه إلي كسر صمت الآخرين الذي يصعب تحديده بشكل ٍ لافت ، ضحكاته المتداعية من سقف حلقه كجنازة سرية ، لقد ابتلعته انطباعات السلوي مبكراً ، أو هكذا خيل إليَّ ، تعبيراً عن غابة من التعبيرات التي تتزاحم علي وجهه في تلك اللحظات ، لا أعزل الحزنَ من بينها .
لم أكن أتصور أنه يدخر كلّ تلك القوة لمثل تلك اللحظات العصيبة ، غابة من جوانب شخصيته السرية تزاحمت علي الضوء في عيون الآخرين ، غير أنها تنحت تماماً أمام جوانب شخصيته الأصيلة بمجرد انفراده بالذين يخصونه ، وبمقدوره أن يمارس عريه تحت سطح عيونهم ، ويبتكر بعفوية عذاباتهم .
ربما كان خائفاً ، لكن الألم والاضطراب حجباه كلياً عن خوفه ، كأنما ارتفع فوق نفسه يراقب نموَّ ذعره علي أعوامه الستين ذاهلاً .
تصورت أني أضع حزني بمأمن ٍ خلف صمتي ، ولكنَّ رجلاً في السيارة صاح في غضب ٍ يصعب تحديده :
- الدكتور مش ربنا ، الدكتور دا سبب ! .
أدركت أن حزني كان عارياً ، وأن الآخرين كانوا يتوقفون فوق الجذور من قبل ، ويدركون كلَّ شئ ، بحثت عن تعقيب ٍ لائق ٍ فخذلني ذهني ، ماذا تفيد تعمية الآخرين عن مرض أبي الصلب ، وأبي نفسه قد أدرك كلَّ شئ ؟
رفض أبي منذ البداية إجراء جراحة مهما كانت ضرورتها ، رفض أيضاً أن يبحث البدائل ، أو يزن المجازفات ، بل مجرد الذهاب إلي المستشفي ، وكان صلباً ، لا يقبل النقد ، ولا تقبل مقارباته المد والجزر، وفتر خجلي قليلاً ، وحدثته عن ضرورة التماشي مع المستجدات لاختبار جسده القادم علي الأقل ، وسرت الحماسة العائلية من نفس إلي نفس ، فاتسعت المساحات البيضاء من عينيه المبتلتين ، وقال في غضب حقيقي :
- مطرح ما ترسي دق لها ، يعني خدنا إيه م الدنيا ؟ .
وأصابنا الخرس ، لم ينطق الرجلُ هجراً.
لمست في عينيه في تلك اللحظة تحديداً نظرة إسكاتولوجية ، لا تتمسك بهذه الدنيا ، وتري السعادة باعتبارها في الرحيل عنها ، لا تتوقف فوق ما يمكن أن يصيبنا من الحظوظ في هذه الحياة .
وافق فقط علي إمداد جسده ببعض الدم الشريك ، ربما فقط ، ليتابع بقية منعطفه الأخير بشكل لائق .
في ذلك الوقت تحديداً ، ربما لغرابته ، اعتبرت رفضه نوعاً من القوة لا الضعف ، فما جدوي الدوران في الفشل ، ما دام الحيز تحديداً مؤهلاً لخيانة الفريسة ؟ .

(12)

كان اليتم المبكر درعاً حمي أبي من البلاهة ، ولكن لم يحمه من الوقوع في مكائد العواطف المبتذلة ، ولا من تطلعات الذين يشاركونه شطر دمه الذكوري البعيد ، ويشبهونه أيضاً ، إلي إرثه الرحب ، الرحب بالنسبة إلي ضحالة ما يملكون طبعاً .
، وفيما بدا أنه حماية لأعشاش الحقد في صدورهم من استنكار الآخرين ، كانوا يروجون لزور ٍ يطال ميراثه ، ولا يتوقفون فوق الجذور لينظروا إلي الماضي البعيد ، ويرجمون بغابة ٍ من الشبهات أباه ، وعمه ، عقب رحيلهما بتعاقب ٍ غامض ٍ يكفي لجعل انخراط أيِّ أحد في الدهشة يعمل ، حزمة من الأسابيع العازلة أمنت لأبيه دخول مطلقه أولا ، روجوا أيضاً لعقاب إلهيٍّ لإساءة ما عظيمة ، كان السبب في موتهما ، وما زالوا ، واليوم لن أسمح بحدوث هذا ، فاليوم هناك أشياء كثيرة علي المحك .
ولقد تعتقت في جرة الفقد الهائلة السعة ، أحزان جدته بطول العمر ، وبعرض الحنين المرضيِّ ، حيث توقفت انطباعات السلوي إلي الأبد .
يروون لنا أن الجدة "عسكرية" ، قد سورت بعد رحيل ولديها حول طقوس حياتها الكثير من التابوهات الرائجة ، لقد آلت ألا تكتحل ، وألا تمشط شعرها ، وألا تلبي دعوة لحضور عرس ، والمدهش ، ألا تلبس حذاءاً حتي تلحق بفقيديها ، وأبرت ، برغم تلكؤها في الممر المؤدي إليهما غابة من الأعوام ، وربما بفضله ، وأقسم بالعطر علي هذا .
لقد كانت المرأة الدرع الأطول ، والأصلب ، الذي حصنت به القوي الإيجابية في الطبيعة يتمَ اليتيم لتؤمن له الحماية المنوطة ، حتي استطاع أن يحلّ تمائمه من تلقائه ، ويبتكرَ درعه العضليَّ الخاص بجهوده الخاصة .
لقد كانت المرأة عضلة هائلة السعة ، أسلمت الطامعين بانكسارهم الحاد إلي اليأس في الكثير ، وأسلمت المخاتلين الذين ينشطون ، أو يتظاهرون بالنشاط ، في مثل هذه الظروف ، إلي الحياد الكامل ، وأسلمت اليتيم إلي ميراث أجداده مخفضا بعض الشئ ،وهناك علي الدوام شئٌّ دقيقٌ للغاية ، ورقيقٌ للغاية يضيع .
كانت أمه أيضاً ، بإيماءة ضرورية ، درعاً إضافياً يتكئ علي غابةٍ من الدروع الذكورية العائلية ، ولدوا ليتشاجروا ، بل اتخذوا من تربية المعارك شعاراً عائلياً.
عمته أيضاً ، كانت ملجأً أميناً يتعهد ثباته حتي انهيارها المزري .
لقد أحببنه كثيراً . وهذا الحبُّ المسوَّرُ عليه ألحق بملحمته الضررَ أكثر مما أفادها ، وأعاق عثوره علي نقاط الانطلاق التلقائي سلة من الأعوام ، بل يمكنني أن أردَّ فوضي رغباته إلي ذكري هذه المرحلة ، لقد أسرفن في إجابة رغباته بكلِّ ما يعنُّ لهنَّ ، وأحطن أخطائه الصغيرة بتوترات المغفرة الطليقة . ولأمه النبضُ الأكبر في شرايين انحرافاته الطليعية ، لقد كانت تعتزل به في حوشنا إذا تعرضت له بالسوء إحداهنَّ ، ولو كانت أخته الوحيدة .
كانوا يؤكدون لنا إدمانه التدخين في عمر لا يصدَّق ، يزعمون سن السادسة ، وحتي وقتٍ قريب كان بباب بيتنا فجوة في أحد ألواحه أكدوا لنا أنها تعقيبٌ علي حجر قذف به الباب عندما رفضت جدته ، للمرة الأولي ، أن تشتري له السجائر .
هذا لا يمنع أنَّ بداياته الفردية كانت بكلِّ المعايير مذهلة ، فلم يكتفي بأن يسترد أرض أجداده كاملة ، بل ضاعف خلال حزمةٍ من الأعوام إرثه ، وتجاوز تراث العشيرة الفاشل ، وقوض بعض الأركان الركيكة ، وأمسك بجذور الأزمَّة العائلية بشكل ٍ رائع .
هذا نبه الكثيرين إلي نجمه اللائق فتعاونوا علي إطفائه مبكراً ، أو علي الأقل ، الحيلولة دون لمعانه أكثر ، وكان .
ويخيل إليَّ ، وأنا أقف الآن علي مسافة كافية من شخصية أبي ، وأقلب جوهرها الذي زاده الموتُ وضوحاً ، أنه لو تمكَّن من أن يجترح استبصاراته ، وأن يقدِّمَ مشروعه ، بعيداً عن رقابة القوي السلبية في الطبيعة ، لعمَّرَ تراثاً سمَّر اسمه فوقه يكترث لتعهده الكثيرون ، كانت يقظة ذهنه الشديدة للعلاقات بين الأرقام كافية لجعل الانخراط في الدهشة يعمل .
لم يعرض أبي شخصيته خارج الغموض الركيك إطلاقاً ، هذا جعله داخل تقديرنا تماماً ، وجعلنا نستطيع أن نرتِّب انزعاجاتنا الداخلية وفقاً لأي صدمة تتجاوز وجوده هو تحديداً ، وهذا أيضاً ، يدفعني إلي الظن المستدير بأنَّ وضوح الأب الممتلئ يشوِّه أعماق سلالته تماماً ، أو يصيبهم تدريجياً بالرخاوة الداخلية .
يخيَّل إليَّ أيضاً أن مساري الأزهريَّ تعقيبٌ علي مساره الأزهريِّ المبتور .
أخذني من يدي ، ذات صباح يتسكع منحنياً تحت قوس عصافيره الهابطة ، لم أكن بالطبع أدرك سبب الرحلة ، أو ما هي الأوراق التي في حوزته ، واقتحم بي بناءاً منتفخاً كالورم القديم ، وسألني الشيخ عن مذهبي ، نظرت إليه مشدوهاً ، ثم خمَّنتُ أنه يعني صفي المدرسي القادم ، وبصوت يخرج من خلال سخريتي السرية ، والسائلة ، من جهل هذا الشيخ بطريقة توجيه السؤال الشهيرة قلت مبتسماً :
- ساتة ابتدائي
قال أبي من بين ضحكاته :
- مالكي يا حمار !
لقد اختار لي مذهبه القديم أيضاً .
ثم خرج بالحمار إلي الشارع بعد أن قيَّده في دفاتر الأزهر ، وأخذ يسحبه في أزقة المدينة خلفه ، وصل الدرب أخيراً إلي مكتب الصحافة في قلب المدينة ، واشتري جريدته المفضلة التي ليس يزهد في طرحها أبداً ، وتسمَّرت عيناي ، فجأة ، فوق سلةٍ من الأحرف تفترش غلافاً جميلاً كزرقة قلب .
إنني أستطيع الآن أن أدرك أن النوايا المدبرة لا تؤدي علي الدوام إلي الهدف المعتني به تماماً ، وأن مسارات الكثيرين المحضة تنتج أحياناً عن تدبير وثبات الصدفة الحيوية .
وأشرت له إلي مسار تسبب له فيما بعد في الكثير من الألم ، أنا أيضاً ، وأعلنته برغبتي في حيازة الكتاب ، كان في ذلك اليوم سخياً إلي أبعد مدي ، ومشرعاً ، لكن حنانَ وجهه المدوَّر جادلني حول انخفاض مداركي ، واتساع الكتاب لمضايقتي ، وأنه لم يكتب من أجلي ، نظرت إليه كأنني ألومه علي هذه الإهانة ، كأنه يستهين بي كشاعر له قومية منتفعة من المتلقين الأطفال ، وأنهم معجبون كثيراً بأغنيتي التي سوف تغنيها وردة الجزائرية ، حبك يا حياتي عودني السهر ، وخلاني أبات ليلاتي أناجي القمر ، وسوف تصفق الجماهير !
تماسكت ، وتمسكت بمساري الخاطئ ، وأعلن سخائه ، فجأة ، وسأل البائع عن ثمن الكتاب ، تردد كثيراً في مواجهة السبع جنيهات ، كان المبلغ بحماية ذلك الوقت بالطبع ضخماً ، تابعت ضغطي ، فاشتري لي مخافة انفجار دمعي ، في ذلك الوسط المزدحم ، وغير المؤاتي ، رواية " أبو مسلم الخراساني " للسيد جورجي زيدان .
صدق توقعه تماماً ، لقد شعرت بالضيق منذ السطور الأولي للرواية ، وتملكتني رغبة عارمة في البكاء ، لكنني ، تحسباً لشماتته ، تظاهرت أمامه بالاستغراق ، وتقليب الصفحات ، وما تنطوي علي من الأغربة العصم وفق مدة معايرةٍ بلؤم شديد .
وفي ما بدا أنه ارتياب في حقيقة استغراقي انفجر ، فجأة ، في الضحك ، رج الخجل قامته في وجهي ، لكنني لم أرفع عن الأغربة العصم عينيَّ ، حتي حجبته الجريدة قليلاً ، فنهضتُ سراً ، ثم تسللت دون أن التفت ورائي ، وصعدت إلي سطح بيتنا ، وألقيت بالكتاب بلا مبالاة ، ونشطت ، فجأة ، ربما لأرمم جرحي ، للبحث عن كتابي المدرسي الحبيب ، والطيب ، " مغامرات عقلة الإصبع " .
لأعود إلي "أبو مسلم الخراساني " ، تقودني صدفة محضة ، بعد سلة من الأعوام .
كانت ملامحه قد شحبت كثيراً .

(13)

كانت جريدة " أخبار اليوم " هي اختيار أبي الأول ، لا تقاسمها عكوفه علي القراءة المتأنية بالاهتمام نفسه سوي تلك المطبوعات التي تتحدث عن كيفية تسخير الجان والعثور علي الكنوز والخبايا .
لا يمرُّ أسبوع إلا ويضيف كتاباً جديداً إلي مكتبته الغريبة هذه ، ليس للقراءة فقط ، بل لمطاردة الطرح العالق بها ، لكنه ، - وله الشكر- ، رفض منذ البداية أن يحاول أن يقتل بمساعدة خدام القسم خصومه ، وإن كان لا يمانع أحياناً أن يستعين بالجان لحبس بولهم ، وإشعال العداوة بينهم ، كنت أسمعه يردد أحياناً بصوت ٍ زاجر : الوحا الوحا ، العجل العجل ، الساعة الساعة !
ولقد سيطرت في أعوامه الأخيرة فكرة الكنز المؤجل علي أفق عقله بأكمله ، هذا دفعه كثيراً أن يؤلف سلة من العاطلين لاستنطاق الصحراء عن كنوزها ، في غيابٍ عن البيت قد يستمر أسبوعاً ، يعود في النهاية ببعض الحجارة العادية ، وكان ،ليفتت خجله ، ولتهدئة قلوبنا الثائرة أيضاً ، يدَّعي الخدوش الطبيعية علي سطحها كتابة هيروغلوفية ، ونتظاهر بالتصديق طبعاً ! .
لقد ازدادت وتيرة تلك الرحلات تدريجياً حتي لم يبق فوق دولابه موطأٌ لحجر ، ولقد مضي علي موته ثلاثة أعوام وبعض العام ، ولا نزال نتابع طرد أعشاشها من البيت دون جدوي ، لابد أن تتمسك أمي بالصبر قليلاً علي ما يبدو .
لم يكن به رغبة ٌ لأن يحصي كم من المال ، ولا كم من الوقت تبدد ، والكنز لا يظهر ، لقد كان هروباً من أنياب الواقع الحادة لا أكثر .
تلك المطبوعات التي تقتات علي تذكرة داود الأنطاكيِّ أيضاً ، وتآمر البالون وأصحاب الحدِّ الأدني علي تسميتها " كتب طب الأعشاب " .
كان يسألني أحياناً عن الإسم المعاصر ، وتناولات الصيدلة الحديثة لإكليل الجبل ، وخيار شمبر ، وتفاح الجن ، ولحم السقنقور ، والعديد ، وأجيبه بالطبع بمقاربات من صناعتي .
أتي يوماً من نجع حمادي يحمل كتاباً معنوناً " الثوم دواء اليوم " ، ودفعني ، بريق عينيه المنتظم خلال قراءته ، واستغراقه الممتلئ ، إلي الرغبة في أن أعرف هل هناك حقيقة في الظلِّ ، أم أن الأمر لا يزيد علي بالون مملوء بروث البهائم ، وانتهزت فرصة انشغاله بإعداد بعض الخلطات السهلة ، فوجدت رائحة الثوم ، التعبير عن قسوتها في كلِّ مكان ٍ في بيتنا ، وأدهشتني جرأة المقتبس علي الكذب الصريح ، بل المبالغة في صراحته إلي مدي بعيد ، بل الإحالة ، إلي مدي أبعد ، إنه يدَّعي قدرة الثوم علي الشفاء من السرطان فضلاً عن كلِّ الأمراض بالطبع .
كان الانطباع هو أنَّ الثوم أنفع للمرضي من مستشفي أم المصريين ! .
خفض من غلوائه ، وجعل الشفاء مشروطاً ، يشفي من السرطان بإذن الله تعالي ، نحيت المطبوعة التي لا تصلح إلا حكراً علي الخيار الأول لاستخدامات التواليت جانباً ، وأنا أعتذر لعينيَّ عن تلويثهما لبعض الوقت بذلك الروث البشريِّ .
إنَّ للكذب عادة أخلاقا .

(14)

تكسرت الشهورُ علي الشهور ، عادية حتي أنها خالية من الأحداث الممتلئة تماماً ، يبدو أن أبي راقب خلالها نموَّ مخاوفه من الانزلاق في شرخ المهانة ، وهتك أعراض بيوتنا .
لقد تزاحم رجال الجيب الغربيِّ من الدومة ، الخالي من المقاهي ، علي السهر في مقاهي الآخرين البعيدة ، وتبني قطعاناً من المآخذ المباشرة علي تهافتهم الركيك ، وتركهم أعصابَ بيوتنا عارية إلا من خفارة النساء وبعض العجائز ، وتبني أيضاً ، سداً لكلِّ الثغرات ، تعمير مقهي اعتباطي ، ككل مقاهي الدومة ، يفجرون بين جدرانه نزواتهم البسيطة ، ويكونون بين جدرانه في الوقت نفسه قريبين من كلِّ سطوحنا النائمة .
ورأينا في أحد الصباحات ، وفي منتصف بيوتنا تماماً ، ثلاثة أفرع من شجر السنط ، تنتصب كشواهد القبور ، تجاوز الرجالُ بجذورها قشرة الأرض السطحية ،إلي ظلمة الأرض الكثيفة ، تقاسمها فجوة ٌ ملائمة في جدار بيت الجد قنين الغربي ، أعباء حمل سطح من الجذوع الركيكة وغابة من أعواد الذرة الجافة ، حموها من أن تصير علفاً للرياح ، بالقليل من الحجارة علي سطحها ، الطين الثقيل أيضاً .
وانخرط الهدوء سريعاً في نومنا ، واختبأت أحلامنا الصغيرة ، بمأمن خلف أصوات الساهرين في حراستنا ، علي مقهي عصام أبو قنين .
كان اختياراً موفَّقاً ، ومعتني به تماماً ، فلم يمضي شهرٌ إلا واستدرج المقهي إلي جيبنا الغربي - لحراستنا الإضافية - الكثيرين من جيوب الدومة الأخري .

(15)

تغيرت ألوان الجدران ، وألوان الكلمات ، وألوان الأزياء ، وألوان الحاجات ، وألوان النجوم أيضاً تعقيباً علي سفر الكثيرين من رجالنا إلي تخوم بعيدة ، وثرية ، وازداد أهلنا بهمهمات الاكتفاء وعياً بأهمية المال ، لقد باشر الكثيرون تربية الكثير من الثروات اللائقة ، وبقي القلائل .. القلائل جداً يحرسون تراث العشيرة الفاشل .
تناسلت المقاعد الفارغة في كساد عصام ، وامتلأت نيته في نفس الوقت بضرورة البحث عن زوجةٍ ترتِّبُ له رغباته الآمنة ، وسلالته ، ووجهه القادم .
أصبح بعد سلة من الشهور الفقيرة أباً مؤجلاً ، لكنه ، وقبل أن يري الخيط الأول من سلالته أغلق المقهي وسافر إلي القاهرة للعثور علي الزاد في ظلِّ أعصابها العارية ، وتناسلت أيادي النساء في سطحها ، ليربِّين بأعواد الذرة نيران الأفران ، والكوانين .
كن يقفن بمأمن من الحجارة المتوقعة ، ويطعنَّ الحزم بجريد النخيل فتتدلي ، وتصبح علي ارتفاع ممكن لشدها دفعة واحدة ، الأطفال أيضاً ، حتي انهار تماماً .
طويت صفحة ذلك المنعطف من حياة عصام إلي الأبد ، وبقي تقليده المتزامن ، والخاص جداً ، في استدعاء سلالته حيَّاً في تراث الدومة طويلاً .
لقد أعلن المندهشين من حمل زوجته السريع بحيلته التي فطن إلي صلاحيتها للعمل .
إنه ينفخ في مهبل امرأته عقب كلِّ لقاء جنسيٍّ ، ثم يمسك بساقيها ، يرفعهما قليلاً ، ويرجُّ فجأة جسدها لبعض الوقت ، وهذا الجنون في اعتقاده الزائد عن الحد ، كان كافياً لجعل اشتعاله في متاعب السلالة يبدأ ، وهو ينصح الآخرين بتجربة هكذا جنون ، لتبدأ انطباعات الأبوة العمل سريعاً ، وكنت شاهداً علي نصيحته ، بل كنت شاهداً علي ميلاد ذلك التقليد الغريب ، بل استطعت أن أقتحم أعماقه ، وأمسك بجذوره تماماً .
لقد كان حالة ذهنية إلي مدي بعيد ، وربما وإلي مدي أبعد حالة الإيمان به .

(16)

يسافر الموجُ من صفر الطبيعة ، من تلقائه ، ويري ما لا يري الحجرُ
ويحرسُ الأرضَ ، من صفر الطبيعة ، من تلقائه ، وجذورَ الثابت الحجرُ
هذا إذا صدقنا أن للموج ، بالنسبة للخيال ، كلام ، وهذا صحيح ُ تماماً ، فإننا نستطيع بمجرد فعل إضافيٍّ أن نصغي في هدير الموج لتاريخنا غير المدون ، وأشجار عائلاتنا ، ونواح الفاشلين في الحب ، ودوافع المنتحرين ، ومتاعب المغامرين ، ومبررات القراصنة ، ودموع السراخس المحتجزة . وهمهمة الآباء الأوائل البعيدة .
فقط يلزمنا أن نصدِّق حقيقةً أنَّ المدَّ ، وأنَّ الجزر ، تعقيبٌ علي جاذبية القمر ، لا علي أنفاس الثور الذي يحمل الأرض ، فقط يلزمنا .

(17)

كان أبي يزيِّن ذكري الأجداد بعقدٍ من الليالي الساهرة يمتد بطول أيام شهر رمضان ، وبعرض الواجب الذي يجثم علي مواقدنا العائلية جثوم العادة ، يدور محورها الأساسيُّ حول تلاوة القرآن ، الثرثرة أيضاً ، ومراعاة الشراع العائليِِّّّّ من ضربات الموج المباغت ، أو المضاد ، وتربية المزيد من أواصر النسب .
تتبدل وجوه المقرئين ، وتزداد تجاعيد الجدران ، وتحترق غابة من ذكرياتنا العائلية بموت رجالنا ، ونساءنا ، وتتهيأ غابة من ذكرياتنا العائلية المؤجلة بميلاد أطفالنا ، وتفقد النجوم الأليفة وضوحها ، وذلك الطقس العائليُّ صامدٌ في مكانه تماماً ، كان هذا دليلاً علي أن عبادة الآباء تسير في طريقها الصحيح .
تلك التحولات الحولية في وجوه المقرئين الوافدين ، ولهجاتهم ، جعلتنا نلمس بوضوح بساطة الأشياء ، لقد كانت المسافة الصلبة علي الدوام بين الدومة وبلاد المقرئين تقتضي أن يشاركونا موقدنا العائليَّ شهراً كاملاً ، ينفقون النهار في أقبية النوم المؤكد ، ويرفعون في المساء حناجرهم إلي سقف ٍ متواضع من جريد النخل الذي يمكن تفسيره بنوي البلح القديم أيضاً ، وينزحون من بئار يحسبها البالون وأصحاب الحد الأدني بئاراً عميقة ، وكنتهم ، يعودون إلي بلادهم قبل ياردات زمنية من عتبة العيد النظيفة ، ويتركون لنا غابة من الانطباعات الجديدة ، وغابة من الذكريات المشتركة ، نظل نستعيد علي مدار العام حداثتها ، واسم المقرئ ينتشر بمشروعية في لهجاتنا ، ويتسرب وجهه إلي أحلامنا أيضاً ، يأتون لليلة أو ليال في أوقات أخري من العام تزييناً لمناسبة طارئة ، أو معايرة ، فيكون اللقاء حاراً ، الوداع أيضاً ،
كان لابدَّ أن يجئ عامٌ ينطوي علي شهر يتسلق فيه حنجرة السهرة برهافة بالغة غرابٌ ، فينهار بفضله ، فجأة ، وبشكل ٍ مروع ، ذلك التقليد تماماً .
أتذكر أن انخفاض حالة أبي المالية قد بدأ في ذلك العام تحديداً ، وبتصرفات مذعورة ، ومن الذي لا مراء في صحته أنَّ التحاق الشيخ الأخير بأفكارنا السوداء تعقيبٌ ركيك بشكل متعصب علي ذلك الانخفاض المالي الذي حال بين أبي وبين أن يحجز أحد المقرئين المجيدين في الوقت المناسب ، ذهب إليه هو والشيخ " أحمد أبو عبداللاه " ، واختبراه في مسجد بمدينة فرشوط ، واتفقا معه ، برغم عدم ارتياحهما ، لأجراس صوته العشوائية وأصدائها السامة ، كنوع من حماية تقليدنا الرمضانيِّ من الانهيار لا أكثر .
كان عاملاً كالعديد من الدوميين بمصنع الألومنيوم ، فركله لذلك رجالنا خارج تقديرهم ، هم لا يحبون أحداً يهجم علي أطراف مسارات الآخرين دون درع أكيد ، هو خيرٌ من اللامقرئ علي أية حال .
غير أنهم تنبهوا منذ الليالي الأولي إلي عبارة تتردد تحديداً ، وبإسراف ، في أنغام صوته السامة كلَّ ليلة ، بل كلَّ تلاوة في الليلة ، حتي عبد العاطي الذي لا يركعها ، راقب تكرارها فاختبأت في ذاكرته ، وربما ازداد بزمالة الشيخ في العمل وعياً بإحساس الندية ، وفي ما بدا أنه اندفاع وراء ذلك الإحساس ، قال للشيخ كأنه يلومه علي هذه السخافة :
- إيه يا شيخ أبو المج الحكاية دي ؟ ، كل ليلة فاصفح الصفح الجميل ، فاصفح الصفح الجميل ، يا شيخ عاوزين حتة من يوسف !
ضحك رجالنا و أطفالنا حتي دمعت أعينهم ، لقد وجدت رغباتهم المحتجزة التعبير عنها في استنكار عبد العاطي تماماً ، وانفجر سلام الشيخ ، واضطرب ، وتذمر كالعبيد ودلي رجليه ، حشرهما في حذائه ، ثم خرج غاضباً وهو يقسم علي الرحيل دون أن يحتفظ حذاؤه بخط الرجعة ، واندفع وراءه الكثيرون ليطفئوا عزيمته .
أدهشني أن يواجه أبي تهديده بسكونه ولا مبالاته واتزانه ، ونظراته التي تنمو علي ظهر الشيخ "أبي المجد" بازدراء مسموع في قلب جزيرة عائمة من الصخب ، وتابع الشيخ تذمره ، وعدم اكتراثه لتوسلات الخائفين من انهيار الطقس :
- أمانة عليك يا شيخ أبوالمج ، صاحبك وعشمان ، عيضحك معاك ، أيام وتتقضي ، واهو رمضان وقع ، باقي سبعة وعشرين يوم ويعدوا ، وصباح الخير يا جاري ، إنتا فـ حالك ، وانا فـ حالي ........ !
لست أدري كم من الوقت ، وكم من الجهد تبدد قبل أن ينزلق المسكين في شرخ العودة ، دون أن يدور بباله أنه كان يعود نحو الأسوأ .

(18)




أتذكر أن العمل في نهار رمضان كان شاقاً ، حتي أن إتمامه علي وجه لائق يعتبر فعلاً إضافيّاً ، وإيماءة تستحق الشكر ، شحن القصب في عربات شركة السكر الحديدية بشكل خاص ، يتلاشي عند الظهر ذلك الحيز الداخليُّ لطاقة الشحانين تماماً ، وتزداد تدريجياً عضلة العطش صلابة ، وتزداد أعصاب أبي عراءاً ، لانخفاض مستوي المخدر في دمه ، ويضيق لأتفه الأسباب ، بل يباشر تربية الذرائع لإضاءة فريسة ، أي فريسة ، ليفجر فيها غضبه . لا يتمكن الشحانون عادة من القيام بإيداع كلِّ القصب في عرباته قبل أن يداهمنا جرار الشركة ، يصيح الجرار من بعيد ، وتشتعل العزائم فجأة .
يكون السائق عادة مرناً ، يتوقف بالجرار علي بعد لائق ، ويشير إلي الشحانين بمتابعة العمل ، غير أن مخافة انطفاء عزائمهم لا يطفئ الجرار أبداً ، يطلق صافرته من آن لآن أيضاً ، فيحيطنا أبي بالتوترات ، وينهر العاملين الأصغر سناً إذا تراخوا في جمع أطراف الأعواد الساقطة ، أو البوَّال في لهجتنا ، وحدث ذات ظهيرة شديدة الغربان ، وفي مثل هذه الظروف ، أن رأي أبي الشيخ قادماً من بعيد ، يتصنع الوقار وتيه الشيوخ ، فصوب حنجرته نحو خطواته البطيئة وصاح :
- قدم قدم يا شيخ ابو المج !
وقدم الشيخ خطواته القلقة ، وكنوع من التماهي معه ، انحني هو قليلاً يجمع البوال ، قبل أن يرميه بحجره المعتني به تماماً ، وهو يقول له :
- لمّْ لك بوالتين مع العيال !
كانت لأبي أحوال .
وتبادلني إحساس بالخجل من تصرفه غير اللائق ، وازددت وعياً بضراوة ذلك الإحساس عندما رأيت وجوه الشحانين تكاد جلودها تنفجر بفعل استحواذ الضحكات المحتجزة ، عيونهم الدامعة أيضاً ، وإحساس بالرثاء الحقيقي لذلك الشيخ الذي انحني ليجمع مثلنا نحن الصغار أطراف الأعواد الساقطة .
وأتذكر أنَّ جملاً لنا نفق في ذلك الشهر المريب ، فردّ أبي نفوق فقيدنا الطيب الذي كنت أحبه كثيراً ، وأحب رائحة عرقه بشكل خاص ، إلي (فقر) الشيخ أبي المجد !
تألمت في تلك اللحظة كثيراً ، لقد أدركت أن أبي أبداً لم يصفح الصفح الجميل للشيخ تذمره الطبيعي لإهانة عبدالعاطي ، واشتعال عزيمته لتفريغ رمضاننا من مقرئ كاللامقرئ علي أية حال ..

(19)


يصغي المسنون من أهلنا إلي ماضيهم المجيد في ظل شيخوختهم ، ويؤكدون لنا أن أجمل صوت تردد حول موقدنا العائلي في رمضان هو صوت الشيخ " أحمد أبو طه " ، لا أستطيع أن أؤكد أو أنفي ، فذلك عقدٌ لم أشهده ، وإن كنت قد استمتعت لبعض الوقت بعطاء النار المستمدة من شتلاته البعيدة .
لقد زرع العم "إمام" عامل ماكينة الصوت المرافق له ثلاثة شتلات من شجر الكافور تقف علي مسافات متزنة ، في خط أفقي معاير ليظلل الردهة الداخلية من المكان بدقة ، لم أراقب نموها ، كانت ذاكرتها أقدم من ذاكرتي بسلة من السنين ، فقط كنت ، وكان الآخرون ،أصعد إلي سطح المندرة لأنام في نهار رمضان الساخن في ظلالها ، لا أجد أحياناً حيزا فارغاً في الظل يتسع لهزالي ، فأهبط قانعاً بالنوم تحت أقدامها .
ذهب الشيخ" أحمد أبو طه " ، وذهب العم "إمام" متضمناً فيه ، وبقيت قامات ظلها طويلاً ، ثم بدأت خضرتها تذوي تدريجياً حتي جفت في وضوح قاتل ، وبنفس الوتيرة الزمنية ، كأنها تنتمي إلي جذر واحد ، حيرة .
أرجع الكثيرون جفافها إلي الماء المختلط بالصابون الذي كان يتسرب إلي قلبها عقب الموائد الدهنية في مآتمنا وأعراسنا . ومزق الفأس سيقانها وجزءاً من ذاكرتي ، ورممت جرحي في الكثير من المساءات الباردة بنارها ، قسوة .
أصغي إلي ماضيَّ الذي لا مراء فيه ، وأتذكر أن أجمل صوت تسلقت لعاميين متتالين حوله ، فاستشرفت رحاباً غير مطروقة ، هو صوت الشيخ " هنداوي عبدالمالك" ، أجراسه الثرية ، هو أيضاً ، بدانته التي أتمت امتلائها ، وجهه النقي وعطره النظيف ، لولا أنه ، ولابد أن يواجه النقص التعبير عنه في ملمح ما ، أيُّ الرجال المهذب ؟ ، كان يلحن أحياناً ، ولقد ضبطت لحنه مرة ، فزففت البشري إلي أبي الذي سعد كثيراً بشيخه الصغير ، لكنه ولست أعرف ماذا كانت دوافعه أخبره بسري ، فامتصني الخجل ، وابتلعتني المسافات .
كان واضحاً منذ الأيام الأولي لانخراطه في سرنا ، واطلاعه علي يومياتنا ، وأساليب حياتنا ، ولهجاتنا ، وأقواس نجومنا ، أنه استراح إلي الولد عصام تحديداً ، ووجد الولد عصام التعبير عن أكثر أعماله مدعاة لفخره في إيثار الشيخ له علي مدار عام كامل ،وأبعد ، وكان يذكرنا علي الدوام بعادة الشيخ الغريبة التي تجاور الخطر ، حاول الكثيرون تقليده ولم يحرزوا علي الدوام إلا الفشل ، أيُّنا ذلك الرجل الذي لا يشعر بالظمأ ، ثم يختزن في معدته دلواً كاملاً من الماء في مدي لا يتجاوز الدقائق القليلة !
كان اسم عصام يتردد في الأيام الأولي ، قبيل الفجر في فمه حياً دافقاً ، ويذكره بطقس الإمساك الماضي ، في الأسبوع الثاني كان الولد عصام بحكم العادة يحضر الدلو من تلقائه ، ويشرع الشيخ في الشراب متحمساً في البداية ، ثم يفتر حماسه تدريجياً ، وتتسع المسافة بين دفقة وأخري ، وينبت العرق علي جبهته بغزارة ، فيتوقف قليلاً ، ثم يحتجز أنفاسه ، ويفرغه في معدته حتي آخر قطرة .
وأتذكر أن غيرتي من الولد عصام كانت في ذلك الوقت صلبة ، وحقدي عليه عظيماً ، لقد أصابه اليتم المبكر بالخوف من الخضوع للمسئولية ، ومخاطر الانطلاق التلقائي ، ظل لذلك يعتمد حتي عمر متقدم علي عمل أمه في سلة من الأسهم الطينية الموروثة ، هذا أتاح له أوقاتاً من الفراغ للجلوس طويلاً أمام المرايا ينسق خلالها وسامته . وهذا يدفعني إلي ذكري عالقة ، لقد تسبب لي مرة في ألم جسدي بدين أمطر في أوجاع هزالي ، لقد رأيته في وقت مبكر من النهار ، بمجرد أن نفض أبي عن جسدي النوم واقفاً تحت شجرة الكافور المتوسطة ، يحمل حقيبة الشيخ ، وسعادته الجلية قد أتمت امتلائها ، ورأيت الشيخ في قلب هندامه ، واتصل خيط بين الصورتين ، فأصبح خفقان قلبي مزعجاً ، وسألته عن سبب هندامه والحقيبة ، هو لا يخفي سعادته بالذهاب مع الشيخ إلي قريته لزيارة أهله ، تتجلي المكايدة في لهجته أيضاً ، وتفاقم تهافتي ، ورعت الغيرة قلبي ، وقلصت دلائل اليأس المسبق بحكم العادة وجهي ، ونشط رجاء ، وأعلنت أبي برغبتي في الذهاب معهما ، واتسعت المساحات البيضاء في عينيه ، وتذمر، وبكيت ، فهرع نحو تهافتي وهو يقول في غضب حقيقي :
- ع الصبح القوِّيق دا يا خالي ؟
وركلني بقسوة ، وتابع ركلاته بوتيرة عصبية ، وأنقذني الشيخ من موت أكيد ، واقترح من باب اللياقة ليس أكثر أن أصحبهما ، ولكن أبي رفض تماماً ، ورأيتهما علي أرداف دموعي يبتعدان ، واستطعت خلال هذه المسافة أن أمد نقمتي علي الولد عصام ، وتنبه حضن أبي متأخراً ، وخرج صوته من أقبية حنان غامض يخبرني أنَّ من العيب أن أحمل الحقيبة لأحد أياً كان .
ولماذا لا أحملها .. ما دام التعقيب سفر إلي "هوّْ" .. سفر إلي الماضي ؟
أجدني أجد شيئاً من الغرابة يكمن في ذلك الحيز الداخليِّ المشحون بجبال من الطاقة الصلبة التي أمنت لسلة من الكلمات دون غيرها الصمود أمام موجات الهجرة المتكررة ، وما يواكب تياراتها المتعددة الأبعاد من انحرافات أيديولوجية ، وتحولات لغوية صارمة . كيف اختبأ اسم " هو" ، القرية التي حل بها الشيخ تمائمه في قشرة الألسنة الأكثر عمقاً ، فاستعصت علي الذوبان ، وهي التي ، تسلل عمرانها إلي إقليمنا منذ عصور سحيقة .
كان الدوميون يتحدثون كثيراً حتي لتطال المبالغة الحديث ، عن أهلها الذين يجدون الآثار الفرعونية علي عمق ضحل كلما هدموا بيتاً ، أو حفروا أساس بيت ، لا أستطيع أن أؤكد أو أنفي .
" سخمت " أيضاً . أو اللبؤة ، في الجوار المتقدم ، لقد احتفظت بلياقتها حتي كتابة هذا السطر في ألسنة الجنوبيين ، والتحمت بلا مشروعية بحديثهم عن ذلك التابوه الشهير ، أو الجنس، يقولون إذا التحق رجل بامرأة ٍ في ذلك العناق الصحيِّ :
- سخمطها !
وأتذكر أن البحث عني تصدر لائحة اهتمامات الولد عصام بعد عودته خلف الشيخ من " هو " ، هو لا يصبر علي معرفة أثر عودته علي قلبي ، ووجدني أجلس علي حافة أبي والكثيرين من رجالنا ، يقتلون ساعات الظمأ والجوع الأخيرة بالثرثرة الكسولة حول نقاط تافهة ، تفاقمت انزعاجاتي الداخلية بمجرد رؤيته ، غير أني أمسكت بجهدٍ إضافيٍّ بحقدي ، وتظاهرت بعدم الاهتمام بحديثه، وهو يحكي للجالسين ، ونظراته تستهدفني وحدي ، عن المائدة التي حظي بها هناك ، هو لم يصم يوماً واحداً من رمضان قبل أن يصبح أباً ، وكان صومي المبكر يضخم من إحساسي بقيمة ألوان الطعام التي صنعتها له خصيصاً امرأة الشيخ ، أدرك أبي وجهة حديثه ، ونظر إليَّ فارتطم بعضلات وجهي تتقلص بتصرفات منخفضة ، فقال لي والشيخ واقفٌ علي حافة الحلقة :
- والله عيكدب عليك ، والله الشيخ هنداوي ما لاقي ياكل !
وضحكوا ، وضحك الشيخ ، وقال له في غضب رخو :
- اسكت يا ابن المنتول !
كلمة يتعذر مدلولها ، ولكن كثرة استعمالها في الدومة أضفي عليها أصداءَ أليفة .
لكن ابن المنتول لم يسكت فقط ، بل كان كأنما يتجسس علي رغباتي ، وقال في لحظة يأس ٍ واضحة :
- وركبنا القارب !
وأشتبه أنه كان قد فطن إلي انتباهي المفاجئ ، ونظراتي البعيدة ، وتقلصات وجهي المؤدية فأضاف سريعاً :
- ورحنا السيما !
ضحك رجالنا الصائمون بتصرفات مذعورة ، وسرت همهمة أصداف جماعية بعيدة :
- يا ابن المنتول !
وانفجر مجري دمعي بتصرفات مرتفعة ، وأفلت هو من محاولة أبي الإمساك بمرحه من جلسته ، وتوقفت سعادته التي في ذروة النقطة بعيداً ، ورممت جرحي بالصياح فيه ، دون التفكير في مراقبة نموِّ العواقب :
- الشيخ هنداوي "عيسخمطك" في هو !
وازدحم الهواء حولي بالضحكات العطشي ، وصاح هو من بين ضحكاته المرتوية :
- الشيخ هنداوي ؟! ..فكرتني بعمُّرضي !
تلك السرعة في الربط بين النقطتين ، وبحماية معرفتي بطريقة تفكيره أيضاً ، أستطيع أن أؤكد أنه قد استمدَّ تقليده الخاص جداً في استدعاء سلالته من عبارة من القرآن كان الشيخ يرددها كثيراً في ليلنا ، تلبية لرغبات رجالنا : " ونفخنا فيه من روحنا".
إنها إحدي تكلسات الماضي التي ادخرها لوقت الحاجة .
لقد كان ينظر إلي الشيخ نظرته إلي القاضي الذي لا يرد قوله ، ولا تجوز إهانته .
قد تضئ ظني المستدير تلك الحكاية التي يلحُّ الدوميون في روايتها .
لقد كان المرحوم " عبد المرضي بظيو " مجنداً لم يتَّسع لتقاليد العسكرية الصارمة ، ففر من معسكره ، واختبر الضياع في القاهرة ، وأمسكوا به في زحامها الذي لا يخون الطريدة غالباً ، وترصد لمحاكمة عسكرية ، وحوكم ، وينشط الدوميون عندما تصل الحكاية إلي ذروة النقطة ، فيدخلون قاعة محكمة مدنية ، ويتصنعون الوقار ، والامتلاء ، ثم يتوحدون بالقاضي ، ويتكلمون بالعربية الفصحي :
- حكمت المحكمة حضورياً علي المتهم عبد المرضي عبد الشافي بظيو بالسجن ثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة المؤبدة !
ثم يتوحدون سريعاً بالمتهم ، فتتقلص الوجوه ، ويرتسم الألم الصناعيُّ علي سمرتها الداكنة ، ويعلو القانون عن الأرض أميالاً ، ويقولون بالدومية :
- ليه يا سعات البيه ، الله يخرب بيت أبوك !


(20)

كلمة " بس " أيضاً ، وهو الإله المنوط بحماية المنزل عند الفراعنة ، وهو الإله المنوط بطرد القطط المقتحمة من منازل الدومة الحديثة ، يهدد الدوميون القط المقتحمة
بقولهم :
– بس !
لماذا اختصروا – أعباء – وظيفته في تهديد القطة تحديداً ؟! .
لا أدري ..
بل هناك بلاد متاخمة ، وفي تقاطع حاد مع إطاره القديم ، والمتعب ، وحدته بالقطة ، أو البسة كما يسمونها .
حتي مفاتيحنا لصندوق التاريخ متناقضة ، مناديل أحزاننا أيضاً !

(21)

ورور أيضاً ، أو غضٌّ .
لا يزال بائعو الفجل في الدومة يزينون تجارتهم بالنداء المنغم : " ورور يا فجل " . لماذا ضغطوا دلالة الكلمة في إطار الفجل تحديداً ؟ . لا أدري أيضاً ..
هذا يقودني إلي ذكري لا أستطيع الآن تقويم دلالتها ، ولكنها تشتعل في ذهني كفضيحةٍ وقلبي ، لا أستطيع أيضاً تحريك بواعث أبي في مباشرة تربيتها فجأة ، لقد رأيته قبل ظهيرة يوم شديد الحجارة ، عاكفاً علي مأزقي ، ومأزق أخي ، بوضوح أكثر مما ينبغي
كان العم عدلي بظيو قد أخلي جزءاً من هامش عشوائي مزروع بنبات الفجل ، يسور حقلاً مزروعاً بنبات الفول ، وأتي به علي حمارته القصيرة السهل ، وأسقطه في كومة سائلة أمام بيتنا ، فحطت الكومة بقرب أبي ، ورأيت بعض المارة يتوافدون ، ويأخذون منها حتي دون إذن ٍ من أبي ما يلائم حاجة بيوتهم ، ويمضون ، وأرسل الكثير إلي بيتنا ، وكومة من الأوراق الصفراء ، والرؤوس الشائخة إلي البهائم الصغيرة في حوشنا ، وبقي الكثير أيضاً .
أخذ أبي يجمع ذاك الكثير في حزم متوازنة ، ويقيدها بسعف النخيل ، والسيجارة مرسلة في زاوية فمه ، وراقني العمل الذي يجاور اللهو البهيج ، ولكن أبي رفض ، من بين سحب الدخان ، أن أسلي نفسي بمساعدته ، هو يري أنني لا أعرف ، ولأتأكد أنه علي حق ، تركني أصنع حزمة ، وتأكدت ، كانت الحزمة مضطربة ، وشاذة عن سياج حزمه ، أعاد فكها ، ثم صنعها علي عينه من جديد .
تشكل المأزق مباشرة بعد انتهائه من العمل ، هو يريدني وحازم أن ندور بالفجل في أزقة الدومة ، وتوقفت فوق الجذور ، فرجَّ الخجل قامته في وجهي ، وبكيت ، ثم أعلنته برفضي أن أبيع الفجل ولو كانت عاقبة الرفض موت ، هذا شئ لا يمكن أن يحدث أبداً . ما دام البديل ممكناً ، كان في عينيَّ إصرارٌ ليس من الحكمة اختباره ، فواجه قراره إلغائه الخارجيَّ ، ولكنه بحيلة بسيطة ، وضعني في قلب المأزق تماماً ، جهل الصغيرين بإحصاء النقود .
لقد استأجر" أسعد أبو عدلي " ، يحمل الناحية التي كان يقدر أنني سوف أحملها ، وحمل حازم المقطف من الناحية الأخري ، كان الخجل يمتصه أيضاً ، أدركت هذا من خطواته المضطربة التي لا تتحد بخطوات أسعد بوضوح أكثر مما ينبغي ، كنت أسير خلفهما ، بانكساري الحاد ، أجمع النقود .
ليت الأمر توقف عند هذا الجذر الباهظ .
في اليوم التالي ، ازداد عطاء الأرض خشونة ، وأخلي العم عدلي سياج الفول كله ، من الفجل ، ونقله إلي بيتنا منجماً ، فأصبح جرن الفجل الواجب استخدامه قبل فساده ، بالنسبة لعدد سكان الدومة الصغير ، لا يتحد بحاجة الدوميين القليلة ، فرأي أبي أن نبتكر لتجارتنا سوقاً إضافية ، واستلزم هذا أن نستعين بحمار و " قطاوي " ، ومن السيئ أن أسعد قد ذاب في ذلك الأصيل فجأة ، فدفعت إلي التجربة مكرهاً .
تخيَّر أبي وجهتنا ببساطة ، نجع الزعرة ، كأنما أراد أن يضفي علي فضيحتنا بعداً إقليمياً ، ودافع عن اختياره بكثرة المسيحيين فيها ، وولع المسيحيين بالفجل .
واكتظ سطح الحمار الرمادي بالفجل ، وحمل هو حازم من تحت إبطيه ، وراقب اتزانه علي السطح الأخضر ، وثبتت ذاكرتي اللحظة .
سرت وراء الحمار ، أخفي حرجي بمأمن خلف الغبار الركيك الذي تثيره حوافر المهذبة ، لم نتبادل علي الطريق كلمة ، كان الخجل يستقطب صمتنا ، وانزلق حازم من خجله بمحاذاة بيوت نجع الزعرة الطرفية ، وسار أمام الحمار علي قدميه ، ممسكاً برقبته ، توقف الحمار فجأة ، وأوسع من حيز قدميه الخلفيتين ، وأرسل بوله الأصفر ، ثم غارت خاصرتاه ، وأطلق صوتاً مزعجاً ضاعف من خجلنا :
- هي هان ، هي هان ، هي هان ، هي !
قبيل اقترابنا من بيوت نجع الزعرة المركزية ، أمرت حازم أن يزين بضاعتنا بالنداء المنغم ، ورور يا فجل ، فجاءني صوته ، أنا الذي علي بعد ياردة ترابية منه ، مشوشاً ، ثم هو صوت يخلو من الإيقاع ، كأنما يتكلم ، الكساد الكساد ، هددته باشتعال عزيمتي علي قتله لو لم يتابع النداء بصوت أكثر إقناعاً وارتفاعاً ، له أساليبه أيضاً .
لقد احتقن وجهه ، واحتشد الدمع في عينيه ، وهددني بالفرار وتركي والمأزق وحدي ، وهو ليؤكد لي أن تهديده حقيقيٌّ ، أرسل رقبة الحمار في عنف ، وتراجع خطوتين إلي الوراء ، وسكنتُ ،فجأة ، الموقف الأكثر ضعفاً ، لقد كسدت تجارتنا إذن ، والمدي ضيق ، كان الضوء ينسحب ، والليل يهجم ، وهذا يعني أن المستهدفين يرتبون الآن ألوان عشاءهم ، وربما كان الآخرون من بائعي الفجل قد سبقونا ،والتحق المأزق بفكرة بيضاء ، لقد أغريت ، إنقاذاً لليلتنا من الأسود الخالي من قوس للنجوم ، طفلاً مسيحياً ، بوعد مجاني من فجلنا لقاء نداءه علي بضاعتنا ، ولكن ذلك المتعجرف قد ركلني برفضه في قلبي ، فأصبحت في مقدمة الجنون ، وأثار الغيظ الباهظ رغبتي في قتله ، ونسيت فرديتي وقوميتهم ، وهجمت علي رقبته في عنف ، وأنا أصيح به في غضب حقيقي:
- حتي انتا يا صليب الحلوفة !
يا للدين ، وما يربي الدين من الحواجز بين العابرين في الكون ، المتماثلين في الفشل ، المتوحدين في يقين الألم .
وفي ما بدا أنها قوة خفية تفتح لخجلي وخجل لأخي باباً للخلاص ، انحسر ، فجأة ، غبار المعركة التي انطفأت سريعاً ، بفضل زهد المسكين في ترهلها ، عن شابة مسيحية ، كأنها استطاعت أن تصغي لمأزق الطفلين السائرين أمام ، وخلف الحمار في صمت قاتل .
اقترحت عليَّ ، بعد أن انتسبت لها ، أن أتخلي لها عن مهمتنا ، فوافقت من كلِّ قلبي ، ابتسمت حتي تحول فائض من الابتسام إلي ضحكة خجلي ، عندما انتبهت إلي تطلعي المتواصل إلي الحمامتين المرسومتين بالترتر الأخضر علي ثدييها المكتنزين ، لا أدري علي أي ضوء كانت تفكر ، لقد ذهب ذهنها بعيداً .
قدت الحمار إلي حيث أشارت في صمت ، ثم انخرطت في اللعب مع الأطفال سريعاً ، وانخرط حازم في الركض خلف جراء الخنازير .
لقد شكلت تلك اللحظات المحك الأول المؤدي بيني وبين الآخر ، نعم هناك مسيحيون في الدومة ، ولكن التحامهم الشديد بنسيج الدومة كان علي الدوام كافياً لجعل انخراطنا في النظر إليهم كآخرين يتوقف ، ليسوا بهذا السوء علي الإطلاق ، ولو تنحي الدين جانباً لاتسعت دائرة الحبّ كثيراً .
واجهت انطباعات الترف المفعم إلغائها سريعاً ، لقد نفقت بضاعتنا ، وأعطتني الشابة ثمنها وأكثر ، دعوة للضيافة علي العشاء لا مراء في حرارتها ، شكرتها كثيراً، وأمام إصراري علي الرفض ، انحنت الحمامتان علي صدرها ، وحملت حازم من تحت إبطيه علي السطح الذي انخفض .
وأمام هذا التيار من الرقة وجدت التعبير عنها في ركن من ذاكرتي مسوّر عليها وحدها ، ورحب بي طريق العودة وأمنية وبعض الحنين القادم ، لقد تمنيت ، لأراها مرة أخري ، لو أنَّ أرضنا لم تتمَّ عطائها في ذلك اليوم لعام قادم ، وانتابني في طريق العودة حنين غامض للعودة إلي رقتها ، امتدَّ فيما بعد اندفاعي خلفه إلي العديد من المحاولات الفاشلة ، وطال الخمود ركنها السكَّريَّ في ذاكرتي تدريجياً ، غير أنه لا يواجه انهياره علي الإطلاق ، وغير أنه فيما بعد اشتعل ، فجأة ، بفعل استحواذ الغيرة وأشياءها ، لقد علمت بعد سلة من السنوات أنها قد تزوجت ، بل أنتجت للكنيسة سلة من النباتيين الجدد ، وأنها أيضاً ، وهذه نقطة الألم ، تشتبك في علاقة لا يمكن تقييمها بمسيحيٍّ من الدومة ، وطني الأم ، لا أدرك ما وراء الكواليس علي أية حال ، ولا أقيم وزناً لوشايات الدوميين أيضاً ، لقد درجت عليهم يضحّون بالحقيقة في سبيل الكلام ، وبرغم هذا غلف الألم لهذه الخيانة لبعض العقارب الزمنية إحساسي ، ذلك أنني أشتبه اليوم ، أن قلبي في ذلك اليوم ، خفق هنيهة لها .
وأنا أنظر الآن إلي الوراء لأستعيد حداثة صورتها ، أتأكد أن ذاكرتي لم تثبت ملامح وجهها بما يكفي ليدرأ عنها التشوه والسيولة ، والرداءة ، ربما كان إسراف أحلام اليقظة في استدعائها ، أضاف إلي ملامحها الكثير من ملامح الأخريات ، ولكنَّ ما اختزنته الذاكرة بفضل الحلم تخزيناً جيداً يقودني إلي الاشتباه في أنَّ ملامح وجهها تتحد بملامح وجه العذراء الرومانية كما نراه في صورها الشهيرة ، وهي صورٌ تختلط بخلفيات من نزوات الفنانين المختلفة ، ولا تتحد بالتأكيد الزائد عن الحد بصورة مريم الحقيقية ، ولا تقترب حتي ، لقد كان ورع الفنانين الأوائل ضاراً ، هم أضفوا علي وجهها بكرم عصبي ، وبإفراط ، وليس جمال الورع الإفراط ، سلاماً مفرطاً ، وأصداءَ أليفة ، واستسلاماً ممتلئاً أيضاً .
تلك النظرة الاسكاتولوجية ، التي لا تتمسك بالدنيا ، ولا تتوقف فوق جذور ما يمكن أن يصيب الإنسان من الحظوظ فيها ، إنه وجه امرأة تعاني انطباعات الهدوء الداخليِّ ، بل الطاعة ، لا وجه امرأة يمس الإنزعاج حيزها الداخليِّ ولو مساً رقيقاً ، وهذا لا يتفق مع حياتها القلقة علي حواف غابة من النوايا السيئة ، كما تؤكد الأسطورة .
وأتذكر أنني ..
ارتطمت في مدينة أسيوط بوجه امرأة تتحد ملامحه بشكل مروع ، وبما لا يدع مجالاً للذهن أن يعمل ، بملامح وجه العذراء الرومانية ، وليس أدلُّ من هذا علي أنَّ الرغبة تقوم مقام اليقين أحياناً ، وأنَّ القناعة إذا أتمت امتلائها تستطيع إلي حد بعيد أن حرف المعلومات المحفورة في الجينات الإنسانية .
حقيقة تحتاج إلي صوفية النظرة للأيمان بامتلائها .

(22)

انهارت أعصاب القاهرة علي الغريب تماماً .
فزهد الغريب في قسوة المقام بها وعاد ، زهد في انتظار بناية تتم دوائر ارتفاعها ، يكون لها بواباً حتي الموت ، وعاد .
وإذا كنت أظنُّ أنه عاد ، لأنه سمع أنَّ أبي يتبني إنشاء عصارة لصناعة العسل الأسود تتسع لجهوده فلأنَّ ذلك علي الأرجح هو الذي قد حدث .
هدموا الحوش فهدموا جزءاً من ذاكرتي ، وأسوأ في ما في هذه الدنيا أن تفقد شيئاً حميمياً من ذاكرتك .
عاد يمشي في الطريق إلي ليلنا .
حدثنا بعد عودته ، أنه ذهب للبحث عن عمل ، فأسلمته قدماه إلي منطقة زحف إليها العمران حديثاً ، فرأي النساء للمرة الأولي يشاركن الرجال العمل ، وأي عمل ، حمل القروانة ! .
حدثنا أيضاً عن حديثهن السافر عن الجنس ، وأنَّ الواحدة منهنَّ إذا استطاعت أن تسبق رجلاً علي السقالة ، استدارت ، ووضعت إصبعها في مؤخرته ، وأنه رأي المقاول يمارس الجنس مع إحداهنَّ ، ورأي حارس مواد البناء الليليِّ يستحم عاريا ، ورأي أحد العاملين يتحرش بالمرأة التي تصنع الشاي ، وأنه عاد أدراجه زاهداً في العمل مع قوم لوط .
رأي بعد غابة من الأمتار غابةً من الكلاب يطاردون كلبة هائجة ، فلمع في ذهنه ترميم لائق لجرحه ، فعاد ، وانفرد بامرأة الشاي ، وأشار بيده بعيداً وهو يقول :
- قولي للمقاول فيه كلبة معسفة وقعت من محفظتك . وقاعدة هنااااااك عايزة تعشِّر !
غير أنَّ عصام خلَّد ذلك المنعطف القاهريَّ من منعطفات حياته بطقس ٍ بسيط ، فقط أطلق علي أحد أبناءه اسم رئيس ٍ للعمال شمله بالعطف مدة إقامته بالقاهرة ، نعمان .
ولا تتسرعوا في رجم الرجل بالوفاء ، فلقد ندم فيما بعد كثيراً، وتحت ضغط الشهرة الفادحة التي طالت مسلسل ذئاب الجبل الشهير ، وغير اسمه بعد فوات الأوان الرسميِّ إلي .. البدري ! ، وهو الاسم الذي قد انتصر .
ولقد رجمه الكثيرون باللوم لتقصيره في حق أبيه ، فلا يزين ذكراه باسم ٍ كاسمه يطلقه علي حفيده بدلاً من الغرباء ، فغضب غضباً حقيقياً ، واهتز جسده كأنه يركب جملاً مسرعاً وهو يقول بصوت محتقن :
- مش حنسمي ولد قنين ، أنا فرخ ، حد شريكي يا ولاد الشراميط !
مهلاً يا عصام ، إننا نمزح .


(23)

كانت تدور في خطوات أبي روح محاربٍ ، وكنت شاهداً عليها ، بمجرد أن ينوِّه الشتاءُ عن قلبه ، ويباشر تربية العائق الأكيد ، والبسيط إلي حدٍّ ما في طريقه إلي مسامنا ومسام بيوتنا ، ربما لحساسيته المركزة حيال البرد ، فيبعثر الأدوار علي أطراف صغار الجيب الغربي من الدومة وأطرافنا ، هذا يهذب أسراب الصفصاف علي الخرسة _ اسم حقل _ ، وهذا يهذب النبقة فوق السواقي ، وهؤلاء يقطعون السنطة التي غرب الجسر ، وتعود الأطراف إلي المركز ، فتستقر تلالٌ من النار المؤجلة أمام بيتنا .
وكثيراً ما استوقف أبي رجلاً من الدوميين ماراً يحمل الخشب قائلاً :
_ عاوز تدَّفي وحدك ؟!
وكان الرجلُ عادةً، يستحي من الحصول علي الدفء بمفرده ، فيلقي بحمله ، وكنت أري عادةً بعض التسلخات السطحية علي رقبته وهو ينحني ويفك وثاق حمله ، وينتقي أكثر قطعتين من أخشابه طولاً وامتلاءاً ، يضعهما بجوار أبي ، ويعود إلي حمله ، يعيد إحكام وثاقه ، يحمله مجدداً ويمضي .
كان الرجل يأتي عادةً في المساء ، يراقب نمو النار ، ويقاسمنا ثرثرتنا وشاينا وسجائر كبارنا حتي تتم النار عطائها في جسده ويمضي ، وربما امتدت به السهرة حتي يراقب نمو خيوط الضوء الدوميِّ الآثم ويمضي . لا أحد في الدومة يعطي دون أن يأخذ ، الطيبون .
كانت تلك القومية الصغيرة حول الموقد العائليِّ ، تذكرني بما يشبه الطعن حتي أنها تنسي قطعةً من ذهني في جيب طعناتها الحادة ، برائعة السيدة فيروز :
إسهار بعد إسهار ، تا يحرز المشوار ، كتار هو زوار ، شوي وبيفلوا ، وعنا الحلا كلو ، وعنا القمر بالدار ، وورد وحكي وأشعار ، بس إسهار ...
وعنا العم عبد الباسط أيضاً ، وإن كانت غابةٌ من الأمراض تتنافس علي جسده وتجذبه أحياناً إلي السرير ، ولكن كنا قبل أن نراقب نمو وساوس أبي وضيقه المعلن حيال غيابه ، يأتينا عادة رنين خطواته المميزة ، ويأتينا صوته الممتلئ وهو يسعل بكثافة شديدة ، ثم يبصق علي الأرض ويصيح في ليلنا :
- اتفوووه علي ربع مليون دولار !
وتنفجر ضحكاتنا حول النار العالقة في أطراف الأغصان الصغيرة ، وأري أضواء الارتياح الأولي تسطع علي وجه أبي ، لم يكن يرتاح إلا بقربه ، كان بالنسبة له قطبَ الوقت .
لكن قطب النار كان ولا يزال ، تعبيراً محميِّاً لا يستطيع أحدٌ من الدومة أن يدعي صلاحيته للاختصاص به سوي عصام ، عبدالباري أبو عبدالسلام أيضاً ، لولا أنه هاجر من الدومة إلي بلد مجاور .
كان هناك فارق رحبٌ بين العم عبدالباسط والمرحوم عصام ، ولكن لا يتعارضان ، وإنما يكمل أحدُهما عادة الآخر ، لم يكن العم عبد الباسط يجيد الوقوف علي حافة الخلق الشهير ، أو هكذا كنت أظن ، فيعتمد في خلق المضحكات علي ردود أفعال الآخرين ، وكان عصام علي الخلق مطبوعاً ، أو هكذا كنت أظن ، وكان يدرك طبعه الأثير تماماً .
ربما كان ذلك الإدراك هو باعث اعتداده بنفسه ، بل تشبيبه بها ، حتي أنه كان يدَّعي علي الدوام ، أنه طرف في نكاته :
- واحد صاحبي قال لي ، أنا شاكك إن مُرُتي عتخوني مع المعلم هراس الفرارجي ، قلت له ليه يا ابن المنتول ؟ ، قال لي ، أصلي امبارح عنبص تحت السرير لقيت ريش ، قلت له ، يا بن المنتول حرام عليك الظلم ، تتهم مُرُتك الشريفة ، العفيفة ، الكاملة ، عشان بصيت تحت السرير لقيت ريش ، قال لي ، أصلي لما شلت الريش ، لقيت المعلم هراس نايم تحت السرير !
نضحك بإيقاعات حادة ، ويقول العم عبدالباسط من بين ضحكاته :
- شاكك ؟! ، واشرح لها عن حالتي !
تزداد إيقاعات الضحك عصبية ، وتتحلل النار إلي رمادٍ ينطوي علي جمراتٍ صغيرة ، حية .

(24)

كان المنعطف ُالأخيرُ يرحب بأبي .
تماسك قليلاً ، وتمسك بفعل ٍإضافيٍّ ، وبحرص المهاجر علي أشياء الوداع ، بطقس النار حتي أضاع نهائياً ناره .
راجع البيت قبل ساعةٍ من رحيله .
روي لنا فيما بعد محمد أبو أحمد ، آخر الذين انخرطوا في سرِّ ساعته الأخيرة ، أنه لم يكن هناك ما يشير إلي أيِّ ألم ٍ يستقطب إدراكه ووعيه ، وأنه أكل ثمرتين ممتلئتين من ثمار الرمان – لا نزال نحتفظ بقشورهما - ، وأنه كان يمسك بأطراف الحوار بلياقةٍ لا تشوبها شائبة .
وروي لنا فيما بعد عبد الفتاح ، آخر من اطلع علي صوت القفل في خزانته المشرعة ، أنه قال له بمجرد دخوله :
– قيد لي سقورة يعفتاح !
( ربما تسللت مفردة " سقورة " إلي لهجات الجنوبيين الجماعية ، تسللا مصغرا من اسم النار الأسطورية " سقر " )
قبل أن يتمَّ عبدالفتاح إشعالها ، سمعه يتمتم بالشهادتين ، ورآه يتدلَّي كغصنٍ قلقٍ من جبل ٍ منهار ، تعاون وأمي وحملاه إلي سريره .
لتتم النار عطائها دونه .
كان قد دخل في غيبوبة أخيرة .


(25)

إن شيئاً جديداً أصبح ، بالنسبة للخيال ، قلب الدومة النابض يدعونا إلي تجاوز انطباعات الماضي كلها ، وتجاوز الزهو الشهير إلي المغالاة فيه .
كانت فعاليات العمل في العصارة لسلة من الشهور الطليعية تري في يقين الورد ، وخلَّصت الصدفة المحضة عصام من أطراف العمل اللينة في الأدوار الهامشية قليلة العائد ، فسكن مباشرة في الوظيفة المعتني بها تماماً .
لقد اكتشف أبي اتفاقاً سرياً بين التاجر والعم " عسران " ، طباخ العسل ، يقضي بأن يغلي العم "عسران" عصير القصب ليس فقط حتي ينضج عسلاً ، بل حتي يتجاوز النضج ، فيصبح العسل شديد اللزوجة ، وهذا يعني خسارة فادحة للمزارعين وأبي ، وربحاً للتاجر أيضاً ، وضبطه أبي في مكتب التاجر ، فجأة ، يحصي نقوداً ، وطردٌ ولعنة ، وشغل عصام وظيفته المعقدة ، لكن المربحة ، القاسية أيضاً .
كان عليه أن ينقل عصير القصب من الأحواض بدلو حديديٍّ إلي الاسطوانات النحاسية عبر حوض حديديٍّ ، أو خشبيٍّ ، متحرك ٍ ، يستقر علي قنطرة خشبية بين تلتين من الطوب الأحمر ، ترتفعان عن الأحواض متراً ، ثم يفرز العصير خلال غليانه من الشوائب بجرة نحاسية تتخذ شكل الخوزة واسمها ، يلقي بالشوائب بالقرب من ساحل العصارة البعيد ، ويعود ليراقب نموَّ العسل حتي تأتي اللحظة التي ينادي خلالها " الحمَّاي " ، من الداخل ، أن يمنع عن إطعام النار بقش القصب الجاف ، ليبدأ البروتوكول الأخير ، نزح العسل بمساعدة " الحماي " ، ونقله إلي أحواضه ، ثم يعود ..
بعد استقراره في الحوض يغلي ، إلي نقطته الأولي .
لقد أحبَّ عصام حرفته الجديدة ، فاستغرقته ، وأتقنها بارتياح تام ، إلي حد أنه ، كان في الأيام الأخيرة يعاير نضج العسل من بعيد ، ومن رائحته ، ومن خيوط البخار الأبيض الناتج عن غليانه .
لكنه كان لا يكف عن الشجار علي مدار اليوم ، ازدادت وتيرة الشجار يومياً ، واتسعت دائرته ، وتجاوز الشجار مع المتطفلين إلي الشجار مع المتطفلين وزملائه ، ومع المتطفلين وزملائه والضيوف .
وقد يصل الشجار أحياناً إلي التماسك بالأيدي ، وصراخ النساء أيضاً .
كنت أدرك أن غضبه ليس جاداً ، أو ذا مضمون ، مجرد أنه يشعر بالإثارة ، ويهدف إلي التعبير عن وضعه الجديد بكلِّ ما يعنُّ له ، إثر الخروج من الخمول الطويل إلي حوذة النضج الإعتباطيِّ .
كنت خلال زياراتي القصيرة إلي الدومة ، استمتع كثيراً بذلك البعد الطارئ علي شخصية الولد عصام ، عصام الغاضب .
تأتي النساء بأطباق من الألومنيوم ،أو ترسلن أطفالهن ، يطلبون القليل من العسل علي استحياء ، فتثور ثائرته ، ويبدأ في رجمهن باللعنات الباهظة ، ويبادلنه ، لهن أساليبهن أيضاً ، هنَّ يرين أنه مجرد عامل ، فليس من حقه منعهنّ ،ويحمدن الله علي أنه لم يجعله غنياً ، وإلا كان سوف يقطع رقاب الناس ، ويؤكدن أن الفقر لأمثاله علاج ، ويتصاعد إيقاع غضبه ، فلا يسيطر علي كلماته الجارحة ، ويختلق أفكاراً سوداء تلتحق بماضيهن وحاضرهن وشجرة أنسابهن ، ويتكاتف العاملون علي تهدئة قلبه ، فيزداد غضبه ، ويدَّعي ، أخيراً ، أنَّ الكلمة الأولي والأخيرة في أيِّ عصارة ، وكلِّ عصارة هي للطباخ ، لا لصاحب العصارة ، وكان أبي يأتي غالباً ليستوضح أسباب غضبه ، فيصيح بصوت كأنه يخرج من خلال جمر ورماد :
- عايزين عسل ، عشان ينتفوا !
وفي ما بدا أنه غبار معركة قد انطفأت ، ارتطمت بامرأة ، ذات صباح شديد اليمام ، تفرُّ من العصارة ، وهي تتعثر في خجلها ، ورأيت جانب فمها المبتل ، ورأيت العاملين يضحكون ، فرجمته باللوم ضاحكاً ، فقال لي في رغبة واضحة لتربية معركة جديدة :
- وانتا مالك ؟! .
لقد تجاوز .. بالإفراط في ممارسة بعد شخصيته الجديد ، كلَّ حدود اللياقة إلي الإحالة الجارحة .
أتذكر أن أيمان الدوميين لا تتجاوز الفاتحة ، ودينك ، ورسولك ، والست زينب ، ولكن عصام الغاضب ، أضاف إلي تلك المنظومة الشهيرة صدمة ميسرة للطفل " بكش " المرحوم .
كان عصام يسكن في بعد شخصيته الجديد ، عصام الغاضب ، وفيما بدا أيضاً أنه غبار معركة قد انطفأت ، شهدها المرحوم " بكش " كاملة ، لقد كان المسكين يقطع مرضه بالفرجة علي الآخرين ، طقسٌ بسيط ، غير أنه مؤلم ، وكان فمه المعوج تعقيباً علي مرضه الغامض ، فقال له عصام ثائراً :
- بكش ، ربنا يعدل لك خشمك يا ولدي ، تقول الحق ! .

(26)

يضبط القلائل .. القلائل جداً ، قاطنو الأرواح الفردية بشكل خاص ، ساعاتهم الداخلية علي الانسحاب من الوحدة في زحام النهار ، إلي الامتلاء الروحيّ في سكون الليل ، وذلك الجمال المسور عليه ، هذا إذا تنحَّت القوي السلبية في الطبيعة جانباً ، ولأنني كائن ليليٌّ ، حظيت ، وأمي ، بالنصيب الأوفر من العذاب ، لقد رأيت أبي كثيراً ، يخلِّص نومه من النار الشائكة .
أتذكر أنني ، خلف منتصف ليلة النهار التالي لذهبنا إلي الطبيب ، بالكثير من الحدآت الزمنية ، تسللت إلي غرفته في حذر ، ونظرت من بيت المفتاح المهجور ، فصدمني العذاب صدمة قاسية ، لقد رأيته ممدداً علي سريره ، خده الذي علي راحته ، نظراته البعيدة ، عمامته المرتجلة ، واهتزازات رأسه الرتيبة ، تراجعت إلي الوراء كثيراً ، ورجعت وتخلي الحذر عن خطواتي ، وطرقت الباب طرقاً ركيكاً ، فالتقطت ، فقط ، صوت ارتعاشة السرير ، وأنات جدتي تأتي من الخلف ، نظرت مرة أخري من بيت المفتاح المهجور في الباب المغلق علي الأسرار المحتجزة ، فرأيته يتظاهر بالنوم ، وأنا الذي ضبطته منذ حدأتين ، سائراً في شوارع سوداء ، تتثاءب عن عرائش لا تبتكر العناقيد ، تتبعثر الدنيا حوله غابة من التين الشوكيّ . غابة من التين الشوكيِّ ، وتعود غابات التين الشوكيِّ المبعثر من الأطراف إلي مركز لا يباشر تربية الوردة ، وثبتت ذاكرتي اللحظة ، ولكنَّ عينيَّ لا تبتكران دمعة ، حتي تلك الحدأة ، كان الدمع مقيداً إلي سطحهما بغابة من السلاسل الحريرية المنطلقة من صفر القلب المفعم ، وسوف تنكسر السلاسل ، فجأة ، سوف أعرف هذا في ساعة تخبئ في تجاعيد المستقبل الذي واكب قبونا في العصر التالي شديد اللزوجة ، وكان الرماد يسكن السحاب بوضوح أكثر مما ينبغي .
كنت أجلس إلي جواره ، وإلي جواره أمي وإسلام ، وانتبهت ،وانتبهت أمي ، إليه يعي إسلام بنظرات لم أكن أتصور أن إسلام سوف ينجو من أطرافها الحادة ، والمتواصلة ، ثم قال ، فجأة ، وبعض الدموع في عينيه :
- تعالي فـ باطي يا إسلام !
امتثل إسلام ، انخرط هو في عناقه المرضيِّ ، وهو يقبله بشهية عصبية الوتيرة ، وطارت طرق اليمام ، لم اتسع لهذا العذاب ، فنهضت ، واستدرت ، وخرجت من قبونا صاعداً ببذل المزيد من الجهد إلي عتمة الشارع ، في الطريق إلي عزلة ، وطلائع الدمع تغسل وجهي ، فاكتسبت ملامح وجهي القادم .
ثم .. كان الانهيار .
ثم .. كان التحول الذي أجدني حتي الآن ، أفتقد ذلك الشخص الذي كنته قبله ، وأجدني حتي الآن ، جالساً حول ركامه بارتياح تام ، وحول تراكماته أيضاً ، وعبره أتمَّ يقيني ببساطة الأشياء امتلائه .
حاولت في الليل الدخول متأخراً من باب القصيدة ، ربما لأتفادي الذهن ومنحنياته التي تتهافت حول الوداع من تلقائها ، أو لأوجهه وجهة أخري علي الأرجح ، ودخلت فلم أبتعد عن حالتي ، ولم أبتعد أكثر من سلة من الأبيات الركيكة :
تذوبُ بفعل الاستحواذ ماساتُه .. ويؤكد الورمُ البقــاءا
وتعقدُ غابة ُ السرطان أعضاءَه – متضمناً فيها – دمـاءا
وينمو الموتُ من تلقائه في اسمِهِ ، ويرجُّ في دمِه الشتاءا
ويملأُ سطحَ قافيتي دموعاً .. ويملأُ سطحَ خيمتنا عـراءا
ونبعٌ مشرعٌ للدفء رَبَّي.. بروَتَه الذي .. ربَّي الوعاءا
ويحفرُ فقـدُه فينا شقوقاً ،، وتمنعُ بيتنا النارُ العطاءا
كأنَّ القبرَ تعبيرٌ حقيرٌ ، عن الإنسان لا يعني السماءا
هنا ، وهناك ، يتَّحدان عندي . ولكن ما تقاربَ أو تنائي
سأنسي حالتي في الدمع حتي ، أردَّ أبي ، وما أنأي البكاءا
إن مجرد قراءتي لهذه القصيدة الآن كاف لجعل انخراطي في الدهشة يعمل ، لقد كنت أنظر إلي أبي ، وأبي يمارس مثلي بقاءه ، نظرتي إلي ميت وقَّع حياته ومضي ، ربما بدقة أكثر ، نظرتي إلي نعش متحرك ، ولست وحدي ، وإنما ، كان شعور كلِّ الذين في بيتنا يتَّحد بشعوري ، بل انخرط البيت في حزننا ، حتي أن رائحة جثة في البيت قد وجدت التعبير عنها في كل مكان فيه ، ابتكر لها كلٌّ منا أنفه الملائم ، وتسللت إلي البيت ، خلف وجوده ، سلة من المفردات الحوشية المهجورة ، الحوشية المهجورة بحماية عبثية الحديث عنها قبل وقت الحاجة طبعاً ، القبر ، وضرورة تعهده ، واسماعين الفحار ، وضرورة تعهده ببعض المال أو الغلال ، والجنازة ، وضرورة ادخار بعض النقود لها ، حتي لا نفتضح أمام الآخرين جرَّاء وداع ركيك له .
يدهشني الآن أكثر ، أننا كنا في ذلك الوقت ، نسمي القبر قبراً قبل أن يعمِّره ذلك الذي ننسِّق له وداعاً لائقاً ، وهو بيننا ، وسوف نكتشف من ذلك الوقت ، وحتي موته الباهظ ، أنه أطولنا قوة ، وأطولنا استهانة بالموت ، بل .. وهذا موطن الغرابة ، كان أطولنا اعتقاداً بالعمر الطويل .
لم ينزلق أبي أبداً ، كما ينبغي ، في الفجوة الشهيرة حيث ينبغي له .
لقد ظلّ حنينه القديم للبحث عن الكنز نشطاً ، ولكنه أصبح ، تحت ضغط عضلة العجز ، وتحذيراتنا ، محتجزاً . ولقد اشتري بعد عامين وبعض العام من اكتشاف إصابته المباشرة بالسرطان ، تلاً من القماش المختلف الألوان ، يكفي حداثة هندامه لسلة من الأعوام المؤجلة ، واستدعي الترزي إلي بيتنا ليأخذ مقاساته ، وسافر معه في مساحات الكلام في غياب فكرة الغياب تماماً ، وهو يوصي " عوض " ، ذلك القادم من نجع الزعرة ليختبر جيوب الدوميين ، وأسرارهم ، ويكتسب بدانته الطارئة ، بأسلوب العمل اللائق ، والمقاربات الجمالية التي ترضيه ، واتساع هنا وضيق هناك ، وطول هناك ، قصر هنا ، وكان " عوض " ، وهو المطلع علي جسامة مرضه ، بل علي عدد ساعاته الباقية علي طرف الزمن ، بل وهو المطلع علي أدق دقائق أسرار الدومة ، حتي أن مساره المهنيَّ اللائق كان لابد أن يكون الجاسوسية لا الحياكة ، لدهشتي البالغة ، يستمع إلي رغباته في اهتمام رحب ، ويتظاهر بالتفكير أكثر مما ينبغي ، ويدوِّن بقلم من الرصاص ملاحظاته ، بخط ركيك في ورقة باهتة .
حدث ذلك قبل موته بعشرين يوماً أو أقلّ .

(27)

أنحِّي البعد الجديد في شخصية عصام جانباً ، وأؤكد أنه كان في حرفته ، وباعتراف الجميع ، لائقاً ، ولقد احتفظ بلياقته في مباشرة تربية العسل الأسود المميز ، من قطرات عصير قصب السكَّر ، بسلالاته المختلفة ، حتي تجاوزت الرياح المرفأ ، تاركة السفينة تغرق في بطء ، ويمضغ الملاح في بطء أفيونه .
لم يكتفي أبي بتجميد العمل في العصارة ، بل باع الماكينة ، ثم باع الأسطوانات النحاسية ، ثم .. وهذا هو الأغرب ، حوَّل فضاءها إلي أرض زراعية ، ليؤكد للآخرين طللها ، بما لا يدع مجالاً للشك في تحققه .
لقد أثار تصرفه الأخير طغيان دهشتي ، لا لأسباب تتعلق بالعصارة ..
بل لأسباب تعلق بروما ! .
لقد رأي التاريخ يتمشي أمامي علي ساحل العصارة ، ويقودني إلي ذكري مشابهة ، وسحيقة .
إنَّ روما القاسية ، نسفت ذلك الحيز الشهير بمهرجانه الشهير الذي يزين ذكراها الجارية في يقين الألم ، أو قرطاج ، وردة تونس المعاصرة ، وإن وراء كواليس الهزيمة أسبابٌ تتحد بأسباب هزائمنا المعاصرة تماماً ، الغباء والقمع ومحاولات إقصاء الآخرين والفساد ، وبعد أن أتمت نسفها ، وضعت المحراث في أرضها ، لتؤكد زوالها ، ومزرعة للحبوب يديرها المنتصرون .
كانت دهشتي إذن ، بالنسبة لقواعد المنظور علي الأقل ، تجد التعبير عن تبريرها ، في ذلك التشابه الغامض بين تصرف أبي المعاصر حيال العصارة ، وتصرف روما القديم حيال قرطاج ، وحدة السياق هكذا غامضة ، ويزيدني وعياً بغموضها يقيني بعدم اقتراف أبي قراءة تاريخ روما .
وهبْ أباك قرأه ، فهل قرأه ، صديق طفولتك "صالح"، الذي لا يعرف الياء من الدجاجة الراقدة .
كان سلة من أطفال نجع عمران المتاخمة يتطفلون علي مدرسة الدومة الابتدائية ، ويمارسون الغرور علانية ، وأمام ذلك التيار من غرور المتطفلين وجدوا أحقادنا الصغيرة ، واندفاعاً وراء حقدي ، تشاجرت ذات صباح شديد الغربان ، مع "صالح عبداللطيف" ، أعلاهم غروراً ، وفقراً ، تنابذنا بالألقاب سريعاً ، ثم احتدَّ ، فجأة ، إيقاع المعركة ، فتماسكنا بالأيدي والأسنان ، وتجمهر الرفاق يشعلونها أكثر ، وجاء العم "ياسين"يجري ، وفضَّ اشتباكنا بطقس مؤلم ، غابة من ضربات العصيِّ ، لا تقيم وزناً لطفولتنا ، وكأننا أشياء ، وبكينا ، وصاح "صالح" في حدة ، بصوت كأنه يخرج من خلال متاهة سائلة :
- والله نهد الدومة ، ونزرعها بصل !
إسراف في تقدير قوته بالطبع ، فمن هو هذا "الصالح" الذي يستطيع أن يهدم الدومة فقط ، بل ويزرعها بصلاً أيضاً ؟! .
ربما لأن ذهني تتبع أبعاد تهديده الغريب ، انطفأت المعركة عند ذاك الحد .
أحسنت إليه ، بعد سلة من الأيام ، بجزء من غذائي ، فاستعرض طبقات حنانه المرتشي ، وهو يلتهم الطعام بشهية مذعورة ، وقال لي :
- إنتا اخويا يا محمد !
أعترف أن لهولاء المتطفلين حمي في القلب لا يرعي ، ومن السيئ أننا تمددنا جميعاً في مساحات البعاد .
ثمة ذكري عاق أيضاً .
قرأت كتاباً معنوناً "من حياة القديسين" ، فعثرت ، في الظل ، علي النبع الذي استمد منه الدوميون خرافة الشيخ "مطاوع" ، أحد القديسين أيضاً ، كان في حياته الأولي رجلاً فاتكاً ، أزهق تسعة وتسعين روحاً ، وفي ما بدا أنه اندفاعٌ وراء الرغبة في التوبة ، ذهب إلي كوخ راهب صالح ، وترجم له نفسه ، ثم سأله عن إمكانية توبته ، فأطلق عليه الراهب الصالح كلاماً أحنقه ، وأخطأت است الراهب الحفرة ، فأزهق روحه ، ثم .. ذهب إلي أحد العارفين ، وروي له أسطورته ، فأشار عليه أن يزرع في أرض منعزلة ، الأداة التي استخدمها في كل جرائمه ، وأن يتعهدها في الصباح التالي ، إذا وجدها قد نبتت ، فهذا يعني أن توبته قد قبلت ، أو لا ، فلا .
وبالطبع ، وككل الأساطير ، كان لابد أن تورق العصا الجافة في الصباح التالي ، تكريماً لذلك النقيِّ الذي قتل فقط مائة إنسان .
منذ ذلك اليوم ، وأنا أعتبر قوة الشيخ مطاوع ، الذي يتربص ضريحه بالمارين في منتصف المسافة بين الدومة وزليتن ، وهي قوة داخل تقدير الكثيرين ، خرافة جميلة لا آخذها مأخذ الجد .
عجل مطاوع أيضاً .
ذلك العجل الذي درجت علي الإيمان بقداسته ، ودرجت عليه ، يهجول في الحقول ، لا مقود في رقبته ، ولا نجمة علي سطحه ، ولا وجل في أقدامه ، ولا خجل ، وبرغم أنه ، وربما بفضل أنه ، يتلف الكثير من المحاصيل ، يعتبر الدوميون مجرد إلمامه بحقولهم بركة لا تطاولها بركة .
كأنما عجل مطاوع هو ذكري حية لعجل أبيس ، المعبود المصري القديم ، هذا يقودني إلي الظن المستدير ، حتي أنه المنعزل ، أنَّ ديانات أسلافنا المنسحبة ، تجد علي الدوام ، التعبير عنها بقوة في طقوس دياناتنا الحالة .
ولكن ، ماذا عن وحدة الأساليب التي تجعل التشابه بين تصرفات الآخر البعيد ، والآخر البعيد ، طليقاً إلي هذا الحد ، لو لم تكن الخوابي الإنسانية كلها واحدة .


(28)

كنت لا أشتبه بعد إغلاق العصارة في سفر عصام إلي القاهرة خلال شهر ٍ أو أقلّ ، ولكن .. قد انحسر الشهرُ ، فجأة ، عن عصام ، تاجراً للخضار بطريقة غامضة ، أو لا أفهمها ، وامتلك أيضاً بطريقة لا أفهمها عربة كارو وحماراً ، وهجول صوته كالثور في أزقة الدومة ، والبطحة ، والحوش ، ونجع عمران ، ونجع الزعرة .
اهتدي أيضاً إلي البعد الثالث للربح ، فتظاهر بالدخول إلي أروقة ذلك الدين الشعبيِّ الممتلئ ، أو الصوفية ، فأرسل لحيته الخفيفة ، وحفظ بيتاً من الشعر أفسح له مكاناً غير محدود في قلب كلامه تماماً .
فليت الذي بيني وبينك عامرٌ : وبيني وبين العالمين خرابو !
لقد أدرك بفطرته أن التجارة لابد لها من سند وافر يرمم رواجها ، ويتمدد في مساحات ثقة الآخرين لوقت الحاجة ، درعاً يحول دون كسادها ، وليس هناك سند أتمُّ امتلاءاً وضمانة ً وجهوزية ً ، أيسر من العزف علي أوتار القطيع الروحية ، حيلة ٌ سحيقة ٌ ، وحقيقةٌ لا تصعد إليها الريبة .
وللحق أقول ، أن تحوّله الأخير كان عرضاً حديثاً لجوهر قديم ، فلقد كان حديثه ، بطول العناق الصحيِّ ، ينطوي علي الكثير من الاحترام لصوت الشيخ ياسين التهامي .
ولقد انخرط في صباه متدرباً علي الدقِّ علي الرقِّ ، والعزف علي الناي ، بفرقةٍ نعرفها بفرقة الشيخ سعد الإنشادية .
وربما كان لقب " الزمرتي " الذي كان يرجمه به الذين يشتمونه أحياناً ، هو ذكري لتلك الفترة من حياته .
لكنهم عندما تزداد حدة غضبهم منه ، كانوا يقولون " يا ابن الزمرتي " .
هكذا الدوميون ، يحاولون أن يجعلوا علي الدوام لمواطن السبِّ جذوراً عائلية ، ليمطروا في أوجاع المعنيِّ أكثر ، هذه الجذور تجعل السباب أحياناً لا يطال المعنيِّ به تماماً .
تشاجر أبي مرة مع مأذون الدومة ، فلم ينج الإمام أبو حنيفة من أطراف الكلمات الحادة .
لا لشئٍّ سوي أن المأذون يردد كثيراً في عمله ، عبارة " علي مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان" ! .
بارك اللهُ الدومة ..

(29)

لقد روي أبي لنا نسب الجبل بغابة من المواقف المتعاقبة ، بطول الشموخ الصحيِّ ، وعرض التواضع الأخاذ ، وكنت شاهداً يمتدُّ من الطفولة حتي تحية المنعطف الأخير لأبي المرحوم ، علي العديد من المواقف الساقطة ، وأبي المنتصر ، والواقف خارج ذاته تماماً ، ولقد احتفظ بسطحه اللائق حتي النهاية غير اللائقة ، وحتي أنه مارس علينا خداعاً منظماً ، ومنتظماً ، جعلنا نضع مرضه في الزاوية اللا محدودة ، واللامعتني بها تماماً ، ومارس ألمه السرِّي بين سواحله الخاصة .
كنا نجلس ، ذات ليلة ، حول موقدنا العائليِّ المصغر ، ولقد اكتشفنا عقب موته أنه موقدنا العائليِّ الكلِّي علي أية حال ، كان قد مضي أسبوعان علي توقيع الطبيب حجره الذي انهار له فيما بعد جبل بعيد ، انتبهت إليه يتنفس كحيوان ضاق به المكان ، لقد تسرب اللون من وجهه تماماً ، فانتهك القلق زرقة قلبي الركيكة ، ونشط ظنٌّ مستدير بأنها طلائع النهاية .
- مالك يبايا ؟
أجابني الأبد المسور حول صمته ، تضاعف قلقي ، غير أنني ، بفعل إضافيٍّ ، تمكنت مع سبق الإصرار من تخفيضه لبعض الوقت ، ربما بدقة أكثر ، تمكنت من توجيهه قسراً ، وجهة أخري ، أو هكذا ظننت ، الصيدلية ، وبعض المشاكل التي تواصل سياجها حولها بإيقاع ركيك ، احتد فيما بعد حتي لا يخشي ضغط الزمن ، وكأنه بلا قيمة ، أصبح بانهيارها تماماً بلا قيمة . كنت علي يقين بأن الانحراف الخطير في عادات بيتنا ، سوف يزيده وعياً بعتمة لقبر المؤجل ، فيضخم من انزعاجاته الداخلية بشكل مروع ، واندفاعاً خلف ذلك اليقين ، تبنَّيت تواطئاً بين قلوب موقدنا الكلِّي المفعمة ، جدتي ، وأمي ، وأشقائي ، علي أن تظلَّ طقوس حياتنا كما هي دون تغيير ، وتظلّ آثامنا الصغيرة ، وغير المشروعة ، تجلجل حول جوف البيت ، لكن بتصرفات هابطة ، وهذا يعني أن نتابع عتاب الأفيون ، ونتابع أيضاً ، جلبه له بالقدر اللازم لتفريغ شهيته له وأكثر ، ووضع العواقب في النطاق الأعمي ، واللا معتني به .
إنَّ سطح خيمة أصبح ، بالنسبة للعراة ، في قلب الريح ، وكل الدروب لا تصل ، جعلنا في تلك الأيام ، لا نتكاتف فقط علي لاستهانة بأي خسارة ، وكل خسارة ، بل جعنا نتكاتف علي مطاردة الخسائر في إيقاع جماعيٍّ شديد الذعر .
كانت حالتنا في ذلك الوقت ، تعبيراً حقيقياً بشكل متزمت ، عن قراءتي السابقة لقصة روسية تقترح ، أن سرباً من النمل كان يسير علي طرف عصا جافة ، وأمسكت العصا بالنار فجأة ، وحاول النمل الخلاص ، وترهلت النار سريعاً ، وأدرك النمل استحالة الخلاص ، فاستدار السرب في نفس الوقت ، واتجه نحو مركز النار .
لابد من الدوران مع العجلة .
وإذا خسرنا كلَّ شئ ، فيوم له ما بعده .
رأيت أبي يحاول النهوض مستعيناً بكتف أخي "عبد الوهاب" ، ترنح ثم استعاد توازنه ، دمه الشحيح ، فمه الذي يتصيد الهواء ، وانتصب ، نهضنا جميعاً :
- رايح وين ؟
- الحمام !
استعرضنا جميعاً جميع ألوان المساعدة ، ورفض ، ونشطت التي لابدَّ لها أن تنشط في مثل هذه الظروف ، يا رحيمة ، وضعت ذراعه حول كتفيها ، تحرس توازنه ، وتعينه علي الطريق ، وتتبعنا الموكب الخالد ، خطواته القصيرة ، آه يا أبي ، ظننتك تخبئ جسداً بديلاً في جيب جسدك ، تركته أمي في الحمام ، وارتدَّت إلي سياجنا القلق حول خيمتنا :
- متكوكرين كده ليه ؟ ، روحوا عند النار !
لقد درجت أمي علي اعتباره قامة هائلة ، فلا تريد أن تتحول في عيوننا إلي شكوك ، ربما ،أو ربما ، فطنت إلي أنه يحتجز صراخه تكريماً لقلق كوافيله الماضية ، انفض قلقنا العاري من حول خيمتنا ، ولكن عبد الوهاب سمَّرَ عراءه بالقرب منه قليلاً ، دهمنا بعد قليل : - عيصرخ بصوط مكتوم !
أعاق الألم ذهني أن يعمل ، ولكن انطباعات السلوي وجدت التعبير عنها عي استحياء في استدعاء التجارب السابقة ، المشابهة ، في مثل هذه الظروف يكون الذهاب بالمريض إلي الطبيب هو البروتوكول الطليعيّ ، واشتعلت عزائمنا فجأة ، وأرسلنا " بهاء " لاستدعاء سيارة الحاج " الأمير " ، ولكن ، قبل أن تطرد " بهاء " عتبة بيتنا المتواصلة ، أطلَّ ، فجأة ، وجهه ، لقد تحلل تعبير الألم إلي ارتياح ، رجع " بهاء " مسحوباً بخيوط نداءاتنا ، وبادر هو " عبدالوهاب " قائلاً :
- قبَّضت الأنفار يا عبدلوهاب ؟
كأنَّ شيئاً لم يكن .
انكسرت حدة قلقي ، وتحرر ذهني من العتمة ، وفتح أزراره العلوية ، فتدفق شلال من النور الفاشل ، فتنبه متأخراً إلي إشارات أمي الخافتة ، سبقتها إلي حيز لا يخون الهامسين ، فهمس لي قلقها عن مذبحة في الحمام ، وسبقتني إليه ، وهناك ، رأيت ما دفعني إلي الرثاء لأبي ، وللشاعر القديم امرئ القيس متضمناً فيه ، فلو أنها نفسٌ تموت سوية ً ، ولكنها نفسٌ تساقط أنفسا ، ما دعني إلي أمنية بموته الفوريِّ ، ليمرَّ شبهاً بشرياً تحت قوس هزيمته المنكرة ، بعيداً عن رقابة عدوه الذي لا يقهر ، قطع ممتلئة ، مختلفة النسق ، من اللحم الكريه الرائحة ، أشبه بشرائح الكبد الحيوانيِّ ، تتناثر في كل مكان ، أذهلني اتساع مجري البول الضيق لخروج الأكثر من مجرد قطعة منها ، ووجدت التعبير عن تفسير في دموع أمي المنسابة من زرقة قلبها الحميمة ، وهي تجلدني بهمسها المذعور ، لقد كان يجذب بإصبعيه أطراف الشرائح العاجزة عن المرور ، تصاعد قلق من جديد ، الألم الضاج أيضاً ، وبرغم دراستي التي تدور الكثير من منعطفاتها حول السرطان ، وقراءاتي الحرة ، والكثيرة ، عنه أيضاً ، لم أقترف تعريفاً لبشاعته المملئة ، قبل تلك الحدآت الزمنية ، وعلي ضوء المذبحة . ولكنَّ انطباعات التهوين بدأت تتناسل في ألمي سريعاً ، وهل فوق رجل مات ؟ ، ظل الألم باقياً ، ولكنه أصبح خافتاً ، يمكن معايشته ، والألم حالة ذهنية إلي حد بعيد ، وربما إلي مدي أبعد حالة الإيمان به .

(30)


أن يقتني بيتٌ في الدومة جاموسة ، أمرٌ لا ينطوي علي شئ من الغرابة ، أو استحقاق للفخر ، ويتم غالباً دون أن ينبه الآخرين ، ولكن أن يقتني عصام جاموسة ، فحتماً سوف تعرف الدومة كلها بأمر هذا الاقتناء ، هو لا يستطيع أن يكتم فرحته ، وزهوه ، بجاموسته التي شاركته حمل أعباء المعيشة ، وملأت بيته لبناً وسمناً وجبناً وقوشة ، وبفعل إضافيٍّ ، نقوداً أيضاً ، كانوا يبيعون الكثير من عطائها كلَّ أسبوع في المدينة .
لم يتسع عصام لثرائه المفاجئ علي أية حال ، وكان أسلوبه للعمل بسيطاً ، وجد التعبير عنه في الدوران حول مجتمعات الدوميين في المقاهي ، والجالسين يثرثرون أمام البيوت ، والجالسين يأكلون أمام البيوت ، والنائمين أمام البيوت ، والأطفال ، يبدأ انخراطه عادة في ثرثرتهم بسلام حار يعرفونه عنه ، يشاركهم حمل سماع الكلام المعاد حتي يفسحوا له لحظة من الصمت ، فيستميت هو علي الإمساك بأطرافها بكل ما يعنُّ له ، ثم .. يملأ ، فجأة ، حنجرته بصوتٍ يراعي أن يثقب آذان الحاضرين جميعاً ، ويصرخ :
- الجموسة مطبخ البيت !
يضحك العارفون به بشدة ، ويشاركهم الضحكات دون أن يسمح لفرصة الكلام المتاح بالذوبان قبل أن يدور بالباقين في شوارع غير مأهولة إلا بفوائد السمن ، أو مسمار الجسم حسب تعريفه ، وأزقة غامضة بلون الجبن ، أو إفطار الملوك ، ودروب تتثاءب إلا عن اللبن ، أو طعام أهل الجنة ، حتي يعلنهم بأمر جاموسته الجديدة ، ثم السلام عليكم .
وهو يعرف ، ونحن نعرف ، أن أفكاره السابقة عن منتجات الألبان لم تكن هكذا ، بل كان خلال عجزه عن شراء جاموسة ، يتهم اللبن بتحريض الأزمة الربوية ، والسمن والجبن بتحريض الخواء والقئ ، ويروج لغباء الذين يقتنون البهائم ، ويتكفلونها ، وحجته قوية ، ما معني اقتناء مسئوليتها ، ما دام اللبن يباع علي الأرصفة .
إن لعصام أحوال !
كان من الواضح في الأيام التي سبقت السقوط المدوي ، والأخير لعصام ، أنه حلَّ تمائم فقره تماماً ، وسطعت أضواء الاكتفاء الأولي علي وجهه ، الاكتفاء بحماية مفهوم الاكتفاء في الدومة طبعاً ، وازداد بمغادرة الفقر وعياً بإحساس الجرئ أيضاً .
انحرف يوماً من مركز البطحة إلي طرف منعزل من أطرافها ، يشتهر المقيمون به باللدد في الخصومة ، واحتفاظ نواياهم بتقليد جماعي لا يطاله التحريف فيما يطال من الثوابت المسنة ، إنه الولع الوافر بشراء الأرض ، وتنكمش بعد هذا كل الرغبات إلي أبسطها ، وأعقدها بدائية ، وتخيل العثور علي غنيمة في الظلال الصلبة ، ربما بدقة أكثر ، أغرته الحصرية ، فما من تاجر لأي تجارة سوي الأرض ، يتوقف هناك طويلاً ، ألقي السلام علي أطراف الحاضرين المدببة ، ثم وجه حنجرته نحو نوافذ البيوت الطينية ، ونادي :
- الشمام البلدي ، الشمام البلدي !
وخذله الصمت المفاجئ ، وتنبه متأخراً إلي أنه كأنه تسلل إلي مقبرة ، وأحاطه الكساد بالتوترات ، فداعب لحيته النابتة قليلاً ، وتناسي أفكاره السابقة عن تهوراتهم الشهيرة ، ووجه حنجرته نحو الجالسين وصاح في غضب حقيقيٍّ :
- صوطي اتنبح ، وانا عنقول الشمام البلدي الشمام البلدي ، ومحدش قال وينك ، والله لو قلت الفدان "البلدي" لجيتوا طايرين ، حسبي الله ونعم الوكيل فيكم !
ضحك أخواله ، وقدموا غضبه علفاً للرياح ، وضم الدوميون ، "الفدان البلدي" ، إلي الكثير من مخلفاته المثيرة .


(31)


ازداد السيد ألم خشونة تدريجياً ، حتي امتلأ فجأة ، ذات ليلة غامضة القويم ، ولكنها مفعمة بالأحداث تماماً .
أتذكر بوضوح أكثر مما ينبغي ، أنني كنت أشاهد برنامج "ستار أكاديمي" علي قناة إل بي سي اللبنانية ، في بث متأخر من الليل حتي أنه مبكر من النهار ، وكنت ، قبل أن يصبح الضحك بالنسبة للأنا المؤجل ترفاً ، أضحك بتصرفات مرتفعة ، كان ضحكي تعبيراً عن تصرفات متسابق من الإمارات العربية يسمي "خليفة" – ورحيق الحنظل- ، لقد توقف ذلك العربيُّ فوق جذور الجنون ، عندما علم بأمر زيارة السيدة هيفاء وهبي إلي الأكاديمية ، جزيرة من العطر لا شك ، ولكنه العطر المتاح ، ولأنه متاح فهو تافه ، لا يحرك أحاسيس الخواص ، ولكنه يجد التعبير عن شهرته داخل تقدير الكثيرين .. الكثيرين جداً من الجائعين ، من الماء إلي الماء .
كان خليفة – ورحيق الحنظل- ، يفكر في كل ما يفكر فيه علي ضوء زيارة هيفاء ، فهرول إلي الحمام ليستحم ، وكانت كلمات المتسابق اللبنانيِّ لهيفاء سهلة ، ورائجة ، وهو يقول لها ساخراً ، في تقييم صائب لعطرها قريب القاع :
- خليفة لما عرف إنك هون ، راح يتحمم !
مقاربة من تليفزيون الواقع ، تفسر ببساطة ، الفارق الرحب بين المتوقفين علي ساحل الثقافة الراكد ، والراقد ، بين الوتد ، وسطح الخيمة ، وريح الشمال ، وحنين النوق ، ووجه شيخ القبيلة أمام نوافذ العقول ، يحجب الجبال البعيدة ، وبين المفتوحين أمام الثقافة المشرعة علي النبع الكوني الشامل ، سليمة التفاعل مع أي موج ، وكل موج . كان المتسابق اللبنانيُّ يعرض علي هيفاء الزواج منه بإيقاع ساخر ، لا يقيم وزناً للعطر الذي أثار جنون خليفة – ورحيق الحنظل- ، في عالم صغير ، يستعرض ألوان العطر لكل من يريد الانزلاق في شرخه في كل وقت ، وأي وقت .
سمعت ، فجأة ، صوتاً يحاول السكون في صرخة ، ثم ، فجأة ، اكتمل ، فتحولت نار المرح الداخليُّ إلي ذعر عصبي ، وركضت صوب النبع ، فرأيت أبي يتألم بكثافة شديدة ، ويمر منحنياً تحت قنطرة ألمه ، متجهاً نحو الحمام ، ظل الصراخ باقياً ، لكنه أصبح هابطاً ، عندما أحس بأجراس خطواتي المذعورة ، وتظاهر بالسعال يضللني ، والأمر واضح ، لم أفهم كيف كان يقدِّر علي أية حال ! .
جعلني عدم خروج أمي كالعادة ، أخمن أن الذي يحدث تعقيبٌ علي محاولة جنسية تامة ، لابدَّ أنها كانت في تلك اللحظات تبكي ، طمأنت ذعر جدتي التي قطعت أنينها ، واستيقظت بفعل الصراخ ، وذلك الكابوس القذر ، انحسر الألم فجأة ، عن أبي يخاطب جدتي وهو يلهث :
- روحي نامي يمَّايا ، مفيش حاجة !
مضت لتستعيد أنينها ، وأدركت أن بيتنا يتحرك بعصبيةٍ نحو الأسوأ ، أردت أن أؤكد له أن الاتصال الجنسيَّ في مثل حالته من المحظورات ، أو يكاد ، وردني الخجل ، سلة من الكلمات لا أكثر ، ولكن ، سوف تحطم لو قلتها تابوهين في الوقت نفسه ، الحديث عن الجنس في حضرته ، والحديث ، وإن كان معاداً ، عن الوحش الذي يكبر في جسده بإيقاع حاد ، وسوف يظلُّ يكبرُ حتي يتوحدا ، ويتلاشي ، ويتمدد في مساحات الغياب .
اشتعلت عزيمتي ، فجأة ، وفي نفس اللحظة ، علي السفر إلي القاهرة ، قرار ينطوي علي الكثير من النذالة ، ولكنه ينجح ، لقد امتلأ ضعفي أمام ضغط القوي السلبية في الطبيعة حتي التفكير في الموت الاختياريِّ ، والفوريِّ ، كنت أنشد الهدنة لا أكثر ، سلة من أسابيع الهدنة لا أكثر ، بعض السلام النفسيِّ لا أكثر ، ذلك التوازن بين القلب والكون ، الظاهر والباطن لأتواصل ، لا أكثر .
في الصباح التالي ، وعلي غير إرادتي ، وأكثر من أي وقت مضي ، شدت الدومة كلها صوب الذنوب رحالها ، معلقة في مسار القطار المختل صوب أعصاب القاهرة العارية ، سوف أدرك هذا ، هناك .


(32)

كانت بداية المنعطف الأخير ترحب بعصام ، عندما كنت مكلفاً من إدارة الصيدلة بالعمل في مستشفي نجع حمادي الأميري ، ودقَّ ، فجأة ، مساء بيتنا ، أخبرني أنه يواجه صعوبة أثناء تبوله ، وأن بوله يخرج أحياناً في خيطين كالأطفال في أيام الختان ،لا أظنُّ أن كلَّ أعضائه كانت قد اختلّت حتي تلك اللحظة ، نصحته بأن يدقَّ صباحي في المستشفي فوافق ، وأدهشني أنه ردَّ ألمه إلي الحسد ، وكان حسد الآخرين له في اعتقاده تعقيباً علي إحصاءه ، مع سبق الإصرار ، بعد نهاية كل يوم عمل ، حزمة من النقود الضحلة تحت عيون الدوميين في مجتمعاتهم .
هذا يقودني إلي الاعتقاد بأن الإيمان بالحسد لا ينتمي إلي العواطف المبتذلة بقدر انتماءه إلي المعومات المحفورة في الجينات الوراثية ، الجدُّ قنين كان مريضاً بفوبيا الحسد أيضاً .
كان المسنون الذين نثق في إصغائهم إلي الماضي بذاكرة لائقة ، يروون لنا أن الجد قنين ، عندما ذهب إلي البطحة لرؤية الخالة "جليلة" للمرة الأولي بعينه الواحدة ، وكانت الأخري مطفأة ، قد ارتدي فانلته معكوسة ، وبرر تصرفه الغريب بخوفه من الحسد ، ولقد أكدت لي الخالة جليلة صحة الرواية ، وأضافت نادبة :
- أمال لو ما كانش أعور .. يا نضري ؟ !
يقولون أيضاً ، أنه كان يحب الطفل عصام أكثر مما ينبغي ، وكان يسحبه وراءه إلي كل مكان ذهب إليه ، وإذا تصادف أن سأله ، ولو بنية طيبة ، أيُّ شخص :
- ولدك دا يا قنين ؟
أجاب مذعوراً :
- لاه !
ثم يدير ذعره إلي طفله الذي لا يتجاوز سنواته الثلاثة الأولي علي طرف الزمن ، ويتساءل :
- إنتا ولد مين يا حبيبي؟!!

(33)

خيام مفتوحة للرياح من كلِّ جهة ، وأوتاد ركيكة ، يهتزُّ كلٌّ منها برعشة خاصة ، وحياة كاللا حياة ، وجدران ، جدران ، جدران ...
أتذكر أن العم عبدالباسط ، وفي ما بدا أنه اندفاعٌ وراء شهيته للمأكولات عالية الدهون ، والحارة ، اشتدَّ مرضه فجأة ، وذهبنا بمرضه إلي الطبيب ، ولسبب غير مفهوم ، أكَّد لأبي ، ولي الطبيبُ ، أن ساعاته لمتبقية علي طرف الزمن لا تتجاوز الستة ، ورجعنا والحزن ، وظللنا إلي جواره حتي وقت متأخر من الليل حتي أنه مبكر من النهار ، وهو يستغرب بقاءنا بهذا الشكل ، فجأة ، خلع تعبير الخجل عن وجهه ، وصاح بنا :
- مبلطين كده ليه ؟ . ما تقوموا تمشوا ، عايزين إناموا !
واستجابة لرغبته الأخيرة ، أو هكذا قدَّرنا ، انصرفنا لنتركه يصغي لموت بعيداً عن رقابتنا ، ورتبنا قلوبنا لصباح جنائزي ، ولكنه فاجأنا بوردته الطليعية في حوض صباحنا في موعدها تماماً ، كان لا يزال حياً ، ولائقاً أيضاً .
ولسبب غير مفهوم أيضاً ، فشل أطباء مستشفي نجع حمادي في اكتشاف مرض عصام ، وكان فشلهم من أقوي بواعث الريبة لديَّ في أنَّ وراء الظلال حقيقة صلبة ، ونصحته بالذهاب إلي طبيب أثق في شهرته أكثر ، هو هو الطبيب الذي أكَّد ، في نقطة كانت في ذلك الوقت مختبئة في تجاعيد الغيب ، ورم أبي ، د. محمود مصطفي ، لقد أصبح مجرد ذكر اسمه ، بالنسبة لي ، كافياً لجعل الانخراط في انطباعات الضيق يعمل ، وتوقعت الطاعة ، وكان ، وكان حجر الطبيب الذي انهار له عصام فيما بعد ، لحمية في الحوض ، خذيني وجرِّيني ضباع ، وأبشري ، بلحم امرئ ، لم يشهد اليوم ناصره .
وسافر المسكين إلي القاهرة ضيفاً ، للمرة الأولي ، علي معهد الأورام ، ليس الاسم الأجمل ، ولكنه الملائم .



(34)

كانت أكثر من مجرد صدي للألم ، ضحكات عصام في ليلنا ، عقب عودته من رحلته العلاجية الأولي إلي القاهرة ، حكي لنا الكثير ، بروح تحتفظ بلياقتها السطحية ، عن الذين يشبهونه في العجز من المرضي ، كان الكثيرون منهم ، بحماية ادعاءاته ، يواجهون المرض باللامبالاة ، ويتزاحم الكثيرون أيضاً حول تبرعات الأنقياء غير المشروطة للمعهد إلي درجة الشجار معاً ، ومعاً ومع الموظفين ، ومعاً ومع الموظفين والأطباء ، وقد يصل الشجار إلي حد التماسك بالأيدي والأسنان ، وتترهل الحكايا ، لا تخشي ضغط الزمن ، وكأنها بلا قيمة .
وكان لابدَّ ، لأنه عصام لا أكثر ، أن تنزلق الحكايات في شرخ المبالغة .
حكي لنا عن مريض من محافظة الشرقية ، أجري له الأطباء ثلاثين عملية جراحية ، ليس هذا موطن الطرافة في ترجمته لذلك المريض المسكين ، بل ادعاؤه أنه يعيش بغير كليتين ، وكان لابد أن يواجه التعبير عنه سؤال من هنا أو هناك ، كيف يعيش إنسانٌ بغير كليتين ؟ ، وأجاب عصام جاداً :
- بالبركة !
إنه اليقين يقوم مقام الرغبة لا أكثر .
طالت الحكايا الممرضات أيضاً ، حكي لنا عنهن الكثير ، هنّ يعاملن مريض السرطان كمعاملة أيِّ ممرضة لأي مريض بالأنفلونزا ، وليس الأمر ينطوي علي شئ من الغرابة ، فإنه من غير المعقول أن تتفاعل الممرضة مع مرض كلِّ مريض ، أو تشعر نحوه حتي بالقليل من التعاطف ، وإلا تحولت إلي أطلال ، إنها تؤدي عملاً ، ثم إنها بالإسراف في التجربة ، لمست العمق الأليف للموت في إطاره ، أو أصبح ، علي الأقل ، مجرد طقس مسرف في التكرار ، أصبح الموت من اليوميِّ ، وأجد هذا تعبيراً عن حقيقياً عن حكاية قرأتها ، أن رجلاً استوطن بيتاً بالقرب من مدبغة للجلود ، وظلت الرائحة الكريهة كعالمنا ، لسلة من الأيام الأولي ، تثير غثيانه ، وخاص صاحب المدبغة إلي السلطات ، وتلكأ دهاء صاحب المدبغة عن الذهاب أسبوعاً ، ومضي الأسبوع ، وماتت الشكوي .
لقد اكتسب الساكن الجديد بمعايشة الرائحة وعياً جديداً بإحساس الألفة .
اشتبك مع ممرضة في فاصل من السخرية ، فقالت له من بين ضحكاتها :
- يبتليك بمحسن !
وهذا المحسن بحماية ادعاءه هو حلاق المعهد ، وذهاب المريض إلي الحلاق ، يعني أحد البروتوكولات الطليعية لإعداده لجراحة نتيجتها المؤجلة ، والفريدة ، حتي أنها الوحيدة هي الموت ، هي تعني ببساطة :
- يا رب تموت !
نضحك حتي تدمع أعيننا ، يظلُّ الألم باقياً ، ولكنه يصبح خافتاً ، أو هو لم يكن ضحكاً بقدر ما كان محاولة للفرار من مجرد استشراف الغيب بطريقة ركيكة .
الطبيب أيضاً ، ليس من المعقول أن يكون صديقاً ، أو رقيقاً إلي هذا الحد .
عقب سلة من الرحلات بين الدومة والقاهرة ، صدمه الطبيب صدمة فاحشة ، طالت بتصرفات منخفضة صهره "أبوالوفا" أيضاً ، لقد فتر حماس المتحمسين لمرافقة ورمه إلي القاهرة سريعاً ، وواظب فقط أصهاره علي حراسة حماسهم حتي النهاية . لقد أعلنه بتبني الأطباء المعالجين قراراً باللجوء إلي الكيماوي كممر وحيد نحو شفائه ، أدركت من الشوك في كلامه ، أن الورم كان قد ترهل إلي حد أصبحت معه السيطرة عليه مستحيلة ، وأن الجراحة تتحد تماماً بالقتل الميسر ، استوعب عصام أيضاً أطراف الكلمات الحادة ، وقال للطبيب ، وعيناه توقِّعان دمعهما :
- استحمده اللي جات فـ الطواطة !
عبارة ليس من السهل تفسيرها ، أو حتي إلقائها علي أطراف جملة تستدعي عمل الذهن في مقاربة مرضية لتفسيرها ، هي لابدَّ سلة من التكلسات المكدسة في جيوب ذاكرته المشتتة حالاً ، طفت ، فجأة ، بعشوائية ، والتحمت بعشوائية ، فجأة أيضاً ، فشكلت تلك الأخلاط اللغوية .

(35)

ينتصب ليل الدومة كمأذنة مهجورة خلال وشائج جلية ، وشائهة ، من الخواء الروحيِّ القاتل ، وتتجلي ألوان البهجة في أدني بقعةٍ في الظلِّ حدثاً باهظاً ، ينخرط في لهجات المتعبين غابة من الأيام قبل تحققه ، وغابة من الأيام بعده ، وتجد الحضرة الشومانية ، حتي بعد أن واجهت إلغائها ، التعبير عنها في الكثير من النبض الشهير في أوردة الليالي الخوالي ، والقادمة ، التي وزعت ، وتوزع ، نقاط البهجة في أفق الدومة الآسن .
وحتي كتابة هذه السطور ، لا يزال الريش يتطاير من جيوب ذاكرة ادومة الكلية ، فينساب في سطحها شلالٌ من العصافير لا يصدأ ، ولا يواجه إلغائه ، تكريماً لذكري الأخوين " أحمد ومحمد أبوشومان " المرحومين .
يدق الأخوان طبلتيهما ، انطلاقاً من صفر بيتهما في الجيب الشرقي من الدومة ، وتزداد تدريجياً إيقاعات الطريق حدة ، ويزداد الأخوان مركزية في دوائر الصخب ، ويتسلل إلي حوافهما الكثيرون من الجالسين أمام البيوت ، والجالسين أمام المقاهي ، والفضوليين ، والنمامين ، والعاشقين ، والحاقدين علي العاشقين ، والطيبين ، والصالحين ، والمنافقين ، والصوفيين ، والمسيحيين ، والأطفال ، وتتشكل قومية كبيرة بطقس بسيط ، وتتنحي الأحقاد جانباً لبعض الوقت .
يدق الأخوان أحمد ومحمد أبو شومان طبلتيهما علي نحو مذعور ، ولكنه حميم ، قبل سلة من الأمتار من مظان الحضرة ، فتستقبل النساء وفادتهما بالزغاريد ، تستخف بعض الصغار نار لمرح الداخلي فينزعون ثيابهم ، ويصير الصخب ممتلئاً حتي كأنه هدوء ، ويندمج مع الهمس ، والأسرار الخفية ، وأصداء البيوت ، وحفيف الأشجار في الحقول ، ونقيق الضفادع ، وخفقات أجنحة الفراشات السحيقة ، وانتفاضات البهائم في الحظائر تنفض الغبار والحشرات عن جلودها ، فيشتعل الليل كفضيحة ، وتصبح نار المرح الداخلي تعبيراً محمياً لا يتسع له الكثيرون .
يدق الأخوان لدقيقتين طبلتيهما وقلبي ، واقفين في صدر المكان وقلبي ، ثم تهبط حدة الإيقاع تدريجياً ، حتي يتفتت تدريجياً إلي شكوك غامضة ، تتابع خفوتها ، ثم ، فجأة ، تتلاشي ، لتتماسك من جديد عقب انتهاء طقوس العشاء ، وتنتظم حلقات الذكر انتظاماً ركيكاً في البداية ، لا يلبث أن يحتشد ، وتتحول الأجساد إلي جمل روحية ، عندما يتأكد العم محمد أبو شومان من إمساكه التام بأزمة الرجال المترنحين علي الحافة الغامضة ، وفي لحظة معايرة بعناية خاصة ، يبدأ في ترديد العديد من الحكايات الأسطورية عن السيد أحمد البدوي ، الذي .. أبو بطن واسعة ، والذي شرب ماء البحر برشفة واحدة ليعيد طفلاً غريقاً إلي أمه ، والذي .. كان المريدون يلتقطون بيض طيور الفردوس من صومعته ، وفي الحقيقة ، لم يقل العم محمد لنا و للتاريخ ، هل كان ذلك البيض نيئاً أو مسلوقاً أو مشوياً في نار جهنم ؟ ، أو لم أفهم علي أية حال ، ولكن ذكري مشابهة ، وهزي إليك بجذع النخلة ، تدفعني إلي يقين بأنه كان نيئاً ، ليدرك الذين يفضلونه مسلوقاً أو مشوياً قيمة العمل ! .
وتعبر الأساطير تباعاً من نفس إلي نفس ، خلال الفجوات الذهنية ، تحت درع ثقيل من الاعوجاج الفكري ، دون عائق ، بل والإيمان الطليق في صحتها ، أو هكذا يظن الحمقي ، هم أكثر خبثاً بالتأكيد الزائد عن الحد ، وهم لا يصدقون إلا ما يرون ويلمسون ، لقد اتخذوا من التعايش السلميِّ مع كل المعتقدات درعاً يحرسون به بقاءهم ، تقليد دوميٌّ خاص ، وهذا يقودني إلي حكاية طريفة ، ورائجة ، للعم محمد أبو شومان ، تعكس المشهد كاملاً ، وتشوهه تماماً .
كان العم محمد ذات ليلةٍ مستغرقاً في حالته تماماً ، وكان يردد ، بنغم سكَّري :
ساكن طنطا ، وفـ مكة صلاااااتو ! -
واقتحمت حالته ، فجأة ، زوجته ، الخالة صديقة ، مذعورة ، وألقت عليه نبأ شجار عائليٍّ كان لا يزال نشطاً حول بيوتهم ، وأضافت ، أن العم "حلاتو" كان في زيارة للدومة ، وتدخَّل كطرف أصيل في المعركة ، فتحلل تعبير الرضا علي وجهه إلي غضب ، ويبدو أنه لم يتمكن من الانسحاب من حالته في الوقت المناسب ، وربما كان الغيظ ، وربما الذعر من تهور العمِّ حلاتو ، هو ما جعله يصعد بالإيقاع إلي ذروة العنف ، واستأنف الإنشاد بشكل مروع ، وهو يتساءل ، بنغم عدائي :
وايش دخَّلو فيها حلااااااتو ؟!! -
تعليق حقيقيٌّ ، بشكل متعصب علي أفكارنا السابقة عن الزنادقة ، وخبث الزنادقة حيال الحياة .
هناك بعدٌ آخر لشخصية العم محمد أبو شومان ، العم محمد أبو شومان مؤذن المغرب الدوميِّ في رمضان .
بعدٌ ثالثٌ لا ينتبه إليه الكثير من الدوميين ، أروع مؤذني المغرب في رمضان علي الإطلاق .

(36)

حتي ابتلعه المنحني الحاسم ، ظلَّ عصام محتفظاً بروحه المتهكمة ، هذا أضفي عليه مظهر المستهين بالموت ، بشجاعةٍ صلبة ، ولكنَّ شجاعته الزائفة لم تنطلي عليَّ أبداً ، ولم يكن بالطبع من اللياقة اختبارها ، كنت أصغي لما لا يقوله ، لا ما يقوله ، هكذا تعوَّدت ، ثمَّ تحت السطح .. كأنني كنت أصغي إلي داخله المكتظ بالأصوات تماماً .
قبل انهياره ، بلا مبالاة ، بأسبوع وبعض الأسبوع ، كنا نجلس منفردين في بيتنا ، نشاهد فيلماً من الأفلام التي استعارت عالم الأستاذ نجيب محفوظ بإسراف ، حتي انزلقت في الجرح الذي لابدَّ لها منه ، التكرار ، وعدم معرفة المشاهد بالحقيقيِّ ، وبالمطليِّ بظلٍّ شاحبٍ من اللاشئ ، وانساب مشهدٌ لست أدري ماذا لمس بالضبط في جيوب ذاكرته ، كان المشهد يجمع بين الأستاذين صلاح قابيل ، ومحمود ياسين ، وآخرين ، أتذكر الحوار علي نحو واضح ، لقد تساءل الفنان محمود ياسين من ردهة شلله الواضح ، بصوت يلائم العاجزين :
من إمتا كلابها عوت علي ديابها يا نوح يا غراب ؟! -
خفض عصام رأسه ، وقوَّس كتفيه أماماً ، وأطلق صوتاً هائماً ، يفتش عن إدانة غامضة لشئ ما ، ثم انخرط في بكاء حاد ، مذعور ، حتي أنه نبه علي بعد غابة من الخطوات أمي ، وتنبه ذهني مبكراً إلي سخافة أيِّ محاولة مني لتهدئة قلبه ، بل وشاركته بنصيب وافر من الدموع الحقيقية لأحرضه ، لقد درجت عليه يضحكنا فيريحنا ، فلماذا ، ليرتاح ، لا أتركه يدين الوجود بإيماءته الوحيدة المتاحة ، عينيه ؟ .
إن ساخراً أصبح ، فجأة ، مركز دائرة السخرية ، خليقٌ بأن يقوم مقام الدليل الذي لا مراء فيه علي عبثية الحياة ، وبساطتها أيضاً ، هل فوق حياة ؟ .
استعاد هدوئه بعد دقائق من البكاء المتدرج صعوداً وانحداراً ، ثم اشتعل عزمُه ، فجأة ، علي الفرار ، لقد لمست بوضوح أكثر مما ينبغي ، خجله الشديد من عراء انزعاجاته الداخلية أمامي .
لماذا ؟ ، إنني أخوك في العجز ، وخوابي الفشل المشتركة .
طالبتني أمي ، بعد أن ابتلعه الشارع الخالي من العصافير ، بتفسير لجنازتنا القليلة الماضية ، يا أمي الطيبة ، إنَّ هكذا سؤالاً ، سؤالٌ يجري في يقين السخافة ، إنَّ شاباً تترنح الحياة في قامته ، وتتماسك عيناه هو السؤال المتطلب ، تمسكتُ بالصمت الجارح ، لقد ردَّني الخجلُ أن أحدث أمي عن .. نو ح الغراب .
كانت هذه هي آخر مرة أري فيها عصام ، ولقد انخفضت بفضلها زرقة قلبي كثيراً ، حتي أنني وضعت مأساته في جيب همل من جيوب اهتماماتي ، فقط لا أتسع لها ، ولا يتسع قلبي لموطأٍ لخسارة إضافية .
علمت فيما بعد ، أنه ، وهو في طريقه الأخير إلي القاهرة ، علي مشارف الدومة ، هاجمه نزيفٌ حاد ، أعاق رحلته الأخيرة من رحلات الدوران في الفشل ، وعاد مستنداً علي ظلال الآخرين ، بملامح وجهه القادم .
استيقظت مذعوراً ، ذات صباح لا مراء في بومه ، علي ضجةٍ أكيدة ، ونظرت من النافذة القريبة ، ورأيت الخالة جليلة ، تندفع مهرولة من باب بيتها إلي الشارع السائل ، والخالي إلا من الغربان ، يتبعها سلة من النساء ، تتزاحمن علي تهدئة قلبها ، غرسَت عينيها في لحم السماء ، وصاحت في تحفز حقيقيٍّ :
- يا ظلمك ، يا ظلمك !
كانت بحماية أكبر خسائرها علي الإطلاق معذورة ، لقد دخل وحيدها موته ، موته الذي أتمَّ امتلائه قبل غروب ذلك اليوم تحديداً ، ثم تحول عصام إلي حزمة من مكعبات الثلج ، ثم .. ذاب في مساحات السفر الواسعة .
الغروب ..
جزيرة ٌ حقيقية ٌ من الجمال الخاطف .
لكن الوجه المتغضن .. علي الرماد .

(37)

إذا كنتُ أظنُّ أن الخالة جليلة قد تمددت هي أيضاً في مساحات السفر الواسعة ، بعد موت وحيدها ، عصام ، بسلة من الشهور القليلة ، تعقيباً علي هدنةٍ للقلب المفعم ، تحولت إلي فرار مدبر إلي حيز لا يخون الفريسة ، فلأن ذلك علي الأرجح ، هو الذي قد حدث .
لقد أسكتت مع سبق الإصرار قلبها ، ليتَّحد فقيدها هناك ، من جديد ، بهمهمة الأصداف في رحمها الشحيح ، لقد باشر الجود فقط بأنثي ، ثم الجود بالقبر المؤجل الذي أسمته عصام ، ثم تمطَّي في أقبية الجفاف حتي عمَّرَ الجدُّ قنين قبره ، وتوقف جوده من تلقائه إلي الأبد ، وتأكدت عفَّتها إلي الأبد .
ويحيِّرني بقاء جدتي ، حتي كتابة هذه السطور ، خلف وحيدها الذي أعقب فقط أنثي ، ثم انزلق جدي في الهوة التي لابدَّ له منها ، وتأكدت إلي الأبد عفَّتها .
وهذا التشابه الغامض .
وأظنُّ أن بقائها المريب ، يجد التعبير عنه في تغيير هزيمتها الكبري إلي معلومات إضافية في جيناتها ، أمَّنت لها الصمود لوقت الحاجة ، ولكن الذي أثق فيه تماماً ، أنَّ نظراتها الهائمة علي الدوام ، تفتِّش تحديداً عن وجهٍ يرجُّ قامته في روحها ، لتستقرَّ عليه ، إنه ذلك الوجه الدائر في خطواتي كمقصلة ، تخيِّم علي جزيرة عاطلة .


(38)

ليلةٌ أخري مليئةٌ بالأحداث ثم انزلقت في شرخ النوم ، ونشط سطح الذاكرة لتصيد الصور من ذلك البهو السحيق من الزهور الذابلة ، ودفعها إلي الحلم العكر طازجة تماماً ، ومكتظة تماماً بوجوه الموتي ، ورأيت أمي التي لا تحب الحناء تكشط الحناء من يدها بسكين ، وسألتها مستنكراً عن السبب ، فاتهمتني بالغباء لأنني لا أعرف أنه لا يصح أن يراها الناس في مأتم الخالة نعيمة القريشة هكذا ، اتهمتها جدتي بتضخيم الأمر ، وأكدت لها أنها ذهبت إلي مأتم علي أبو الصادق عارية تماماً ولم يهتم أحد .
اقتحمت فجأة الخالة جليلة بيتنا في ذعر ، وأخبرتنا أن تروس العصارة قد التهمت ذراع بكش ، صرخت أمي ، واتهمت جدتي العم عطالله ميكانيكي العصارة بأنه لا يجيد ترويض الخيول .
ورأيت أبي في مكان مشوش جالسا في ظلال شجرة ليمون يبكي ، والعم عبد الباسط يضرب كفا بكف ويقول أن شيئاً كهذا لم يكن ليحدث لو كان صدام حسين هو المفتي ، وقال العم عطالله أنه رأي من قبل هكذا حادثاً ، ودفنوا المصاب حيَّاً في جبل عرفات ، ورأيت عصام علي ساحل العصارة يمتطي حصاناً مسرعاً ، ناديته ولم يلتفت ، ودخل في يقين الغياب .
ظهرت عمتي فتحية يتبعها عددٌ من النساء ، لقد احتفظت بصورة طورها الأخير تماماً ، وقالت لأبي في غضبٍ عصبيٍّ أنها قالت له من قبل أكثر من مرة أن الشيخ مطاوع يريد "بسلة" ولم يفهم ، وأنَّ أحمد أبو شبيب ، لا يمكن أن يزور الدومة ، فقط رأت السمَّاوي فوق السواقي ، يستريح ، وسوف يعدُّ السمَّ للكلاب ، وأن بهاء قتله "المراعوة" وهو يلعبُ أمام دكان علي أبو عسران .
واستيقظتُ مذعوراً ، دقائق ودهمني النوم مجدداً .
اتهمتني صديقة في الصباح أقدم عمراً من أحزاني ، أنني أقترف كتابة الشعر في نومي ، كنت تقول :
فليت الذي بيني وبينك عامرٌ ......
ويلك ، لا تلمسي شيئاً ، إنه بيت عصام ، أو البيت الذي كان يردده علي وجه الدقة ، يبدو إذن أنني لم أغادر الدومة ، ويبدو أيضاً أن الألم لا يحترم قواعد المنظور ، أو لا يراعي النسب بين المسافات والمساحات في العالم الخارجيِّ . إنني هناك ، وتذكرت حكاية من حكايات رهبان الزن – الزن هي البوذية علي الطريقة اليابانية .
تسللت البوذية إلي اليابان من الصين مبكراً ، غير أن اليابان استقبلت وفادتها بذلك التقليد اليابانيِّ الخاص ، أو الزلزال ، وأخذت من حطامها جوهر بوذا نواةً لعقيدتها الخاصة ، حيث انكمش كلُّ شئٍّ إلي أبسط الفضائل التي لا تقبل الجدل ، وأكثرها تحضراً أيضاً ، حتي أنها لا تتقاطع مع أي عقيدة أخري ، صدمة ميسَّرةٌ لا أكثر .
ولا شك أن للزنِّ إيماءةً مقدسةً في انتصاب اليابان خلف الكبوة الشهيرة ،
تقول الحكاية :
راهبان كانا في سفر، منذ ثلاثة أيام لم يصادفا سوي امرأةٍ عجوز علي عتبة كوخها ، قدمت لهما قليلاً من الشاي والشعير المحمص والزبدة الزنخة ، أبقاهما هذا التسامبا الهزيل المحضر في العشية الفائتة علي معدة خاوية ، مكثا جائعين ، باردين ، ثم مضيا ، فجأة ، راح المطر يتساقط ، تدثر أصغر الراهبين سناً بذيل ثوبه قدر ما استطاع ، وتابع الآخر ، الأكبر سناً ، السير بصمت ، هبط الظلام ، وليس في الأفق أي مأوي ، ولا معبد ، ولا صومعة ، ولا حتي أبسط كوخ ، كان الدرب الذي يسلكانه يتيه بعيداً في الجبال ، لم يعد الشاب المبتدئ يتحمل ، ثم إنه لا يعرف هدف هذه الرحلة التي لا تنتهي ، لابد أن معبد الزن غير بعيد ، قال لنفسه :
يبدو لي أننا نقترب من كاماكورا ، ولكن هل هي حقاً وجهتنا ؟ .
حطم تعليمات الصمت الصارمة ، وجرؤ علي أن يسأل سيده الذي كان يمشي بمحاذاته " أيها المعلم ، أين نحن ذاهبون ؟ ".
أجاب المعلم :
- نحن هناك
وألح الراهب الشاب :
أتريد أن تقول إن المكان بات قريباً
هنا الآن نحن في المكان نظر المبتدئ المشدوه إلي الدرب المتناثر الحصي ، الموشح بالضباب ، في البعيد ، كانت قمم الجبال الرهيبة قد أخذت تتلاشي في ظلام الليل ، كان خائفاً ، يرتجف برداً ، وجائعاً ، وفجأة ، كلمح البصر ، فهم ، وتذكر الكلمات التي غالباً ما يرددونها في الدير " الزن دربٌ موصل ، الأبدية في كلِّ خطوةٍ مسوَّرةٌ عليه "
والألم أيضاً .
يقول رهبان الزن في أشعارهم أيضاً :
نوتيِّو الزوارق يصرخون للمسافرين
بعضهم يعبرُ ، أنا ، لا
بعضهم يعبرُ ، ليس أنا .

(39)

حتي كتابة هذه السطور ، لا أستطيع أن أتخلص من ماءها الآثم ، تلك الموجة المتواصلة من الإحساس بالذنب التي تضرب حواسي ، لقد تفاقم الوضعُ بعد سفري كثيراً ، وبرغم اتصالي بإخوتي ساعة كل يوم ، بل كلَّ ساعة في اليوم ، وربما بفضله ، لم أقف علي حقيقة التطورات علي بعدٍ يضئ المسافة ، كان الهدوء شديداً كأنه صخب ، أصواتهم السهلة ، أوتارها الرخوة ، حتي صوت الخيمة نفسه كان سهلاً ، لا يخشي ضغط العاصفة ، وكأنه ليس في قلبها ، لقد نسَّقوا بكثافةٍ شديدةٍ مكيدتهم ، غير أنَّ القلق كان يمتصُّني بوضوح أكثر مما ينبغي ، وكان كلُّ رنين للمسرة ، أو الهاتف في دفاتر المجمع اللغوي المتأخرة ، أو التليفون في العرف العام ، هو نعيٌ أكيد لأبي ، وأعدتُ كلَّ هذا إلي طبيعتي القلقة .
علمتُ فيما بعدُ أن حاجة أبي إلي الدم ، بعد هروبي ، أصبحت ، بالنسبة لمصاعب العثور عليه تحديداً ، وبالنسبة لوتيرة النزيف التي تتضاعف كلما تقدَّم الورمُ في العمر علي الأقلِّ ، قاسية جداً .
تصدي لها حازم ، ومحمد أبو أحمد ، وعبد الوهاب ، وعبد الفتاح ، وعلي أبو عدلي ، وصلاح أبو عدلي ، وشاكر أبو محمد أبو شاكر ، وآخرون ، فشكراً لهم ، ووديعة لوقت الحاجة إلي ردها ، وأمنية بألا يجئ .
كان اتصال عبد الوهاب يختبئ في نقطة من نقاط المستقبل ، تبتعد عن يوم سفري بخمسة أشهر وبعض الشهر ، أتذكر أنني كنت جالساً علي مقهي يتوسط القاهرة ، وشاهداً علي جنون مرضعةٍ من الهناجر ، تضع في فمها طرف عصا مشتعل برهافةٍ بالغة ، تتزاحم حول جنونها المرتَّب العيون :
- انزل ضروري ، أبوك تعبان قوي !
وثبَّتت ذاكرتي اللحظة .
وأنا أتعهد الآن ثباتها ، تجد دهشتي التعبير عنها في استهانة عبد الوهاب بجغرافية مصر العليا ، لماذا لم يقل اطلع ضروري ، وقال ، انزل ؟ .
ونزلت .
مضي القطار نحو شمس اليوم الخامس ، وأهدابي كالقضبان ، صلبة ، لا تتحد .

(40)

كانت شمسُ اليوم الخامس ، تطارد آخر قطرات الظلام فوق السطوح النائمة ، عندما توقف التاكسي برقة أمام السياج الشماليِّ من الطلل ، أو العصارة في دفاتر الماضي القريب ، الباب المفتوح علي غير العادة ، يبدو أنهم كانوا يتوقعون الطاعة ، مسافة ميسرة ، لكنها لا تضئ الفريسة ، حاولت أن أحلل الأصوات لأعزل خيطاً يرشد ظلي إلي اكتمال الفاجعة دون جدوي ، أخليت وجهي من أيِّ تعبير أستريح إليه لتعابير وجهي القادمة ، ودخلت ، فواجه الصمت الركيك إلغائه حالاً ، لقد نفضت كلابنا نومها ، وأقبلت تجلجل نحو الغريب المشكوك في نواياه حيال الحيز النائم ، بحماس عصبيٍّ ، تحلل النباح إلي أصوات أشبه بالأنين عندما استطاعت أن تفكَّ شفرات ذكرياتنا المشتركة ، ورائحة موقدنا العائليِّ القديمة ، وتأكدت من نواياي الحسنة .
كانت وجوه القلائل الذين ارتطمت بتربصهم قد انكمشت إلي أبسط التعبيرات التي يسهل تحديدها ، وأشدها ألماً ، الرثاء بمختلف الألوان ، لقد صارت الطريق إلي قبونا أكثر هبوطاً ، وتجاوزت رائحة الجثة عتبة بيتنا النقية ، فتدحرجتُ بلا مبالاة ، ضبطت أمي تضبط ظلها في تجاعيد الجدران علي انتظاري ، لقد خسرَت نصف وزنها ، وحفر الحزن شقوقاً في شروخ أوجاعها ، بعد عناق قليل ، لكنه حار ، قالت من بين دموعها المتضامنة :
- ابوك عيموت !
وانفجر ، فجأة ، شلالٌ من الدمع الساخن ، وانتعش في قلبي رجاءٌ ، وموجة من نار المرح الداخليِّ ، بل نورٌ جدير النبع ، ربما كان تعقيباً علي اعتقادي الفاشل بأن دوائر موته قد اكتملت فعلاً ، وعلي ضوء الموت ، تصدُّرت الترتيبات اللازمة للطريق بعد رحيله لائحة اهتمامات ذهني العالقة . تقدمتني أمي نحو مرقده ، والتقطت بالقرب من احتضاره نوم عمتي ، لقد وجدت نصف وزنها ، التقطت أيضاً حطام جدتي في الزاوية المدانة ، تحمل وجهه في جيب وجهها ، عيناها المتعبتان ، يا سيدة التين الشوكيِّ ، افتحي حطامك لبعض العناق الضروريِّ قليلاً ودمعي ، وسمعت من بين حطامها صوت أمي اليائس يعلن غيبوبته بعودتي ، فاستدرت ، فأدهشني أن أراه علي خاصرة الدمعة يحاول النهوض ، تسلقت سريره مأخوذاً ، أعينه علي انتصاب قامته الفوقية ، ورحبت بي غيبوبته بحرارة ، أو هكذا كانوا يظنون ، وبحضن اعتباطيٍّ ، وابتسامة معقوفة :
- ألف بعد الشر عليك يبايا !
أجابني بمفاتيح هائمة ، لا تجيد العثور علي ثقوبها الخفية في أبواب الكلمات ، ثم انزلق فجأة ، بلا مبالاة ، في شرخ الفراش الفاتر ، كان قد ربح نصف موته ، وحطَّ نصف رجاء بالقرب من القلوب المنهكة ، اكتمل ، فجأة ، بعد قليل ، لقد استعان بنصف حياته واعتدل مرة أخري من تلقائه ، حاول إشعال سيجارة ، ولسبب غير مفهوم ، أعنته علي إشعالها ، سحب خيطاً خافتاً من الدخان ، وبمجرد أن مسَّ الدخان رئتيه سعل سعالاً عصبياً ، وأسقط السيجارة علي الفراش بقربه ، وانهار راقداً ، استعرت السيجارة من نقطة سقوطها ، ثم .. جلست ، أراقب ، من بين سحب الدخان ، نموَّ الضوء حول قبونا ، كنت للمرة الأولي ، أدخن علي بعد ياردات من أبي ، كان يدرك بالطبع أنني مدخن ، وكان أحياناً ، يخلي المكان من قامته ، ليفسح لنا سلة من قيود التدخين في وجوده ، كان أيضاً ، يرسل لنا أمي ، في جذر الليل المغلق ، بالكثير من سجائره ، عندما يفطن إلي نفاذ رصيدنا منها ، اعتدل مجدداً فاضطربت ، وقذف اضطرابي بالسيجارة بعيداً ، لقد كان عدم التدخين في وجوده يجثم علينا جثوم العادة ، سحب لفافة من السلوفان من تحت الوسادة ، إنه الوقت الخاطئ لانسياب المخدر في جيوب جسدك يا أبي ، وكأنه كان يصغي إلي انزعاجي الداخليِّ ، تردد قليلاً ، ثم أعاد الخطر إلي مكمنه بعشوائية ، وانهار .
قبل انبلاج النور الذي لا شكَّ فيه ، توافد أشقائي تباعاً ، لقد اكتسبوا جميعاً ملامح وجوههم القادمة ، ولقد زودوا أجسادهم علي غير العادة بالقليل من النوم الركيك ، يستعينون به علي متاعب الجنازة ، نوَّهت لهم عن قلبي ، إنَّ الذي يظنُّونه الموتَ يرابط أمام قبونا ليس الموت كما ينبغي ، وإنما هي مضاعفاتٌ متفاقمة ليس من الصعب تداركها ، راجعت الزرقة قلوبهم ، فأعلنتهم باشتعال عزيمتي علي إلقاء نردنا القادم في مستشفي سوهاج الجامعيِّ بطقس بسيط ، أن نستعين بالنقود المختزنة للجنازة لتأجيلها لبعض الوقت ، ثم نباشر تربية النقود القادمة ، واختزان القليل منها للجنازة القادمة ، قامت الرغبة مقام اليقين ، فوافقوا ، وبرزت مشكلة .
كان خطاب التحويل الذي بحوزتنا مسناً ، وكان عليَّ ، سداً لكل الثغرات ، الذهاب ، دون اصطحاب أبي ، إلي مستشفي نجع حمادي ، لأحرز خطاباً أقلَّ عمراً من نصف يتمي ، وكان ، وبرزت مشكلة أخري .
لقد حاولت عمتي إطفاء عزائمنا ، والوردة الخاطفة :
- والله يا ولاد أخويا ، خسارة فلوس وبس !
وانساب من نيتها شلالٌ مكثفٌ من دلائل النهاية الوشيكة ، والمؤكدة ، لا يحترم ضغط الأمل ، وكأنه بلا أوَّل .
وانحازت جدتي إلي نيتها ، وانحازت إلي نيتها أمي وشقيقاتي ، وقدَّمنا ، مع سبق الإصرار ، توسلاتهنَّ السائلة علفاً للريح المذعورة .
كان علينا القيام بمحاولة ، تكمن احتمالاتها النهائية ، ومدي ما سوف يتحقَّق منها في تجاعيد الغيب ، وكان كلُّ ما نحتاج إليه في ذلك الوقت هو ، أن ندرك حقيقة بأننا ، سواءاً كنا نسير نحو الأفضل ، أو نحو الأسوأ ، مضطرون إلي الدوران مع العجلة ، وأن النكوص يعني بقاء العربة أمام الحصان إلي الأبد .
وكان يبدو أن آلية سرية تفتح مؤقتاً ، باباً مجهولاً لخلاصنا .

(41)

تزاحم الكثيرون حول مضاعفات مرض أبي المتفاقمة ، أخليت وجهي من كلِّ تعبير يعكس كمال دوائر الصخب في داخلي المكتظ بالأصوات الفاحشة ، وغرست عينيَّ في لحم النهار صامتاً ، أراقب نموَّ الحشائش التي تنمو بصوتٍ مسموع علي سياج الطلل ، العصارة في دفاتر الماضي القريب ، كنت في ذلك الوقت تحديداً ، أحتاج إلي قوميةٍ كبيرة حول قلب الفاجعة ، وكنت أدرك أنهم ، وأن الذين لم يتمكنوا من الحصول علي موطأٍ في السيارة ، فاشتعلت عزائمهم ، فجأة ، علي استدعاء سيارة أخري ، تؤمن لهم ، وله السابقات ، اللحاق بموكب الواقف في منتصف موته تماماً ، بل كان كلُّ الدوميين ، يلتفون حون الإيمان بعبثية الرحلة ، لكن الحقيقة ليست هي الإجماع علي الدوام ، كانوا أيضاً ، يتوقعون عودة الموكب خاسراً قبل أن يتجاوز مشارف الدومة ، وكانوا بالرغم من كلِّ شئ ، وبحماية كلِّ ما يمتُّ إلي حالة أبي في ذلك الوقت ، لا يعدمون الصواب تماماً ، بل راودني لبض الوقت شعور ، ينبؤني بأنهم قد يكونون علي حق .
لقد فشل أبي في أن يتيح للأرض أن تتغزل في خطواته ، فحمل حازم وعبد الفتاح نصف موته إلي سيارة الحاج الأمير الرابضة في جوف الطلل ، عيناه المفتوحتان علي ظلٍّ شاحبٍ من العدم .
لكن ، وخلافاً لكلِّ التوقعات ، طوي الموكبُ غابة من الكيلومترات تحت درع ثقيل من الصمت القاتل ، بالنسبة لي علي الأقل ، كأحد الواقفين في قلب الإطار المتضرر تماماً ، وفي قلب ذاتي تماماً ، أسترخي فوق معجزة تبحث عن تعريف ، لذلك كان الصمت مسوَّراً علي الوجود ، ساعات من الأسود الكلّيِّ لا ينتبه لمثلها مؤرخو الكآبة ، أنا وحدي ، وحدي أنا الذي يعرف ما يوجد وراء كواليسها .
انفرط الصمت ، فجأة ، بمجرد أن حطت السيارة ، علي بعد عالق بالمأساة ، بالقرب من البهو الداخليِّ للمستشفي ، أو الورم الممتلئ إلا وردة ، بالنوايا الملوثة .
تركت أبي علي حافة حازم ، وحواف الآخرين ، ينقلون نصف موته إلي سرير فارغ ، وتصدر البحث عن طبيب يفحصه لائحة اهتماماتي ، وارتطمت بمسخ أنثويٍّ شاب يتحسر علي إخفاقه في التوفيق بين وضعه الجديد وقبحه ، هذا جعلها تجد العثور علي ترميم لجرحها في التطاول علي الآخرين ، أسلوب أقرب ما يكون إلي حرج الأفق والبعد الواحد ، كانت تتحدث إلي الي بعض البسطاء من المرضي ، وبعض مرافقي المرضي بعجرفة النبلاء ، وقفزت إلي سطح ذهني فجأة ، ثم اكتملت بطلة حكاية من حكايات الماضي المجيد ، حكايات عمتي فتحية ، لقد اكتشفتُ بالفعل أن مثل هذا الوجه مختزن في ذاكرتي بوضوح أكثر مما ينبغي ، إنه وجه طيزان ، طيزان التي رفضت في طريق العودة من النبع ، أن تسقي الغراب من جرة أمها المبخرة المعطرة فلعنها قائلاً ، روحي ربنا يجعل سوادي في وشك ، ورفضت أن تسقي أبا قردان من جرة أمها المبخرة المعطرة ، فلعنها قائلاً ، روحي ربنا يجعل بياضي في شعرك ، ورفضت أن تسقي الرمانة من جرة أمها المبخرة المعطرة ، فلعنتها قائلة ، روحي ربنا يجعل حماري في عيونك ، رفضت أيضاً أن تسقي النخلة من جرة أمها المبخرة المعطرة فلعنتها قائلة ، روحي ربنا يجعل طولي في جسمك ، وتحققت بالطبع كل اللعنات ، فلم تستطع لطولها الباهظ أن تدخل من الباب ، فصاحت العجوز سوداء الوجه ، حمراء العينين بشكل مخيف ، من الخارج ، هدِّي البوابة يمَّايا هدِّي !! .
إنها هي ، وأعرتها في لحظة خاطفة اسمها ، طيزان ، دكتور طيزان .
قفز إلي سطح ذهني أيضاً ، بتصرفات منخفضة ، وجه شريك لي في الزحف علي أشواك الصيدلة الحادة ، كان من ضواحي محافظة أسوان ، أشار إلي لون بشرته شريكٌ آخر من شركاء الزحف الشهير علي الشوك الذي لا مراء فيه ، بنيَّةٍ فارغة من التعريض تماماً ، لا أتذكر الإطار العالق علي نحو أكيد ، ربما كان محور الحوار يدور حول دراسة أمريكية تقترح انخفاض منحني إصابة السود بتصلب الشرايين ، أو حبِّ الشباب ، وربما الإسهال ! ، وتجاهل الشريك بشري الشريك ، وغضب غضباً حقيقياً ، وتساءل بلكنة النوبيين :
- أنا أسود ؟! ، خبار يا زول ، إنتا عندك عمي ألوان ؟!!
ثم أضاف بلكنة النوبيِّ الواثق :
- أنا أسمر !!!
كان المصاب بعمي الألوان أحمد ، فإن كان لون بشرته أسمر كما ادَّعي ، لانهارت منظومة الألوان الشهيرة من جذورها ، وسداً لكلِّ الثغرات ، أقول بحياد تام ، إنَّ لون الغراب ، بالقياس إلي لون بشرته ، أبيض .
وبرغم هذا ، وربما بفضله ، كانت مطاردة النساء في شوارع المدينة وأزقتها ، هي اختيار دكتور أحمد عبد الكريم الأول للجنون .
دُفعتُ ، بالصدفة المحضة ، إلي تجربة جنونه ، ذات ظهيرة شديدة الأشواك ، فأشار فحمه مباشرة إلي ساقين ممتلئتين بالفضة لفتاة مسيحية ، وأطري عليهما كثيراً ، وقفز الشاعر القديم ابن الروميِّ ، فجأة ، من جيب من جيوب ذاكرتي ، وفجأة ، ذلك المتشائم الشهير اكتمل ، ووجدت التعبير عن فشلي في التوفيق بين الفحم في بشرة أحمد ، والفضة في ساقي الفتاة في ترديد بيتين من تراثه الذي لا يكترث له الكثيرون فضلاً عن موقعه الطليعيِّ في تراث الناطقين بلغة هذيل :
شغفتُ بالخرَّد الحسان ولا .. يصلح وجهي إلا لذي ورع
كي يعبد الله في الفلاة ولا .. يشهدُ فيها مشاهد الجُمَع
لم يفهم الطرح الشعري أحمد ، ربما أعاقه تركيز ذهنه في معني مفردة الخرد ، أن ينتبه إلي ما ورائها أصلاً ، وتساءل في بلاهة :
- يعني إيه بالخرد ؟!
كلام ، فاترك ذهنك في مظانه الرائجة يا أحمد ، لا تكترث لذهب العابرين الفاشل ، واتركني أدور في أزقة الجنون الخادعة ، وهزائمي .
كأن ابن الروميِّ كان يصف وجه دكتورة طيزان القديم ، وجه كالتابوت ، تنعكس علي بثوره النشطة غاباتٌ وغاباتٌ من الحسرات الداخلية المزمنة ، هذا جعله تعبيراً محمياً لا تستطيع امرأة ٌ في الكون أن تدَّعي صلاحيتها للتصدي لعبئه ، سوي راهبةٍ تعبد العدم في صومعة منعزلة ، ومن الخير لها ، وفي ما يبدو أنه الحل الوحيد المتاح لترميم جرحها الطريِّ ، أن تتبرع بجلده لمصابي الحوادث من كل قلبها ، هكذا ، ومن آن ٍ لآن ، بعض راهبات الكاثوليكية في الولايات المتحدة ، يتخففن من أعباء وجوههنَّ ، ويستقطبن في الوقت نفسه ، إلي الآحاد المهجورة ، زهد القلائل من المتحولين الكثر من اليسوعية إلي الديانة العالمية المؤجلة ، الحب فقط ، قد .
احتدَّ إيقاعُ صوتها فجأة ، لا يراقب نموَّ العواقب ، كأنه الورم ، وفي ما بدا أنه اندفاع وراء الغيظ ، أو الانسحاب من الواقع الفاحش ، تحلل قلقي إلي غضب حقيقيٍّ ، وشديد العراء ، تجاوزت البالطو الأبيض ، والسماعة المعلقة حول حجابها الذي يخفي شيبها ، وقلت لمؤخرتها :
- يا أبلة ، لو سمحتي !!
استدارت إليَّ في شكٍّ ، وأجابني الذهول المسوَّر حول وجهها ، ثم استدارت ، وراقني الطقس :
- لو سمحتي يا أبلة !
- تفتت شكُّها ، واستدارت في تحفُّز حقيقيٍّ :
- ايه أبلة دي ، احنا هنا فـ مدرسة ؟!
تنبهت للمرة الأولي إلي أنها تتكلم بلكنةٍ قاهرية ، وتنبهت أيضاً إلي ظني المستدير بأن جدتها كانت خادمة في بيوت أغنياء القرية ، أو راقصة عتيقة من راقصات الموالد والأفراح ، ولابسة التوب الأخضر برسيمي ، وراسمة عليه غلايين النار ، وحاطة البودرا احمر واصفر ، حلِّق واظبط من قدام ، فهل يكون طبعها الحار تعبيراً عن علمها السابق بما يقال عن فضائح جدتها ؟ ، يا طيزان ، إنك تتكلمين بلكنتي العمة ، استأنفت غضبي بلكنة قاهرية :
- إنتي اللي عاوزاها مدرسة يا أبلة ، وتكوني انتي الناظرة ، أنا زميل نقابة علي فكرة ، إنتي ازاي تعاملي العيانين كده ؟ ، هي المستشفي دي ملهاش كبير ؟
كانت دوائر استعدادي للتصعيد الطليق في ذلك الوقت تامة ، وكنت أستند علي دعم لوقت الحاجة من بعض الأصدقاء في بعض الدوائر الإعلامية ، سري التذمر من نفس مبتورة إلي نفس مبتورة ، بين أولئك الذين يواجهون ، علي الدوام ، كلَّ المقاربات المذلة بالخضوع التام ، ويقفون ، علي الدوام ، علي حواف الآخرين انتظاراً للتمثيل المشرف ، ويتنحي الشرف جانباً لوجود ضعفي بين أمراضهم ، فواجه ، فجأة ، غرورها إلغائه ، وتحلل غضبها إلي بوادر خوف :
- مين حضرتك ، وعاوز مني إيه ؟
انحسر سؤالها عن صرخة حادة جلجلت في جوف المكان ، واستقطبت ذهني حالاً ، ونشط الظن الذي لابد له أن ينشط في مثل هذه الظروف ، لقد تجاوزت يقيني بألا امرأة جاءت معنا ، وظننت أنَّ أبي قد مات ، وانسحبت من المعركة مذعوراً ، أطارد ظني ، كان رجلاً علي بعد سلة من الياردات الرخامية من سرير أبي ، قد انزلق في الفجوة الشهيرة ، والأخيرة التي لابد له ، فضلاً عن الإهمال ، منها . كان الموت إذن ، يرابط أمام سرير أبي ، وقد أضاء بوضوح أكثر مما ينبغي ، فريسة ، وتشاءمت جداً .
تكرر هذا الحادث فيما بعد ، وبتصرفات أنثوية متشابهة ، ولم أتطير ، هذا يدفعني إلي الاعتقاد بوجود ارتباط محض بين التشاؤم ، وقوة لحظة الانزعاج الداخليِّ .
بفعل استحواذ ذلك التشاؤم المؤدي ، انتحيت بحازم جانباً ، وهمست له :
- والله أبويا ما يبيِّت فيها !
أحرزت علي الفور مباركته ، لقد تشاءم مثلي ، ولكن ذلك المأزق الشهير دفعه للتساؤل الخافت :
- بس الفلوس ؟ ، أنا كل اللي معايا ألف وخمسميت جنيه !
– تدبر !
استدرت فجأة ،فامتصني الخجل ، لقد رأيت الدكتورة طيزان مستغرقة في استكشاف أبي ، لقد زال فجأة قبحها ، وأصبحت ، بالنسبة للخيال ، قلب الجمال الذي يستدعي من جيوب الذاكرة القديمة ، مليحة ، الأخت التوأم لطيزان ، مليحة التي سقت ، بكلِّ سرور قلبها الغراب ، من جرة أمها المبخرة المعطرة ، فصلي لأجلها ، روحي ربنا يجعل سوادي فـ شعرك ، وسقت أبا قردان من جرة أمها المبخرة المعطرة ، فصلي لأجلها ، روحي ربنا يجعل بياضي فـ وشك ، وسقت النخلة من جرة أمها المبخرة المعطرة ، فصلت لأجلها ، روحي ربنا يجعل طولي فـ شعرك ، وسقت الرمانة من جرة أمها المبخرة المعطرة ، فصلت لأجلها ، روحي ربنا يجعل حماري فـ خدودك !
لقد أخطأت طيزان إحراز كل هذه الكنوز بطقس بسيط ، الجشع والأنانية ، وأحرزتها مليحة النقية بالحب ، طقس بسيط .
تركت الدكتورة الأخت التوأم لطيزان تواصل جمالها الطارئ ، لأفتش عن أحد يرشد ظلي إلي مكان للعلاج يتَّحد بكرامة عزيز ، تذوب خلاياه من تلقائها بشكل مروع ، مع اقترابي من منحني الشارع ، سمعت نظراتي تنمو بصوت مسموع علي لافتة الورم ، ونشطت عيناي للبحث عن لافتة أخري ، ربما كتبوا علي لحمها ، سداً لكلِّ الثغرات ، بحروف محفورة حفراً دقيقاً منخفضاً :
" إذا كانت لديك معرفة سابقة ، لا تدخل " .
فلم أجد .
لم أكن أطلب المستحيل ، أو الفينيق ، فقط الحد الأدني من وضع إنسانية الإنسان كزنبقة في البال .

(42)

وأنا في الطريق ِ إلي مستشفي راشد التخصصي ، دون سحابةٍ علي جسدي ، هربتُ من رغبة السائق الجليِّة في تبادل أطراف الكلمات إلي الهند .
لقد راجعت الذاكرة فوَجَدَتْ التعبيرَ عنها في سطحها حياة ُ المهايانا ، أو الزورق الكبير الذي سوف تضمر كلَّ الأعباء علي كاهله ، ويملأ كلِّ الفراغات ، أو ناجارجونا ، أو مؤسس عقيدة الفراغ ، التي يدور حول محور غامض نوعاً ما ، غير أنه داخل تقدير الكثيرين ، ليست الحقيقة النهائية سوي فراغ ، وهذا الطرح يعني في أبسط صوره ألا وجود لولادةٍ ولا لموت ، ومادام الأمر هكذا ، ومادامت النوايا الطيبة لا تكفي لأن الأمل يعمل . لماذا إذن كلُّ هذا الدوران في الفشل ؟ . وكلُّ هذه المحاولات العصبية للاحتفاظ بأبي علي الأرض لسلةٍ من الشهور لا أكثر ؟ ، وماذا لو تركناه يموت في سلام ؟ ، أو ربما بدقةٍ أكثر ، لو تركناه يبدأُ دورة تناسخه بأسرع ما يمكن مرضه ؟ . وسمعت ، فجأة ، وبوضوح قاتل ، صوتاً داخلياً يتردد في ذلك البهو السحيق من الزهور الذابلة :
- لابد من الدوران مع العجلة . اضطربت قليلاً عندما قال السائق بتهافت :
- مستشفي راشد .
ونفضتُ عني الإثم الذي التحم ، بلا مشروعيةٍ، بخاطري ، ثمَّ .. دخلت .


(43)

أكَّد العم مرتضي ، موظف الاستقبال النهاريُّ ، أن دخول المستشفي تعبيرٌ مسوَّرٌ فقط علي المرضي المحوَّلين من أطبائها .
من دربٍ كان كالعذاب ، إلي دربٍ كان كالعذاب ، يدور بنا الفشل ، فيما نهبط في رائحة البالوعة .
أيها العم ، إنه مجرد بروتوكول ليس من التجديف كسر دوائره ، ليس تابوهاً وهرطقة ، فباشر تربية حيز نضع فيه نصف موته ، ثم تأتي بعدُ الحاجة إلي الطبيب ، وضبطت نموَّ تعاطفه ، وأدركت من خجله الزائد عن الحدِّ أنه ، مجرد موظف لا يستطيع أن يلمس شيئاً خارج البروتوكولات الشهيرة :
- رشح لي دكتور لو سمحت !
- الدكتور خلف !
وتحسباً لمراجعة الجدل مرة أخري ، دوَّن علي ورقة ، بسرعة أكثر مما ينبغي ، عنوان الطبيب ، وتليفون العيادة أيضاً ، ألقيتُ نظرة علي الورقة ، فأطلت مشكلة ، كانت الطريق إلي العيادة صاعدة ، لقد قدَّرتُ في ذلك الوقت ، أنَّ هشاشة طاقته سوف لا تصمد لنقله من مستشفي سوهاج ، إلي عيادة في الطابق الثالث ، ثم إلي مستشفي راشد كنقطة أخيرة ، هذا إذا خمن الطبيب عائداً من وراء دخوله في الأساس ، وسوف أدرك بعد ساعتين من ذلك الوقت ، أن قلقي كان كالمكيدة المضاعفة ، جعلني أقزم من قامة أبي الداخلية المخبأة في جيب قامته إلي مدي بعيد ، وأضخم بالعوائق الصغيرة إحساسي ، فلم تكن هناك مشكلة ، أو كانت هناك ، وكان الحلُّ بسيطاً ، وجعلني أبي أتأمل أسلحة وعتاداً ، قد تكون التفاصيل هنا مزعجة ، ولكنها ضرورية ، ولها ما بعدها .
أتي حازم بمقعدٍ من العيادة ، وتكاتف والقلائل ، وأجلسوا مصير أبي في رقةٍ عليه ، حملوه ، وارتفعوا ، كان سلم البناية ضيقاً ، لا يتسع أفقياً لشخصين ، فضلاً عن الكثيرين ، يحملون مقعداً ممتلئاً ، فاضطروا ، تكريماً للانسجام مع ذلك الوضع الخانق ، لحمله من أمامه ، وخلفه ، وكان الحرص علي اتزانه من أقوي الدوافع الحاثة علي الحذر ، وأساليب السلحفاة .
قافية مؤلمة ، لكنها كانت ، فيما بعد ، من أقوي الدلائل لديَّ علي ملائمة الأسلوب العلاجيِّ الذي اقترحه الدكتور خلف للحالة تماماً .
لقد نسي أبي حالته في التماثل للشفاء تدريجياً ، ببطء هذا صحيح ، لكن باطراد ، وتذكر ، قبل ظهيرة اليوم الثالث من أيام المنعطف السوهاجيِّ الأكثر حظاً بين منعطفات حياته ، هذه القافية بالتفصيل الركيك ، فشكل هذا لي موقفاً محرجاً ، لقد تساءل بلهجة من يروي حلماً ، بإيقاع ركيك ، يخشي ضغط الزمن ، كأنه لائق :
- أنا كنت قاعد علي كرسي ، فـ بكان ضيق وزحمة ؟
اقترفت سعادة ممتلئة ، ولفرط سعادتي بتقدمه الواضح ، وليس جمال السعادة الإفراط ، اقترفت حماقة ممتلئة ، وقلت كلاماً ينمُّ عن البعد الواحد ، عن ظنه المستدير ، خلال الحلم ، بإحرازه دخول الجنة ، وأنَّ الذين يحملونه الملائكة ، وهكذا أخلاط أسطورية ، تهافت الآخرون حول الضحك ، أبي ابتسم أيضاً ، وتحول فائضٌ من الابتسام إلي ضحكة قصيرة متعبة ، أصغيت إلي وجهه ، فسمعت تعبيرَ عتاب ، لا الوقت كان ، ولا كان المكان ، يتسعان لهكذا حماقة ، الآخرون أيضاً ، لقد نظروا إليَّ سراً بالتأكيد ، نظرتهم إلي مختلٍّ عقليِّ ، أو ماس كهربائيٍّ ، أو عقب سجارة ، أو فار السبتية .
أدركت أن صمتي كان أطولَ من أن أكسره ، لأقول كلاماً عن قناعة لا تقبل القسمة علي الكثيرين ، ولا يفهمونه .
أخلي المرضي ، ومرافقو المرضي ، المنتظرون في العيادة ، وجوههم من كلِّ تعبير سوي الرثاء لذلك المريض (السلطان) ، وسرت بينهم همهمة أصداف بعيدة ، وتنازلوا له جميعاً عن أدوارهم في تسامح شديد ، وهكذا مروءة ، تكاد تكون تناذر سكان سوهاج الأصليين ، يتألق في أدني بقعةٍ من جذور العتمة العائلية ، كما يتألق في جذور النور المتوسط ، فضلاً عن تألقه في الجذور الأكثر عمقاً في حوزة النور المفعم ، من العم مرتضي ، إلي الدكتور خلف ، إلي تاجر الأفيون .
هكذا ، في ذلك الوقت ، رتب ذهني قوة السلالة ، بالنسبة للمظهر الخارجيِّ علي الأقلِّ ، ولكنني الآن ، وقد ازددت برحيل أبي وعياً بإحساس العزيز قوم ٍ ذلّ ، أرجح أن يتصدر العم مرتضي في لائحة السلالة حيِّزاً طليعياً .
في غروب اليوم الخامس ، راجعت غرفته ، أحمل قربة من الدم وإرهاقي ، كان التعب يتمطي في أعضائي بشكل لائق ، وحنينٌ جارفٌ إلي النوم يستحوذ علي ذهني بتصرفات عصبية ، لعلَّ كواليس النوم تلتحق بفكرةٍ بيضاء :
- أهو الدم جالك ، رغم انك مش محتاج دم ، وشك هيبك منه الدم !
وتأملت تجاهلاً ، وجبلاً يهتز بانكساره الحاد ، وأنفاساً عصبية ، أدركت بغابةٍ من التجارب السابقة ما يوجد وراء الكواليس ، إن الحاجة إلي الأفيون ، ركلت ذهنه من الخلف ، فصار في مقدمة الجنون ، وتوقفت عند الجذور ، فقدَّرت أنه لابدَّ قد نسي حالته في التماثل للشفاء تماماً ، تماثله التام للشفاء بحماية مرضه طبعاً ، ولابدَّ أن حاجة ذهنه إلي الالتحاق بمطلقه الخاص ، والافتراضيِّ ، علي أجنحة المخدر ، تعقيبٌ علي زوال الغيبوبة تماماً .
وأصغيت لما يرده الخجل أن يقوله ، كان يظنُّ أننا مرهقون مالياً ، وأن أعباءنا ترهلت بما يكفي لتخشي ضغط الزمن ، وهذا ينطوي علي كثير من الحقيقة ، وفي القليل عوض ، لقد خسرنا بالأمس حقلاً من قصب السكر ، التحق بخزانة بعض الحاذقين بتربية النقود المؤجلة بنصف ثمنه ، وانحازت إلي خزانتنا العارية أيضاً خمسة آلاف من الجنيهات المشبوهة ، والرائجة أيضاً .
كان الزمان زمانه ، وشروخ آلامنا تشبهه ، ورغباته تجيد العثور علي مفاتيح ثقوبها في آذاننا حتي من خلال صمته ، وابتسمت :
- عاوز أفيون ؟!
ابتسم ، وتفتت انكساره الحاد إلي شكوك ، ظل الحرج باقياً ، لكنه صار خافتاً :
- هتكفوا كام ولا كام ؟!
يا أبي ، إننا نمرض ، ولا نموت ، وبقية السيف أنسل .
- حاضر .
كنت أدرك أن للأفيون ، بما ينطوي عليه من غابة الألكالويدات نبضٌ خافتٌ في التأثير علي مستوي السكر انخفاضاً ، أدرك أيضاً حاجته إلي ارتفاعه في دمه ليطرد غيبوبته تماماً ، ولكن انكساره الحاد ، وتقديري الذي لا مراء في صحته ، لقد انقشعت الغيبوبة تماماً . لأنني من المؤمنين بأنه لا يوجد شخصٌ خاصٌ لعمل خاص ، ذهبت مباشرة إلي موظف الاستقبال المسائيِّ :
- عاوز وزنة أفيون !
– لمين ؟
تساءل ببساطة ، كأنني أطلب من الخالة زينب ، راعية الغرفة ، أن تفرغ كيس جمع البول في مظانه :
- لابويا
تأمل ، أيها العم ركل الورود ، ونحي النصائح جانباً ، إنني في قلب التعاطف المتطلب .
أرشد ظلي إلي مقهي قريب ، واسم التاجر .
- إنني لا أكتب بالقلم ، وإنما أكتب بصدأ القلب ، فمعذرة إن ظهرت بعض الأوساخ علي السطور - . تخلَّي ظلي في عتمة الطريق إلي المقهي عني ، حتي ظلي ، ووصل الدرب ، ولم أجد التاجر ، وفي ما بدا أنه تنفيذٌ لوصيته ، أعطاني أحد الجالسين رقم تليفونه ، اتصلت به ، كان بمحاذاة طهطا في الطريق إلي سوهاج ، خبأت ظلي في تجاعيد الليل في انتظاره لنصف ساعة ، وفقاً لتقديره هو ، لكنني فوجئت به قبل مرور دقيقتين واقفاً أمامي ، يمدُّ لي ورقة من السلوفان مبتسماً ، لم أفهم تصرفه لسلة من الثواني علي أية حال ، لابد أن النوم كان قد دهمني برهافة بالغة ، انتبهت فجأة ، فنهضت وأخذتها ، لونها الغامق ، لمعتها الزيتية :
- عاوز كام يا حاج ؟
أيها العم ، قل كم تريد أن تضيف إلي خزانتك من خسائرنا السائلة ، لقد وجدت امتناني بصرف النظر عن هذا التيار من التعاطف :
- ميت جنيه !
كان في حوزتي ستون ، أعطيتها له ، وأعطيت له رقم الغرفة ، لكنه ، وكأنه عرفٌ سوهاجيٌّ دارج ، تنازل في كرم حقيقيٍّ عن دينه .
وأنا في طريق العودة بلا ظلي ، ألح علي بالي كمديةٍ في البال سؤالٌ غريب ، هل تلتحق رغبة هذا التاجر التي لا تقبل المد والجزر بتناول الأفيون ، مثل أبي ؟ ، وهل توقَّف هذا الرجل فوق جذور جمال زهرة الأفيون ، ذلك الجمال الذي لا يواجه إلغائه ، ويجد التعبير عنه في الاستحواذ علي حواس الكثيرين من الفرادي في الزحام العالميِّ ، هل ؟ .
ليس الأفضل ، ولكن له أسلوبه في الإدانة أيضاً .
عقب انسياب العصير الأسود في دمه المعار ، تعثر أبي في الطريق إلي عالمه الافتراضيِّ بدهشتي الشديدة لاكتراثه الشديد بالعناية بتعمية العيون القادمة عن لفافة السلوفان ، لقد حفر لها في قلب الوسادة عميقاً ، هذا تصرفٌ يناقض اللياقة تماماً يا أبي :
- أمال يودوا كل الفلوس اللي عياخدوها وين ؟!!
أشياء بسيطة ، نختصر بها مسافات الإحباط والقهر ، ثم وجه حديثه ، فجأة ، وجهة أخري ، وربما نظر إلي الأفق بأكمله من زاوية أخري ، وأضاف دون أن أسأله عن جودتها ، ولا يعنيني :
- أفيون بلدي ، متساويش خمسة جنيه !!
كان ، لا كان موته ، لا يبقي علي فراغات داخل اللزوجة السردية لانزعاجاته الداخلية أبداً ، أو لم أفهم علي أية حال .
ولا أفهم سر الرقم الخامس الذي انتشر في لهجته بقوة في أسابيعه الأخيرة .
قبل أسبوعين من موته الذي لا مراء فيه ، كان يركب خلف عبد الفتاح موتوسيكلاً مخالفاً بوضوح أكثر مما ينبغي ، فلا رخصة قيادة ، ولا رخصة مركبة ، ولا خوزة ، واستوقفهما أمين شرطة المرور ، فشل عبد الفتاح في تضليله ، فأصر علي اقتياد المركبة والقائد إلي مركز الشرطة ، فلجأ أبي بسرعة إلي التقليد الذي كان يجثم علي المصريين في ذلك الوقت ، في مثل هذه المواقف ، جثوم العادة ، لقد طعن يده في جيبه غاضباً ، وكان من الذين لا يجيدون احتجاز غضبهم خلف وجوههم ، فخرجت بورقة من فئة العشرة جنيهات ، وفي ما بدا أنه استضخام للرشوة ، امتلأ تذمره السري علي وجهه ، وهو يعطيها لأمين الشرطة قائلاً :
- خد خمسة وهات خمسة !
يا أبي ، لا تقلق علينا ، لقد تركت لنا الكثير .
تركت لنا بوابة الحبِّ مفتوحة بيننا ، والتي يعرف الشجر والحجر والقطط والكلاب والطيور والأطفال ، كيف يجدونها بين المتحابين .


(44)

حرصت بعد أن استقرت غيبوبة أبي فوق سرير الفحص أن أخلي حجرة الطبيب من الآخرين ، وأبقي معه وحدي ، نفس المشهد القديم يتكرر .
لم تكن كلمات الدكتور خلف بعد الفحص مشجعة ، وكان الانطباع هو الإيمان بالإطار كمعركة خاسرة ، لقد تفاقم الوضع بصورةٍ مزرية ، وتحول جسد أبي إلي مأوي لغابةٍ من الأمراض المؤدية ، وبدأ الحماس ينحسر ، وبدأ التفكير في العودة يداعب ذهني ، ولكن الأمل حطَّ بقربي من جديد عندما أخذ الدكتور خلف يشرح لي أسلوب العمل وهو يكتب خطاب التحويل إلي المستشفي مشدداً علي ضرورة توفير سلة من قرب الدم علي عجل، وأطلت مشكلةٌ ممتلئة ، كان اليوم الذي انطوي علي تبرع حازم الأخير بدمه ليس بعيداً ، بما يسمح بفراغ جديد بين كثافة دمه ، كان أيضاً التبرع بالدم من المحظورات الأكيدة بالنسبة إلي مريض ٍ بالربو مثلي ، وإن كنت قد انتهكت ذلك الحظر كثيراً ، وكان الباقون من إخوتي أقلَّ من السنِّ الصالحة للتبرع بالدم ، والمعايرة طبيِّاً ، وكان من المحظورات الشخصية أن نرضي بمقاربات الآخرين للمساعدة ، متاهةٌ صلبةٌ .
أسكتُّ مخاوفي ونهضت لأبدأ العمل ، وإذا بي وجهاً لوجهٍ مع أحد الدوميين ، تنبهت متأخراً إلي الباب المفتوح ، وتنبهت أيضاً إلي اطلاع ذلك الرجل علي كلِّ شئ .
ربما كان كلام الطبيب غير المحرض علي التفاؤل ، محرضاً لذلك السخيف علي الصراخ في طريق السيارة إلي المستشفي ، وبمحاذاة مقام العارف بالله الشيخ عارف :
– الدوام لله !
شعرت بانزعاجاتي الداخلية تتفاقم ، واستدرت ، ونظرت إلي قرديَّته في تحفز حقيقي ، يا جرذ ، يا بقة ، يا رائحة العفن ، لو خسرنا حضورك لخسرنا مشبوها ، وددت أن أفتته قبراً طارئاً قبراً طارئاً ، ربما لحساسيتي المركزة حيال سخافات الآخرين ، وكدت أن أنفجر فيه انفجاراً طليقا ، غير أني عانيت امتصاص غضبي سريعاً ، أو وجهته وجهةً أخري بدقةٍ أكثر ، نحو صروف الزمن المتواطئ ، وغرست عينيَّ الدامعتين .. في لحم النهار السوهاجيِّ أرتعش ، كان هناك الكثير علي المحك .


(45)

بعد أن أودعت خزينة المستشفي ألف جنيه رصيداً ، وبعد أن أتمت غيبوبةُ أبي استقرارها في السرير ، توجهت إلي بنك الدم الإقليميِّ مباشرة ، لم أنتبه حتي ذلك الوقت إلي أنني لم أنم منذ ثلاثين ساعة ، ربما كان الخطر الذي يتمحور حول موت أبي ومرحلة ما بعد موته حتي وصولي ، ثم حول حياته حتي تلك اللحظة ، ولم أجد قربةً دم ٍ واحدةً من فصيلة (ب) موجب ، وبدأت تتجلي لي حقيقة كنت أهملها فيما سبق ، أهمية التبرع بالدم ، وامتدت نقمتي علي إدارة البنك ، بل إدارة البلاد التي لا تجعل التبرع بالدم شرطاً لحصول الممكنين علي أي خدمة حكومية .
وكان عليَّ العودة إلي مستشفي سوهاج .
آه ، مع ذلك ، سوف تتخثرين يا طرق الدم .

(46)

لم تكن كوردةٍ في البال وأنا في الطريق المجنَّح إلي مستشفي سوهاج المسائيِّ ، حقيقة أنني كنت في الطريق إلي غابةٍ من عناقيد الماس الأنثويِّ المركَّز ، إلي نخلةً في الحقل أطول نخلة ٍ ، وأجمل ما في غابة الورد من ورد ، إلي الدكتورة حبيبة .
بمجرد أن رأيتها تحلَّل قلقي إلي سلام ٍ قليل ، وشعرت مباشرة بشئٍّ من الشعر يجلجل حول القلب .
أشتبه الآن أنني في ذلك الوقت كنت أحاول الفرار من قلقي بقذفه فوق رءوس الكلمات ، أشتبه أيضاً أنني كنت أستعير بتصرفاتٍ مرتفعة ، أًصابع الشاعر الذي يحط علي الدوام بقرب القلب ، نزار قباني .
وكان شاهد ذلك المنعطف المريب ، سلة من الأبيات السهلة ولدت بسهولةٍ أدهشتني علي مقهي قريب ، جلست عليه في انتظار أن يتم سريولوجي الدم امتلائه ، لأقاوم أيضاً حاجتي إلي النوم ببعض الكافايين ، واختبأت مسودتها في ذاكرتي ، وسوف تبقي دون تعديل ، ذلك أجمل ، لا أريد أن أشوِّه قوة اللحظة بإحساس لا يمتُّ لها . ثمَّ لا شئ يعيد للحظة الهاربة الحرارة المجردة :
يا مسترقِّي منكَ كنْ معتقي : أرْهقْتني ، أفديك من مرهق ِ
ياغيمة الماس ِ علي المنحني : ومطلق ٍ حلَّقَ في مطلق ِ
يا إبنة النور وأحلي الذي : في غابة الزنبق ِ من زنبق ِ
يا موجة العطر ِ وطغيانها : اللهُ في محطَّم ِ الزورق ِ
أبيات مشتتة حيث يرتعش كلُّ بيتٍ برعشةٍ خاصة ، كأنما نظمت منجمة علي فترات متباعدة وادخرتها لها ، وأشتبه أنها تشبهني في ذلك الوقت تماماً ، كنت بفعل استحواذ الإجهاد أحلل الصورة تحليلاً منجماً .
جسدي أيضاً كنت أحسه منجماً ، جمعت أعضائه علي فترات متباعدة ، واجتمعت حديثاً ، أيَّاً كان الأمر .
لقد أحببت في ذلك الوقت ، لبعض الوقت ، د. حبيبة .

(47)

تبخر الخطر قليلاً ، أمام انفجار العقاقير ، وقطرات الدم الأولي في أوردة أبي ، وازداد نبضه خشونة ، ونبضي ، أصبح القلق خافتاً لكنه ظلَّ باقياً ، ولهذا كانت عضلة النوم قوية بما يكفي لعصيانه ، وترهل إرهاقي بوضوح أكثر مما ينبغي ، ففقدت بوصلتي الزمنية ليلتحق نومي بفكرة سوداء غامضة .
فسرعان ما انحسر النوم عن صرخات شريرة ، ونعيق غربان مشئومة ، لقد سقطت امرأة في الفجوة التي لابدَّ لها منها ، وتفادياً للقلق ومنعطفاته التي تؤدي علي الدوام إلي نقاط لا تبتكر الوردة ، اشتعلت عزيمتي علي إفساح سلة من عوائقه الشهيرة في طرق النوم بطقس بسيط ، جثم فيما بعد عليََّ جثوم الضرورة .
ذهبت إلي صيدلية المستشفي ، وسألت الصيدليَّ بعض الأقراص المنومة ، بمجرد أن تنبه إلي وحدة سياقنا ، وشوك الصيدلة المشترك ، ردني غانماً سقوطيَ القادم .
ابتلعت خمسة أقراص دفعة واحدة ، ورحبت بي بعد أقل من نصف الساعة أساليب نومي القادمة .
تنبهت في الصباح التالي إلي انطباعات الحنق تمتصني ، لقد دهمني النوم وأنا لا أزال علي مشارف جزيرة العطر المنبعث من حبيبة ، كان خطأي الذي لابدَّ من تلافيه في المرات القادمة ، ككل أخطاء البدايات بساطة ، لقد سلكت إليها الشوارع التقليدية الشهيرة ، الخطوبة ، ثم السفر إلي الخليج ، ثم خلافي مع الكفيل ، ثم .. تنبهت .
وطنت نفسي علي اغتصابها مباشرة في بنك الدم ، في حلم اليقظة القادم ، ثم نسيت تماماً ضغط عطرها الهادئ ، كأنه بلا قيمة ، أو كأنني ، وهذا هو الأرجح ، لقد أدركت ألا رجلاً يتسع لحبيبة .
تنبهت في الصباح التالي أيضاً ، إلي أضواء البشر الأولي تسطع علي وجه حازم ، لقد بدأت خيمتنا تستعيد أوتادها بوتيرة مرضية ، وهدأ قلب العاصفة قليلاً ، هذا ألهب حماسي للركض علي طرق الدم ، لاستعارة المزيد من قطراته المؤدية ، فارتطمت بهديةٍ لا تقوم بالذهب ، أو بحمر النعم في تراث الرمل .
عندما يصبح الدم هدية !
لقد تبرع طبيبان حديثا التخرج لأبي ، بقربتين من الدم ، فشكراً لهذين النقيين .
لقد تخثرت الهدية ، ويبقي المعروف سائلاً .
وشكراً للزنبقة في منتصف الأطراف المتهادية .
كان ذلك الصباح شديد الفراشات آخر العهد بعطرها ، لقد ازددت بكرمها الإضافيِّ وعياً بإحساس المتسول الثقيل ، فاختبرت طرقاً نائمة .
عدت ، لأرتطم بغابةٍ من الزائرين ، وعراء الفضول ، يتناثرون حول حواف أبي المتماثلة .

(48)

دقَّ العم عبد الباسط غروب نهارنا الثاني في المستشفي ، متضمناً في رماده ، لقد ترك في الدومة ملامح وجهه السابقة .
كنت أدرك أن عضلة العوز القوية ، فضلاً عن عضلة مرضه ، تعاونتا في انسجام مدبر علي عجزه عن اقتحام سياج سوهاج الجنوبيِّ معنا منذ اللحظات الأولي .
توقف علي رأس السرير الذي يسكنه الورم مأخوذاً ، كان أبي لائقاً إلي حد ما ، وعاجزاً عن إقامة بنايات الكلام ، فقط تخطيطها ، ثم يفسر الآخرون دوائرها الناقصة ، واشتعلَت بينهما لغة الصمت الثالثة .
كان ألمه جلياً ، ليس الألم الصحيُّ الذي يمكن تفسيره بالممر الصادق نحو اكتشاف الذات ، بل الألم الذي يستقطب إدراك الإنسان ووعيه تماماً ، دعوته للجلوس فجلس ، واستأنف علي غير العادة صمته ، حاولت أن أكسر قشرة الصمت قبل أن يصبح الدوران في الصمت عرفاً دارجاً ، ظانَّاً بأني إذا أسلمته إلي الكلام ، سوف اضطر فيما بعد إلي الاستعانة بالطبيب ، ليصدر أمراً بطرد أعشاشها من الحجرة ، وسرعان ما واجه ظني إلغائه ، لا أدري كيف كانت تسير الأمور ، لكنها تفشل ، فامتنعت عن لمس الكلام .
ظلَّ شارداً ، يصغي لماضيه في ظلِّ جسده ، وظلِّ الجسد الممدد علي بعد سلة من الياردات الهوائية من قلبه ، والمهدد بالموت المرابط في جيوبه تهديداً واضحاً .
دقَّت سوهاج مساءها الخاص ، الخاص جداً ، فنبهته إلي ندرة وسائل المواصلات إلي نجع حمادي في وقت متأخر من الليل ، فأصرَّ علي المبيت ، واستطاع حازم أن يرتب له ليلة في الشرفة الباردة .
أتذكر أن سوهاج في ذلك اليوم تحديداً كانت تحتفل بعيدها القوميِّ ، فصارت ، فجأة ، سماءها ، بالنسبة لقلوبنا ، جزيرة حقيقة من الضوء الملون ، والمصوِّت أيضاً ، وانكمش الليل تماماً ، وزفَّ لنا زائرٌ بشري ممتلئة :
- جايبين شعبان عبد الرحيم ، أنا رايح نتفرج !
إحدي سخافات الآخرين الصلبة ، ولكن ليس بالقدر الذي يمكن أن يباشر تربية الحقد في قلب مفعم ، وعادل ، أو حتي مجرد الغضب ، كنت أدرك تماماً أننا لو تبادلنا المقاعد ، ولو كان غير السيد شعبان عبد الرحيم بالطبع ، لاتَّحد تصرفي بتصرفه السخيف .
إن ظلي يتخلي عني في العتمة ، فمن الحماقة أن أنتظر من الآخرين دعماً تام الدوائر ، لهم آلامهم أيضاً .
هذا قادني إلي ذكري قريبة الشبه ، وإقليمية ، وسحيقة ، تجد التعبير عنها في رسالة بعث بها أحد عمال المقابر الفرعونية إلي أمه ، يشكو لها فيها من سخافة حارس المقبرة ، كان قد استودعه حذائه ، وسافر إلي الدلتا لحضور مهرجان " تجديد شباب الفرعون رمسيس الثاني" ، يقول :
" سلمني الخفين ، وقال ، احفظهما لي ، وبحق بتاح ، لقد انسل بالليل إلي الشمال ، ما معني ذهابه للشمال من أجل اليوبيل ؟ " .
هناك بالتأكيد لذهابه معني ، يعرف الحارس فقط ، عندما طارد ذلك المعني ، ما يدور وراء كواليسه ، ولكن العامل الرقيق ، كان ينظر إلي ذهابه من زاويته الخاصة ، ويفكر فيه علي ضوء اهتماماته الشخصية .
وإن تناسل الجنوبيين المعاصرين في شرخ الذهاب إلي يوبيلات الدلتا الصوفية ، تكريماً لذكري ميلاد السيد أحمد البدوي ، وميلاد السيد إبراهيم الدسوقي ، وأساليبهم في الحديث بعد العودة عن ألوان الطعام هناك ، وألوان البهجة ، وألوان النساء ، كجزء رئيس في المعادلة ، وجمالهن الأخاذ ، بالنسبة لنساء الجنوب طبعاً ، وعطورهنَّ الجارحة ، وسهولتهنَّ ، وهي لا تعني بالضرورة انحلالهنَّ بقدر ما تعني ثقافتهنَّ المنفتحة علي تبادل أطراف الحديث مع الغرباء ببساطة ، يدفعني إلي الظنِّ المستدير بأن البواعث وراء الكواليس واحدة .
أصغيت ، فجأة ، بعد زوال الزائر إلي الاهتزازات العصبية لصدر العم عبد الباسط ، المتكوم في زاوية الشرفة بإهمال ، وتركت مع سبق الإصرار عينيه تابعان عطائهما الصامت في قلب دوائر الصخب .
ربما لتعقيدات ذاتي الصلبة ، وربما لخبرتي بمسارات القوي الطبيعية التي لا يمكن ضغطها في إطار النبوءة ، وفقاً لأيِّ قانون ، أصبحت لا أستجيب لأيِّ وثبة طبيعية تحرض علي الدهشة ، لذلك لم تجد دهشتي التعبير عنها في أن يكون آخر نعشٍ سار أبي ، أو بدقة أكثر ، حاول السير وراءه ، كان نعش العم عبد الباسط ، اكتمل ذلك المشهد قبل رحيله بسلة من أسابيع الغربان تقريباً .
كان وداعاً مبتوراً ، يرمم نقصه يستطيع تحليل رباطه حوله ، ليعزل بوضوح رنين خطواته .
لقد واجهت خطواته إخفاقها في الاتحاد بخطوات المهرولين خلف النعش ، وطرده دمه الشحيح من الوداع إلي أقرب مقعد التقطه مرضه ، وتزاحمت النساء السائرات خلف المشيعين من الرجال ، كما جرت العادة ، حول حرجه ، فمه الذي يتصيد الهواء من أقبية بعيدة ، كانت أمي متضمنة فيهنَّ ، لكنها خبأت دموعها المركبة بعيداً عن متناول انهياره ، وقلبها ، التقطت عيناه الهائمتين ، فجأة ، وجه عمتي ، فقال لها بصوت يفرز الهواء ، كأنه يخرج من نبع جاف :
- روحي يا عدلية ، متلميش الناس عليّا !
وربما لو نظر في تلك اللحظة خارج ذاته ، لرأي غابة من الأشجار المثمرة .
كان موت العم عبد الباسط ، النار الأخيرة فوق سطوح خسائره .


(49)

ليس هناك مجتمعٌ قبليٌّ سليمٌ في تفاعله ، أو ديني ، حقيقة لا تحتاج إلي الوقائعية للحكم علي امتلائها ، وبفضل هذه الحقيقة ، كانت المثانة البلاستيكية علي الأرض ، وكان الوريد الممتد منها إلي مجري البول ، وما ينطوي عليه من البول والدم المتضمن فيه ، يشكلان لأبي ضيقاً كلما زاره زائرٌ يشتبه في براءة نيَّته ، يتوقف حجم الاشتباه عادةً علي حجم التنافر بين الائتلافات كافة .
لقد باشر الذين تراثهم أقدمُ من تراثنا بسلال ٍ من العقود ، تربية الكثير من الخصومات ، وواظبَ المؤجلون علي حراسة جذور الإخلاص لها ، بل ولحالة الإيمان بها ، وولجوا شوكها دون روية ، ودون رؤيةٍ أيضاً ، وهذا ممرٌّ صادقٌ لطرح الشاعر القبليِّ القديم :
ساق العداوة َ آباءٌ لنا سلفوا ، فلن تبيدَ ، وللآباء أبناء .
وهي تقاطعاتٌ إلي مدي بعيد ، أو تداخلاتٌ معوجة ٌ إلي مدي أبعد ، في المطامح البسيطة ، والايدولوجيات الفقيرة فقط ، كأن ينحاز موقدٌ عائليٌّ إلي مرشح في انتخابات ما كان يسمي بمجلس الشعب ، وينحاز موقد عائليٌّ قريب النسب إلي خصمه مثلاً ، أمرٌ شديد البديهية والمشروعية والابتذال ، ولكلِّ امرئ ٍ أن يختار خرزته من العقد بحرية تامة ، هذا في المجتمعات التي ارتفعت عن أحقادها القبلية طبعاً .
قد تكون الكراهية أحياناً مبررة .. من الكامل فينا ؟ .
وإن أنس لا أنس ذلك الذعر ، وذلك الترقب ، الذين كان يسيطران علي الأفق الدوميِّ بأكمله ، وعلي مدي غابةٍ من الأيام المؤدية إلي يوم التصويت ، وغابةٍ من الأيام ، الأكثر بشاعة ً ، بعده ، فالجنازة علي الدوام حارة ، والميت علي الدوام كلبان من كلاب الحكومة ، والحيز الناجم علي الدوام متوتر .
ورغم ما بين المواقد العائلية من نسب ، أو لعله لما بينها من نسب ، فقد تناهضت العداء ، وهناك علي الدوام أولئك الذين ينشطون ، أو يتظاهرون بالنشاط في أوقات الصراع بين الواقد العائلية المختلفة .
هناك أيضا ، الذين يتَّخذون من تربية الصراع بين العائلات مساراً إضافياً ، وإيماءة ً ضرورية ، تلفت الآخرين بما يشبه الطعن إلي وجودهم ، وتلك الآلية الشائعة فتحت باباً بحجم الدومة ، ولجه الكثيرون من بعيدي النسب من البلاد المجاورة ، فانخرطوا في لهجاتنا ، وقد أضاءت نار الفريسة أسماءهم ، وأمسكوا بجذر الدومة تماماً ، وأصبح في مقدورهم أن يشعلوا أفقها في أيِّ وقتٍ ، وكلِّ وقتٍ ، ويطفئوه أيضاً .
ينسي الجميع علي الدوام تاريخهم المشترك تكريماً لمحتال ٍ يتبني إيقاظ الفتنة بين المواقد كافة ليرتفع كنخلةٍ من خلال وشائج صافية من الانحطاط الفكريِّ ، فما إن ينفرط عقد غابةٍ من المتشاجرين في الجيب الشرقي من الدومة ، حتي يتهيَّأ عقدٌ جديد من الذين يباشرون تربية المعركة في الجيب الغربي ، وتنتشر العدوي كفضيحة .
تبدأ المعركة عادة صغيرة ً يمكن السيطرة عليها ، ثم تترهل سريعاً ، ويصبح العنفُ تعبيراً غير محميٍّ تماماً ، ويصبح اليوم خواناً للحزن ، ويصبح الغد حطب ، وتكون الآثار الناجمة عادة ً متطلبة ، وربما أنفقت الدومة أعواماً قبل ذوبانها التام في الأعماق الخاملة .
كنت أدرك تماماً ، أن أسباب المعركة منجَّمة ٌ، لا طارئة ، جُمِّعت علي فتراتٍ متباعدةٍ ، واجتمعت فجأة . تصفية حسابات لا أكثر ، ولقد فطنت إلي هذه الحقيقة امرأة من الدومة ، سألتها عن أسباب معركة ، كانت تدور رحاها في الجيب البحري ، فأجابتني :
- ولا حاجة ، كل واحد عايز يطهر ولده فـ عرس غيره !
لهذا ، ولغيره .
كان أبي كلما دهمنا زائرٌ يتّهم بالسوء نيته ، أشار من طرف خفيٍّ ، إليَّ ، أو إلي حازم ، فنبادر إلي إخفاءها تحت السرير بأساليب ركيكة ، وتحت نظرات الزائر ، وتدبُّ في جسده فجأة ، قوة أسطورية لست أدري كيف ترتجل مثلها أعضاءه التي تتعذب بفعل استحواذ الورم الشامل ، ولا كيف يتزن اتجاهها ، يبدو أنه كان يشحنها بحيز داخليٍّ ، ويحيطها بالتوترات ، فيتحقق وجودها ، وينسحب المرض فجأة ، وتختفي فجأة صعوبات التنفس بشكل جيد ، وينتقل بالحوار في أزقة عالقة بمنابع خبزنا ، السماد وقصب السكر وبنك الائتمان الزراعي وشركة السكر ، ويكون الثمن علي الدوام باهظاً ، لقد كنت أكتشف عقب جلاء الزائر ، أو الزائرين ، أو الزائرين ، أنَّ أبي خلال هذه الدقائق قد حسم الكثير من قوته الحقيقية .

(50)

لا يقبل الموتُ القسمة علي اثنين ، ولا يقبل المدَّ والجزر ، ولا يقبل إلغائه ، بديهيات لا تحتاج ، حتي الآن ، إلي الوقائعية للحكم علي ابتذالها ، ولكنه ، والإحساس القويَّ النبض به أيضاً ، ينفيان عن النفوس أحطَّ طباعها ، ويستقطبان إلي مركزها أعلي نزعاتها الإنسانية رقة وجمالاً ، أو هكذا أظنُّ .
لقد تصدر البحث عن جراحي لائحة اهتمامات عصام ، عقب عودته مباشرة من رحلته العلاجية الأولي إلي معهد الأورام ، وضبطني ، فجأة ، علي حافة العزلة ، وبلا مقدمات جديرة ، صدمني ، فجأة ، صدمة ميسرة ، ولها ما بعدها ، كأنها الهدف الوحيد من الهجوم علي أطراف عزلتي ، قال جاداً :
- محمد ، إنتا لازم تكشف علي نفسك مقدم ، إنتا عندك النهتة زيي ، ووشك ما عاجبنيش ، ليكون عندك صرطان !!
هكذا مباشرة ، قافية معقدة ، وتأملت ببطء ، لكن بوضوح ، وراء الشوك ليلكة في الظلِّ .
كان يرغب في رفيق للطريق إلي مجهوله القادم .
نوع خاص من الحبِّ الرحب ، أو الذعر الرحب . يا عصام ، هل فوق موت ؟ ، جرح كونيٌّ يتناسل في دمه كلُّ الأحياء ، فتعهد ثباتك ، ولا مبالاتك :
– والله يمكن يا عصام ، مين عارف ؟!
علمت فيما بعد أنه قال الذي قال لي لصديقنا جعفر ، فكان تعقيبه جارحاً .
ربما لنقائه الشديد ، لم يفطن إلي الشوفان أمام النافذة ، يحجب الجبال البعيدة ، لقد نوَّه له المسكين عن قلبه المزدحم بحبه لا أكثر .


(51)

استأنف أبي أوتاده الأخيرة كاملة قبل انحسار النور عن رماد اليوم الرابع ، بل استأنف كمال روحه المتهكمة ، وظلال أدواته في إبداع لسع الآخرين بالسخرية تحت درع ثقيل من النوايا الطيبة .
كان خلقاً ، خلقاً حقيقياً ، كنت شاهداً عليه .
من يري الخالة زينب للمرة الأولي ، سوف يجدها تعبيراً حقيقياً بشكل متحيز عن أفكاره السابقة عن الغجر ، ومن يسمع صوتها في أيِّ وقت سوف يجده تعبيراً حقيقياً بشكل متحيز عن أفكاره السابقة عن موسيقي الغجر ، ولكن من يسترخي فوق الطبقات المتراكمة في أعماقها المحتجزة ، سوف يجد تعريفاً للنبع الشهير من المشاعر الصحية بشكل متحيز .
قامتها ، تحمل بالتأكيد الزائد عن الحد ، سفر أحزان جداتها الممتد من رقم الطبيعة الصعب ، ذلك الصفر المختلف عليه ، لكنه رقمٌ لا يمكن تجاوزه وفقاً لأيِّ قناعة ، وكلِّ قناعة .
سلالة لا تواجه إلغائها .
ملامح وجهها الذكورية مرآة متطرفة لأحزان الخصيان البعيدة .
كأنها حدثت سهواً .
هي أيضاً .
كانت احتكاكاتها الأولي بنا تعبيراً حقيقياً بشكل متحيز عن أفكارها السابقة عن أساليب البدو في المعيشة ، وكانت بحماية سحن ، وأزياء الكثيرين من الزائرين معذورة ، فلقد كانت سحن الكثيرين الارتجالية صالحة فقط ، لتكون حكراً علي أسماء بعينها ، مثل ، حجر ، وجحرز ، ومضرط الحجارة ، وتأبط شراً ، والسموءل ، ولمعي .
لم تكن تدرك لبساطتها ، ربما ، وربما لتناقضاتها الداخلية الحادة ، أو لألفة الإطار ، وهذا هو الأكثر إقناعاً ، ذلك الفارق الرحب ، بين مريض ثانويٍّ يجد التعبير عن تماثله للشفاء في سلة من الإبر ، وسلة من الأقراص ، والأقماع والأشربة ، ثم يعود ، بعد يوم أو يومين ، إلي موقده العائليِّ ليتابع بقائه ، وبين مريض خاص لمرض خاص ، يلتحق وجه القبر المكعب بأفكاره السوداء صباح مساء ، وإن تظاهر بالاستهانة .
كانت تعاليمها الزائدة عن الحدِّ ، عن ضرورة المحافظة علي نظافة الغرفة والحمام والملاءات ، بل حراسة نظافتها ، وضرورة دعوتها قبل امتلاء المثانة البلاستيكية لتفريغها ، أكثر من كافيةٍ لجعل انخراطنا في الضجر يعمل .
هذا قبل أن يستأنف أبي أوتاده ، واستأنف أوتاده ، فتوقفت ، فجأة ، عن العطاء ، وبدأت بالأخذ .
تداخل أبي مع أولي سوناتات وصاياها الجارحة لمساء اليوم الرابع ، وتساءل في هدوء ، وغيمة علي جسده :
- إنتي من الصلعا ؟!
لملمت أنا ، ولملم حازم ، أكياس ضحكاتنا العصبية ، ولذنا بالفرار من المربع الآمن ، نتعثر في خجلنا ، يلاحقنا صوت الفريسة السهلة ، تفسر له باكتراث زائد عن الحد موضع الضاحية التي سقط رأسها في حفرةٍ من حفرها .
كانت الخالة لا تدرك المسار الصحيح لسؤاله .
لقد زهد في جوارنا ، وغابة من الذكريات تشكل لنا تاريخاً مشتركا ، واستوطنوا الصلعا ، علي مشارف سوهاج الجنوبية ، إخوانٌ لنا من الحلب ، بعد أن أنفقوا علي هامش الأجنحة العائلية المتصارعة ، وقلبي ، غابة من الأعوام المجيدة ، كانوا خلالها جزءاً أساسياً من معادلة الدومة الأهلية ، لا يواجه مناهضته العداء ما دام الحياد باقياً ، يخفت الحياد أحياناً ، فيناصرون موقداً في صراعه مع موقد ، فيصبحون ، بالنسبة لهامشيتهم علي الأقل ، بؤرة الانتقام ، وكان مجرد التلويح بنذر المعركة يكفي أحياناً لجعل انخراطهم في جوارنا يتوقف .
قومية انفصالية ككلِّ قومية انفصالية ، لا يعيشون أبداً علي الحافة كحافة الغجر الشهيرة ، ولكنهم أيضاً ، يرتبون علي الدوام لقوميتهم العيش في الجيتو ، لا لحماية قناعةٍ ما من المدِّ والجزر شأن اليهود ، بل خرزة من العقد استراحوا لها لا أكثر ، هذا جعلهم تدريجياً ، وبشكل منظم ، وفي ما يشبه العرف الدارج ، يكتسبون تعابير الجيتو الخاصة ، فسلط الآخرون عليهم تعبيراً عن تعابير الجيتو التي لا تقيم وزناً للكثير من التابوهات الجنوبية الشهيرة ، نظرة عنصرية ، لا تسلم من الشوفينية ، حيث توقف الوقت وعبَرَ الأساليب ، وفي ما يبدو أنه اندفاعٌ خلف الاحتجاج ، أو النكاية ، واظبوا من جانبهم علي مواصلة حراسة جذور الإخلاص لعاداتهم الموروثة جيلاً فجيلاً .
لأن الإسراف في الالتفاف حول عادة واحدة يكفي لجعل انخراطنا في الدهشة حيالها ينهار ، لهذا ليس من محرضات الدهشة علي الإطلاق التفاف الحلب حول عدم الانتماء لأرض أياً كان ثباتها ، خنجر معلق في ذاكرة مجتمعهم العامة ، حتي يمكن التأكيد الزائد عن الحد بأنهم جذور تعيش بغير أرض ، ولكن من يراقب نموَّ هجراتهم ليس من الصعب أن يلمس حقيقة أنهم يحتفظون علي الدوام في جيوب هجراتهم ، بغابة من خطوط الرجعة ، هذا يدفعني إلي الإشتباه في موجة بعيدة تسلم جذورهم إلي لبنان ، فما أشبه الحلب باللبنانيين ، حيث يتوفر الاستعداد الوافر للترحال تحت أيِّ قافية ، وكلِّ قافية ، بل الترحال لمجرد الترحال أحياناً .
ولكن القلائل .. يتهمون موجة بعيدة ، حملت فوق ماءها الآثم جذورهم القلقة من مدينة حلب السورية إلي مواقدنا .
وذكري بعيدة ، ونشاطهم المركز في تجارة الأقمشة ، والفنان صباح فخري ، تدفعني إلي الإنحياز بشكل مؤقت إلي هذا التقدير الارتجاليِّ ، لكن الممتلئ ، انتشار الحنين إلي سوريا في لهجاتهم أيضاً .
حتي كتابة هذه السطور ، لا يزال العم عبد الحميد ، أشهر بائعي القماش الجائلين في الدومة ، يزين بضاعته ، ويعلن في الوقت نفسه وفادته ، بالنداء الحيِّ المنغم :
- حريـ يــ يـر سوريا ، بضايـ يـ يـع سوريا !
ليس الموضوع في إطاره بالتأكيد ، وليست صناعة الأقمشة الحريرية محتجزة في سوريا ، لابدَّ أن هذا النداء المسنَّ تعبيرٌ عن ذكري غامضة ، ومتوارثة .
من تعابير الجيتو الحلبيِّ ، في رأيي الخاص طبعاً ، زواج العم عبد الحميد من امرأتين ، تتقاسمان منذ طفولتي رجولته ، وحتي كتابة هذا السطر ، وتتقاسمان اسماً واحداً أيضاً ، فاطمة ، فهل يقدم علي هكذا جنون سوي العم عبد الحميد ؟.
ومن تعابير الدومة الخاصة، أنَّ نساءها تواطئن علي تعريف زائد عن الحد للرجل ، أو عبد الحميد جوز فاطنات ، لقد جعلن من المرأتين غابة من النساء .
وتضخيم الأشياء يكاد يكون تقليداً دومياً شهيراً ، وهذا يقودني إلي ..
ذكري بعيدة .
كان العم "علي" بائعاً متجولاً للكيروسين ، أو الغاز في لهجاتنا ، أسترخي ليلة فوق أكبر أخطائه علي الإطلاق ، فوجد حماره تعريفاً لطريق الدومة ، دون أن تكون لديه أدني فكره عن لقبه الذي سوف يلتحق باسمه بقية أيامه ، لقد نشط ، تحت ضغط مؤخرته الضخمة ، ذلك التقليد الدوميُّ في العثور علي السخرية حتي في الظلال الصلبة ، ودون مراعاة للياقة ، أو الذوق ، راقبوا ، فجأة ، وبشكل جماعيٍّ ، نموَّ انتباههم إلي العلاقة اللغوية بين مؤخرته ونشاطه ، الغاز ، فضربت حواسهم عاصفة من المرح الداخليِّ ، وصاحوا جميعاً ، رجالاً ، وأطفالاً ، وشباباً ، خلف الرجل :
- علي أبو .... ، بياع الغاز !
أحصي الرجل فرديته ، وجمعهم ، فأسكت غضبه مرغماً ، ومضي بعربته صامتاً وازدادوا بصمته وعياً بإحساس المنتصر ، واتسعت المطاردة تدريجياً ، وتكاثر الدوميون حول حوافه ، علي مشارف الدومة توقفوا ضاحكين ، وتابع الرجل هروبه حتي تجاوز " كوبري حماد " ، وهناك توقف ، ونظر إلي بيوت الدومة ، وانفجر صائحاً :
- إتفووووووووووه عليك يا دومة ، يا بلد الغجر يا ولاد الكلب ، يا غوازي ، يا جعانين ، إتفوووووه !!
كان بصاقه الذي لا يصل ، وكان صدي صوته الهستيري المحتقن ، الذي يندمج مع ضحكات مطارديه العصبية ، آخر العهد بمؤخرته .كانت العمتان " فاطمة " ، تركبان الحمار فوق القماش معاً ، واحدة خلف الأخري في ترتيب لا يختلّْ ، بينما يسير العم عبد الحميد أمامه برقة عذراء ، ممسكاً برقبته ، كأيِّ ، جنتلمان حقيقي ، وأن تركب المرأة حماراً ، بالنسبة للدوميين ، انحلالٌ يفتت عفتها إلي شكوك ، وهو ، بالنسبة للحلب ، قلب العفة في إطاره ، بل من أكثر تعبيرات الجيتو الحلبيِّ شيوعاً .
ليسوا الأسوأ ، لكن لهم أساليبهم .
لهجاتهم أيضاً ..
ربما لعشوائية تنقلاتهم ، وكثرتها ، وحالة الإيمان بالجيتو كضرورة ، وخطوط الرجعة النشطة ، لا يستطيعون علي الإطلاق إخضاع ألسنتهم للهجة واحدة ، ويظلُّ علي الدوام أثر اللهجات المنسحبة حياً في سطوحها ، تختلف اللهجات أحياناً من كوخ إلي كوخ ملاصق ، بل من زاوية في الكوخ إلي زاوية أخري ، وأقسم بالعطر علي هذا .
وإن كان الانطباع هو الإيمان بالإطار كنوع من الوباء العام ، فإن من السهل أن تجفَّ المسافة بين الدومة ، والبطحة ، ونجع عمران ، والحوش ، سيراً علي الأقدام ، خلال أقلّ من ساعة ، ولكن هذه الدقائقَ ممرٌّ صادقٌ نحو اكتشاف العديد من اللهجات المتضاربة ، مع ذلك فإنَّ جسور الحوار بيننا ليس من الصعب تصميمها ، وفي لغة الإشارة أحياناً عوض .
مجرد التلميح بالأيدي ، واهتزازات الرؤوس ، وتحريك الحواجب يكفون أحياناً لجعل ارتطامنا بصعوبة الفهم يتوقف .
كان العم ، الشاب " سيد أبو ريا " ملجأً أميناً لكل الأمراض الممكنة ، هذا جعل شحوب وجهه الزائد عن الحدِّ يضفي عليه مظهر الميت العائد من موته ، وفي ما بدا أنه اندفاع وراء الخوف علي أطفالهنَّ من إحراز عدوي أمراضه الغامضة ، تجاوزت تحذيرات الأمهات من شراء ترمسه ، بل من مجرد ملامسته ، التهديد بالضرب إلي تحققه قبلياً ، ولكن مذاقه المميز كان علي الدوام منوطاً بتحريضنا علي العصيان .
قادت الصدفة المحضة العم سيد أبو ريا إلي أذان العصر ، أو رقية العصر ، وقلبي ، للمرة الأولي ، ذات عصر شديد العصافير ، فسكت عمراً ، ونطق كفراً ، ليس فقط لأنَّ صدي صوت نهجانه المكبر كان أعلي من صوته ، بل لأنه صاح :
- اللاهو إكبر ، اللاهو إكبر !
انفجرت في قلب المسجد ضحكاتنا ، وتفتت استغراق الرجل في المناغاة أو الرقية إلي شكوك ، واهتزت كلُّ كلمة برعشة خاصة ، وطارت أكياس ضحكاتنا في هواء المسجد ، ثم لذنا بالفرار .
وبرغم أنني كنت فرداً من قومية كبيرة من الصغار ، وقع الإختيار علي إخضاعي للمسئولية الكاملة منفرداً ، ونقل إلي أبي أولاد العاهرات من الدوميين الصورة كاملة ، وشوهوا الكثير من ملامحها ، سألني أبي في مساء ذلك اليوم بهدوء كأنه الصخب :
- صليت العصر وين يا محمد ؟!
دون تفكير ، مررت منحنياً تحت قوس براءتي ، ونبتت غيمة علي جسدي ، وانتشرت ، فجأة ، في الضحك :
- عارف سيد أبريِّا ، بتاع الترمس ، عيَّدِّن كيه ؟!
- كيه ؟
انتصبت ، ووضعت يدي اليمني خلف أذني ، وصحت من بين ضحكاتي :
- اللاهو إكبر ، اللاهو إكبر !
لمحت علي وجهه طيف ابتسامة ، ثم .. وفي لحظة خاطفة ، ركلني من الأمام فجأة ، فانزلقت في مقدمة الذعر ، والإنكار لا يفيد ، وتدخلت عمتي فتحية ، ودفعته عن جسدي بخشونة ، وبدأت انطباعات الوجع تعمل ، كان عراء أعصابه ذلك المساء أكثر مما ينبغي .ولكلِّ هذا ، فهمنا أن مسار سؤاله الصحيح ، والمعتني به تماماً ، للخالة زينب :
- إنتي حلبية ؟!
عدنا ضاحكين ، عقب انطفاء الفريسة من المربع الآمن ، نتأمل أسلحة وعتاداً ، وبادرته من بين ضحكاتي قائلاً :
- إنتا فـ إيه ولا إيه ؟
وضحك ، كان يختبر قامته القادمة .

(52)

الآن ، وأكثر من أيِّ وقت مضي ، أصبح المأزق القديم ضئيلاً ، ومنعزلاً ، ربما لأنني أقف منه علي مسافة كافية لجعل انهياره ، لوقت الحاجة ، في جيب ضحل من جيوب الذاكرة يكتمل ، ولكنني أظنُّ أنَّ بعض الأحقاد النشطة في قلبي ، تعبيرٌ حقيقيٌّ ، ومحميٌّ بتواصله ، عن أفكاري الناجمة عنه .
يظهر أحياناً ، فجأة ، وفي لمحةٍ يكتمل ، فأراقب نموَّه الداخليَّ بوضوح ، وأقرأ بمقاربة مرضية انعكاساته الخشنة ، أزيل عنه غبار الأيام العالق ، ثم أعطِّل نشاطه تماماً .
ربما ، لأني أودُّ للكثير من الأعشاب الرديئة ، التي نمت بصوت مسموع علي أسيجة بيتنا الرائدة ، حتي استطاعت أن ترتجل ضررها الخاص في أصص آثمة ، ومسيجة بظلٍّ شاحب من اللاشئ ، أن تنجو من أطراف الكلمات الحادة .
كان المكان متطلباً وكانت مقتنياتنا السائلة من النقود هابطة ، حتي أنها واجهت لليوم الثاني جفافها تماماً ، واشتعل المأزق كفضيحة ، وانطفأت ، فجأة ، مع سبق الإصرار ، وجوه الذين درجنا علي إحصائهم ملاجئ أمينة ومتاحة لوقت الحاجة ، وتغيرت ألوان الكلمات ، وازدادت الذرائع تدريجياً ، صلابة ورداءة ، ردعاً ضرورياً لمجرد التلميح ، أو حتي التفكير بطلب المدد ، وما كنا لنلجأ من تلقائنا إلي سلة من النكرات ، نما الضوء الركيك في أسمائها عقب خمول طويل ، وإن كانت الرغبة في مجرد الطرح متوفرة .
كان غموض مقاصدهم واضحاً أكثر مما ينبغي ، ويومٌ له ما بعده .
ومن المثير لطغيان الدهشة ، ومن السيئ أيضاً ، أن الرغبة الحقيقية في المدد قد امتدت من عروض الذين درجنا علي إحصائهم خصوماً وعوائق ، وأعتقد أن رفضنا كان تعقيباً علي أفكارنا الدارجة عنهم .
وبالقرب من هذا التيار من التعاطف الذي يصعب تحديده ، وجدوا تقديرنا وحبنا وبعض الندم .
وبالقرب من هذا النبع من التعاطف الذي يصعب تحديده ، ويصعب توقعه ، عثرنا علي العديد من الانطباعات الجديدة تتناسل تحت السطح ، وزاوية أخري ، وأضواء مختلفة ، للنظر إلي الثوابت التي تحكم العلاقات بين الأطراف كافة ، وأمكن فيما بعد ، تجاوز الكثير منها .
وتطور المأزق حيث لا يوجد تراجع ، وحيث لا يوجد تراجع ، اختبرت الطريق إلي قنا ، وكانت نجمة الشمال ممراً صادقاً نحو خلاصنا مؤقتاً ، وكان صديقي ، بحماية عصره ، سخياً .


(53)

يوم متوسط من أيام شهر أبريل ، والقرن الواحد والعشرون يتسكع في نقطته السابعة ، وملامح وجوهنا السابقة تفقد ألفتها باطراد ، وملامح وجوهنا القادمة تختبر تربصها ، وأبي يكتسب النقاط الأخيرة في المعايير الطبية للتماثل الأقصي لمريض بالسرطان للشفاء ، ويقترح الدكتور خلف خروجنا . انخرطت الخالة زينب في موكبنا العائد حتي باب السيارة .
لقد انحسر الأسبوع وبعض الأسبوع عن صداقة حقيقية بين أبي وبينها ، صداقة لا تقبل التأويل ، ولا تقبل المدَّ والجزر ، حتي أن أبي الذي لا يقبل النقد ، كان يرضي بمقارباتها لانتقاده بكلِّ سرور قلبه المتعب ، وهو نقدٌ يراعي صالحه ، أو هو عتابٌ لاسع ، كالعتاب علي التدخين الزائد عن الحدِّ غالباً ، وارتباك العمامة أحياناً ، وشهيته القليلة للطعام علي الدوام .
وحتي أن اسمها ، ظلَّ ينزلق في شرخ أحاديثه عن ذكري هذا المنعطف محتجزاً داخل حبه الوافر ، وبإسراف ، حتي النهاية الرديئة .
لابدَّ أنها هي أيضاً . محيرٌ ذلك النبع المشرع لتربية الدفء الإنساني بين غريبين يتقاطعان علي حافة الصدفة المحضة .
– نشوفوا وشك بخير يا زينب !
– ربنا يطمِّنا عليك يا حاج ، توصلوا بالسلامة !
ووصلوا بالسلامة ، وبحزمةٍ من الثوابت الطارئة ، ووصلتُ دونهم بحزمة الثوابت الطارئة ، وعادة طارئة ، تجاوزت حراستي لجذور الإخلاص لها رحيل أبي بسلةٍ من الشهور العصبية ، والجارحة أيضاً .
استدعاء النوم بالمنومات .
لأتفادي الليل ومنعطفاته المؤدية علي الدوام نحو يقين الألم ، ربما لأن الكيمياء تحترم قواعد المنظور ، أو تحترم المسافات ، والمساحات بين الإنسان وذاته .
كان انتحاراً منظماً ، لكنه غير حاسم .
بمجرد اقتراب الموكب من مشارف الدومة ، استعمل أبي كامل قوته الخارجية ، واستعرض النشاط الوافر لأعضائه الداخلية ، وأحاطها بالتوترات ، فاتزن اتجاهها ، وتحقق وجودها ، وانخرط ، علي طول الطريق في إلقاء السلام علي أطراف المتعاطفين ، والمتربصين ، والأطفال ، دون تمييز ، كأنه ليس ميتاً مؤجلاً ، وكأنه يعلنهم بأمنية ، رفعت لا يموت ، ولمست الكثير من نار المرح الداخليِّ المشاركة ، ولمست ، مع ذلك ، شهقات تتجمد علي وجوه النساء يصعب تحديدها ، ورأيت رجالاً يتجمدون لرؤيتنا كالأصنام .
توقف الموكب فوق الجذور ، وبين الطلل ، وأصرَّ هو أن يهبط من السيارة معتمداً علي ظله فقط ، دون مساعدة من أحد ، وطاردت الزغاريد المترقبة خطواته اللائقة بإلحاح ، ترشد ظله إلي قبونا ، كانت عضلات الطريق إلي بيتنا قد انهارت تماماً ، فتدحرجنا ، بإنفاق المزيد من الجهد ، إلي قبونا جميعاً .

(54)

يقلُّ المهنئون بعيد الأضحي مخافة الاتهام بالحرص علي الفوز بنصيبٍ من لحم الأضحية التي يزيِّن بها المكتفون من الدوميين وبعض المرائين ذكري فداء اسماعيل تماشياً مع الأسطورة العالقة ، وتتجاوز الأسطورةُ المبالغةَ إلي الإحالة المؤكدة إذ تؤكد أن الكبش يعود إلي قربان هابيل الذي (تُقبِّلَ منه) ، ويصدق هذا الجاهلون ، وليس الجهل تعبيراً محميِّاً .
يصدق الجاهلون أيضاً أن ذلك الكبش الأسطوريَّ قد ادّخر في الجنة يرعي من أعشابها تكريماً لخلافٍ عائليٍّ ، تطوَّر إلي قسوةٍ ممتلئةٍ من أبٍ يتوقع الطاعة ، بل الصمت ، وابنٍ لا يتجاوز ظلا شاحباً من العدم .
ذلك أنَّ إسماعيل بالتأكيد الزائد عن الحد ، شخصية أسطورية ، نمَّي تراثُ الرمل الضوء في اسمه وأحاطه بأفعال قداسة ٍ حتي أصبحت أسطويته في حد ذاتها أسطورة ، ولا أعتقدُ أنَّ أحداً يستطيع أن يصلَ بنسب قريش إلي اسماعيل المفترض دون أن يقف علي حافة الخلق الشهيرة .
يقول القلقشندي في مؤلفه الشهير (نهاية الأدب في معرفة أنساب العرب ) ، في محاولة من الرجل لترميم الخلل في نسبة قريش إلي اسماعيل :
( وكان إسماعيل بن إبراهيم ، جده الخامس عشر ، أو العشرين ، أو الأربعين ) !
ولابد أن نلاحظ أن هذه هي نهاية الأدب ، وليس لديَّ علمٌ ببدايته ، ربما كانت :
كان إسماعيل بن إبراهيم جده الصفر ، أو الصفر ، أو الصفر .
لقد كان ورع المسلمين الأوائل ضاراً ، لقد عطلوا العقول ، وصعدوا بحماسةٍ صلبةٍ علي جذوع الخرافة حتي ذروة النقطة ، تحت قافية لا تزال حية حتي اليوم ، نكذب له لا عليه .
لا تعجبني نظرة البالين وأصحاب الحد الأدني ، إلي العقل كزائدة من الزوائد اللحمية لا أكثر ، كالحسنة ، أو السنطة ، أو الثألول !
كأنَّ التاريخ يجد التعبيرَ عنه في كذبةٍ تمَّ التفاق عليها كما اقترح نابليون تماماً .
إسحق أيضاً ، يقول جريرُ في مدح الزنوج :
ويجمعُنا والغرُّ أولاد سارةٍ ، أبٌ لا نبالي بعدَه من تعذَّرا !
لابدَّ أنَّ البيت تعقيبٌ علي ذكري غامضة ، وإلا فلماذا قاله ؟ .
وإلا فلماذا غمره الزنوج بالعطايا ابتهاجاً بنسبتهم إلي السلالة المباركة ؟ .
ربما يفسِرُ هذا البيت ، وجود يهود الفلاشا بتصرفات مرتفعة في أثيوبيا .
كما أنَّ ذكري انهيار الحاجز الضخم بمحاذاة جبل طارق ، الذي كان يفصل مياه المحيط الأطلسيِّ عن الأرض التي .. سميت بعد انهياره البحر المتوسط ، وصلت إلينا بالشكل الذي تبني اليهود انحرافه من حقيقة مؤكدة إلي خرافةٍ أتمَّت امتلائها ، طوفان نوح ! .
إنَّ الذين يعرفون اليهود أكثر يردون سحنة اليهوديِّ المميزة ، أو ما يسمونه بتعبير الجيتو إلي التعصب للعزلة والنظر إلي الآخر نظرة دونية .
ولكن الذين لا يعرفون اليهود لا يعرفون أنَّ المأزق ، تعبير من تعابير الجيتو أيضا ، فلايمكن أن يغيِّر اليهوديُّ خندقه إلا إذا احتفظ بمأزقه ، ولقد غيَّر عبدالله بن سبأ خندقه ، أو ادعي الإسلام علي وجه الدقة ، وكان التشيّعُ مأزقه الشهير ، وظلَّ مأزقه يكبر ، ويراقب الآخرين نموَّه في سلبية ، حتي تجاوزت العلاقة بين المذهب الشيعيِّ والمذاهب الأخري ، كل الثوابت التي تحكمها ، وحتي باتت سلامة الفكرة نفسها هدفاً للشك .
وكان مأزق عبدالله بن سبأ جرحاً تناسل في دمه الكثير من اليهود بعده .
وهب بن منبه مثلاً ، أو الرجل الذي خلق أسطورة الثور الذي يحمل الأرض ، والحوت الذي يحمل الثور ، ومقطف رقيق رقيق ، والكلبة تحلق في الطريق ....ويروح يجيبها وهب بسبع قرون .
وقد انتبه بعض الحاذقين في اصطياد الثروات ، في كل زمان ٍ وكلِّ مكان ، إلي بلاهة البالين وأصحاب الحدِّ الأدني ، وإيمانهم الطليق بكلِّ ما دوّن المغامرون الأوائل في التراث ، فباشروا تربية الكثير من الثروات الطائلة .
ولقد ظهر مؤخراً في سوق الدواء المصريِّ ، عقارٌ يحمل اسم " زيت كبد حوت البهموت " ، يبدو الأمرُ عادياً ، وفي إطاره أيضاً ، ولكن لابدَّ أن نأخذ في الاعتبار قبل الانزلاق في شرخ اللعنة ..أن اسم البهموت هو الاسم الذي اقترحه وهب بن منبه للحوت الذي يحمل الثور الذي يحمل الأرض ! .
هذا يحرضني علي ابتكار عقار يحمل اسم " خلاصة طحال الثور كيوثا " ، الفكرة جديرة بالاحترام ومؤهلة للرواج ، وربما صادره البالون من الأسواق في سلةٍ من الساعات لا أكثر ، لا يهم حول أيِّ محور مرضي يدور ، بل المهم ما سيحصلون عليه من بركة ، خصوصاً أن " كيوثا " هو الاسم الذي اقترحه وهب نفسه ، للثور الذي يحمل الأرض ، ولتكن دواعي استعماله هو تنقية العقول النقية من شوائب التفكير في غير الجحيم وعذاب القبر ، وليس له بالطبع من آثار جانبية ، سوي الإسهال .
سأبدأُ العمل علي الفور ، ولكن المعوقات كثيرة . للأسف !

لكن ، وإن كنت أشك في حقيقة اسماعيل ، لا أشك في أنَّ الكثيرين .. الكثيرين جداً يحظون علي شرفه بمائدةٍ موسميَّةٍ نادرة .

(55)

وأتذكر أن أبي كان ينتظر في الساعات الطليعية من صباح عيدٍ من أعياد الأضحي جزاراً لايحتاج إلي الوقائعية للحكم علي انتظار بيتنا الموسميِّ له ، وتأخر كثيراً ، لقد أضاف الكثير من النباتيين القدامي أعباءاً جديدة إلي أعبائه ، وبدأ الضيقُ استحواذه علي أبي ، وأرسل عصام للبحث عنه في مظانه العالقة بالطقس ، والمعقدة في ذلك الوقت ، ويبدو أن عصام قد مرَّ بالجيب القبليِّ من الدومة ، فارتطم بالعم زكي يلاعب نفسه السيجة كالعادة ، فسأله ببساطة .
_ ما شفتش فوزي الجزار ياعم زكي ؟
ويبدو أن تعبير الكسل علي وجه العم زكي تحلل إلي اهتمام
_ عاوزه ليه ؟
_ عشان يدبح خروف عمي رفعت
ويبدو أن العم زكي في لحظة واضحة من لحظات العجز عن مراقبة العواقب قال
_ وليه فوزي ؟ .. ما انا جزار
ولابد أن يكون ذهن عصام قد تذكر مساره المهني من تربية المزاح ، أو تربية الذرائع لخلقه ، فقال للرجل وهو يبتسم ، وعيناه تنظران في الفراغ البعيد
_ يللا بينا .. الراجل مستنيك !
وحطَّ عصام بالقرب من ضيق أبي في حوشنا الذي سوف يكون في المستقبل النقطة الأولي التي ستتمدد خلفها العصارة حتي الطريق الذي يشطر الدومة إلي قسمين ، وخلفه العم زكي بقامته القصيرة يقبض بإحدي يديه علي سلة من السكاكين المختلفة الأشكال ، والتي يبدو أنه ادخرها ليوم يضئ فريسة ، ولسوء طالعنا أضاءنا له الولد عصام ببساطة ، قال ووجهه محتقن بفعل استحواذ فشله في السيطرة علي ضحكاته .
_ ما لقيتش فوزي الجزار . جبت عمي زكي الجزار !
ورأيت اهتزازات جسده وهو يستدير خلف عيني أبي ، فأدركت أنه يضحك .
كانت تعابير وجه أبي تنطق بالشك لثوان ٍ ، ولكن نظرته التي ارتطمت بسكاكين الخالة " محمودة " ، حللت تعابير الشك إلي غابةٍ من التعابير المتباينة ، استطعت أن أميز منها بوضوح ٍ شديد ، تعبير الخجل الصعب من الرجل المسنِّ الذي ادَّعي ، فجأة ، صلاحيته لممارسة الجزارة ، وربما بدقةٍ أكثر ، الرجل الذي يتجاهل أفكارنا السابقة عنه ، ويريد أن يمارس تجربته الأولي من نوعها في عيدنا ، وربما بدقةٍ أكثر وأكثر ، الرجل الذي يلاعب نفسه السيجة صباح مساء في ظلال بيته ، وسعياً وراء الجديد ، يريد أن يلاعب نفسه خروفنا .
استطعت أن أميز منها أيضاً ، تعبير الرغبة العارمة في أن يضرب عصام ضرباً يمطر في أوجاعه ، بل الرغبة تامة الدوائر في قتله دون مراقبة العواقب علي الأرجح .
توقف انخراطه في الدهشة فجأة ، وأدرك أن خروفنا يواجه واقعاً يجب إلغائه ، واتسعت المساحات البيضاء في عينيه ، وأشاح بوجهه ناحيتي ، وظهر غيظه فجأة ، ثم اكتمل ، وقال بصوت يراعي شراع الرجل من موجة حرج تضرب حواسه :
_ أحسن !
وتملَّكني الرعبُ ، لقد كنت أدرك ، ليس بالغريزة وحدها ، بل بفضل غابةٍ من التجارب السابقة أن أبي حين يستبد به الغضب من شئ لا يملكه ، يفتت ورده اللاسع في أوجاعي أنا ، حتي فونيا ماكينة الري ، كان حين يفشل في إصلاحها ، يغضب من فشله في التوفيق بين أدواته الميكانيكية البسيطة ، وتطلب أعطال الفونيا الصعبة ، ويجد التعبير عن ترميم لجرحه في إضاءة فريسة ، أيِّ فريسة ، ليس بالضرورة أنا ، ولسوء طالعي أنه كان يفشل في إصلاحها كثيراً ، وكان يحبني كثيراً ، وكان وجه حنانه المدور هو الآلية السرية التي تفتح لي ، وللكثيرين ، بوابات الانسجام مع الحياة ، لا تحدِّيها ، وكنت لا أستطيع أن أكمل دوائري إلا بقربه .
هدأ قلب أبي قليلاً ، ليستطيع أن يمسك بقدر لائق من المشكلة يصعب تحديده ، ثم يفكر في حلٍّ لها علي ضوء هادئ ، ربما لأن الشمس الزائدة عن الحد ، كافية علي الدوام لتعمية الشجرة عن قلب العاصفة . دعا العم زكي إلي الجلوس وطقوس الشاي ، وبعض السجائر ، قبل الدخول من باب تجربته الأولي من نوعها ، واسترخي فوق معجزة .
كنت قد اختبرت الطريق إلي بيتنا ، استجابة لأمر من أبي باستدعاء الشاي ، ونقلت إلي أمي وجدتي الصورة كاملة ، فاشتعل البيت مكاناً أفضل للعيش ، لقد انهارت جدتي في الضحك من كلِّ زرقة قلبها ، أمي أيضاً ، لكن بتصرفات أقل زرقة ، كانت تحصي سراً متاعبها القادمة .
سمعت في طريق العودة ، وسمع الشاي الساخن ، همسات أبي العصبية في زاوية الشارع ، للعم عدلي بظيو ، يطالبه بإيجاد تعريف معتاد للمعجزة التي يسترخي فوقها ، بأسرع وقت ممكن .
جلست أراقب انكسار الولد عصام الصناعيَّ صامتاً ، وأرقب نموَّ خطة أبي لتعويق الرجل عن التجربة ، كان ينعطف بالحوار في العديد من المتاهات السائلة بلا طائل ، لعلَّ مجيئ جزارنا الحقيقيِّ ، يضع حداً لجنون رغبة جزارنا المزيف في اللعب ، فينتهي المأزق الذي وضع الولد عصام بكلِّ بساطة ، عيدنا في قلبه ، ويتظاهر بالإيمان الطليق أيضاً ، بكل كلمة تخرج من فم العم زكي النشط ، تتطاير الكلمات كالريش ، وتتداخل ثم تتلاقي ، لتشكل سرباً من سكاكينه التي فجرها في شرخ شبابه في رقاب البهائم ببلاد بعيدة .
لا أدري حتي الآن ، علي أيِّ ضوء كان يفكر الرجل في خداعنا ، ليس الأفضل علي الإطلاق ، إنه العم زكي ، نعرفه تماماً ، ونعرف تماماً أن مهارته القديمة في التحطيب هي أكثر أعماله مدعاة لفخره ، ثم يتضاءل كل شئ .
يؤكد لنا الدوميون ، الذين ذكرياتهم أقدم من ذكرياتنا بالكثير من الأعوام ، أنه ، برغم جسمه الضئيل ، كان أستاذاً من أساتذة التحطيب القلائل .. القلائل جداً في الدومة ، وأنه أذاب بالتدريب المكثف فنه في كل رجال الجعدية ، كان يضرب المبتدئ تعبيراً عن خطأه في أي مكان في جسده ، ويشتم أحياناً ، ولا ينال المبتدئ استحقاقه لدخول المعارك القادمة في خطوط المواجهة الأولي قبل أن يشتبك مع المعلم في معركة حقيقية ومتزنة ، غير أن تحديد اتزانها يكون رهناً لتقديره هو .
كان جهداً رائعاً ، شكَّل الكثير من العاهات للعائلات الأخري ، ثم أصبح مؤخراً بلا قيمة ، لقد وجدت العائلات الأخري ، بالصدفة المحضة ، لتعاليم العم زكي حلاً بسيطاً ، حلٌّ ينطوي علي الكثير من النذالة ، هذا صحيح ، ولكن لا يهم ، ما دام تعريف النصر في النهاية ، يقاس بعدد المصابين من الجانبين .
لقد انتهي زمن الفرسان ، أيام كان الجد " عبد الرحمن أبو قناوي " يستحي ، في قلب المعركة ، أن يضرب امرأة معتدية ، ويتلقي الضربات المتعددة بصدر رحب ، ويعود في نهاية المعركة إلي بيته محمولاً علي أكتاف الرجال ، يسيل الدم من كل مسامه ، أقرب إلي الموت منه إلي الحياة ، يا رحيم ! .
بدأ الحلُّ بسلة من الأطفال يستشرفون نذر المعركة من فوق السطوح النشطة ، ورأوا رجال الجعدية ، يهجمون علي الساحة وسط بيوتهم ، ويدورون استدعاءاً لمعركة متوقعة رافعين عصيهم ، ويشتبكون معاً ، ويستعرضون مهاراتهم في التحطيب ، ويتقافزون ، ويضحكون ، ويرقصون ، وتصفق النساء ، ويزغردن ، وأسقط ، فجأة ، طفلٌ في الخامسة حجراً ، ودفعت الغيرة ، أو اضطراب المشهد بشكل مروع في الساحة ، والصرخات الملتاعة ، طفلاً آخر أن يقلده ، وتتابعت الأحجار ، فكان كلُّ رجال الجعدية ، قبل مرور سلة من الدقائق ، في عداد الغائبين عن الوعي ، وانتشر التقليد الطفوليُّ الجديد في طقوس تربية المعارك في الدومة إلي الأبد ، وذهبت تعاليم العم زكي علفاً للنسيان والرياح .
اكتسبت خطة أبي لتعويقه بدخول الخالة " منيرة " ، نقاطاً إضافية في معايير الزمن ، وانهالت التهاني بعتبة العيد الغامضة علي المترقبين لأدني فكرة عن مصير الطقس ، كالحزاني ، وتساءلت بنيةٍ طيبة :
- أمَّال جزاركم إتأخر ليه ؟
أجابها الصمتً المسور علي حوشنا ، ونظر اليها العم زكي متذمراً ، ولحرجها الشديد ، مررت منحنياً تحت قوس براءتي ، وقلت لها في رقة مدبرة :
- عمي زكي هو اللي هيدبح الخروف وبدأ انخراطها في الدهشة يشتعل ، فانطفأ ذهنها تماماً ، وتساءلت عفواً ، وهي تسمر عينيها علي وجه العم زكي مشدوهة ، كأنها تختبر ألفته ، وتتهم معرفتها السابقة عنه :
- زكي مين ؟
وجدت بعض الضحكات المحتجزة التعبير عنها في الوجوه المحتقنة ، والأجساد المهتزة ، وتذمر العم زكي ، كأن الجزارة ، لا الفلاحة ، هي مساره المهنيُّ الشهير ، قبل أن يقول غاضباً :
- إو ما عارفانيش إو ؟!
تأكدت شكوك الخالة فابتسمت ، وتحول فائضٌ من الابتسام إلي ضحكة قصيرة قبل أن تستدير خارجة ، وهي تقول :
- ع البركة !
والتحق ظهرها بأفكار العم زكي الفاحشة عنها ، في شكل شتائم عصبية ، حتي ابتلعها الشارع ، وكان لابد أن تتحرك في حذر بعض الضحكات المنفلتة في أمواج الهواء المريب ، ودخل في نفس اللحظة العم عدلي ، بانكساره الحاد ، وقال لأبي ، آمناً من معرفة العم زكي وجهة حديثه :
- راح نجع عمران !
ازداد غضب أبي خشونة ، لكنه تماسك ، وتمتم ببعض الشتائم العصبية ، واللعنات التي ليس من الصعب أن أدرك وجهتها ، العم فوزي الجزار بالتأكيد ، واحتجزنا حتي أنفاسنا .
مع ذلك ، ولأنه كان في الماضي المجيد ، من المؤمنين بضرورة الدوران مع العجلة وقت الحاجة ، رضي بالمقاربة غير المتوقعة ، ووجه غضبه المحتجز وجهة تتصنع الانكسار ، وجه أيضاً حنجرته الملتهبة نحو الولد عصام :
- قوم فز يا ابن المنتول ، هات الخروف من جوَّه !
ترهل غضب أبي فجأة ، وفشل في السيطرة عليه ، تعقيباً علي سخافة جديدة للولد عصام في الوقت الخاطئ تماماً ، لقد ظهر فجأة ، ثم اكتمل ، يمتطي ظهر الخروف ، قابضاً بيديه علي قرنيه ، يوجهه يميناً ويساراً بإيقاع سريع ، ومتلاحق ، كأنما يقود دراجة ، واستهدفه أبي بحجر أخطأه ، وهو يصيح جاداً :
- انزل يا ابن المنتول ، الله ينعل أبو اللي جابك !
ضرب الذعر حواس الولد عصام ، فارتبك ، وانزلق انزلاقاً اعتباطياً ، وانهارت سيطرته علي الخروف تماماً ، تجاوز الخروف بعد سلة من القفزات العصبية المذعورة عتبة حوشنا ، وتسرب إلي يقين الضياع ، هرول العم عدلي ، واتزن عصام ثم هرول ، وهرولت ، وانخرط الكثيرون من الأطفال يطاردون محاولته للفرار، وشوارع العيد المتثائبة إلا عن الخواء .
مطت المطاردة أرجلها ، وطالنا الاستياء ، وطالنا التعب ، وطال المطارد أيضاً ، فلجأ أخيراً إلي حيز يخون الطريدة ، فأمسكنا به ، وعدنا به إلي التجربة الأولي من نوعها بالنسبة للعم زكي ، والأخيرة من نوعها ، بالنسبة للمسكين حيال الحياة .
طرحه العم عدلي أرضاً ، فاتزن خط خضوعه ، وجلس الولد عصام علي سطحه ، قابضاً بيديه علي قوائمه أماماً وخلفاً بقوةٍ تلائم مراهقته ، وصاح العم زكي من بين سحب الدخان :
- أيوة كده ، كتفه زين يا بو قنين !
لقد اكتشفنا في نفس اللحظة ، بعداً جديداً من أبعاد شخصية العم زكي ...... زكي الشاعر ! .
نبح ، فجأة ، كلبي الرماديُّ ، فاستدرت ، فرأيت علي مشارف نباحه سلة من النساء ، يقفن أمام حوشنا ، يتجسسن علي عيدنا الجارح ، يخفين ضحكاتهنَّ في جيوب طرحهنَّ الجديدة ، عيونهن الدامعة ، وحواف أفواههن التي لابدَّ كانت مبتلة ، تفرقت قاماتهن المذعورة ، تعقيباً علي انفجار أبي في مرحهن الداخليِّ :
- إيه فيه ، عروسة ؟! ، غوروا !
التحق ، كالعادة ، صياح العمِّ زكي بضحكاتهنَّ المبتعدة :
- يا شراميط !
واستدعي الولد عصام ، ملامح وجهه الغاضب ، وصاح في تذمر لائق :
- منيرة شمَّهت الدنيا !
استوعبه أبي بعينين باهظتين ، وتساءل من غضبه :
- منيرة هي اللي شمهت الدنيا يا بو الست ؟!
لقد حاول الولد عصام أن يدين قدراً تافهاً من مشكلةٍ ، تعود جذورها إلي إحدي حماقاته هو .
استأنف العم زكي تجاهله ، وربما جهله ، بتراكمات نزوته الحية ، وتساءل ، وهو يتأهب للدخول في بروتوكول تجربته الأول :
- تشمه الدنيا ليه ؟! ، إو عجوبة خروف يدِّبح إو ؟!
كان من الذي يصعب تحديده ، هل هو حقيقة ،لم يفطن بعدُ إلي موطن الغرابة ، أم هو يفطن ، ويتغابي . هذا أثار ، بتصرفات منخفضة ، ضحكاتنا المحتجزة .
لا أدري كيف سارت الأمور في اللحظة التالية ، ربما كان ما حدث بتدبير من الولد عصام ، وهذا هو الأرجح ، وربما كان الخروف قد استجمع قوته ، أو استقطب ذعره قوته إلي مركز اللحظة التي أطاحت بالولد عصام بعيداً عن سطحه ، يتضور ألماً ، وبإيماءة مخجلة ، طرح العم زكي أرضاً ، واختبر الطريق إلي الشارع مذعوراً ، وصاح أبي وهو يهم بالنهوض :
- حلِّق يا عدلي ، اقفل الباب !
ونبح كلبي الذي بلون الرماد ، وارتبكت قومية من الصغار يطاردونه ضاحكين ، أو يطردونه بدقة أكثر ، وركض العم عدلي نحو الباب ، وأحكم إغلاقه ، واستعاد العم زكي اتزانه ، وتابع الولد عصام ادعاء الألم ، وطوقت المكان هالة من التوتر ، واتجه أبي نحو خبث الولد عصام وركله ، وكنوع من اقتراف حماقة تقبل القسمة علي اثنين ، طاردني وركلني من الخلف ، ولجأ حازم إلي استخدام الدرع التي تؤمن له الخلاص غالباً ، فبكي من تلقائه ، وأصبح الوضع الجديد هستيرياً وسائلاً .
اقترح أبي في غضب حقيقيٍّ ، إخضاع العم عدلي لمسئولية السيطرة علي الخروف منفرداً ، واستأنف :
- خلِّي اليوم اللي زي الروبة دا يفض !
امتثل العم عدلي صامتاً ، وهدأ قلبي قليلاً ، وتوقف حازم عن البكاء ، وتابع الولد عصام خديعته العارية .
انتظم بريق عيني العم زكي فجأة ، كان تصميمه واضحاً لا يمكن إنكاره ، وانخرط في بروتوكول تجربته الأول ، الذبح ، فجَّر سكينه في رقبة الخروف بوضوح أكثر مما ينبغي ، فكان بريق عينيه المنتظم ، وتصميمه الواضح ، وإفراطه في استخدام السكين ، دوافع كافية لانخراطنا في الضحك المتوجس ، لعدم انبثاق ، ولو بعض نقاط الدم الحار ، من جسد الفريسة ، لقد ظلَّ الخروف حياً ، فقط جحوظ عينيه ازداد جحوظاً ، وازدادت محاولاته العصبية للنهوض عصبية .
اتخذ أبي من فشل أولي محاولات الرجل ذريعة للتخلص منه ، كان صوته فارغاً من الخجل هذه المرة ، وصاعداً :
- السكين تالمة يا عم زكي ، يحرم علينا !
التفت إليه العم زكي ، كأنه يلومه علي هذه الإهانة ، مسح بظهر يده ، قطرات العرق الباهظ ، التي نبتت علي جبهته ، وأكد أنَّ خيبة سكينه تعبيرٌ عن جلد الخروف السميك ، ليس تعبيراً عن ضمور حدَّتها ، وأكد أيضاً ، أنه متأكدٌ من أدواته ، وفي ما بدا أنها محاولة ركيكة لخداعه ، وربما ، ليضفي علي إخفاقه أصداء من الشيوع والابتذال ، استأنف مبشراً :
- بس الخروف اللي جلده تخين ، عيرمي لحم كتير ، مجربة !!
أخفي الولد عصام وجهه الضاحك في التظاهر بالنظر إلي جملنا البارك علي بعد أمتار منه ، يجترّ ، واضطرب أبي قليلاً ، ورفض أن يبتلع هذا الخداع ، واقترح ، كنوع من التماهي مع أعوامه الستين وأبعد ، أن يستدعي من بيتنا سكيناً حارة ، فاحتدَّ إيقاع غضب العم زكي فجأة ، وأكد في عنف ، وهو الأدري طبعاً :
- العيب مش عيب سكين ، العيب عيب خروف !
كان في عينيه تصميمٌ ، جعل أبي يشعر بأنه ليس من الحكمة اختباره ، وكان في التعريض عوض :
- ما كناش عارفين مقدرنا يا عم زكي ، كنا جبنا خروف تفصيل !
ضحكت ، وعاد وجه عصام إلي مائدته الأولي بتصرفات منخفضة ،نض الجمل فجأة ، وفعَّل ذيله يميناً وشمالاً ، ليطرد بعض الحشرات الضارة من مؤخرته ، وظلَّ العم عدلي كالعادة داخل اتزانه ، وفي ما بدا أيضاً أنه تجاهل للتعريض الباهظ في لهجة أبي ، أو جهله به ، اقترح العم زكي ، وهو يفعِّل سكينه في رقبة الخروف مرة أخري :
- إنتا لما تروح تشتري حاجة زي دي ، خدني ننقي لك !
ضحكنا سوي العم عدلي ، وتخلي الولد عصام عن حذره ، واهتز جسده بفعل استحواذ الضحكات المحتجزة ، وسعل بشدة ، وانزلق بعض السعال في شروخ ضحكاته ، بل لمحت طيف ابتسامة مؤدية علي وجه أبي ، نظر إليه ، فجأة ، فاستعاد انكساره ، ونظر إليَّ فجأة ، وصاح في غضب :
- غور افتح الباب لحد يجي !
وامتثلت صاعداً بحماس أكثر مما ينبغي ، واختبرت الطريق إلي الباب المغلق .
لا أدري كيف سارت الأمور خلال انقطاعي ، ولكنها نجحت ، وارتطمت عيناي في طريق العودة ، ببقعة صغيرة من الدم الحار علي الروث المتحلل ، ظلت تكبر تدريجياً ، ومقاومة الضحية تصغر تدريجياً ، ثم ، فجأة ، تلاشت ، حدث ذلك قبيل أذان الظهر بسلة من الدقائق .
جلس العم زكي حتي تطرد عروق الضحية دمها كاملاً ، وأشعل سيجارة ، كان اعتداده بنفسه ، تعبيراً عن النصر الصغير الذي أحرزه ، وافراً في حديثه والعتاب :
- قال ، وإنتا تقول السكين تالمة قال !، يروح وين هبابة خروف ، قصاد جمال دراو ؟!
أفسح لنا أبي بضحكته القصيرة ، غابة من قيود الضحكات المحتجزة ، العم عدلي أيضاً ، انسلخ للمرة الأولي من اتزانه المزمن وابتسم . ووجه كلبي الرمادي حنجرته بحماس نباحه الزائد عن الحد إلي الشارع ، لقد جذبت رائحة الدم سلة من الكلاب المتطفلة ، تفشل في التوفيق بين رغبتها في الانقضاض وبين جسارتها ، زجره أبي بقسوة ، فانكمش نباحه إلي أبسط أنواع الأنين ، ظلَّ ، مع ذلك ، يتقدم ، ويتأخر ، ويدور ، وينحني .
همَّ العم عدلي أن يصعد السلم الخشبي ، ليمرر كما جرت العادة ، طرف حبل طويل من التيل ، أعدَّ سلفاً ، بين سيخين من أسياخ الكوة فوق الباب ، ثم يرده إلي الداخل هابطاً حتي يتوازي مع طرف الحبل الآخر ، فيشكلان " المجوز" ، الذي تعلَّق في طرفيه الذبيحة من رجليها الخلفيتين ، كما جرت العادة ، ولكن جزارنا المزيف رفض بإصرار ، واتهم أفكارنا السابقة عن طقوس الذبح بالرجعية والمحافظة ، لابد أن بمنظومة الذبح الشهيرة أخطاءَ ، سوف يقوم هو بتصحيحها ، هو يري أن هذا البروتوكول من بروتوكولات الطقس إنفاقاً للمزيد من الوقت والجهد دون داع ، ويري أنه سوف يحتاج فقط إلي أن يرفع العم عدلي ، أو غيره ، الخروف من رجليه الأماميتين إلي أعلي ، وأن يحرس توازنه حتي ينتهي هو من ضرب انتفاخه بالعصا ، وحصير فقط من نبات الحلفا ، يستقر الخروف فوقه حتي ينتهي من فصل اللحم عن الجلد ، وتقطيعه .
أبي الذي لم يكن لديه أدني فكرة عن مصير الخروف تمسَّك بالصمت التام ، لابد أنه كان يسترخي فوق أمنيةٍ ، أستطيع الآن أن أجد لها تعريفاً ، الرغبة في نهاية للموضوع برمته بأيِّ شكل .
امتصني الحقد علي الرجل تماماً ، إنه برفضه الأخير ، لم يذبح الخروف فقط ، بل ذبح أيضاً ، يوماً كاملاً من أمواج الهواء التي تنحسر عن خزانة من الأحلام البهيجة ، ذبح أرجوحتي ، كنت بطقس بسيط ، أتردد في خزانة الأحلام الموسمية ، فقط أضع ، بعد إنزال الذبيحة ،عصاً قوية بين طرفي المجوز ، ثم أدق الهواء المفعم بالأساطير .
استعاد ، فجأة ، بريق عيني العم زكي انتظامه ، واختبر الدخول إلي البروتوكول الأصعب ، الأصعب بالنسبة لرئته الهرمة طبعاً ، انحني ، ورقد علي الروث المتحلل ، واتزن اتجاه رقدته بمحاذاة الخروف ، برك الجمل أيضاً ، التقط ما اشتبه في أنه باب الأمعاء ، ثم نفخ ، ونفخ ، وتابع النفخ ، وانخرطت في مراقبة نموِّ سطح الخروف ، قبل أن تقرأ عيناي ارتفاع السطح ارتفاعاً لائقاً ، قرأتا فجأة هبوطه إلي نقطته الأولي ، وسمعت جزارنا يسعل في إيقاع حاد ، لا يخشي ضغط الزمن ، ثم اعتدل ، ظهر وجهه فجأة ، ثم اكتمل ، فاشتعل المكان كفضيحة ، لقد سال شلال حار من الضحكات الآمنة ، التي لا تقيم وزناً لأيِّ تعقيب مهما كان ضارياً ، أبي أيضاً ، لكنه ضحك مشوب ، لقد أصبح فم العم زكي ، وشاربه الأبيض ، ونصف وجهه ، جزيرة حقيقية من اللون الأحمر وشعر الذبيحة ، يبدو أن هذا كان تعبيراً ضرورياً عن خطأه في تحديد الموضع الملائم لذبح الذبيحة ، أو تحديده الباب الملائم للأمعاء ، لم أفهم علي أية حال .
كانت ضحكاتنا لا تزال في ذروة النقطة ، وكان العم زكي لا يزال يمسح من الدم أشياءه ، عندما اقترح الولد عصام رغبته الممنهجة في مساعدة الرجل :
- عنك إنتا يا عم زكي ، وسع لي هفة !
تساءل العم زكي ، وهو يلهث :
- إو تعرف ؟!
كأن معرفة الشئ قبل الإقدام عليه ضرورية في عرفه الدارج .
لا يوجد شخص خاص لعمل خاص ، هذا صحيح ، لكن ليس إلي درجة الهجوم متأخراً ، ودون درع لائق ، علي مسارات الآخرين الصعبة .
أكد الولد عصام معرفته ، فأفسح له العم زكي مكانه ، ورقد هو ، وتظاهر بالعثور علي الباب الملائم ، ونفخ ، وتابع النفخ في بالونة غامضة ، دون أن يطرأ تغييرٌ علي السطح ، ولكن الجدار الغامض في طريق زفيره ، جعل وجهه يحتقن ، ظن العم عدلي الطيب ، أن فشله الواضح تعقيبٌ علي مرض الربو ، ونصحه قائلاً :
- يا ولدي ، إنتا عندك النهتة ، مش هتقدر ، قوم !
لكنني ، بحماية معرفتي بأساليب الولد عصام ، أستطيع أن أؤكد الآن ، أنه اقترح المحاولة من جذورها ، ليتساءل ، ببراءة ، عقب فشله المدبر :
- عم زكي ، يكون ممباره مخروم ؟!
تجاوز إيقاع الضحك ذروة النقطة الرائجة ، وضحك أبي حتي أن السعال انزلق في شقوق ضحكاته ، هذا دفع الكثيرين من المارة في شارع العيد الذي أصبح نشطاً ، إلي التوقف لبعض الوقت ، من بعيد ، فوق الجذور للفرجة ، ثم توافدوا علي استحياء ، وانخرطوا في مأساتنا ، يراقبون الدم المتخثر ، ويضحكون ، دون أن يدركوا سبب ضحكنا ، والضحك علي الدوام محرض علي الضحك .
لقد تجاوز الولد عصام الخروف علي حافة التعفن ، ليس فقط إلي مجرد القليل من اللحم ، نسترخي فوق معجزة ، يواصل جزارنا فشله في العثور علي تعريفٍ لها ، بل إلي لحم تمَّ حشوه ، ثم استأنف قبل أن تنزلق الضحكات إلي منتصف النقطة ، بينما يمسح الكثيرون عيونهم الدامعة :
- عم زكي ، لازم تنفخ يعني ، ما تصلخ علي طول ؟!
ارتفعت الضحكات مجدداً إلي ذروتها ، وصاح العم زكي جاداً :
- عمرك يا ولدي ، شفت جزار يصلخ البهيمة قبل ما ينفخها ؟!
التحم سريعاً ، تساؤل الولد عصام المرح ، بنهاية طرف تسائله :
- شفت ؟!
انحسر تساؤله عن عاصفةٍ من الضحكات العصبية ضربت حوشنا ، تخلخل الاستغراق فيها قليلاً ، فصاح العم زكي جاداً ، في لهجة تقريع واضحة :
- قاعدين تضحكوا ، عشرين نفر ، ما قادرينش تنفخوا هبابة خروف ؟!
قدمنا تقريعه علفاً للضحكات الحية ، عيوننا الغارقة ، أكفنا التي علي بطوننا ، كأنه يريد إخضاعنا لفشله هو .
اقترح العم عدلي ، تفادياً لمأزق رئته المنهكة ، أن ينفخ جزارنا الخروف نفخاً منجماً ، هو يعني أن يدفع هواء زفيره في الممر الهوائي بقدر استطاعته ، ثم عليه .. عندما يلمس إجهاد رئتيه ، أن يغلق الممرَّ بإصبعيه ، تفادياً لتسرب الهواء المحتجز إلي الهواء الحر ، ليتابع ، بعد أن يستعيد حيويته ، من حيث انتهي ، هكذا يفعل الجزارون الحقيقيون أحياناً .
كان تدبيراً رائعاً ، أحرز بفضله العم زكي بروتوكولاً آخر ناجحاً ، واكتسب نقاطاً إضافية في مقاييسنا لمهارات المبتدئين ، لكن الوقت ينفذ ، كان قد استرخي فوق نجاحه ، علي مشارف العصر .
تسلل ، فجأة ، إلي حوشنا ، سيدنا " أبوبكر " ، وسيدنا " عمر " ، وسيدنا " أبو هريرة " ،وأمنا " عائشة " ، وضحكاتنا لا تهدأ ، لقد أخذ حديث جزارنا المزيف منحي فقهياً ، يدور حول محور واضح ، يجوز ذبح الضحية في اليوم الثاني من العيد .
أمي التي كانت تحصي .. لا تزال ، متاعبها القادمة ، أعانتني علي حمل الحصير غاضبة ، وضحكات جدتي تتجدد ، أعانتني أيضاً علي اتزان اتجاهه فوق كتفي ، ورتبت لي خروجاً آمناً من الباب الموارب .
عدت ، لأجد بعض الضحكات النشطة ، وأجد العم زكي متكئاً علي غصن جاف قويٍّ من شجر السنط ، يكتظ سطحه بالنتوءات الطبيعية ، والقليل من كتل الصمغ المتحجر ، متأهباً ، والرغبة المحمومة ، للدخول إلي أبسط البروتوكولات علي الإطلاق ، وأحبها إلي قلبه بشكل خاص .
بسط العم عدلي الحصير علي الروث المتحلل بعشوائية ، ثم نقل والآخرين ، جسد الضحية المتورم إلي سطحه ، وتماشياً مع زاوية العم زكي المريبة للنظر إلي أساليب الذبح الحديثة ، تكاتفوا ، ورفعوا الخروف من رجليه الأماميتين بطول قامة العم عدلي الأقلّ طولاً ، اتزن خط ارتفاعه تماماً ، فأصبحوا ، كأنهم والضحية في عناق صحيٍّ .
أبي الذي ، ربما كان يدرك ما وراء الكواليس ، انخرط في الضحك مبكراً ، وربما لحداثة الصورة الزائدة عن الحد ، الولد عصام أيضاً ، ربما كان يلمس شيئاً في الظلِّ ، فقد استعرض ألوان استعداده للقيام بضرب انتفاخ الخروف منفرداً ، فغضب منه العم زكي غضباً حقيقياً ، وصاح به جاداً :
- إو هو لعب ؟! ، تتصدر في الساهلة ، والله العظيم ما تضرب ضربة !!
أيها العم ، فليهدأ قلبك ، إنه مجرد عرض لا أكثر .
كان الانطباع هو الإيمان بالإطار كلعبة يمارسها الرجل حقيقية .
استدار هذا اليقين في أذهاننا حتي صار منعزلاً ، يمكن الاطمئنان إلي صحته ، عندما رفع العم زكي العصا ، واشتعلت عزيمته فجأة ، ثم بدأ في الدوران في دائرة مركزها الرجال والضحية ، يتسع محيطها تدريجياً ، وأخذ يتقدم ، ويتأخر ، وينحني ، ضاق محيط الدائرة فجأة ، وضرب الخروف من جانب ، ثم دار ليطارد الجانب الآخر ، ونغزه ، وانفجرت الضحكات حتي استلقينا ، إنه ينازل خصماً يرج في جسده قوته الكاملة ، إنه يحطب ، فشل الذين يحرسون ارتفاع الخروف في السيطرة علي ضحكاتهم ، سوي العم عدلي ، ولانت أطرافهم ، وانسحبوا من تلقائهم ، ظهورهم المقوسة ، وأيديهم التي علي بطونهم ، فواجه العم عدلي خضوعه لحراسة ارتفاع الخروف منفرداً ، صمد قليلاً ، ثم فشل في التوفيق بين قوته ووزن الضحية الميتة ، فصاح في حدة :
- الحقوني !
نهض الجمل مذعوراً ، وترنح جسد الضحية ثم استعاد توازنه ، كانوا قد أدركوه ، واستأنف العم عدلي من داخل هياجه جاداً ، ولاهثاً :
- اخلص يا عم زكي ، نحبوا علي رجلك ، اخلص !
دخل جزارنا بروتوكول تجربته الأولي من نوعها قبل الأخير ، السلخ ، ولابد من تعمية تفاصيله ، والإبقاء علي فراغات داخل الكثافة السردية ، تكريماً لذكري العم زكي .
لقد كان بوسع الرجل أن يجعل مني بشكل خاص نباتياً ، وكان بوسع أمي أن تفصل ، وهي تتمتم ببعض اللعنات ، الكثير من كيلوات اللحم الملتصق بالفروة ، أو ما قدَّرت أنها الفروة ، لقد جعلت منها سكاكين العم (زكي) منخلاً ، ولقد رفض الرجل علي غير عادة الجزارين أخذها ، ربما لإدراكه أنه ليس من اللائق بأية حال أن يأخذ الجزار ثلث لحم الذبيحة .
كان الضوء ينحسر عندما انتهي العم زكي من فصل ما تيسَّر من اللحم ، وكانت ملابسه قد أصبحت جزيرة ً حقيقية من الشعر والدم ، وقال وهو يتصبب عرقاً :
- أهو الخروف مدبوح والستة والتمنطاشر . الناس عاملين الجزارة واعرة !
كيف تطيب الحياة بعد هكذا طيبين ؟
قال لأبي أيضاً ، بعد تقطيع ما تيسر من أوصال الخروف ، بلهجة من تذكر شيئاً :
- الراس ، نسينا الراس !
صاح أبي جاداً :
- أمانة لاه يا عم زكي ، بارك الله فيما رزق !
حدث ذلك بعد أذان المغرب .
رحل العم زكي المرحوم ، وتوقفت سكينه إلي الأبد ، عصاه أيضاً .

(56)

في مساء الخميس الثالث عشر من نوفمبر والقرن الواحد والعشرين يتسكع في نقطته الثامنة ، أحدث موتوسيكل عبد الفتاح جزيرة ً حقيقية ً من التراب في سماء فرشوط ، لقد عاد وجهه إلي مائدته المعتادة قبل عام ٍ وبعض العام ، تغيرت خلالها ألوان اهتماماتنا ، وأصبح مرض أبي في الزاوية المحدودة غير المعتني بها .
كان ذلك تعقيباً علي عامين وبعض العام من الخداع المنظم ، مارسه الرجلُ علينا برهافة ٍ بالغة ، وفك البيتُ التحامه بالموت ، ونظفنا بدورنا البيت تماماً من تلك المفردات التي كان لابد له منها ، القبر وإسماعيل الفحار والجنازة .
أشتبه أنني رأيت وجهي علي خاصرة دمعة ٍ من دموع عبدالفتاح ، وكنت محتاجاً إلي ردِّ الفعل لأستطيع أن ألقي بالحقيقة المؤكدة ، والمتوقعة ، لكن المؤلمة ، علي رؤوس المسلمات :
_ أبوك تعبان !
في البيت كان الحزن يهيمن ، وهالة من الشؤم تطوق النوايا ، والهالات السوداء تسيج العيون ، ووحدة السياق ، نقلنا غيبوبة أبي إلي مستشفي نجع حمادي الأميري ، وكان طبيب الاستقبال غبيا بما يتسع ليعتقد أن غيبوبته تعقيب ٌ علي مستوي السكر المنخفض ، والتقطت خيط رجاء من بين غابة ٍ من الخيوط المتشابكة . والمتشابهة إلي حد بعيد .
لكن قبل أن تتم نقاط ُ الجلوكوز عطاءها في وريده ، توقف فوق الجذور ، وتراجعت الجدران أمام تقدم عينيه ، واضطرب جسدُه فجأة ً وشخصت عيناه .. ثم تدلي لسانه ، وظهرت فجأة ، ثم اكتملت في عينيه الجبال البعيدة .
عدنا للمرة الأولي بدون أبي ، لم يكن في البيت ثغرة سوي السرير الذي جلس عليه ، اتخذت من الذهول دريئة ًمن الانفجار ، وخيل لي أنني أحلم حلماً سخيفاً ، والتقط الحلمُ صوراً منجمة ولكن واضحة ، رأيت أطفالاً يجلسون علي حواف التين الشوكي ، وخياماً عارية ً ، ومداخن ، وأغربة ً تتسلق حنجرة َ الدومة ، ثم .. ضربت حواسي فجأة ، صرخة جدتي الملتاعة :
- رفعت ، رفعاات ، يا رفعاااااااات !
انهار ذهولي تماماً ، لقد أفلت أبي البالونات كما في الوداع تماماً ، تماماً .

(57)

كانت نهاية أبي تتواكب في أحلامي لعام ٍ وبعض العام ، فاستطاع ذهني أن يواكبها ، وربما بدقة ٍ أكثر استطعت أن أحدد العمق الأليف للموت في حضوره الهائل السعة فأصبح أليفاً وغلفت الاستهانة به حواسي .
هذا شكَّل لي صباح يوم الجنازة مشكلة ً هائلة ، ذلك أن عينيَّ تحجرتا تماماً ، وهذا بحماية التقاليد الأهلية محرض علي الرجم بغابة ٍ من الشكوك في محبتي لأبي ، بل الرجم برغبتي في إقصائه ، وقد يطال الشك نزاهة َ أمي ، إلي حد ٍّ يمكنني من أن أسمي ذلك التقليد الصارم تناذر الجنوب .
هم لا يصدقون أن الحزن الصعب ، يعطل مجري الدمع بتصرفات مرتفعة ، وأن لجفاف العيون عند الحاجة ، غابة من النقاط الإضافية في المقاييس الطبية لدلالات الحزن الصادق .
استعرضت ُ ألوان الذاكرة ، فلم أعثر علي جرح لم ترممه غابة ٌ من الدموع المتزامنة حتي لا يتسع لقطرة ٍ طازجة .
حاولت أن أطارد شبه أبي البشري تحت أيدي الذين يغسلونه ، وطردت الصور تباعاً ، وشحنت عينيَّ بحيِّز ٍ داخليٍّ لأتحقق من وجودهما وفشلت في العثور علي نبع ، وشعرت بمأزقي الذي أسير إليه منفرداً .
انحسر الخجل ُ فجأة ً عن آلية ٍ سرية ٍ تفتح باباً لخلاصي .
كان الخلاص صاخباً حتي كأنه هدوء ، أصوات النادبات ، وأصغيت إلي ماضيِّ في ظلال أصواتهن ، وفصل ذهني الأصوات سريعاً ، وعزل صوت الخالة " سنية" ، الحاد المميز وتفاعل معه :
- يا مغسلو لبسو الدبلة .. دا أصلو كان في البلد عمدة .. ووووووووووووه !
نشط مجري الدمع ، وابتلت المرئيات تماماً .
- يا مغسلو لبسو الخاتم .. دا أصلو كان في البلد حاكم .. ووووووووووووه !
وانفجر مجري الدمع .

(58)

وأنا أنظر الآن إلي الوراء ..
تعتري حواسي موجة من الإحساس بالذنب حيال استجابة عينيَّ المتأخرة حيال أبي ، وتحت ضغط أجير ، تمثَّل في سلة ٍ من الكلمات المطروقة وضعت ماضيَّ في إطاره الصحيح ، مستقبلي أيضاً .
لقد شكَّل صوت الخالة بما شحنته من حزن ٍ صناعيٍّ مرآة كبيرة ً ، رأيت في لحمها بما لا يدع مجالاً للشك موت أبي في إطاره .
يضخم من هذا الاحساس بالذنب ، يقين ٌ درجت علي يقينيته ، وهو أن حزن النساء الأجير في المآتم ، هو اتفاق ٌ غير مكتوب ٍ بين النساء علي مقايضة الحزن عند الحاجة ، نقوط ٌ من الدموع يلزم رده عند الحاجة ، لا يبكي النساء الميت َ، وإنما يبكين ميتاً خاصاً ، ولا يقوم دليلاً علي ذلك أتم امتلاءاً ، من تزاحمهن عقب انكسار حدة الغياب ، حول حزمةٍ من الأحاديث المفككة ، وربما بدقة ٍ أكثر قبل أن يعمر الميت قبرَه حول الحديث عن الأشياء التي تلتصق بمشروعية بيوميهن ، تزاد وتيرة النسيان وعدم اللياقة تدريجياً حتي تتماسك الأحاديث وتتسلل بعض الضحكات إلي حواف المأتم ، تتوغل إلي مركزه سريعاً ، ولهذا لم يسلمن من الخضوع لذلك التقليد الدوميِّ الخاص ، أو السخرية لا أكثر .
يزعم الدوميون أن امرأة ما في عزاء ٍ ما مزدحم ٍ بغابة ٍ من النساء ، أطلقت ريحاً ، وهذا في كل ِّ بلاد المسلمين حادثٌ أليف.
ولكنه في الدومة لابدَّ له أن يتخذ الشكل ً الذي لابدَّ له منه .
يزعم الدوميون ، أن قائدة النادبات عندما التقط أنفها خيوط الرائحة ، أضافت إلي منظومة الندب الشهيرة قولها بصوت منغم :
_ يللي عملـ .. تـ .. تـيها ، اطلعي برررررره !
وصاحت التي (عملتها) في صوت حاد :
_ غصب عني يخـ .. تـ .. تي ، ووووووووووه !
ألا لعنة الله علي الدوميين .

(59)

كان شبه ُ أبي البشريُّ يسير في النعش بخطوات سريعة إلي درجة ٍ لم تستطع معها خطوات الكثيرين .. الكثيرين جداً من المشيعين الأحياء أن تتحد بخطواته .
وكان الكثيرون .. الكثيرون جداً من الأطفال يسيرون خلف شَبَهِ أبي البشريِّ مولولين ، ربما كان ذلك تعقيباً علي وجه حنانه المدوَّر ، واكتراثه بطفولتهم اكتراثه برجولة الرجال حول النار الحرَّة ، وربما ، وهذا هو الأرجح ، كان تعقيباً علي تحريض ٍ مدبَّرٍ من النوايا القريبة ليحظي شبهُ أبي البشريُّ بوداع ٍ لائق .
أضفي عبد الفتاح بإغماءاته المتكررة ، اتساعاً هائلا علي المشهد .
وكان الترابُ يعكسُ السماء ويشوِّهها .
وذلك اليتمُ المدوَّرُ لإسلام ، منح نفسي ببطءٍ الشكلَ الذي يجسِّدُ مخاطرَ المستقبل .
لا يكفي اللجوء إلي الانطباعات لتحويل الأشياء الإنسانية إلي قصيدةٍ كلامية.
كانت الجبانة ساكنة إلا من نباح الكلاب ، وكانت أشكال القبور تدعم ببساطةٍ العلاقة بين معتقداتنا الخفية ومعتقدات أجدادنا البعيدين ، مسطحات طينية تعكس في الذاكرة أشكال التوابيت الفرعونية تماماً ، لولا أنها سطحية .
والحق .. أنهم لو كانوا يثقون بالبقاء المحض بعد الموت ، لما استطاعوا أن يفكروا في مجردبنائها نفسه ، وإلا ..
ما معني أن نبكي عابراً ، سواء كان يسير نحو الأفضل أو الأسوأ .
وددتُ ، لينسجم المشهدُ ، لو تمكنت من أن أضع ، بشكلٍ اعتباطيٍّ ، علي الرمال الصفراء بعض الأوراق الجافة . وهيهات .
عمَّرَ شبه أبي البشريُّ قبل ظهر الجمعة قبره ، وتكاتف الذين أوراقهم أقدم من أوراقه بالكثير ، وأهالوا عليه التراب ليؤكدوا غيابه .
ورأيته فجأة ، يترهلُ بين أسيجة الجبانة ، سعيداً ومتفائلاً ، رافعاً رأسه كأنما يطاردُ نجماً في السماء ، وجهه أبيض كحلم هيملايا ، ولم أشأ أن أجرحَ كبرياءه في نفس اللحظة .
وفي نفس اللحظة ، اختلط صوتُ المقرئ بغابةٍ من الأصوات الداخلية ، تتدفق من ذلك البهو السحيق من الزهور الذابلة ، استبعد ذهني المألوف منها وعزل الغريب ، وفصل الصوت الأعلي نبرة :
الكلُّ في واحد
عندما يصيرُ الوقتُ خلوداً
سوف نراك من جديد
لأنك صائرٌ إلي هناك
حيثُ الكلُّ في واحد

(60)
بقيَ مشهدٌ آخر وأخير وعالق ، ومعلقاً لا يزال كالخنجر في ذاكرتي ، يعكس الصورةَ كاملةً ، ويشوِّهها كصورةٍ مرتجلة في الوقتِ نفسه .
تشكَّلَ المشهدُ ببطء سريع ، أو ربما بدقةٍ أكثر تشكل منجَّماً ، وتجلَّي لنا كاملاً بعد عودتنا بدون أبي مباشرةً ، وكان آخر عهدنا بالطعام عصرُ اليوم السابق ، وكان الكثيرون من الدوميين قد أتونا بالطعام ، ولأبي السابقات ، كنوع ٍ من حراسة جذور الإخلاص لعادةٍ ، في طريقها إلي الذوبان ، بفضل سلةٍ من المشبوهين الذين يتزاحمون مؤخراً ، حول جملةٍ بغيضة :
- من شال عزَّي !
وهذا يقتضي اختزال طقوس العزاء الكثيرة ، في السير خلف النعش حتي الجبانة لا أكثر .
لقد انقضت الأيام الجميلة ، حيث كان الواجب يجثم علي الدوميين جثوم العادة .
وهذا يقتضي أيضاً ، وهذا هو الأهم ، أن تتبخَّرَ مساحة هائلة ، من فرص المؤازرة التي تباشر تربية الودِّ وتذويب الخلافات برهافة ٍبالغة .
بعد أن جلسنا موزعين حول الموائد ، انتبهنا إلي غياب بهاء ، وطال سطوحَنا الاستياء ، ثم تحت السطوح ..
طالنا القلق ، ربما كان إحساسنا الهائل بحضور الغياب في تلك اللحظات قد صعد بالأمر إلي ذروة ٍ لا يستحقها .
نشط المضيفون للبحث عنه ، مخفضين الأمر إلي تافهٍ ، ويرجوننا أن نواصل الأكلَ ، وكنوع ٍ من الحرص علي التماهي معهم ، أخذ كلٌّ منا قطعةً من الخبز في يده ونهضنا.
وبهذا يكون واجبهم قد اكتمل ، ونكون المطالبين بالردِّ لوقت الحاجة .
سألنا كلَّ المقربين منه ، بحماية الصداقة ، وأكَّدَ كلُّ المقربين منه أنه رفض ركوب أيِّ سيارة ، رفض أيضاً أن يرافقه أحدٌ في طريق العودة من الجبانة إلي الدومة ، سيراً علي الأقدام .
نوعٌ خاصٌ من ممارسة الحزن .
ذهبنا في سيارةٍ لإحضاره ، وجدناه في منتصف الطريق ، وجدناه متوسطاً .

(61)

والآن ..
إنني انتبه تماماً إلي أنه ليس يوجد أحدٌ يستطيع أن يجترح استبصارات الماضي فضلاً عن المستقبل ، خاصة إذا كان ذلك الماضي ينطوي علي غابةٍ من التقاطعات الحادة ، كذلك ليس هدفي هو تحريك الماضي ، وإنما هدفي هو انتهاك ما في نيته من خطر ٍ علي المستقبل .
وإنني أمسك الآن ، بالقليل من الحزن يتبدد ، بعد أن ألقيتُ بالقليل من التكلسات الداخلية المزعجة فوق رءوس الكلمات ، وإن كانت التعاسة لا تزال حية ً، تتشبث بامتلائها .
وجدل الفارغ والممتلئ ، وإن كان جدلاً بين وهمين ، في مقدوره أن يرشد الظلال الخاصة إلي فلسفة ٍللكون ، ولا أشك أن الأيام لا تكفُّ عن ممارسة التوازن بين منطقة الممتلئ والفارغ بشجاعةٍ صلبةٍ ، ولا أشك أن نيتي في أن أعلق وردة من الكلمات في عروة شبه أبي البشريِّ والآخرين ، تعقيبٌ علي توازن ركيكٍ ، تشكل في تلك المنطقة بين الفارغ والممتلئ .
وإن هذه المنطقة تصبح ، بالنسبة للخيال ، مكاناً ملائماً للعزلة والتعهد والبحث عن الذات .
ذلك أنَّ السيد " محمد البو عزيزي " أشعل النار في كومته الصغيرة من الأسرار ، والمخاوف ، والأحزان ، والأحلام المجهضة ، وطارت طرق دخانها إلي الكثير من الهواء المنفتح للإلهام والتحدي ، فاشتعل العالم مكاناً أفضل للعيش .
وذلك أن موقدنا العائليَّ ، قد تجاوز غياب أبي في إطاره الخارجيِّ .
وأن أرضنا الآن تستأنف من جديد عطائها .
العصارة أيضاً .
وأنّ الطريق إلي بيتنا أصبحت مجدداً صاعدة .
ولا نزال هناك .
ولا نزال نتلقي عطاء النار في ليالي الشتاء ، ولا تزال سهراتنا تذكرني بما يشبه الطعن ، حتي أنها تنسي في جيبي الكثير من طعناتها ، برائعة فيروز :
إسهار بعد إسهار ، تا يحرز المشوار
كتار هو زوار ، شوي وبيفلو ، وعنا
الحلا كلو ، وعنا القمر بالدار ، وورد وحكي وأشعار ........
وعندنا رفعت عبدالباسط ، محمد عبدالباسط ، أحمد عبدالباسط، جمال عبدالباسط ، حمدي عبدالباسط .
وعندنا نبيل عصام قنين ، نعمان عصام قنين ، عاطف عصام قنين .
وعندنا أيضاً .. حازم رفعت ، سحر حازم رفعت ، عبدالوهاب رفعت ، عبدالفتاح رفعت ، بهاء رفعت ، إسلام رفعت .
وعندنا غابة ٌ من ذكريات العابرين المشتركة في الزاوية غير المحدودة ،
والمعتني بها تماماً .






  رد مع اقتباس
/
قديم 08-02-2012, 11:22 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
زياد السعودي
الإدارة العليا
مدير عام دار العنقاء للنشر والتوزيع
رئيس التجمع العربي للأدب والإبداع
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو رابطة الكتاب الاردنيين
عضو الهيئة التاسيسية للمنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني
الاردن

الصورة الرمزية زياد السعودي

إحصائية العضو








آخر مواضيعي


زياد السعودي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: إسهار بعد اسهار

منجز ثري
يحتاج كثير من القهوة
لمتابعة حجم الالق
مرحى بكم بيننا
وكثير ود






  رد مع اقتباس
/
قديم 09-02-2012, 10:56 AM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

إحصائية العضو








آخر مواضيعي


سلام الباسل غير متواجد حالياً


افتراضي رد: إسهار بعد اسهار

الأديب د. محمد
أهلاً ومرحباً بخطوك الأنيق
في أرض الفينيق
الــ يسعد ويبتهج لضوء حرفك المتوهّج
قراءة واحدة لا تكفي
لمتابعة فيض الروعة ههنا
نتابعك
مع كل التقدير






  رد مع اقتباس
/
قديم 13-02-2012, 10:48 PM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
عبير محمد
الإدارة العليا
عضو تجمع الأدب والإبداع
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
مصر

الصورة الرمزية عبير محمد

إحصائية العضو








آخر مواضيعي


عبير محمد غير متواجد حالياً


افتراضي رد: إسهار بعد اسهار

اهلا وسهلا بك اديبنا الوارف

اسعدنا انضمامك لأكاديميتنا

ونامل في تواصلك معنا على صفحات الزملاء

رويت الذائقة بفيض بوحك الليلكي

اسجل متابعة

مع كل الود








"سأظل أنا كما أريد أن أكون ؛
نصف وزني" كبرياء " ؛ والنصف الآخر .. قصّـة لا يفهمها أحد ..!!"
  رد مع اقتباس
/
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:18 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط