روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة) - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: رمضان أبرق:: شعر:: صبري الصبري (آخر رد :صبري الصبري)       :: صلّى عليك الله يا علم الهدى.. (آخر رد :جهاد بدران)       :: ثلاثون فجرا 1445ه‍ 🌤🏜 (آخر رد :راحيل الأيسر)       :: أُنْثَى بِرَائِحَةِ اَلنَّدَى ! (آخر رد :دوريس سمعان)       :: تراتيل عاشـقة .. على رصيف الهذيان (آخر رد :دوريس سمعان)       :: هل امتشقتني؟ (آخر رد :محمود قباجة)       :: ،، الظـــــــــــــــلّ // أحلام المصري ،، (آخر رد :محمود قباجة)       :: فارسة الأحلام (آخر رد :محمود قباجة)       :: تعـديل (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: بَغْيٌ وَشَيْطَانَانِ (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: وَأَحْتَرِقُ! (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: شاعر .. (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: أحـــــــــزان! // أحلام المصري (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: ما زال قلبي يخفق (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: مملكة الشعر الخالدة (آخر رد :أحمد صفوت الديب)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ▆ أنا الفينيقُ أولدُ من رَمَادِ.. وفي الْمَلَكُوتِ غِريدٌ وَشَادِ .."عبدالرشيد غربال" ▆ > ⊱ مَطْويّات⊰

⊱ مَطْويّات⊰ للنصوص اللاتفاعلية ..

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 30-03-2018, 05:29 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
ثناء حاج صالح
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمةالأكاديميّة للابداع والعطاء
سوريا
افتراضي روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)





الفصل الأول



سوريا – حلب- حي مساكن هنانو
الساعة الخامسة بعد الظهر من شهر آب أغسطس عام2012 .

.
.
.


الغارة الخامسة عشرة

كان لدي ما أفعله ذلك المساء، كنت أبرد.
لا. لا أتّهم الجو بالبرد ولا أحمِّله مسؤولية شعوري. فلا تحمِّلوا أقوالي فوق طاقتها.
حسنا : لقد كان الجو حارا في شهر آب . وأنا التي كنت أَبْرُد من تلقاء نفسي ،وبكامل إرادتي، وبمحض اختياري . هل يرضيكم هذا ؟
كنت أبرد . وكانت الزهرة الصفراء التي نبتت صباح الأمس بين الأعشاب ما تزال في الحديقة ، رأيتها من نافذتي في الطابق الرابع ، بدت في هذا المساء الشاحب أكثر شحوبا وكأنها تعاني من شحوب مرض ما ! "لعلها متوعكة ، مصابة بالدوار ، هل تسعل مثلا ، كفاك هراء ! وكفاك شعرا ! لم يبق إلا أن يذهب خيالك - وهو وحده المريض -إلى أنها قد تصاب بأعراض التجفاف ، وقد تصاب بالإسهال مثلا هههههههه"
هذا لم يكن رد زوجي على تخيلاتي. والحق يقال، ولا أريد أن أظلمه بادعائي أنه قد تكلم بهذا ، وهو الذي لم يكلمني منذ أسبوعين ، بل أنا التي كنت أتخيل ما يمكنه قوله . ولا شك أنه محق بهذا الذي أتخيله من رده من وجهة نظر ما . فمن ذا الذي يفكر في زهرة صفراء شاحبة نبتت في العشب وهو يعيش تحت خطر البراميل.
الساعة الخامسة تماما، بدأت الغارة .
أصوات المروحيات تصم الآذان وهي تحوم في سماء حي مساكن هنانو. وهو أول حيّ معترف به من الجهة الشرقية لمدينة حلب ، وقد كان أول منطقة تدفقت إليها أرتال الجيش الحر القادمة من قرى الشمال عبر كتائب( لواء التوحيد ) منذ وصول الثورة إلى حلب .
علت أصوات القصف وعلا معها الصراخ في الشارع ،وصرخ زوجي من الداخل :
-اهبطوا بسرعة إلى الشارع ، بسرعة بسرعة .هيا
وارتفعت في الشوارع هتافات التكبير(الله أكبر، الله أكبر). وسمعت ضجيج الجيران سكان البناية يهبطون على الدرج. زوجي يحمل على ظهره الحقيبة التي وضعنا فيها كل شهاداتنا العلمية، وكل وثائقنا وكل ما لدينا من مال ويهبط مع ابنينا . من يعلم؟ لعل الخارج من بيته لن يجده قائما ليعود إليه بعد دقائق قليلة .
أما أنا فلم أنزل بعد ، ومازلت أبحث عن فردة حذائي الأخرى في خزانة الأحذية خلف باب الشقة . أين هي؟ أين اختفت ؟
هيا ، زوجي يصرخ غاضبا على درج البناية :
- قل لأمك أن تنزل حافية كل الناس أصبحوا في الشارع.
(قل لأمك ) ! حتى في لحظات الذعر من الموت ينتبه ولا يخاطبني مباشرة ! يا لشدة وعيه!
أما أنا فقد أوصتني أمي أن لا أسير حافية أبدا ، تقول أمي : "إن تفسير رؤية المرأة حافية في المنام يدل على أنها ستصبح مطلقة ", وأنا على الرغم من أنني لا أرى نفسي في المنام إلا وأنا حافية . فسوف أحافظ على وصية أمي . ثم دعوا وصية أمي جانبا، وفكروا معي ! كيف سأنزل إلى الشارع وتراني طالباتي حافية وكلهن يسكن في الجوار - ؟ هذا مستحيل! لن أسمح لهذه الذكرى المحتملة أن تعلق في ذاكرة طالبتي ريم على الأقل.
يا جماعة ! لا تفهموني خطأ. أنا أرغب بارتداء الحذاء ليس بسبب تفكيري بالأناقة ، وإنما كي أصون صورة العلم وهيبته عن كل ما يزدريها في أذهان الطلاب .وهروبي حافية يتعارض مع الاتزان والثقة والهيبة ، فإذا رآني طلابي أهرب حافية إلى الشارع فسوف تهتز ثقتهم بي وبالعلم الذي أمثله ، وسيشعرون بمزيد من الذعر تحت خطر الموت . وأنا التي لطالما حذرتهم من الذعر تحت خطر الموت .ها أنتم ترون أن الأمر لا يتعلق بي ولا بتفكيري بالأناقة.وإنما هو قضية تربوية خطيرة.
ولكن المشكلة الآن أنني لا أجد أمامي سوى الحذاء الذي ألبسه يوميا إلى المدرسة، صحيح أنه ممتاز لحفظ هيبة المعلمة وعلمها. ولكن ارتفاع كعبه المتوسط (7سم) لا يصلح لا للركض ولا للفرار من البراميل .
مرت دقيقتان ربما، وها وأنا لم أجد سوى فردة واحدة من حذائي (الزحف) الذي اشتريته خصيصا للفرار ، الأفضل الإسراع بالنزول ولو بفردة حذاء واحدة بعد أن ارتجفت نوافذ البناية وأبوابها على صوت خبطة انفجار أحد البراميل يدوي في الأرجاء القريبة . لم يبق لدي خيار . أخذت ألبس فردة الحذاء بسرعة :
- فردة حذاء واحدة تكفي ، وهكذا لن يفقد الطلاب كامل ثقتهم بي .بل سيفقدون نصف ثقتهم فقط!
ووجد جزئي العاقل الفرصة سانحة للسخرية مني فتكلم، وما كان بي لكلامه حاجة :
- ثم لا تنسي أن العيون كلها ستكون معلقة بالسماء ولن يجد أحد الفرصة كي يحدق في قدميك. فردة حذاء واحدة أفضل من الحفاء!...هيا . فالطيار الذي في الأعلى لن ينتظرك أكثر لتجدي فردة حذائك حتى يقذف البرميل .
تهافتُّ على الدرج تهافتا إلى الأسفل . وأنا أتابع الحوار :
-الطيار؟ ماذا لو فكر بإن إحداهن تريد الهروب ولكنها لا تجد فردة حذائها؟ هل يعني هذا أن ضميره مازال يعمل ! ولكن لماذا يرغب حقا بترويعنا وقتلنا ؟ هل يشعر بالفخر بتدميرنا ؟ من المحتمل أنه يتخيل نفسه محلقا في سماء فلسطين كي يستطيع أداء عمله ؟ وربما يشعر بأنه يقذف البراميل على الإسرائليين ؟ هل يعقل أنه يعرف أنه يصول في سماء حلب ؟ ويقصف ويدمر بيوت حلب ؟ ويقتل أهل حلب ؟ كيف يمكن تصديق ذلك ؟ أنا أجزم بأنه ليس حلبيا. ربما ليس سوريا. هل هو عربي ؟ هل هو مسلم؟
يا إلهي ! ماذا لو كان لديه ضمير وكان يتمزق ألما وهو يرمي البرميل ؟ ماذا لو كان عذاب معاناته وشعوره بالذنب يفوق معاناتنا ؟ ماذا لو كان يريد الانشقاق عن جيش النظام ولكنه يخشى على أهله ، على أطفاله ، على أمه من التنكيل بهم . هل يقتلنا ليحميهم مثلا ؟ لماذا بدأت أشعر بالشفقة عليه؟
هبط جميع سكان البناية من طوابقهم العالية إلى الشارع. هبط جميع الجيران .. وأنا هبطت أخيرا كالعرجاء أمشي بفردة الحذاء اليمنى بينما اتكأ بقدمي اليسرى على رؤوس أصابعي. كي أحفظ ما أمكنني من الثقة بمظهر العلم!
ثماني مروحيات تحلق يوميا في سماء حي المساكن وتفرغ حمولتها من البراميل فوق الأبنية. كل خمس دقائق برميل منذ عشرة أيام. تتضارب أصوات الانفجارات، تهز الأبنية كالزلازل، تتضخم فوق الأبنية وتتصاعد غيوم وهالات من الغبار الأبيض والدخان الأسود. تتناثر الحجارة والشظايا والزجاج في كل مكان .
وقفت بجانب زوجي وولدينا حيث اصطف الناس ،كل عائلة بجانب الأخرى، على الرصيف المقابل للبناية،على الأقل نحن عائلة أمام الناس, والناس لا يعلمون ما بأنفسنا ، عيونهم تتابع الطائرات في السماء ،وفي أيديهم حقائبهم التي وضعوا فيها ما يحتاجونه من أوراق ووثائق وأموال تحسبا من قصف بيوتهم .
بعد نصف ساعة من الرعب ومواصلة النظر إلى الأعلى، أعتقد أنهم شعروا جميعا بآلام الرقبة ، يا رب خفف عن الشعب السوري آلام الرقاب !
لماذا أراقبهم بدلا من أن أراقب الخطر المحدق في السماء ؟ فجأة، هاجوا دفعة واحدة، وأخذوا يتصارخون ويكبرون ويحوقلون ويسبحون ويتصارخون : ابتعدوا عن الشارع! إحدى المروحيات أصبحت الآن تحلق فوقنا في سماء الشارع !
معظم الناس أخذوا يتراكضون باتجاه جامع العباس . لكن نحن كنا مع الناس الذين ركضوا باتجاه مبنى الإطفائيّة قرب منطقة الملعب، في الجهة الأخرى من الشارع . وتجمعنا هناك في آخر الشارع ،وهو أمر يعرضنا لخطر الإصابة بقديفة هاون محتملة ،قد تأتينا على حين غرة من جهة مناطق النظام. كما قال أحدهم، وهو يندس بيننا ليقف في وسطنا، قبل أن يصمت لأن أحدا لم يعره اهتماما سواي ، الآن الكل ينظر إلى الخطر المحدق من الأعلى . لماذا نشعر بالحاجة لأن نقف معا في مكان واحد؟ و لماذا وقف هذا الرجل معنا وهو يحذرنا من التجمع ؟ يذكرني هذا بتجربتي التي أجريتها لاختبار سلوك التجمع الغريزي عند طيور الحمام .
هههههههه يا للطيور المسكينة ! أخفتها بصوت مواء القطط . فتجمعت على بعضها، وتجمدت وسكنت سكونا غريبا ، أشعر الآن بشعورها تماما . وهل نحن الآن أشبه بالحمامات الخائفة ؟ لا بل نحن أشبه بالحشرات الضارة التي تخاف من الإبادة ! أشبه بالصيراصير مثلا . ولن نرتقي لنكون أشبه بالنمل ، فحينما يسحق المارة النمل بأحذيتهم فإنهم يفعلون ذلك عن غير قصد. أما الصراصير فالقصد متوفر دائما في مطاردتها وقتلها. إذن فنحن في حالتنا هذه كبشر سيّان مع الصراصير من حيث المحنة الإنسانية .
لنفكر جديا في مأساة الصراصير ، أليست مخلوقات الله ؟وهل خلقت نفسها بنفسها ؟ إن لم تكن الحياة حقا شرعيا لها فلماذا خلقها الله ؟ وما ذنبها كي تخاف وتعيش طوال حياتها مذعورة وفي محاولة مستمرة للفرار من القتل ؟
لكن لحظة لحظة ، أعتقد أن الوضع الإنساني للصراصير أفضل من وضعنا . فهي حتما غافلة عن المبيدات الحشرية التي أعدت لها . وهذا يخفف من شدة خوفها وذعرها من الموت. لكن نحن ،نحن نعلم ونشاهد المبيدات الحشَ/بشرية الخاصة بنا .لذا فنحن نخاف أكثر، ولكننا والحق يقال، نستفيد من معلوماتنا أكثر .فعلى سبيل المثال: نحن نستفيد من المعلومات التي تقول بأن احتمال الخطأ في تحديد نقطة سقوط البرميل إذا كنتَ تراقبه من الأسفل يقدر بحوالي مئتي متر فقط، هو مقدار انحراف البرميل بعد سقوطه بتأثير الرياح وتأثير سرعة حركة المروحية لحظة إسقاطه. فنحن نستفيد من معلوماتنا، و نقف تحت جزء من السماء يبعد على الأقل ثلاثمئة متر عن البقعة التي تحلّق فيها المروحيات لحماية أنفسنا .
أرأيتم ؟ صحيح أن احتمال الإصابة بالشظايا الناجمة عن الانفجار وارد ،وقوي جدا. ولكن لا بأس! المهم أننا نستفيد من المعرفة . ولسنا كالصراصير ،( يا غافلْ إِلَكْ ألله) .
لكن لحظة من فضلكم ، أنا أنظر حولي هكذا لأنني أريد أن أصحح لكم بعض المعلومات المفيدة ، فأنا أعتقد بأن المروحية تقف ساكنة في الجو في لحظة قذف البراميل، ما يعني أن سرعتها ستكون صفر ، وهذا يجعل قيمة قوة الدفع التي ستعطيها المروحية للبرميل لحظة سقوطه صفرا أيضا. إذن فالبرميل يسقط سقوطا حرا. صحيح أن البرميل لا يختار سقوطه بكامل حريته ! ولكنني أظنه مع ذلك يسقط سقوطا حرا .
- " هل هذا هو وقت علم الأحياء ووقت الفيزياء ؟ اللعنة عليكِ وعلى الفيزياء وعلى اليوم الأسود الذي تعرفت به عليك !" ، هذا هو ردّ زوجي الذي أتخيله . ولعلمكم ،هو لم يردّ علي به فقط لسبب واحد بسيط ، وهو أنني أصلا لا أستطيع أن أخبره بما فكرت به قبل قليل تجنبا لردّه هذا . والحمد لله أنني لم أخبره ولم يردّ، لأنني ما كنت لأدعه يهنأ برده.
مرّت ساعة .وكل ما فكّرت به مر كلمح الخاطر، والغارة لم تنته بعد .وكلما سقط برميل هاج الناس وكبروا وتشبثوا بأنفسهم وبأرواحهم . وأنا أشعر بالعطش وبالدوار ، وأشعر بالبرد يجتاحني ، وأخشى أن يتجاوزني البرد إلى الواقفين بجواري فيبردوا مثلي ، على الرغم من أن درجة الحرارة اليوم لا تقل عن أربعين درجة مئوية ،ستكون مصيبة لو شعروا بالبرد مثلي ، جسمي الذي يرتجف بدأ يخور ،وقد أتهاوى على الأرض بعد لحظات .
لو لم أكن صائمة لاستغثت، وطلبت كأسا من الماء .أي ماء والماء في البيوت ونحن في الشوارع ؟! لكن هذا وقت تحضير طعام الإفطار . ألن يفكر الناجون من الغارة بتحضير طعام الإفطار .
يا لقسوتي ! يا لقسوة البشر!يا لعدم ضميري ! أناس تنسحق أشلاؤهم وتنطمر في بيوتهم تحت أسقفها وجدرانها المنهارة فوقهم، وأناس يخططون لتناول طعام الإفطار! يا لفظاعتي ! من سيشتهي الأكل في جوار الموت والدم واللحم المحشور تحت الأنقاض!
آه لا تذكّروني بصورة العجين المختلط بالدم في المجزرة التي حدثت في الأمس جراء سقوط الصواريخ على الفرن! شاهدتها على التلفاز قبيل أذان المغرب فلم أستطع وضع الخبز في فمي عند الإفطار.
-"ولهذا تشعرين بالجوع يمزق أحشاءك اليوم" خاطبني الجزء العاقل في نفسي، وتابع محاولا إقناعي :
-الأكل أمر ضروري ولا مفر منه. كيف سيصوم الناس غدا إن لم يأكلوا اليوم ؟ كيف سيتابعون حياتهم بدون طعام ؟
-هل تعلم أنك أقنعتني أيها الجزء العاقل ؟ قلت له ، وتابعت : أعلم أنهم سيأكلون مضطرين حتى ولو كان ابتلاع الطعام صعبا عليهم .وحتى لو كان طعمه كطعم هذا التراب الذي دخل مع استنشاقنا الهواء إلى أفواهنا . ..
الغبار يملأ الشوارع ، ورائحة البارود تختلط مع الغبار . وأنظار الناس تنسحب من السماء، وهي تودّع الطائرات المغادرة خفيفة بعد أن فرّغت حمولتها اليوم ، الطائرات تبتعد ، والناس يتوجعون من رقابهم . انتهت الغارة.
وجوه الناس من حولي صفراء مشدوهة ، أتفقّد وجوههم بحذر، خشية أن يصرخ أحدهم في وجهي لسبب أجهله ، ماذا لو صرخ أحدهم في وجهي ؟ولماذا سيصرخ بي ؟ كم أنتِ مذعورة ! ما بك؟
الرعب يملأ العيون، الاضطراب يسكن أحداق الأطفال، واحسرتاه على الأطفال. ما بهم الناس ؟
لا أحد يتكلم ، لا أحد يجد ما يقوله للآخر ، وكأن الخوف قد ربط الألسن . الصمت متواصل عميق هادر ، يشبه هذا الهدوء هدوء ما قبل العاصفة ، لكنني سأسميه بهدوء ما بعد الغارة. وهو هدوء ممزوج بالخيبة والعار والعتب ،
-ولماذا العتب يا حبيبتي ؟ (سألني جزئي الحنون )
-لأن الكل يشعر بالحاجة للمواساة ، ولكن لا أحد يواسي أحدا. أودّ أن أواسيهم حقا ، وأنا المشنوقة بحبال الصمت والعتب ، ولكنني لا أستطيع ، لا أستطيع، ليتني أرى بعض طالباتي لأواسيهن، لكن أينهن ؟ لماذا لا أراهن؟
تفرّق الناس . الكثير منهم ذهبوا لاستطلاع نتائج ما حصدته الغارة من قتلى وجرحى ومن تدمير وحرق .
أصوات العويل تمزق قلوبنا، تصل متقطعة إلى آذاننا مع هبات الرياح من منطقة السوق الجديد خلفنا، حيث تركز القصف اليوم ، ونحن عائدون باتجاه البناية . ترى كم روح أزهقت هذه الساعة؟ كم بيت هبط على رؤوس أصحابه ؟ كم قصة حياة وجدت خاتمتها المفاجئة ؟ كم رغبة تحولت إلى رماد؟ ماذا كانوا يفعلون قبل أن يسقط البرميل؟ هل كانوا ينزلون على الأدراج فلم يمهلهم الموت ؟
ليتني أطلب من زوجي أن نذهب مع الذاهبين إلى مكان القصف ، وليت زوجي يرفض طلبي ويمنعني من الذهاب ،كي أخفف عن روحي المزيد من الألم ،وعن دماغي المزيد من الكوابيس .
- وما زال الخطر قائما! (قال زوجي مخاطبا ابننا الكبير) . ونظر إلى قدمي برهة ،ولم يتكلم. وأنا اقتربت منه حتى كاد كتفي يصطدم بكتفه. وقلت:
- أسمع أصوات سيارات إسعاف ! الحمد لله أن سيارات الإسعاف مازالت تعمل . أردته أن يظن أنني أخاطبه فيرد ولكنه لم يرد. وهي محاولة يائسة مني على كل حال لجعله يتكلم معي بعد خمسة عشر يوما من الصمت القاتل، وقد باءت بالفشل كما ترون، ولكنني جاهدت أكثر، وتابعت:
-وسيأتي يوم نفتقدها فيه ولا نجدها ، (...وفي الليل الظلماء يُفتقَد البدر... ) .قلت الجملة الأخيرة ساخرة كعادتي، لكن هذه المرة قلتها دونما صوت ،حرصا مني، كي لا يسمعها زوجي، وكي لا يرد . ولكنني أظنه قد توقعها مني ،وتخيل أنه قد سمعها)، ولم يرد مع ذلك .
سحب ابني الصغير أصابعه من يدي .الآن أشعر بأن جسمي كان يرتجف بكامله حقا ،وبأنني كنت أضغط أصابع ابني في راحتي حتى أوجعته فتملص مني .
-هيا لنعد إلى البيت. قال زوجي ، وهو الذي يصبح أكثر لطفا بعد الغارات الجوية، موجها كلامه لولدينا ، ثم نظر إلى قدمي مرة أخرى ولم يعقب.
كان الدم ينزف من قدمي اليسرى بدون هوادة وحتى فردة حذائي الوحيدة قد اصطبغت بالدم الذي شكل بركة صغيرة تحتي . لعلها قطعة زجاج كبيرة حادة شرطت قدمي وجرحته هكذا ونحن نركض .لكنني لم أشعر بالألم إلا في هذه اللحظة ، هذا يعني أن مستوى تدفق الأدرينالين قد انخفض في دمي الآن ، كيف مشيت على الزجاج وانجرحت قدمي هذا الجرح العميق الكبير ولم أشعر بالألم ؟ قطع الزجاج تتناثر في الشوارع بعد تحطم زجاج النوافذ في إثر القصف منذ شهر، وليس ثمة عمال نظافة ينظفون شوارع المساكن ، وقد لا تتمكن نافذة من الاحتفاظ بزجاجها بعد أسبوع واحد في المساكن كلها . بائس حي مساكن هنانو ! منذ بدء الثورة ،أكياس القمامة تحيط بحاويات القمامة الممتلئة على محيط يصل إلى عدة أمتار على مقربة من الرصيف قرب البناية , وهناك الجرذان والفئران والقطط والحشرات والروائح.
بعد وصولنا للبناية ، وخلال عبورنا لحديقتها حاولت بعيني فقط ومن البعيد فقط أن أتفقد الزهرة الصفراء التي نبتت في الأمس في مكانها على العشب، لكنني لم أرها . ما الذي حل بها ؟ أخشى أن أحد السكان قد داس عليها وسحقها بحذائه وهو يهرول بينما عيناه محلقتان في البراميل الهابطة من السماء ؟
وعلى ذكر الحذاء، أريد أن أعرف حقا : أين اختفت فردة حذائي ؟






  رد مع اقتباس
/
قديم 30-03-2018, 06:11 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
خديجة قاسم
(إكليل الغار)
فريق العمل
عضو تجمع الأدب والإبداع
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
تحمل لقب عنقاء العام 2020
عضو لجنة تحكيم مسابقات الأكاديمية
الأردن

الصورة الرمزية خديجة قاسم

افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

ما بين الأنقاض والزجاج، وما بين الدماء والأشلاء، تكمن إنسانية ضائعة فقدت بوصلة ضميرها الحي فتلذّذت بتشويه الحياة وأدمنت صنع الفوضى والدمار
مشهد موجع من مشاهد العذاب الذي أصبح جزءا من واقعنا، نحاربه برفضه، ويحاربنا بمزيد من الالتصاق
الله المستعان
العذبة ثناء، بوركت وبورك حرفك السامي الجميل
لك محبتي وتقديري







  رد مع اقتباس
/
قديم 01-04-2018, 01:00 AM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
ثناء حاج صالح
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمةالأكاديميّة للابداع والعطاء
سوريا
افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خديجة قاسم مشاهدة المشاركة
ما بين الأنقاض والزجاج، وما بين الدماء والأشلاء، تكمن إنسانية ضائعة فقدت بوصلة ضميرها الحي فتلذذّت بتشويه الحياة وأدمنت صنع الفوضى والدمار
مشهد موجع من مشاهد العذاب الذي أصبح جزءا من واقعنا، نحاربه برفضه، ويحاربنا بمزيد من الالتصاق
الله المستعان
العذبة ثناء، بوركت وبورك حرفك السامي الجميل
لك محبتي وتقديري
الأستاذة الكريمة العزيزة الشاعرة خديجة قاسم
أشكرك لحضورك الغالي وتفاعلك العميق مع النص ، وأقدّر وأثمن قراءتك وما تفضلت به من تعقيب .
بارك الله فيك
وكل المحبة والاحترام
وباقة من الورود






  رد مع اقتباس
/
قديم 01-04-2018, 05:19 PM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
نائلة أبوطاحون
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل وسام الأكاديمية للعطاء
فلسطين

الصورة الرمزية نائلة أبوطاحون

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

نائلة أبوطاحون غير متواجد حالياً


افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

رائعة غاليتي..

سرد يفوق الوصف

بانتظار الفصل الثاني

محبتي وتقديري






  رد مع اقتباس
/
قديم 01-04-2018, 07:11 PM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
زياد السعودي
الإدارة العليا
مدير عام دار العنقاء للنشر والتوزيع
رئيس التجمع العربي للأدب والإبداع
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو رابطة الكتاب الاردنيين
عضو الهيئة التاسيسية للمنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني
الاردن

الصورة الرمزية زياد السعودي

افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

تحميل الساخر
كل هذا الجد المؤلم
بحاجة لتقنية عالية
ملكتم زمامها
بفردة حذاء ورؤوس أصابع

تفنينكم ثري

بوركتم
وكل الود






  رد مع اقتباس
/
قديم 03-04-2018, 12:28 AM رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
ثناء حاج صالح
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمةالأكاديميّة للابداع والعطاء
سوريا
افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نائلة أبوطاحون مشاهدة المشاركة
رائعة غاليتي..

سرد يفوق الوصف

بانتظار الفصل الثاني

محبتي وتقديري

حضورك هو الرائع أستاذة نائلة
كل الشكر لك
بارك الله فيك






  رد مع اقتباس
/
قديم 03-04-2018, 12:30 AM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
ثناء حاج صالح
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمةالأكاديميّة للابداع والعطاء
سوريا
افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة زياد السعودي مشاهدة المشاركة
تحميل الساخر
كل هذا الجد المؤلم
بحاجة لتقنية عالية
ملكتم زمامها
بفردة حذاء ورؤوس أصابع

تفنينكم ثري

بوركتم
وكل الود
أسعد برأيكم وأعتز بشهادتكم
كل الشكر لحضوركم وقراءتكم أستاذي الكريم زياد السعودي
وتحيتي والود






  رد مع اقتباس
/
قديم 03-04-2018, 12:32 AM رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
ثناء حاج صالح
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمةالأكاديميّة للابداع والعطاء
سوريا
افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

طالبتي ريم


أيلول /سبتمبر 2012 مساكن هنانو


الساعة الثامنة مساء غابت الشمس ، سقطتْ خلف أحد الأبنية العالية في حي الصاخور المتاخم لحي المساكن من الجهة الغربية. آخر مرة لمحتها ( أقصد الشمس ) قبل دقائق ، قبل أن أدير ظهري لها وأنعطف، وأنا أنسلُّ بالسيارة مع طالباتي من شارع فارغ إلى آخر أكثر فراغا في حي المساكن .
ذهب النهار ولم يأت الليل . لا ضوء ولا ظلام ، لا سكوت ولا كلام ، سوى التوجس من المجهول الغادر . طالباتي الثلاث رشا ومها وغزالة يجلسن في المقعد الخلفي للسيارة. أما ريم فتجلس بجانبي في المقعد الأمامي، لأنها تسكن معي في بنايتي نفسها.
نحن عائدات من معهد الدورات المسائية ، وأنا تعهدت للأهالي منذ أسبوع بإيصال كل طالبة تسكن بعيدا عن المعهد بسيارتي، إلى بيتها ، لأن إحدى الإشاعات أشاعت -ولعلها ليست مجرد إشاعة- أن عصابة مجهولة تخطف البنات في حلب. وقد خُطِفت فتاة في حي (السُّكَّري). والأهالي خائفون على بناتهم . وليس التحضير لنيل الشهادة الثانوية في العام القادم عذرا كافيا للتضحية بالبنات. أو للمغامرة بسيرهن في الشوارع .كما قال أحد الآباء لمدير المعهد:
-أنا أكسر رجلَي ابنتي ،وأجبرها على القعود في البيت . يلعن أبا (البكالوريا)، وأبا ابنتي التي ستحصل على البكالوريا . أخي ! من الأخير، أعيدوا لنا المبلغ الذي دفعناه ، غيَّرنا رأينا ، نحن نحب الجهل . ونحن ضد تعليم البنات.
- يا رجل يا رجل وحِّد ربك !قال المدير وقتها غاضبا ، وتابع: - سأعيد لك المبلغ الذي دفعته ، ولا تخبر أحدا بهذا ، ولكن دع الفتاة تحضر إلى المعهد وتتابع دروسها، أحضِرْها بنفسك وأرجعْها إلى البيت بنفسك، ابنتك تحضِّر لنيل الشهادة الثانوية يا رجل! ، هل ستضيِّع تعبها خلال اثنتي عشرة سنة؟ وأنت ترى الأوضاع، وهذه فرصتها .ولِعلمِك يا سيدي ،سيتأخر موعد الدوام للعام الدراسي هذه السنة .
-أخي !أنا عقلي جحش!
قال الأب وهو يشير بسبابته ذات الظفر الطويل الذي اختزن تحته بعض الوسخ إلى دماغه. بينما كانت ابنته تقف إلى جانبي خلفه تماما، تبكي وتتوسل إلي همساً وتمتمةً ، وتشير إليَّ أن أتدخل في الموضوع .
-يا آنسة يا آنسة ضاعت البكالوريا ، الله يوفقك تدخلي، احكي معه يا آنسة.
- طيِّب .طوِّلي بالك طوِّلي بالك! تقدمتُ مبتسمةً لأقف إلى جانب المدير، وافتتحتُ مدخلا إلى الحوار:
-يا أخي طوِّل بالك ، أبو من حضرتك ؟
- أنا أبو (ضراط ).
-ويلاه ! أرجوك انتبه لكلامك ! أنت في معهد محترم.
-وأريد أن أكسر رجلي ابنتي وأقعِّدها في البيت. أعيدوا لي نقودي التي دفعتها عندما كنت جحشا وسمعت كلامها .
- لستَ جحشا . حاشاك ! أستاذ إبراهيم ! هات المبلغ . سلِّمني إياه بيدي ،إذا سمحت ! قلت للمدير بلهجة مستسلمة
فأخرج المدير النقود ووضعها في يدي. عند ذلك جلستُ على الكرسي ولوَّحت للرجل، بيدي التي أمسك بها النقود، مشيرة إليه أن يجلس على الكرسي المقابل .
لن تخرج من هنا إلا ونقودك هذه معك . فاطمئِنْ! و أرجوك ،إهدأ قليلا، واعتبرني أختك ( حاشاي أنا الأخرى ) ، ودعنا نتكلم كالمحترمين :
جلس الرجل ممتعضا ، وقال : تفضلي . إحكي!
-ابنتك ما شاء الله ! ذكية ومجتهدة، ويحق لك أن تفخر بها .ابنتك متفوِّقة . بعد سنوات قليلة ستقول: أنا أبو الدكتورة مها.وستذكر كلامي هذا . فلا تقف اليوم عقبة في طريقها وأنت أبوها . ماذا قلت ؟
- .........
- طيِّب. ما رأيك في أن أمرَّ أنا بنفسي يوميا على بيتكم وأحضرها معي إلى الدرس بسيارتي؟ وبعد الدرس أنا أيضا أوصلها بسيارتي إلى باب بيتها . وما يحصل لي يحصل لها . يا أخي قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا .ولن أعطيك النقود حتى توافق. ومددت يدي إليه بالنقود .
حينها سحب الرجل النقود من يدي ودسَّها في جيب قميصه، وقال :"وأفوِّض أمري إلى الله... موافق!"،
ثم سحب ابنته من يدها، وأسرع بالخروج . أحيانا يحقق (العقل الجحش) لصاحبه بعض المكاسب. حقيقةٌ ثابتةٌ علميا !
-"لم يبق سوى سبع طالبات في الصف يا آنسة ! بعد أن كنا عشرين طالبة قبل شهرين ، الناس ينزحون من المساكن "قالت ريم بعد أن بقينا وحدنا في السيارة . مرت بجانبنا ثلاث شاحنات صغيرة (سوزوكي ) تحمل الناس وفُرشهم وأدواتهم
-إلى أين يذهبون في هذا المساء ؟ إلى القرى ؟ أنا خائفة يا آنسة . خائفة جدا .قالت ريم ودوَّت مع قولها في الجو أصوات الرصاص ، أوقفت محرك السيارة وأخذنا ننصت في جميع الاتجاهات وكم تمنيت لو أن الله خلق للبشر آذن كأذان الحمير، أو الأرانب مثلا . وبعد دقائق من الإنصات سمعنا فقط أصوات قرع أحذية الجنود وهم يهرولون باتجاه آخر الشارع ، ونظرت كل منا في وجه الأخرى برعب وقالت ريم ، أنا خائفة ، خائفة جدا . ودوُى صوت الرصاص من جديد.
-أرأيت ماذا جررتِ علينا بخوفك ؟ لا تلفظي هذه الكلمة مرة أخرى ،لأنها هي السبب في كل ما يحصل ،قوليها أكثر فلا نصل إلى بيتنا اليوم .
-لن أقولها ، ولكن أسرعي أرجوك ! هل تلاحظين فراغ الشوارع يا آنسة، نحن فقط في الشارع ؟ لم نر بشرا غير أولئك النازحين . وجودنا هنا خطأ.
- تابعت القيادة بحذر وخوف أكبر :
- ريم ! انظري ! هل كانت أكياس الرمل تلك التي عند الشجرة، هل كانت في هذا المكان عندما مررنا قبل الدرس من هنا ؟
- لا هذا حاجز جديد. حاجز جديد للجيش الحر ، أظنهم ما زالوا يصنعونه ولم أره من قبل .
- حسنا ،سنمر بقربهم بهدوء ، فلا تخشي شيئا إذا استوقفونا. نظرت كل منا في وجه الأخرى برعب، ومررنا ببطء.
- ما من أحد خلف الحاجز ، لم يستعملوا الحاجز بعد. مررنا بسلام(قالت ريم )
- هم يحضِّرون الحواجز احتياطا . ولكنهم يستقرّون في أبينة المؤسسات الحكومية العاطلة عن العمل ، في مبنى البريد وفي المخفر، وفي المدارس. مررنا بسلام ، لم يرنا أحد. أليس كذلك؟
-على فكرة ، القصف اليوم استهدف منطقة شارع حي الشهداء في مساكن هنانو. وسقط صاروخ على مدرستنا. قالت ريم ونحن نترجل من السيارة بعد أن جف حلقي وحَلْقُها رعبا:
-ماذا ؟ ثانوية عز الدين القسم ؟ !
-عز الدين القسام .نعم . انهار جدار المدرسة من جهة موقف الباص ، وتشكلت طاقة كبيرة في جدار قاعة المختبر، رأيتها بنفسي اليوم قبل الظهر.
-متى قُصِفَت ؟ في الغارة الصباحية ؟ سألتها وأنا أهز برأسي، وكأنني كنت أتوقع ما حصل وتابعت: يقصفون المدارس لعلمهم بأن الجيش الحر يتخذها ثكنات عسكرية له . الحمد لله أن الدوام لم يبدأ بعد، ربنا يسترنا أيام الدوام .
-أي دوام يا آنسة ؟! من سيداوم ؟ المساكن فارغة ما فيها أحد غيرنا ، كل الناس نزحوا .
ربتت على كتف ريم، أمام باب بيتها في الطابق الثاني.وقلت وأنا أهم بمتابعة صعود الدرج.
-تصبحين على خير يا ريم ، سلِّمي على الوالدة .
فشدَّتني من ذراعي، وقالت وهي لا تعلم ما ينتظرها في الداخل :
- أرجوك ادخلي معي آنسة .تفضلي واشربي فنجان قهوة ،لدي موضوع أحدثك عنه ،وأحتاج نصيحتك .
– موضوع ماذا ؟ عريس مثلا ؟
- كيف عرفت ؟ قالت وهي تبتسم مستحية و مستغربة .وأصبعها يضغط على جرس الباب.
-أنا أعرف وأفهم ، ماذا تظنين ؟ هههههه شرودك في الدرس اليوم لم يكن مجانيا .رأيتك شاردة على غير العادة ، وأنا أشرح الدرس. ولكن ..؟!
وفتحت أمها الباب ، ولم تسمحا لي بإبداء أعذاري للتملص منهما، ووجدتني قد أصبحت في الداخل:
-أهلا بالآنسة والله . أهلا وسهلا ،(مية السلامة) والله . هذه أول مرة تدخلين فيها بيتنا، منذ أن سكنت في البناية، يعني منذ ثلاث سنوات .
-أهلا بك ، الله يخليكِ ، حقكم علي يا أم ياسر
-نحن زرناك أنا وكل الجارات عشرين مرة ، ثم اتفقنا وقررنا أن لا نزورك أبدا ، إلا بعد أن تردّي الزيارة . (قالت أم ياسر عاتبة وضاحكة، وهي تفتح باب غرفة الضيوف) .
- يعني شكَّلتُنَّ حزباً وتآمرتُنَّ ضدي . هههههه والله معكم حق ،أنا آسفة ، وأعترف بذنوبي ولكن أرجوكم أن تعذروني . وريم فقط تعرف وضعي، وتعلم بقلة وقتي، إسأليها ! أين أنت يا ريم؟ تعالي أنقذيني!
-ريم؟ دعيها تصنع القهوة ـ وأنا سـأستغل الفرصة وأشكوها لك ، قبل أن تأتي.
- نعم دعينا نتحدث عن ريم ، فهذا أحسن . خير ! ما بها ريم ؟
-أمي ! أنا أسمعك . (صرخت ريم من المطبخ )
-اسمعيني وكثِّري ، سأشكوك . وأخذت الأم تسابق الزمن في سرعة كلامها : -تخيلي يا آنسة أن ريم ومنذ أربعة شهور، وهي لا تستحم إلا مرة واحدة في الشهر ، يعني بصراحة هي لا تغتسل إلا بعد الدورة الشهرية ، وعندها تغتسل خلال خمس دقائق فقط ، يعني تصب الماء على جسمها صبا سريعا فقط ، وتخيلي أنها تحاول ألا تشرب الماء كي لا تدخل إلى (التواليت )! وأنها تنام بعباءتها وبحجابها .
- ما هذا الذي أسمعه؟ معقول ؟ ! ريم؟! هل تمزحين ؟
ودخلت ريم مضطربة بوجهها المحمر خجلا، ووقفت في باب الغرفة وهي تصرخ بأمها:
-أمي ! كفى فضائح!
-لمَ كلُّ هذا يا ريم ؟ سألتها وسط ذهولي
جلست ريم بجانب أمها على الأريكة ، وقالت بصوت أكاد لا أسمعه وهي مطرقة:
-أخاف أن يسقط صاروخ أو برميل أو قذيفة على بيتنا وأنا أستحم عارية في الحمام.أخاف أن ينتشلوا جثتي من تحت الأنقاض وأنا عارية . ولست أنا فقط من يفعل هذا يا آنسة ، كل رفيقاتي بالمدرسة أيضا يفعلن هذا . ونحن اتفقنا على ذلك . وأنا أستغرب كيف تستطعن أنتن الاستحمام عاريات وتطلن الاستحمام ، وكأن الأمر عادي !
- ماهذا التهريج ؟ قلت وأنا أتصنع عدم الفهم.
- وكنا نفكر أنا ورفيقاتي أن نحدثك أنت بالذات عن هذا ، لكي تقومي بتوعية النساء جميعا ،أعني زميلاتك المدرِّسات وقريباتك .
ونظرت ريم في عيني ورفعت صوتها وقد وصلت إلى النقطة التي جعلتها تزداد قوة.
لطمتُ خدي وصرختُ بها :
-كفى ! لستِ محقة . كلنا لا يهنأ لنا عيش ، ويقض مضاجعنا خوف الموت كل لحظة. لكننا نتوكل على لله ونستحم . أنت منذ أربعة أشهر لم تستحمّي ؟ كيف تطيقين نفسك ؟ درجة الحرارة تفوق أربعين درجة مئوية في هذا الصيف الحارق .وأنا التي كنت أسأل عن اسباب الرائحة السيئة في الصف . أصبحت سماكة الأوساخ المجبولة بعرقك عشرة سنتيمترات ، لماذا لا تبدين سمينة وأنت تلبسين جلدك السميك الميت منذ أربعة أشهر . هل يعجبك جلد وحيد القرن؟
-أنا لست قذرة يا آنسة ! وليست لي رائحة عرق. الرائحة السيئة في الصف سببها أكوام القمامة التي تتسرب رائحتها من النافذة .
-آه صحيح ،فهمت ،أنت لا تتعرّقين . أنت لا تشربين الماء كي لا تدخلي إلى التواليت ، لذا فأنت لا تتعرقين أيضا.
-آنسة ! أنا أمسح جسمي بالماء وبالعطر ، وأغسل شعري فوق المغسلة يوميا. أنا لست قذرة. أنا فقط لا أريد أن ينتشل الناس جثتي وأنا عارية . لماذا تستنكرين هذا ؟ ماذا لو متنا ونحن نستحم عاريات؟ أنت يا آنسة ، ألا تتوقعين الموت في كل لحظة وثانية ؟ أجيبيني ! هل تضمنين عدم قصفك وأنت في الحمام ؟ فلماذا نخاطر ؟ ولماذا تلومينني ؟ انظري إلى أهل حمص المحاصرين منذ سنة بدون ماء ، هل يستحمون ؟ أنا ورفيقاتي نعتبر أنفسنا وكأننا نعيش في حمص.
-ريم حبيبتي ، ريم العاقلة ، ريم الواعية ، كفاك قذارة ! لا تتكلمي عن رفيقاتك ، فأنا أعلم أنك أنت صاحبة هذه الفكرة ، وأنت من أقنعهن بها ، أليس كذلك ؟ اعترفي!
-نعم أنا . ألا تشاهدين الأخبار ؟ لاحظي جثث النساء تحت الأنقاض ، لم أر جثة عارية لامرأة . بل كلهن يضعن حجاب الرأس تحت الأنقاض ، هذا يعني أن جميع النساء في سوريا يفكِّرن مثلي .ويحتطن مثلي. وهذا هو التفكير السليم. فكّري بأهل حمص وستجدينه سهلا. تخيلي جثتك عارية وهم ينتشلونها من تحت الأنقاض وستجدينه مقنعا .
-ريم !استحمي يا ريم! فأهل حمص لو وجدوا الماء لاستحموا . وأنت ما يزال لديك ماء . استحمي يا ريم فالجزء القذر من الثورة لم يبدأ بعد .وستضطرين لتحمل القذارة فيما بعد دون إرادتك . استحمي يا ريم فالقُمَّل حشرات عديمة الأجنحة، ولها ستة أرجل، وتتغذى على دم الإنسان . استحمي يا ريم فالقملة العرجاء تأتيك من على بعد أربعين فرشة . فما بالك بالقملة غير العرجاء . تعالي إلى جانبي واخلعي حجابك لأفلّي لك شعرك . تعالي فنحن نحتاج بعض العينات الحية من الحشرات الطفيلية ، لنضعها في مختبر العلوم من أجل طلاب الصف الثامن .
-أنا لست مقمِّلة !
-ماذا إذن . أتبخلين علينا ببعض العينات ؟ تعالي بجانبي ولن أبحث عن القُمَّل ، بل سأبحث عن هامة الجرب ،وهي ابنة عم العنكبوت كما أخبرتك سابقا . وتملك ثمانية أرجل ستحفر بها الخنادق في جلدك، ولا أشك بأنها قد بدأت بالحفر الآن ، فهي تتكاثر ولا تضيع الوقت، وتحتاج الخنادق لإخفاء بيضها . تعالي لأريها لك ؟
-آنسة أرجوكِ!
- لا آنسة ولا بطيخ ! عديني بأن تستحمي اليوم جيدا ، ولا تزيدي كلمة واحدة.
- لا أعدك . وأرجوك وأتوسل إليك أن تكفي عن الاستحمام أنت أيضا.
- هكذا إذن. سأخرج . افسحي لي الطريق يا أم ياسر.
خرجتُ وأنا أدّعي الغضب .وريم تبكي . وأم ياسر تصرخ: يا آنسة لم تشربي القهوة بعد.
وفتحت باب بيتي على صوت قذيفة قريبة رجّت البناية ، توجهت مباشرة إلى الحمام . كنت أريد أن أتوضأ قبل أن يفوتني وقت صلاة المغرب . رفعت الحجاب عن رأسي . صوت قذيفة ثانية رجّ البناية مرة أخرى . أعدت لفّ شعري بالحجاب . وقررت ألا أنزعه عن رأسي أبدا بعد اليوم ، سأمسح على رأسي في أثناء الوضوء بمد أصابعي تحت الحجاب ، سأنام بالحجاب. وقررت تقليل كمية الماء التي سأشربها بعد اليوم أيضا ، قررت أن لا أستحم بعد اليوم . سنتحمّل ، سنصبر ، هي شدّة وستزول ، وهي تجربة اختناق إرادي، سنختبرها على أمل التنفس بعدها . وهي "فرصة لجمع العينات الحيّة من أجل طلاب الصف الثامن ".كما ستقول ريم غدا مكررة كلامي ومدلّلة على حكمة رأيها.







  رد مع اقتباس
/
قديم 11-04-2018, 10:56 PM رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
ثناء حاج صالح
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمةالأكاديميّة للابداع والعطاء
سوريا
افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

النزوح إلى الرَّقة

تشرين الثاني /نوفمبر 2012 الساعة الخامسة فجرا

-علينا أن نغادر المساكن قبل بدء الغارة الصباحية ، يعني قبل الساعة السادسة فجرا. قال زوجي .
-أسمعُ صوت الطائرات من البعيد . أسمع صوتا ، قد تبتدئ الغارة مع خروجنا ،فنكون صيداً سهلاً . (قلت)
-لا . ليس ثمة صوت بعد. أنت عندما تسمعين من بعيد صوت غسالة الملابس وهي تدور ، تقولين هذا صوت الطائرات . هيا أسرعي
-لعلك محق (قلت لنفسي ) وتابعت:- هل أغلقتَ جرةَ الغاز جيدا ؟ هل وضعتَ الحقائبَ في السيارة ؟
-أغلقتُ النوافذَ وأبوابَ الشرفاتِ وجرةَ الغاز. أغلقتُ كلَّ شيء. ووضعتُ كلَّ شيء في السيارة أيضا ، فقط البسي وانزلي بسرعة فالأولاد وحدهم تحت, و،سأنزل بهاتين الحقيبتين، ثم سأصعد لأفصل التيار الكهربائي. وأضعُ الأقفال الثقيلة على الباب الخارجي للشقة . الحمد لله أننا ركَّبْنا هذا الباب المعدني الثقيل قبل أسبوع ، فهو على الأقل يساعد في حماية الشقة من السرقة. وإن كان لا يساعد في حمايتها من القصف. قال زوجي تلك الجملة ونزل على الدرج.
-والآن بقينا وحدَنا , وحانت لحظاتُ الوداع . صعبٌ عليَّ أن أنظر في عيون الأشياء وأن أرى عَتَبَها وخيبتها ثم أقول وداعاً، وصعبٌ عليَّ أن أسمع أصواتَ نشيجها واستجدائها الخفيةَ .والأسهل من كل ذلك عليَّ ألاَّ أودعها، وألاَّ أسمح لها بالتحرُّش بي.
سقط شيءٌ ما في المطبخ .. مددتُ برأسي من باب غرفة النوم وأنا أرتدي معطفي ، فلم أرَ شيئا. مشيتُ ،قطعتُ الممرَّ إلى المطبخ. ما الذي سقط ؟ لعبةُ الرَّشاش (سلاح) ابني الصغير الذي وضعَه على حافَّة الطاولة، بعد أن رفض أبوه السماحَ له بحمله ،لأنه قد يستفزُّ جيشَ النظام على الحواجز،وإن كان مجرد لعبة . فالمرء لا يكاد يتنبَّأ بما قد يستفزهم . سقط الرشاش على مجموعة الأواني التي رفض زوجي أيضاً مرافقتَها لنا ، فتكوَّمتْ على بعضها تندُبُ حظَّها وتُقَرْقِعُ . وهو يقول:
-لن نحتاج شيئا من كلِّ هذا . أسبوعٌ واحدٌ أو شهرٌ واحدٌ ثم نعود . لم يبقَ مكانٌ في السيارة . إلا لجلوسنا، وبصعوبة .
عدتُ ووقفتُ أمام المرآة ، لأضعَ حجابي. أين وضعتُ الدبابيس ؟ أين وضعتُها؟ (رفعتُ صوتي وأنا أتعمَّد تعنيفَ الأشياء ):
-من أخفى الدبابيسَ فليُخرِجْها بسرعة. هيَّا ، فإخفاؤها لن يفيدَ شيئاً سوى في تأخيرنا حتى تبدأَ الغارة.
صندوقَ الحُليِّ المزيفةِ ! أيها الخشبيُّ المتسرِّعُ دائماً !هل أخفيتَها أنت ؟ تعال لأفتِّشَك ! لَم تموءُ هكذا كالقطط ؟ ولمَ تُدَلِّي ليَ السلاسلَ والأقراطَ اللامعةَ على جدرانك ؟ أساليبُك المائعةُ في التحايل والإغراء لن تَنْطَلي عليَّ. فتاريخ رفاهية الحُليِّ لم يتَّفق يوماً مع معاناة النزوح . ومتى كانت النازحات يحرِصْن على لبس الحليّ؟ أُغرُبْ عن وجهي. واعتبر نفسك مفصولاً عن العمل حتى إشعارٍ آخر.
-زجاجاتِ العطرِ الفارغةَ! تراجعي إلى الخلف كي أنظر ماذا تخفين ، أما أنتِ أيتها الزجاجةُ المغرورةُ نصفُ الممتلئةِ فأوقفي تقدُّمَك الاستعراضي قبل أن تَصِلي نحو الحافَّة فتسقطي وتنكسرَ رقبتُك !
-أيها السريرُ ، أيها السريرُ ، أسمعُك .فكفَّ عن التَّذَمُّر من فوضى الملابس التي سأتركُها فوقك. الآن أصبحتَ تعشقُ الترتيب ؟ لطالما تركتُك شَعِثاً وخرجتُ إلى دوامي في المدرسة فلم تعترض! لا تجهَشْ بالبكاء! هل أصبح خاطرُك من الحرير ؟ ....
-حسنٌ حسنٌ ، أعي وعيَك أيتها الوسادةُ ، ( وشعرتُ فجأةً بالشفقة على الأشياءِ المسكينةِ المستكينةِ المسالمةِ المستسلمةِ لِتَبَجُّحي ،فندمتُ ،حتى كدتُ أبكي، وهو ما كنتُ أخشاه ، لكنني تمكَّنتُ من ربط جَأْشي، وتابعتُ) ولكن ،ولكن أيتها الوسادةُ الحبيبة ، يمكنُك أن تعتبري هذا الوضع َكلَّه مؤازرةً لنا منكِ ومن السيِّد المحترَم السرير، وهو كذلك مشاركةٌ منكما في الثورة. فكّري بهذا .
-وأنت كذلك أيتها السيدةُ الفاضلة خزانة (خانم ) ، لم تقفين هكذا وأبوابُك المفتوحةُ على وَشَك الارتجاف؟ هل تستعجلين الشعور بالوحشة ؟ دعيني أخرج أولا ثم افعلي أو اشعري بما شئت. ويمكنك على سبيل المثال، أن تتسَلَّي في غيابي بمحاولة إغلاق أبوابِك بنفسك، وأرجو لك النجاح.
-(ألبوماتِ) الصورِ ابقَيْ مكانَك ! ولا تقفزي لحضني ، أنت ترين كم أنا صارمة وقاسية مع الأشياء،فاتَّعِظي من تجارب غيرك، ووفِّري على نفسك التوبيخَ .وأرجوك أن تكفّي لحظةً عن التوسُّل ؟ لأنني لن أفتحَك مهما فعلتِ .لقد انصدع رأسي من كلِّ هذه الدوامة.
أشياءَ غرفةِ النومِ كفِّي عن الدوران ، ألعابَ الأولادِ في كلِّ مكانٍ كفِّي عن التراكض والتبعثر فإنني أصطدم بك حيثما تحركت قدماي. أشياءَ غرفةِ الضيوفِ الثائرةَ ، أيتها المقاعدُ والأرائكُ والمناضدُ والسجَّادُ والستائرُ ، والأواني، كفى !
أستودع الله المكان والزمان وما لم يكن في الحُسبان .
وأخيراً وأخيراً ، أيُّها البابُ! قف مكانَك هادئاً ولا تعترض خروجي. وإن كنتَ رجلاً حقاً فلا تسمح لدخيلٍ أو لصٍ بتجاوز حدودك في غيابنا.
الساعة الخامسة والنصف ، سننطلق. لقد سبقنا الطائراتِ وسبقنا الصواريخَ في هروبنا. فيا ربِّ استرها معنا واعمِ عنَّا أبصارَ القنَّاصين على طريق المطار، يا ربِّ اضربْ على أبصارهم وأسماعهم ونوِّمْهم نومةَ أهل الكهف، فلا يستيقظون إلا بعد فوات الأوان .والأفضل يا ربِّ ألا يستيقظوا بعدَنا أبدا .
مررنا بالسيارة في شوارع المساكن الفارغة فما لمحنا أحدا. مررنا أمام باب مدرسة ( الشهيدة سناء محيدلي) التي أصبحت ثُكْنَةً للجيش الحرّ ، ورأينا أكياسَ الرمل على سطحها وعَلَمَ الثورة يرفرفُ فوقها وكأنَّه يعلنُ بَدْءَ عهدٍ جديد ، غير أن العَلَم كان حائرا في اتجاه رفرفته ، أعلامُ آخرِ زمنْ ! أَعَلَمٌ ولا يجيدُ الرفرفة ؟! وما به يرفرف وكأنه قد مسّه شيطانٌ منافق مذَبذَب لا هو معارضٌ ولا هو مؤيِّد؟!
التفتُّ إلى الجانب المقابل إلى اليسار، حيث يمتدَّ سياجُ الحديقة المتطاولة على طول الشارع ، لأستطلع أمر الجهة التي تأتي منها الرياح، فرأيتُ أغصانَ الأشجار فوق السياج تتمايل بعنفٍ باتجاه الشرق. فاستنتجتُ أن ريحاً قادمةً من الغرب تضرب البلاد ؟ فازداد استغرابي من العلَم الذي لم يضبط رفرفتَه مع الريح الغربية.
وصلنا لعند محَل ( الكومجي ) فوقفْنا لدقائق لينفخ زوجي العجلات أكثر مما هي منفوخة، وحانت مني التفاتةٌ إلى الخلف واليمين، فرأيتُ جانباً من الحديقة المعْترِضَة التي تمتدُّ على عرض الساحة ، وهالني أن الأشجار تتحرك وتميل بأغصانها ميلاً حاداً نحو الغرب. ومع استنتاجي أن ريحاً أخرى قد هبَّت هذه المرة من الشرق لتعصف أيضاً بالبلاد ، عَذَرت علَم الثورة المرفرفَ في فقدانه قرار اتجاه الرفرفة .
نظرت إلى الرصيف العريض الذي يمتد أمام سياج الحديقة المعترضة فلم أجد سياج الحديقة المعدني . أين يمكن أن يذهب السياج يا ترى ؟ من خطفَه ؟ من سرقَه ؟ من اقتلعَه من أرضه؟ سأقبلُ كلَّ جوابٍ إلا أن يُقالَ لي : "لقد هاجرَ إلى خارج البلاد".
وصلنا إلى مدخل المساكن الذي ينبغي لي الآن أن أسميَه مخرجاً،وما لكلِّ مدخلٍ مخرجُ . فمررنا بقرب الدبابتين اللتين استولى عليهما الجيش الحر غنيمةً من جيش النظام منذ شهر , واللهِ عِشْنا وشُفْنا ،هل هذه هي الدبابات التي اقتُطِع ثمنُها من قوت الشعب، على أمل أن نبني جيشاً موازياً في قوَّته لجيش إسرائيل ؟ هل كانت الخطةُ حقاً أن تُستَخدَمَ هذه الدباباتُ لتحرير الجولان، وهي ذاهبةٌ في طريقها لتحرير القدس ؟ تريَّثوا فالظلمُ حرام ، لعلَّها ضلَّتْ طريقَها يا جماعة ! لعلَّها ضلَّت طريقها فوصلت إلى (مساكن هنانو) بالضلال ؟ كما ضلَّت من قبلها الطائراتُ الحربيةُ والصواريخُ التي كانت موجهةً إلى (تل أبيب).
هذه أوَّل مرة في حياتي أتشرَّف فيها برؤية الدباباتِ وجهاُ لوجه ،جاء الأهالي لاستقبالها في المساكن منذ اليوم الأول لتشريفها لنا ، أما أنا فلم أجئ.لأنني كرهت رؤيتَها بعد أن انتشرتْ قصةُ جارنا الكُرديّ في الحيّ . جارنا الكردي وقف في برج إحدى هاتين الدبابتين يوم دخولهما إلى المساكن ، والتقَط بجهازه المحمول – كما فعل الكثير من الناس - أخطرَ صورة في حياته . التقطَ الصورةَ التي ستودي بحياته وتشرِّدُ أطفاله. ومِن اسوداد حظِّه أنه لم يكن يلبَس يومَها (بيجامته) السوداء التي اعتاد لبسها من قبل ،بل كان يلبس (البيجاما) ذات الألوان العسكرية، ولعلَّه كان مضطراً لارتدائها، إذ فكَّر أن اللون الأسود لا يليق باستقبال وفد الدبابات الزائر ،ولكن "كانت باطلةً ومُحَوّلةً يوم اشترى تلك (البيجاما) ، الله يقصفُ عُمْرَ من اقترح أن تُستَعمَلَ ألوانُ اللباس العسكريّ في لباس المدنيين"، (كما قالت أم ياسر التي تعرفونها ) .
جارنا الكردي عامل البناء الفقير الذي قطعت الثورةُ رزقَه، ثم عنقَه على التوالي ، لم يكن عنصراً في العصابات المسلحة كما اتهمَه عناصرُ جيش النظام، وهم يتفحّصون الصور في جهازه . هو إنسان بريءٌ جداً وبسيطٌ جداً، أراد أن يتفاخر أمام أطفاله وأحبائه ، فصعد إلى برج الدبابة وابتسم ابتسامة عريضة جداً ،وثمَّة من حيّاه من عناصر الجيش الحر الحاضر في مراسم استقبال الدبابتين ، ورمى إليه ببندقيته ليتصوَّرَ معها، احتفاء من الجيش الحر بابتسامته العريضة جداً والتي جاءت في زمنٍ عزَّت فيه الابتساماتُ العريضةُ جداً . ولم يكذِّب جارُنا الكرديُّ لحظتَها الخبرَ ،ورفعَ البندقيةَ إلى الأعلى بإحدى يديه ، بينما أدَّى إشارة النصر بأصابع اليد الأخرى . وأما سبب البريق الذي لمعَ في عينيه لحظةَ التُقِطَتْ له الصورةُ ، فأغلبُ الظنَّ أنه قد تذكر جدَّه الكرديَّ صلاحَ الدين الأيوبيَّ، الذي حرر القدسَ دونما أن يرى الدباباتِ أو يسمعَ بذكرها . فلما تذكر جارُنا الكرديُّ جدَّه صلاحَ الدين الأيوبيَّ الكرديَّ شعرَ بالفخر فلمعَت عيناه بذيَّاك البريق الذي أذهل المحللين في سجون النظام فيما بعد ، واعتبروه دليلاً على شعور جارِنا بالفخر بإنجازاتِ العصاباتِ المسلَّحة التي ينتمي إليها ،كما قالوا.
لماذا نَسِيَ مسحَ تلك الصورة من جهازه قبل ذهابه إلى مناطق النظام في الجهة الغربية من المدينة في ذلك اليوم ؟ تساءلَ الناس بعد ذلك، وهم يلومون براءتَه المنتهكة .
عنده ثلاث بنات. أكبرهن طفلة في العاشرة من عمرها . وزوجتُه حاملٌ بالصبي. وقد نزحت عائلتُه البائسة من المساكن قبل نزوحنا منها بأسبوع، بعد أن جاء خبرٌ مؤكَّدٌ بأن النظام قد رمى بجثته العارية من البيجاما المدنية ذات الألوان العسكرية، وعليها آثار التعذيب حتى الموت، مع غيرها من الجثث، في مجرى نهر (قُوَيْق) الذي ينبع من تركيا، ويخترق مدينة حلب. وهو النهر الذي سمَّاه الثوار ( نهر الشهداء) لكثرة ما طفا على سطح مائه من جثث شهداء سجون النظام المقتولين تحت التعذيب.
انعطفَ زوجي بالسيارة وخرجنا من المساكن . ونحن نسير الآن في طريق المطار باتجاه الشرق. والقنَّاص المحتمل سيراقب الطريق من جهة الغرب بعد أن يستيقظ، ويتناول طعام فطوره، ويشرب قهوته الحلوة في جوِّ رائق، لا يعكِّر صفوَه سوى مرورنا على طريق المطار (مطار النَيْرَب ) وكأنه طريقه هو أو طريق الذي خلَّفوه . رأينا في الأعلى اللافتة التي كتبت عليها إدارة المرور " الطريق مراقب (بالرادار) " .
-(بالرادار) أليس كذلك ؟؟ اللهم اجعله (راداراً) يا حفيظٌ يا رقيب !
كانت أنفاسنا محتبسة خوفاً من مفاجآت الطريق ، وكنا نعيد ونردِّد توصياتِنا لولدينا للمرة الألف ، كيف يجب عليهما أن يتصرفا عندما تستوقفنا الحواجز ، ما الذي يُسمَح لهما بقوله، وما الذي لا يسمح لهما بقوله .
-والخطأ في الكلام كارثة. وإياكما والتجهُّمَ والعبوسَ والمعاندةَ والتمتمةَ والازورارَ والاضطرابَ والبكاءَ والضحِكَ والصراخَ والهمسَ وإعطاءَ أيِّ انطباعٍ إيجابياً كان أو سلبياً . مفهوم ؟ ....،.
إبننا الصغير في السنة الثانية عشرة من عمره. والكبير في الرابعة عشرة. ليسا صغيرين . ولا بد أنهما قد فهما وحفظا كل كلمة قلناها. ولكن قد نكون نحن من أخطأ في تقرير بعد التوصيات . فيقع الذنْبُ في رقابنا إن حدث مكروهٌ -لا قدَّر الله - فقد شاع خبرٌ أن بعض عناصر جيش النظام قد رشّوا ( الفعل رشَّ يرشً بالرشاش فهو راشّ والمفعول مرشوش) لسبب ما ، جميع أفراد عائلة نازحة من حلب إلى الرقة بسيارتهم الخاصة. يا رب سلِّم سلِّم.
خرجنا عن طريق المطار وزالَ خطر القنَّاصين . وها نحن نتلقى أول إشارة بالتوقف عند أول حاجز للجيش الحر. سُمْعَةُ الجيش الحرِّ ما تزال معطَّرة بعطر الياسمين الشامي ، وأخلاقُهم الثوريةُ المُبكِّرةُ ما تزال ثوريةً مبكرة ، ووجوهُهم ما تزال بالخير مبشِّرة .فواجبنا الخوفُ عليهم لا منهم ،والاطمئنانُ إليهم لا بهم .
أمامَنا على الحاجز تقف سيارتان شاحنتان فقط ، كلتاهما للنازحين، ثلاثةٌ من الجنود اليافعين يقتربون من سيارتنا ويتفرَّسون في وجوهنا، ويبتسمون ببراءة الأطفال ، أحدُهم يناهز ابني الكبيرَ في عُمُره ويشبِه أحدَ أصدقائه.لا يكاد المرء يصدِّق بأنهم سيساهمون في تغيير التاريخ .
ثم يترجَّل زوجي ليقفَ إلى جانبهم وهم يفتشون الحقائب، ولكنهم لا يريدون تفتيشها. نظروا في هُوِيّاتنا وأوراقِ السيّارة ، وقالوا:" رافقتكم السلامة "ببراءة الأطفال نفسها .وكانت تلك هي- للأسف- العبارة نفسها التي كتبتْها إدارةُ المرور الممثلةُ للنظام الحاكم على اللافتة العريضة في أعلى الطريق .
الحاجز الثاني كان على بعد أقل من كيلومتر واحد ، لم يستوقفنا أحدٌ ، بل تقصَّدوا غضَّ البصر عنا. ولا شك أن من يستطيع غضَّ بصره سيمارس أروع الفضائل في مثل هذه الأوقات .
تابعنا الطريق, حتى وصلنا إلى مدخل بلدة (الباب) في ريف حلب الشرقي, ولي في هذه المدينة ذكرياتٌ وذكريات ولَوْعاتٌ وكُرُبات ، فقد درَّست في ثانويتها مادة علم الأحياء لمدة أربع سنوات، قبل أن أنتقل للتدريس في المساكن منذ أربعة أعوام . وأعرفها وأعرف بناتها ومعلماتها وبيوتها وأسواقها وكراجها وسائقي مواصلاتها ، وتعرفت على مكاتبها العقارية أيضا يوم ذهبت بعد المدرسة أفتِّش عن بيت صغير لأمٍ مطلَّقةٍ وطفلين ، وأنا أسحب ولديَّ بكلتا يدَي ، وأحدهما يشكو ألم بطنه ويتقيَّأ على ملابسه ...
ويسرُّني أن أعود إليها ولو عابرة سبيل، على الرغم من أنها لم تسعفني بذلك البيت، في تلك الذكرى المرة، فما بيننا من ذكريات لذيذة حلوة أخرى تشفع لها وترفع شأنها.رغم أنف الشامتين.
الطريق إلى الرَّقة لا يمر عادة ببلدة الباب ، ولكن كان على الطريق أن ينحرف ليمر بها اليوم، إن لم يكن من أجل خاطري ، فلأن الطريق النظامي غير المنحرف قد أُغلِقَ في وجه المارِّين وأصبح ميدانَ اشتباكات. وفي النتيجة نحمد الله على أننا سنجد مكانا ننزح إليه .
ما تزال محافظةُ الرَّقة مدينتُها وريفُها حتى الآن المكانَ الأكثرَ أمناً في سوريا . لأنها لم تنخرط فعلياً في مجريات الثورة بعد ، لأن نظامَها العشائريَّ مازال يتمتع بأُذُنٍ من طينٍ وأذنٍ من عجين ، وهو يقف في الوسط رافضاً الاستجابة لا للجيش الحر ولا لجيش النظام . على أن النظام الحاكم نفسه يعد الرَّقة بين المدن المؤيِّدة له . صحيحٌ أن بعض المظاهرات المعارضة قد قامت في المدينة منذ بضعة أشهر،ولكنها خمدت الآن. وصحيحٌ أن الناس قد حاولوا مراراً إسقاطَ التمثالِ الخالدِ للرئيس الخالد في ساحة المدينة، فردِّت عليهم الشرطةُ ردّاً عنيفاً وسقطَ بعض الشهداء على أقدام التمثال.ولكن رؤساءَ العشائر قد تدخَّلوا تدخلا عشائريا لفلفَ الموضوع .
رنَّ هاتف زوجي ، هذا زميله في المدرسة الأستاذ عمر . يطمئنُّ علينا، وهو الذي دعانا للنزوح لعند أهله في الرَّقة ، وكان قد نزح هو مع أسرته الصغيرة قبلنا بشهر، كان يسكن في المساكن أيضا ، زوجته تعمل ربةَ أسرة فقط ، ولديهما أربعة أولاد، وهي حامل بالخامس كالعادة. الأستاذ عمر يعمل معلماً في الجزء الأول من النهار، وبائعَ خضارٍ متجولٍ بسيارته الشاحنة الصغيرة ( سوزوكي) في الجزء الثاني من النهار، والجزء الأول من الليل أيضاً. ولذلك فهو في شوقٍ دائم لأطفاله، لا يكاد يطفئه إلا إنجابُ مزيد من الأطفال .
- طَمْئنِّي ، أين وصلتم؟
-ما نزال في مدينة الباب ، وهنا يوجد حاجز للجيش الحرّ ، وأمامَنا رتلٌ طويلٌ من السيارات .كلُّها خاضعة للتفتيش . وقد نحتاج ساعتين للخروج من هذا الحاجز
-طيب ، الله ييسر لكم ، عندما تصلون إلى مدخل مدينة الرَّقة أخبرني ، لكي أرشدَكم إلى الطريق ، كي تصلوا دون عناء . والكلُّ سيكونون هناك في استقبالكم.
-إن شاء الله ، يعطيك العافية ، ربنا يكرمك يا عمر . إدعُ لنا ، وسلِّم على الأهل .
خرجنا من الحاجز بصعوبة بعد أكثر من ساعتين ، وانطلقنا من جديد . الساعة الآن حوالي التاسعة صباحا . دخلنا في جزء الطريق النظامي غير المنحرف والذي يسيطر عليه جيش النظام المنحرف.
- هنا لا يوجد اشتباكات ، لكنها الحواجز فقط ، وأمامنا حاجزان مهمّان وكبيران : الأول في بلدة (مَسْكَنَة) . والثاني عند مدخل مدينة الرَّقة . أما بقية الحواجز فليست مهمَة . (قال زوجي)
-يعني هل نستطيع أن نتنفس الصعداء الآن ؟
- نعم تنفّسوا ، لكن لا تأخذوا راحتَكم كثيرا في التنفس . وقبل أن نصل إلى حاجز (مَسْكَنَة) ستقودين أنت السيّارة ( قال زوجي هذا وأدار جهاز التسجيل على أغاني محمد منير)
- عجيب ! لماذا تريدني أن أقود أنا قبل الوصول لحاجز مسكنة ؟
- هذا أفضل عند حواجز جيش النظام .
- تقصد أنه أبْعَدُ للشُبُهات ؟
_ نعم.
-حسنا ، لكن ما رأيك الآن أن نستمع للقرآن بدلا من الاستماع للأغاني .
- لكن أنتِ تحبين الاستماع إلى محمد منير .
- الاستماع للقرآن الآن يهدِّئ أعصابنا التالفة.
- إذن ،سنستمع لسامي يوسف. الاستماع للقرآن يثير الشُبُهات.
-ولكننا لسنا على الحاجز الآن. فكيف ستُثار الشُبُهات ؟
-.........
السفر في الطريق من حلب إلى الرَّقة في جزء كبير منه أشبه بالمرور في الصحراء ، من ينظرْ من نوافذ السيارة يشاهدْ البادية السورية الجدباء . ويرى بعض الخيام التي نصبها الغجر والذين يسميهم الناس في سوريا بـ ( القرباط) ، خيامهم مبعثرة على جانبي الطريق ، ويمكننا رؤية مفروشاتها ، لديهم برادات كبيرة ومولِّدات كهربائية ، وتلفزيونات ، وصحون استقبال للمحطات الفضائية أيضاً، وغسيلهم منشورٌ على نسيج جدران الخيام من الخارج . ولديهم خزَّانات ماءٍ حمراء ضخمة . أوانيهم مبعثرة حول الخيام . وهناك الكثير من الأطفال الذكور يتراكضون حفاة عراة على التراب ، وأمهاتهم ذوات الثياب المزركشة بالألوان يتبادلن الأحاديث ؟
- أولادهم قليلو الأدب ! (قال ابني الصغير)
-هههههههه ، ضحكنا جميعاً . (منذ متى لم نضحك ؟ )
-هل هم سعداء بحياتهم ؟ (سأل ابني الكبير مستنكراً ) وتابع : كيف يقضون الشتاء في مثل هذه الخيام الرقيقة ؟ هل يسقط المطر على رؤوسهم ؟ هل يبردون ؟ هل يجوعون ؟ هل يموت مرضاهم دون علاج ؟
- لا لا لا . كل حاجاتهم مؤمنة . وليسوا فقراء. لكن هذه هي طريقة حياتهم التي يحبونها ويختارونها بأنفسهم ولا يقبلون بغيرها . (قال زوجي)
لا أدري لماذا شعرت بأنني سأتمنى يوما ما خيمة كخيمتهم . ولن أجدها .شعورٌ غامضٌ يشبه قراءة المستقبل جعلني أطلب من زوجي أن يَضُمَّ إلى قائمة أولوياتنا شراءَ خيمة . لكنه نظرَ إلي، وكأنه يقول: أنا لن أحتاجها، فتكلمي عن نفسك فقط . وقال : " إن شاء الله ".
تابعنا المسير ونحن الآن في مدخل مدينة الرَّقة . وبعد أن تجاوزنا حاجزها اتصل زوجي بزميله عمر .
-الحمد لله على السلامة ، أصبحتم الآن في أمان من القصف والصواريخ والبراميل .
-الله يسلمك يا رب .
-كيف كان مروركم على حواجز النظام ؟ هل أزعجكم أحد ؟
-لا والله ، وقفنا على حاجز مسكنة ما يقارب نصف ساعة ، كان هناك رتل طويل من السيارات أمامنا ولكنهم كانوا سريعين في التفتيش . ومرّت الأمور بسهولة ، والحمد لله.
-الحمد لله ، وحاجز الرَّقة ؟
-حاجز الرَّقة ، كان الأسرع من كل ما سبقَه ، وكان الجيش النظامي هنا أكثر لطفاً واحتراماً .
-نعم ، صحيح ، الوضع هنا مختلف تماما عما هو عليه الأمر في حلب ، والنظام هنا حريصٌ على أن يكسب تأييد الناس بأية وسيلة . لذلك ستجد الكثير من اللطف هنا. الآن سأظلُّ معك على الخطّ وسأرشدك إلى الطريق بالتدريج .
كان زوجي منشغلا بقيادة السيارة وفق إرشادات صديقه . وكنت منشغلة بالدهشة مما أراه من حال الإهمال في هذه الشوارع التي نمر بها في مدينة الرَّقة ؟ أتيت إلى الرَّقة منذ أكثر من خمس عشرة سنة عندما أقامت كلية العلوم في جامعة حلب معسكرا (بيولوجياً) في الرَّقة لدراسة وتحليل مياه (بحيرة الأسد) .و ما زلت أذكر كيف خرجنا في جولة صغيرة في الشوارع الترابية ذات الحصى الخشنة القريبة من دار المعلمين حيث أقمنا ، فتعثرتُ وانقلعَ نعلُ حذائي بسبب وعورة الطريق، واضطررتُ للسير برجل حافيةٍ على التراب ، وهذا سيذكرِّكم طبعا بفردة حذائي الضائعة في حلب ، ولكن شتّان مابين الحالتين ، فهناك ضاعت فردة حذائي بسبب الخوف من البراميل ، أما هنا فقد انخلع نعلها بسبب إهمال تعبيد الشوارع . أرأيتم الفرق ؟ رحمك الله يا سيدي عمرَ بن الخطاب ورضي عنك، عندما خفتَ من تعثُّر الشاة العراقية وقلتَ : "لو أن شاة عثرت في أرض العراق لخفتُ أن يسألني الله عنها يوم القيامة لمَ لم تمهد لها الطريق يا عمر؟"
الحمد لله أنني لست شاةً ، وأنَّ عثرتي كانت في أرض الرَّقة وليس في أرض العراق، وأنني تعثَّرت في عهد الرئيس الخالد وليس في زمن عمر ، وإلا لخفتُ أن يحاسبَ الله عمرا -رضي الله عنه- بسببي، وإنني قد أحببت ذلك لغيره. فالحمد لله الذي لا يحمد على مكروهٍ سواه.
دخلنا في سلسلة من الشوارع الضيقة الترابية، ولون ترابها أحمر، مما يدل على أصلها الزراعي، في منطقة شعبية ليست ببعيدة عن دار المعلمين.
وأوقف زوجي السيارة في منتصف أحد الشوارع، أمام باب خشبي كبير مفتوح على مصراعيه ، وقد انسدلت في مدخله ستارة جلدية رمادية سميكة ، لتحجب من في الداخل عن أنظار من في الخارج. نزل زوجي من السيارة وقرع جرس الباب. وقال : انزلوا .
وظهر زميله عمر في بداية الشارع مقبلا نحونا، فيما انزاحت الستارة وخرج أهل الدار يستقبلوننا ، ولم أعرف أحدا ممن قبَّلتُ وعانقتُ من النساء سوى زوجة عمر الحامل .
دخلنا الدار فإذا نحن في فناء كبير مفروش بالحصى الناعمة ، وتتصدره في صدر الدار غرفتان كبيرتان لهما بابان معدنيان مغلقان يستند إليهما جزء من صفِّ الوسائد الملونة، التي أحاطت ببساطٍ صوفيٍ بدويٍ كبيرٍ جداً مفروشٍ على الحصى في الفناء . ويحيط بالفناء جدرانٌ قصيرةٌ لم يكتمل بناؤها، وتوقف عند ارتفاع متر واحد تقريباً . أما ما يحاذي الستارةَ الجلديةَ خلف باب الدار ، فغرفةٌ صغيرةٌ من اليمين ، وهيكلُ درجٍ لم يكتمل بناؤه من اليسار . وتحت هيكل الدرج حمَّامٌ صغيرٌ مع ( تواليت). لقد كان واضحاً أن هذه الدار ما تزال في قيد البناء -كما أوضحتْ لنا أم عمر فيما بعد - وهي غير جاهزة للسكن بعد، وحالها كحال الدار الأخرى التي سنسكن فيها نحن . لكن أم عمر فكرت بأن تصلح من شأن هذه الدار إلى الحدِّ الذي يسمح باستقبال بعض النازحين من المدن الأخرى فيها . وقد فعلت خيرا . فبعد أن كانت قيمة إيجار البيوت في مدينة الرَّقة تتراوح ما بين ثلاثة ألاف إلى خمسة آلاف ليرة سورية قبل الثورة ،بلغت قيمة الإيجار بعد الثورة ما بين ثلاثين ألف وخمسين ألف ليرة سورية . وليست المشكلة في هذا الرقم الخيالي الذي لا يستطيع رب الأسرة النازح الموظف السوري دفعَه، لأنه يفوق راتبَه الشهريَّ مرتين أو أكثر ، فقد حلَّ الناس هذه المشكلةَ باشتراك عدة عائلاتٍ في العيش في بيتٍ واحدٍ، يتقاسمون غرفَه، ويتقاسمون دفعَ إيجاره. بل المشكلة في أن البيوت القابلة للإيجار قد نفدت تماما . فضلا عن أن كلِّ بيتٍ مأهولٍ أصلا في الرَّقة أصبح يستقبل عائلة واحدة أو أكثر، من الأقرباء الذين نزحوا من حلب وحماة وحمص ودرعا وغيرها من المدن الثائرة .
وفي بيت أم عمر كانت هناك ثلاث عائلات استقبلتهم أم عمر قبلنا. وهم ليسوا جميعا أقرباءها . ونحن وعائلة الدكتور خليل مجرد أصدقاء لبعض أبنائها. أما الأسرتان الأخريان فهما عائلة عمر ابنها وعائلة شقيق زوجته . وكلنا ضيوف عندها وتحت رعايتها. وهي لا تأخذ قرشاً واحداً من أي نازح تستقبله عندها، مع أنها تؤمن له كل احتياجاته من أدوات المنزل ، فيما عدا الطعام . و هي تفعل كل ذلك صدقة وفي سبيل الله . والشرط هنا أن لا يتكلم أحد خارج هذه الدار كلمة واحدة ضد النظام . خوفاً من عواقب الأمور على المتكلم ومن يواليه . أما داخل الدار فلا رقيبَ على الألسن ، ومن كان لديه غليلٌ فليشفِ غليلَه بما لذَّ وطابَ من فواكه السخرية بالنظام وفضائحه .كما يفعل يومياً الدكتور خليل وزوجتُه، في السهرة التي يجتمع فيها الصغير والكبير .
كنت متحمسة لسماع تلك الآراء ولكنني أردت أولا رؤية البيت الذي سننتقل إليه.وقلت لنفسي: على الأقل يستطيع المرء أن يسترخي ويستمتع بنعمة الأمان والإحساس بعدم وجود تهديد بالقصف في كل لحظة، غير أن الأستاذ عمر وزوجته كانا قد أصرَّا على أن نتناول طعام الغداء بعد أن قضت زوجة عمر عدة ساعات في تحضيره، وهي حامل .
وبعد الغداء انتقلنا بالسيارة وبصحبتنا الأستاذ عمر إلى البيت. وهو لا يبعد كثيرا عن بيت أم عمر . غير أنه أكبر منه مساحة . فتح عمر الباب على مصراعيه ودخلنا بالسيارة إلى الداخل ؟ فبدا فناء البيت الشاسع أشبه بشارع صغير ، كانت ثمة أكوام من القرميد واللبن ، وأكوام من الحصى وأخرى من مسحوق الحصى الأبيض ( النحاتة )، وأكياس الإسمنت وحِزَمٌ من قضبان الحديد، وما زال خرطوم الماء ممدودا بين الحجارة ،بعد أن استعمله عمال البناء في موضع الجَبْلة . وكان ثمة نباتات عشبية وشوكية يابسة تملأ المساحاتِ التي لم تخطُ فيها أقدامُ عمال البناء . ولكنه على اتساعه لم يكن يتضمن سوى غرفتين اثنتين وبينهما مطبخٌ وحمام فقط . فتحنا الغرفتين وكل منهما أكبر من الأخرى . ففوجئنا بوجود الفرش والأغطية والوسائد والحصر (البلاستيكية) والمكنسة والمسّاحة وموقد الغاز ، كل ذلك هيأته لنا أم عمر قبل حضورنا، جمعته من أقربائها وجيرانها ومعارفها .
بكيت . ولم أبكِ لأن أم عمر قد شحذت كل هذا لنا وباسمنا شخصياً ، فأصبح لنا (بسم الله ، ما شاء الله) قصة تروى لكل من تتوقع منه أم عمر التبرع لنا بمكنسةٍ أو حصير، أو تترجى منه أم عمر الشفقةَ علينا من البرد والمساهمةَ بتدفئتنا بوسادةٍ أو لحاف . بل لأن هذه المرأة فاجأتني بمستوى إنسانيتها حتى ربطت لساني عن الكلام ربطاً . ولم أجد ما يعبر عن امتناني لإحساسها الكريم وامتناني لإحساس من تبرعوا، واطّلاعي ولأول مرة في حياتي على حقيقة شعور المتسوَّلين العاجزين المحتاجين حقاً، عندما يُعطَوْن ما يحتاجون ، سوى أن أبكي .
-لا تنسوا . نحن جميعا معتادون يومياً على قضاء السهرة عندنا في بيت أم عمر، حيث أسكن أنا . تبدأ السهرة بعد الساعة الثامنة، وتنتهي عند الساعة الواحدة ليلا. والبسوا ثياباً سميكةً فالبرد في الليل قارس في الرَّقة. لا تتأخروا علينا . وستجدين يا آنسة رفقةً تسلّيكِ من النساء ، ستسرّين بهن. وخاصة زوجة الدكتور خليل, سيسرك سماعُ آرائها كثيرا.
قال ذلك الأستاذ عمر فأعادني إلى حيث أقف ، وفي اللحظة التي همَّ فيها بالمغادرة، وقع نظري على ما يشبه سُلَّما عالياً جداً، يعلوه مقعدٌ محاطٌ بسياج، وكأنه برج مراقبة ،كما في المطارات الحربية ، خلف الجدار الفاصل بيننا وبين الدار المجاورة لنا . فسألته:
_ أستاذ عمر ! ما هذا ؟ وأشرت إلى برج المراقبة ذاك.
فنظرَ إلى حيث أشرت ، ولم يتكلم ، و عاد أدراجه حتى اقترب منا وقال بصوت خفيض وكأنه يخشى أن يسمعه أحد :
-هنا جيرانكم خلف الجدار ، كتيبة حفظ الأمن والنظام في الرَّقة . لا تخافوا ! لا شغلَ لهم بكم . فالأمن في الرَّقة مستتب. وكل شيء عال . لكن إذا رأيتم الجنود يحملون سلاحا، ويتجولون على سطوح بنائهم، فلا تخشوا شيئا . وقد يصعدون ويجلسون على الجدار الفاصل بينكم ، لا تهتموا . وربما يضطرون للنزول إلى هنا , لا مشكلة . لا تخشوا شيئا. إطمئنّوا .
ونظرنا جميعنا في وجوه بعضنا بذهول وارتباك وقلق وامتعاض . وصمتنا . وليتنا لم نصمت ....






  رد مع اقتباس
/
قديم 17-04-2018, 02:24 AM رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
خالد يوسف أبو طماعه
عضو مجلس إدارة
المستشار الفني للسرد
عضو تجمع الأدب والإبداع
عضو تجمع أدب الرسالة
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
عضو لجنة تحكيم مسابقات الأكاديمية
الاردن

الصورة الرمزية خالد يوسف أبو طماعه

افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

هذا سرد جاد جميل
مررت على مقتطفات وقرأت هنا جميع الجمال
لي عودة لهذا السبك الماتع بإذن الله تعالى
تحياتي






حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
  رد مع اقتباس
/
قديم 17-04-2018, 12:41 PM رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
محمد خالد النبالي
الإدارة العليا
عضو رابطة الكتاب الاردنيين
مقرر لجنة الشعر في رابطة الكتاب الاردنيين
عضو تجمع أدباء الرسالة
نائب رئيس التجمع العربي للأدب والإبداع
يحمل وسام الأكاديمية للابداع والعطاء
الاردن

الصورة الرمزية محمد خالد النبالي

افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

على مر التاريخ معروف بان هناك أدب ساخر وخاصة بما يخص المجتمعات والحكومات والنقد للحكام
ولعل الأدب الساخر غير الكثير من سياسات الحكام وبعض سلوكيات المجتمع الخاطئة
اذا له أثر كبير على الواقع وهو المؤثر الأكبر ز
وهنا قرات سردا طيبا وفيه بعض الساخر لما يجري وما زال يجري في سوريا
وقد استطاعت شاعرتنا ثناء بان تصنع الفارق في الساخر بمزج السرد الققصي بالساخر الممتع
سوف نتابع هذا الجمال
تحياتي . النبالي






  رد مع اقتباس
/
قديم 25-04-2018, 03:01 AM رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
ثناء حاج صالح
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمةالأكاديميّة للابداع والعطاء
سوريا
افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خالد يوسف أبو طماعه مشاهدة المشاركة
هذا سرد جاد جميل
مررت على مقتطفات وقرأت هنا جميع الجمال
لي عودة لهذا السبك الماتع بإذن الله تعالى
تحياتي
نتشرف بحضوركم أستاذنا الكريم خالد يوسف أو طماعة
لكم الشكر والتقدير
بارك الله فيكم
وأطيب تحية






  رد مع اقتباس
/
قديم 25-04-2018, 03:38 AM رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
خالد يوسف أبو طماعه
عضو مجلس إدارة
المستشار الفني للسرد
عضو تجمع الأدب والإبداع
عضو تجمع أدب الرسالة
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
عضو لجنة تحكيم مسابقات الأكاديمية
الاردن

الصورة الرمزية خالد يوسف أبو طماعه

افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ثناء حاج صالح مشاهدة المشاركة




الفصل الأول



سوريا – حلب- حي مساكن هنانو
الساعة الخامسة بعد الظهر من شهر آب أغسطس عام2012 .

.
.
.


الغارة الخامسة عشرة

كان لدي ما أفعله ذلك المساء، كنت أبرد.
لا. لا أتّهم الجو بالبرد ولا أحمِّله مسؤولية شعوري. فلا تحمِّلوا أقوالي فوق طاقتها.
حسنا : لقد كان الجو حارا في شهر آب . وأنا التي كنت أَبْرُد من تلقاء نفسي ،وبكامل إرادتي، وبمحض اختياري . هل يرضيكم هذا ؟
كنت أبرد . وكانت الزهرة الصفراء التي نبتت صباح الأمس بين الأعشاب ما تزال في الحديقة ، رأيتها من نافذتي في الطابق الرابع ، بدت في هذا المساء الشاحب أكثر شحوبا وكأنها تعاني من شحوب مرض ما ! "لعلها متوعكة ، مصابة بالدوار ، هل تسعل مثلا ، كفاك هراء ! وكفاك شعرا ! لم يبق إلا أن يذهب خيالك - وهو وحده المريض -إلى أنها قد تصاب بأعراض التجفاف ، وقد تصاب بالإسهال مثلا هههههههه"
هذا لم يكن رد زوجي على تخيلاتي. والحق يقال، ولا أريد أن أظلمه بادعائي أنه قد تكلم بهذا ، وهو الذي لم يكلمني منذ أسبوعين ، بل أنا التي كنت أتخيل ما يمكنه قوله . ولا شك أنه محق بهذا الذي أتخيله من رده من وجهة نظر ما . فمن ذا الذي يفكر في زهرة صفراء شاحبة نبتت في العشب وهو يعيش تحت خطر البراميل.
الساعة الخامسة تماما، بدأت الغارة .
أصوات المروحيات تصم الآذان وهي تحوم في سماء حي مساكن هنانو. وهو أول حيّ معترف به من الجهة الشرقية لمدينة حلب ، وقد كان أول منطقة تدفقت إليها أرتال الجيش الحر القادمة من قرى الشمال عبر كتائب( لواء التوحيد ) منذ وصول الثورة إلى حلب .
علت أصوات القصف وعلا معها الصراخ في الشارع ،وصرخ زوجي من الداخل :
-اهبطوا بسرعة إلى الشارع ، بسرعة بسرعة .هيا
وارتفعت في الشوارع هتافات التكبير(الله أكبر، الله أكبر). وسمعت ضجيج الجيران سكان البناية يهبطون على الدرج. زوجي يحمل على ظهره الحقيبة التي وضعنا فيها كل شهاداتنا العلمية، وكل وثائقنا وكل ما لدينا من مال ويهبط مع ابنينا . من يعلم؟ لعل الخارج من بيته لن يجده قائما ليعود إليه بعد دقائق قليلة .
أما أنا فلم أنزل بعد ، ومازلت أبحث عن فردة حذائي الأخرى في خزانة الأحذية خلف باب الشقة . أين هي؟ أين اختفت ؟
هيا ، زوجي يصرخ غاضبا على درج البناية :
- قل لأمك أن تنزل حافية كل الناس أصبحوا في الشارع.
(قل لأمك ) ! حتى في لحظات الذعر من الموت ينتبه ولا يخاطبني مباشرة ! يا لشدة وعيه!
أما أنا فقد أوصتني أمي أن لا أسير حافية أبدا ، تقول أمي : "إن تفسير رؤية المرأة حافية في المنام يدل على أنها ستصبح مطلقة ", وأنا على الرغم من أنني لا أرى نفسي في المنام إلا وأنا حافية . فسوف أحافظ على وصية أمي . ثم دعوا وصية أمي جانبا، وفكروا معي ! كيف سأنزل إلى الشارع وتراني طالباتي حافية وكلهن يسكن في الجوار - ؟ هذا مستحيل! لن أسمح لهذه الذكرى المحتملة أن تعلق في ذاكرة طالبتي ريم على الأقل.
يا جماعة ! لا تفهموني خطأ. أنا أرغب بارتداء الحذاء ليس بسبب تفكيري بالأناقة ، وإنما كي أصون صورة العلم وهيبته عن كل ما يزدريها في أذهان الطلاب .وهروبي حافية يتعارض مع الاتزان والثقة والهيبة ، فإذا رآني طلابي أهرب حافية إلى الشارع فسوف تهتز ثقتهم بي وبالعلم الذي أمثله ، وسيشعرون بمزيد من الذعر تحت خطر الموت . وأنا التي لطالما حذرتهم من الذعر تحت خطر الموت .ها أنتم ترون أن الأمر لا يتعلق بي ولا بتفكيري بالأناقة.وإنما هو قضية تربوية خطيرة.
ولكن المشكلة الآن أنني لا أجد أمامي سوى الحذاء الذي ألبسه يوميا إلى المدرسة، صحيح أنه ممتاز لحفظ هيبة المعلمة وعلمها. ولكن ارتفاع كعبه المتوسط (7سم) لا يصلح لا للركض ولا للفرار من البراميل .
مرت دقيقتان ربما، وها وأنا لم أجد سوى فردة واحدة من حذائي (الزحف) الذي اشتريته خصيصا للفرار ، الأفضل الإسراع بالنزول ولو بفردة حذاء واحدة بعد أن ارتجفت نوافذ البناية وأبوابها على صوت خبطة انفجار أحد البراميل يدوي في الأرجاء القريبة . لم يبق لدي خيار . أخذت ألبس فردة الحذاء بسرعة :
- فردة حذاء واحدة تكفي ، وهكذا لن يفقد الطلاب كامل ثقتهم بي .بل سيفقدون نصف ثقتهم فقط!
ووجد جزئي العاقل الفرصة سانحة للسخرية مني فتكلم، وما كان بي لكلامه حاجة :
- ثم لا تنسي أن العيون كلها ستكون معلقة بالسماء ولن يجد أحد الفرصة كي يحدق في قدميك. فردة حذاء واحدة أفضل من الحفاء!...هيا . فالطيار الذي في الأعلى لن ينتظرك أكثر لتجدي فردة حذائك حتى يقذف البرميل .
تهافتُّ على الدرج تهافتا إلى الأسفل . وأنا أتابع الحوار :
-الطيار؟ ماذا لو فكر بإن إحداهن تريد الهروب ولكنها لا تجد فردة حذائها؟ هل يعني هذا أن ضميره مازال يعمل ! ولكن لماذا يرغب حقا بترويعنا وقتلنا ؟ هل يشعر بالفخر بتدميرنا ؟ من المحتمل أنه يتخيل نفسه محلقا في سماء فلسطين كي يستطيع أداء عمله ؟ وربما يشعر بأنه يقذف البراميل على الإسرائليين ؟ هل يعقل أنه يعرف أنه يصول في سماء حلب ؟ ويقصف ويدمر بيوت حلب ؟ ويقتل أهل حلب ؟ كيف يمكن تصديق ذلك ؟ أنا أجزم بأنه ليس حلبيا. ربما ليس سوريا. هل هو عربي ؟ هل هو مسلم؟
يا إلهي ! ماذا لو كان لديه ضمير وكان يتمزق ألما وهو يرمي البرميل ؟ ماذا لو كان عذاب معاناته وشعوره بالذنب يفوق معاناتنا ؟ ماذا لو كان يريد الانشقاق عن جيش النظام ولكنه يخشى على أهله ، على أطفاله ، على أمه من التنكيل بهم . هل يقتلنا ليحميهم مثلا ؟ لماذا بدأت أشعر بالشفقة عليه؟
هبط جميع سكان البناية من طوابقهم العالية إلى الشارع. هبط جميع الجيران .. وأنا هبطت أخيرا كالعرجاء أمشي بفردة الحذاء اليمنى بينما اتكأ بقدمي اليسرى على رؤوس أصابعي. كي أحفظ ما أمكنني من الثقة بمظهر العلم!
ثماني مروحيات تحلق يوميا في سماء حي المساكن وتفرغ حمولتها من البراميل فوق الأبنية. كل خمس دقائق برميل منذ عشرة أيام. تتضارب أصوات الانفجارات، تهز الأبنية كالزلازل، تتضخم فوق الأبنية وتتصاعد غيوم وهالات من الغبار الأبيض والدخان الأسود. تتناثر الحجارة والشظايا والزجاج في كل مكان .
وقفت بجانب زوجي وولدينا حيث اصطف الناس ،كل عائلة بجانب الأخرى، على الرصيف المقابل للبناية،على الأقل نحن عائلة أمام الناس, والناس لا يعلمون ما بأنفسنا ، عيونهم تتابع الطائرات في السماء ،وفي أيديهم حقائبهم التي وضعوا فيها ما يحتاجونه من أوراق ووثائق وأموال تحسبا من قصف بيوتهم .
بعد نصف ساعة من الرعب ومواصلة النظر إلى الأعلى، أعتقد أنهم شعروا جميعا بآلام الرقبة ، يا رب خفف عن الشعب السوري آلام الرقاب !
لماذا أراقبهم بدلا من أن أراقب الخطر المحدق في السماء ؟ فجأة، هاجوا دفعة واحدة، وأخذوا يتصارخون ويكبرون ويحوقلون ويسبحون ويتصارخون : ابتعدوا عن الشارع! إحدى المروحيات أصبحت الآن تحلق فوقنا في سماء الشارع !
معظم الناس أخذوا يتراكضون باتجاه جامع العباس . لكن نحن كنا مع الناس الذين ركضوا باتجاه مبنى الإطفائيّة قرب منطقة الملعب، في الجهة الأخرى من الشارع . وتجمعنا هناك في آخر الشارع ،وهو أمر يعرضنا لخطر الإصابة بقديفة هاون محتملة ،قد تأتينا على حين غرة من جهة مناطق النظام. كما قال أحدهم، وهو يندس بيننا ليقف في وسطنا، قبل أن يصمت لأن أحدا لم يعره اهتماما سواي ، الآن الكل ينظر إلى الخطر المحدق من الأعلى . لماذا نشعر بالحاجة لأن نقف معا في مكان واحد؟ و لماذا وقف هذا الرجل معنا وهو يحذرنا من التجمع ؟ يذكرني هذا بتجربتي التي أجريتها لاختبار سلوك التجمع الغريزي عند طيور الحمام .
هههههههه يا للطيور المسكينة ! أخفتها بصوت مواء القطط . فتجمعت على بعضها، وتجمدت وسكنت سكونا غريبا ، أشعر الآن بشعورها تماما . وهل نحن الآن أشبه بالحمامات الخائفة ؟ لا بل نحن أشبه بالحشرات الضارة التي تخاف من الإبادة ! أشبه بالصيراصير مثلا . ولن نرتقي لنكون أشبه بالنمل ، فحينما يسحق المارة النمل بأحذيتهم فإنهم يفعلون ذلك عن غير قصد. أما الصراصير فالقصد متوفر دائما في مطاردتها وقتلها. إذن فنحن في حالتنا هذه كبشر سيّان مع الصراصير من حيث المحنة الإنسانية .
لنفكر جديا في مأساة الصراصير ، أليست مخلوقات الله ؟وهل خلقت نفسها بنفسها ؟ إن لم تكن الحياة حقا شرعيا لها فلماذا خلقها الله ؟ وما ذنبها كي تخاف وتعيش طوال حياتها مذعورة وفي محاولة مستمرة للفرار من القتل ؟
لكن لحظة لحظة ، أعتقد أن الوضع الإنساني للصراصير أفضل من وضعنا . فهي حتما غافلة عن المبيدات الحشرية التي أعدت لها . وهذا يخفف من شدة خوفها وذعرها من الموت. لكن نحن ،نحن نعلم ونشاهد المبيدات الحشَ/بشرية الخاصة بنا .لذا فنحن نخاف أكثر، ولكننا والحق يقال، نستفيد من معلوماتنا أكثر .فعلى سبيل المثال: نحن نستفيد من المعلومات التي تقول بأن احتمال الخطأ في تحديد نقطة سقوط البرميل إذا كنتَ تراقبه من الأسفل يقدر بحوالي مئتي متر فقط، هو مقدار انحراف البرميل بعد سقوطه بتأثير الرياح وتأثير سرعة حركة المروحية لحظة إسقاطه. فنحن نستفيد من معلوماتنا، و نقف تحت جزء من السماء يبعد على الأقل ثلاثمئة متر عن البقعة التي تحلّق فيها المروحيات لحماية أنفسنا .
أرأيتم ؟ صحيح أن احتمال الإصابة بالشظايا الناجمة عن الانفجار وارد ،وقوي جدا. ولكن لا بأس! المهم أننا نستفيد من المعرفة . ولسنا كالصراصير ،( يا غافلْ إِلَكْ ألله) .
لكن لحظة من فضلكم ، أنا أنظر حولي هكذا لأنني أريد أن أصحح لكم بعض المعلومات المفيدة ، فأنا أعتقد بأن المروحية تقف ساكنة في الجو في لحظة قذف البراميل، ما يعني أن سرعتها ستكون صفر ، وهذا يجعل قيمة قوة الدفع التي ستعطيها المروحية للبرميل لحظة سقوطه صفرا أيضا. إذن فالبرميل يسقط سقوطا حرا. صحيح أن البرميل لا يختار سقوطه بكامل حريته ! ولكنني أظنه مع ذلك يسقط سقوطا حرا .
- " هل هذا هو وقت علم الأحياء ووقت الفيزياء ؟ اللعنة عليكِ وعلى الفيزياء وعلى اليوم الأسود الذي تعرفت به عليك !" ، هذا هو ردّ زوجي الذي أتخيله . ولعلمكم ،هو لم يردّ علي به فقط لسبب واحد بسيط ، وهو أنني أصلا لا أستطيع أن أخبره بما فكرت به قبل قليل تجنبا لردّه هذا . والحمد لله أنني لم أخبره ولم يردّ، لأنني ما كنت لأدعه يهنأ برده.
مرّت ساعة .وكل ما فكّرت به مر كلمح الخاطر، والغارة لم تنته بعد .وكلما سقط برميل هاج الناس وكبروا وتشبثوا بأنفسهم وبأرواحهم . وأنا أشعر بالعطش وبالدوار ، وأشعر بالبرد يجتاحني ، وأخشى أن يتجاوزني البرد إلى الواقفين بجواري فيبردوا مثلي ، على الرغم من أن درجة الحرارة اليوم لا تقل عن أربعين درجة مئوية ،ستكون مصيبة لو شعروا بالبرد مثلي ، جسمي الذي يرتجف بدأ يخور ،وقد أتهاوى على الأرض بعد لحظات .
لو لم أكن صائمة لاستغثت، وطلبت كأسا من الماء .أي ماء والماء في البيوت ونحن في الشوارع ؟! لكن هذا وقت تحضير طعام الإفطار . ألن يفكر الناجون من الغارة بتحضير طعام الإفطار .
يا لقسوتي ! يا لقسوة البشر!يا لعدم ضميري ! أناس تنسحق أشلاؤهم وتنطمر في بيوتهم تحت أسقفها وجدرانها المنهارة فوقهم، وأناس يخططون لتناول طعام الإفطار! يا لفظاعتي ! من سيشتهي الأكل في جوار الموت والدم واللحم المحشور تحت الأنقاض!
آه لا تذكّروني بصورة العجين المختلط بالدم في المجزرة التي حدثت في الأمس جراء سقوط الصواريخ على الفرن! شاهدتها على التلفاز قبيل أذان المغرب فلم أستطع وضع الخبز في فمي عند الإفطار.
-"ولهذا تشعرين بالجوع يمزق أحشاءك اليوم" خاطبني الجزء العاقل في نفسي، وتابع محاولا إقناعي :
-الأكل أمر ضروري ولا مفر منه. كيف سيصوم الناس غدا إن لم يأكلوا اليوم ؟ كيف سيتابعون حياتهم بدون طعام ؟
-هل تعلم أنك أقنعتني أيها الجزء العاقل ؟ قلت له ، وتابعت : أعلم أنهم سيأكلون مضطرين حتى ولو كان ابتلاع الطعام صعبا عليهم .وحتى لو كان طعمه كطعم هذا التراب الذي دخل مع استنشاقنا الهواء إلى أفواهنا . ..
الغبار يملأ الشوارع ، ورائحة البارود تختلط مع الغبار . وأنظار الناس تنسحب من السماء، وهي تودّع الطائرات المغادرة خفيفة بعد أن فرّغت حمولتها اليوم ، الطائرات تبتعد ، والناس يتوجعون من رقابهم . انتهت الغارة.
وجوه الناس من حولي صفراء مشدوهة ، أتفقّد وجوههم بحذر، خشية أن يصرخ أحدهم في وجهي لسبب أجهله ، ماذا لو صرخ أحدهم في وجهي ؟ولماذا سيصرخ بي ؟ كم أنتِ مذعورة ! ما بك؟
الرعب يملأ العيون، الاضطراب يسكن أحداق الأطفال، واحسرتاه على الأطفال. ما بهم الناس ؟
لا أحد يتكلم ، لا أحد يجد ما يقوله للآخر ، وكأن الخوف قد ربط الألسن . الصمت متواصل عميق هادر ، يشبه هذا الهدوء هدوء ما قبل العاصفة ، لكنني سأسميه بهدوء ما بعد الغارة. وهو هدوء ممزوج بالخيبة والعار والعتب ،
-ولماذا العتب يا حبيبتي ؟ (سألني جزئي الحنون )
-لأن الكل يشعر بالحاجة للمواساة ، ولكن لا أحد يواسي أحدا. أودّ أن أواسيهم حقا ، وأنا المشنوقة بحبال الصمت والعتب ، ولكنني لا أستطيع ، لا أستطيع، ليتني أرى بعض طالباتي لأواسيهن، لكن أينهن ؟ لماذا لا أراهن؟
تفرّق الناس . الكثير منهم ذهبوا لاستطلاع نتائج ما حصدته الغارة من قتلى وجرحى ومن تدمير وحرق .
أصوات العويل تمزق قلوبنا، تصل متقطعة إلى آذاننا مع هبات الرياح من منطقة السوق الجديد خلفنا، حيث تركز القصف اليوم ، ونحن عائدون باتجاه البناية . ترى كم روح أزهقت هذه الساعة؟ كم بيت هبط على رؤوس أصحابه ؟ كم قصة حياة وجدت خاتمتها المفاجئة ؟ كم رغبة تحولت إلى رماد؟ ماذا كانوا يفعلون قبل أن يسقط البرميل؟ هل كانوا ينزلون على الأدراج فلم يمهلهم الموت ؟
ليتني أطلب من زوجي أن نذهب مع الذاهبين إلى مكان القصف ، وليت زوجي يرفض طلبي ويمنعني من الذهاب ،كي أخفف عن روحي المزيد من الألم ،وعن دماغي المزيد من الكوابيس .
- وما زال الخطر قائما! (قال زوجي مخاطبا ابننا الكبير) . ونظر إلى قدمي برهة ،ولم يتكلم. وأنا اقتربت منه حتى كاد كتفي يصطدم بكتفه. وقلت:
- أسمع أصوات سيارات إسعاف ! الحمد لله أن سيارات الإسعاف مازالت تعمل . أردته أن يظن أنني أخاطبه فيرد ولكنه لم يرد. وهي محاولة يائسة مني على كل حال لجعله يتكلم معي بعد خمسة عشر يوما من الصمت القاتل، وقد باءت بالفشل كما ترون، ولكنني جاهدت أكثر، وتابعت:
-وسيأتي يوم نفتقدها فيه ولا نجدها ، (...وفي الليل الظلماء يُفتقَد البدر... ) .قلت الجملة الأخيرة ساخرة كعادتي، لكن هذه المرة قلتها دونما صوت ،حرصا مني، كي لا يسمعها زوجي، وكي لا يرد . ولكنني أظنه قد توقعها مني ،وتخيل أنه قد سمعها)، ولم يرد مع ذلك .
سحب ابني الصغير أصابعه من يدي .الآن أشعر بأن جسمي كان يرتجف بكامله حقا ،وبأنني كنت أضغط أصابع ابني في راحتي حتى أوجعته فتملص مني .
-هيا لنعد إلى البيت. قال زوجي ، وهو الذي يصبح أكثر لطفا بعد الغارات الجوية، موجها كلامه لولدينا ، ثم نظر إلى قدمي مرة أخرى ولم يعقب.
كان الدم ينزف من قدمي اليسرى بدون هوادة وحتى فردة حذائي الوحيدة قد اصطبغت بالدم الذي شكل بركة صغيرة تحتي . لعلها قطعة زجاج كبيرة حادة شرطت قدمي وجرحته هكذا ونحن نركض .لكنني لم أشعر بالألم إلا في هذه اللحظة ، هذا يعني أن مستوى تدفق الأدرينالين قد انخفض في دمي الآن ، كيف مشيت على الزجاج وانجرحت قدمي هذا الجرح العميق الكبير ولم أشعر بالألم ؟ قطع الزجاج تتناثر في الشوارع بعد تحطم زجاج النوافذ في إثر القصف منذ شهر، وليس ثمة عمال نظافة ينظفون شوارع المساكن ، وقد لا تتمكن نافذة من الاحتفاظ بزجاجها بعد أسبوع واحد في المساكن كلها . بائس حي مساكن هنانو ! منذ بدء الثورة ،أكياس القمامة تحيط بحاويات القمامة الممتلئة على محيط يصل إلى عدة أمتار على مقربة من الرصيف قرب البناية , وهناك الجرذان والفئران والقطط والحشرات والروائح.
بعد وصولنا للبناية ، وخلال عبورنا لحديقتها حاولت بعيني فقط ومن البعيد فقط أن أتفقد الزهرة الصفراء التي نبتت في الأمس في مكانها على العشب، لكنني لم أرها . ما الذي حل بها ؟ أخشى أن أحد السكان قد داس عليها وسحقها بحذائه وهو يهرول بينما عيناه محلقتان في البراميل الهابطة من السماء ؟
وعلى ذكر الحذاء، أريد أن أعرف حقا : أين اختفت فردة حذائي ؟

سرد درامي بأسلوب جميل وبضمير المتكلم الواحد
سرد تفاصيل التفاصيل لأحداث دامية في يوم ومشهد واحد
من أصوات الصراخ لمشاهد البراميل المتفجرة في أحد أحياء حلب
حي هنانو ووصف خاطف للسوق من مشاهد اختلاط الماء بالطحين
لكن هنا يبرز سؤال هل هذه رواية ساخرة فعلا؟
هل تتجسد الآلام في سرد ساخر؟
أظنها رواية جادة ذات أبعاد كبيرة لمصيبة لم تتوقف
أنتظر رأي الأخت ثناء بالنسبة لما طرحت من استفهام
تحياتي ولي عودة بإذن الله تعالى






حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
  رد مع اقتباس
/
قديم 26-04-2018, 02:59 PM رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
أمل عبدالرحمن
عضو أكاديميّة الفينيق
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
الأردن

الصورة الرمزية أمل عبدالرحمن

افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

أجزم أن محنة الحرب من اصعب وأألم المحن لاندري فيها أنحيا أو نموت ، ولعل من المناسب ان أذكر أني جربتها وكنت صغيرة جدا جداولاتزال ذاكرتي خصبة بها رأيت الذعر بأم عيني ..ولكن قدر الله وما شاء لطف .. وقد تكررت مأساة حلب منذ عامين على ما أذكر بالبراميل والصواريخ المدمرة ...اللهم ألطف بأهلنا في الشام وفلسطين والعراق واليمن وليبيا وكن في عونهم ..آمين
أستاذتي ثناء صالح
الأديبة القديرة والرائعة
جميل وأكثر البوح هنا ..
وشفاف جدا..
مودتي وكل الإحترام والتقدير..






  رد مع اقتباس
/
قديم 26-04-2018, 08:30 PM رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
ثناء حاج صالح
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمةالأكاديميّة للابداع والعطاء
سوريا
افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خالد يوسف أبو طماعه مشاهدة المشاركة
سرد درامي بأسلوب جميل وبضمير المتكلم الواحد
سرد تفاصيل التفاصيل لأحداث دامية في يوم ومشهد واحد
من أصوات الصراخ لمشاهد البراميل المتفجرة في أحد أحياء حلب
حي هنانو ووصف خاطف للسوق من مشاهد اختلاط الماء بالطحين
لكن هنا يبرز سؤال هل هذه رواية ساخرة فعلا؟
هل تتجسد الآلام في سرد ساخر؟
أظنها رواية جادة ذات أبعاد كبيرة لمصيبة لم تتوقف
أنتظر رأي الأخت ثناء بالنسبة لما طرحت من استفهام
تحياتي ولي عودة بإذن الله تعالى

الأستاذ الكريم الأديب خالد يوسف أبو طماعة
أشكر لكم تفاعلكم الراقي وحضوركم الثري .
جوابا على سوالكم : "
لكن هنا يبرز سؤال هل هذه رواية ساخرة فعلا؟
هل تتجسد الآلام في سرد ساخر؟
أظنها رواية جادة ذات أبعاد كبيرة لمصيبة لم تتوقف
"
أعتقد أن الأدب الساخر يعالج مواضيع جادة أيضا ، وبالضرورة . وأقصد بالجدية هنا: ( ما يتمتع به موضوع ما من مضمون ذي عمق معنوي يمس إنسانية الإنسان ويرتبط بحقوقه وواجباته كإنسان في بيئته) .
فالمواضيع غير الجادة، من وجهة نظري، هي فقط المواضيع السطحية الفارغة من مثل ذلك المضمون . وهي بالتالي عديمة الأهمية . وأحب أن أصنِّفها على أنها مواضيع تصلح للتسلية وتضييع الوقت. ومثل هذه المواضيع لا يمكن أن ترقى إلى تصنيفها كأدب ساخر،حتى لو كانت تبعث قراءتُها على الإضحاك والقهقهة .
السخرية في رأيي تتطلب معنى مثالياً عميقاً ترتكز عليه وتذب عنه. وهذا نعم، يتجسد في الآلام والمصائب والكوارث الإنسانية .
على أن السخرية هي الأسلوب الذي يترتب عليه الكشف عن المفارقة بين ذلك المعنى المثالي والصورة الواقعية التي تعبر عن الخلل في تطبيقه.
لذا فأنا أرى فعلا -وكما تفضلتم بالقول - أن أسلوب السرد يكفي لتأدية مهمة السخرية. ولا مشكلة أبدا في المعاني الجادة الكامنة خلف الأسلوب، بل هي أمر طبيعي .
وفقدان الجدية في الموضوع يسيئ للسخرية التي تتناوله وينتقص من دورها.
ويسعدني أن أقرأ رأيكم
مع التقدير والاحترام






  رد مع اقتباس
/
قديم 26-04-2018, 09:50 PM رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
خالد يوسف أبو طماعه
عضو مجلس إدارة
المستشار الفني للسرد
عضو تجمع الأدب والإبداع
عضو تجمع أدب الرسالة
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
عضو لجنة تحكيم مسابقات الأكاديمية
الاردن

الصورة الرمزية خالد يوسف أبو طماعه

افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ثناء حاج صالح مشاهدة المشاركة

الأستاذ الكريم الأديب خالد يوسف أبو طماعة
أشكر لكم تفاعلكم الراقي وحضوركم الثري .
جوابا على سوالكم : "
لكن هنا يبرز سؤال هل هذه رواية ساخرة فعلا؟
هل تتجسد الآلام في سرد ساخر؟
أظنها رواية جادة ذات أبعاد كبيرة لمصيبة لم تتوقف
"
أعتقد أن الأدب الساخر يعالج مواضيع جادة أيضا ، وبالضرورة . وأقصد بالجدية هنا: ( ما يتمتع به موضوع ما من مضمون ذي عمق معنوي يمس إنسانية الإنسان ويرتبط بحقوقه وواجباته كإنسان في بيئته) .
فالمواضيع غير الجادة، من وجهة نظري، هي فقط المواضيع السطحية الفارغة من مثل ذلك المضمون . وهي بالتالي عديمة الأهمية . وأحب أن أصنِّفها على أنها مواضيع تصلح للتسلية وتضييع الوقت. ومثل هذه المواضيع لا يمكن أن ترقى إلى تصنيفها كأدب ساخر،حتى لو كانت تبعث قراءتُها على الإضحاك والقهقهة .
السخرية في رأيي تتطلب معنى مثالياً عميقاً ترتكز عليه وتذب عنه. وهذا نعم، يتجسد في الآلام والمصائب والكوارث الإنسانية .
على أن السخرية هي الأسلوب الذي يترتب عليه الكشف عن المفارقة بين ذلك المعنى المثالي والصورة الواقعية التي تعبر عن الخلل في تطبيقه.
لذا فأنا أرى فعلا -وكما تفضلتم بالقول - أن أسلوب السرد يكفي لتأدية مهمة السخرية. ولا مشكلة أبدا في المعاني الجادة الكامنة خلف الأسلوب، بل هي أمر طبيعي .
وفقدان الجدية في الموضوع يسيئ للسخرية التي تتناوله وينتقص من دورها.
ويسعدني أن أقرأ رأيكم
مع التقدير والاحترام
أهلا أختي المكرمة ثناء
ليس ما عنيته من مفردة الساخر أن يكون مضحكا
ما عنيته أن الساخر له أبعاد كثيرة ك السياسي
وما يخص حياة الناس ومعاناتهم وضنك العيش
والتطرق لشؤون الدولة من الموظف حتى الرئيس
في تسليط الضوء على أماكن الخلل في النظام وإظهار
بواطن الفساد فيه من سرقات ونهب لمقدرات الوطن
هذه أمثلة عامة لما عنيته وقليلة لما يتطرق له كاتب
الساخر بشكل عام أما أن يكون في سرد أحداث دامية
وطويلة بشكل رواية بكل صدق لم أقف على هذا الأمر
لا أعلم ... لكني أحببتها رواية بمفهومها الأدبي الخاص
لديك أدوات جميلة ونفس جميل في سرد الأحداث
وتمتلكين أوراق حية لهذه الكارثة الإنسانية وبيدك
تغيير مسارها من الساخر للرواية الأدبية ببراعة وأحيلك
للإطلاع على أعمال الروائي السعودي عبد الرحمن منيف
في روايته شرق المتوسط ومدن الملح وغيرها والروائي
الفلسطيني غسان كنفاني في روايته رجال تحت الشمس
وعائد إلى حيفا وغيرهم الكثير لتتجرعي أدبا تحدث عن
المعاناة والتهجير والتنكيل والتعذيب.
أعتذر عن إسهابي المفرط لكني أتمنى أن تعيدي
النظر في كونها ساخر
كل ما قلته وجهة نظر ولك واسع النظر
خالص تقديري






حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
  رد مع اقتباس
/
قديم 26-04-2018, 10:17 PM رقم المشاركة : 17
معلومات العضو
خالد يوسف أبو طماعه
عضو مجلس إدارة
المستشار الفني للسرد
عضو تجمع الأدب والإبداع
عضو تجمع أدب الرسالة
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
عضو لجنة تحكيم مسابقات الأكاديمية
الاردن

الصورة الرمزية خالد يوسف أبو طماعه

افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ثناء حاج صالح مشاهدة المشاركة
طالبتي ريم


أيلول /سبتمبر 2012 مساكن هنانو


الساعة الثامنة مساء غابت الشمس ، سقطتْ خلف أحد الأبنية العالية في حي الصاخور المتاخم لحي المساكن من الجهة الغربية. آخر مرة لمحتها ( أقصد الشمس ) قبل دقائق ، قبل أن أدير ظهري لها وأنعطف، وأنا أنسلُّ بالسيارة مع طالباتي من شارع فارغ إلى آخر أكثر فراغا في حي المساكن .
ذهب النهار ولم يأت الليل . لا ضوء ولا ظلام ، لا سكوت ولا كلام ، سوى التوجس من المجهول الغادر . طالباتي الثلاث رشا ومها وغزالة يجلسن في المقعد الخلفي للسيارة. أما ريم فتجلس بجانبي في المقعد الأمامي، لأنها تسكن معي في بنايتي نفسها.
نحن عائدات من معهد الدورات المسائية ، وأنا تعهدت للأهالي منذ أسبوع بإيصال كل طالبة تسكن بعيدا عن المعهد بسيارتي، إلى بيتها ، لأن إحدى الإشاعات أشاعت -ولعلها ليست مجرد إشاعة- أن عصابة مجهولة تخطف البنات في حلب. وقد خُطِفت فتاة في حي (السُّكَّري). والأهالي خائفون على بناتهم . وليس التحضير لنيل الشهادة الثانوية في العام القادم عذرا كافيا للتضحية بالبنات. أو للمغامرة بسيرهن في الشوارع .كما قال أحد الآباء لمدير المعهد:
-أنا أكسر رجلَي ابنتي ،وأجبرها على القعود في البيت . يلعن أبا (البكالوريا)، وأبا ابنتي التي ستحصل على البكالوريا . أخي ! من الأخير، أعيدوا لنا المبلغ الذي دفعناه ، غيَّرنا رأينا ، نحن نحب الجهل . ونحن ضد تعليم البنات.
- يا رجل يا رجل وحِّد ربك !قال المدير وقتها غاضبا ، وتابع: - سأعيد لك المبلغ الذي دفعته ، ولا تخبر أحدا بهذا ، ولكن دع الفتاة تحضر إلى المعهد وتتابع دروسها، أحضِرْها بنفسك وأرجعْها إلى البيت بنفسك، ابنتك تحضِّر لنيل الشهادة الثانوية يا رجل! ، هل ستضيِّع تعبها خلال اثنتي عشرة سنة؟ وأنت ترى الأوضاع، وهذه فرصتها .ولِعلمِك يا سيدي ،سيتأخر موعد الدوام للعام الدراسي هذه السنة .
-أخي !أنا عقلي جحش!
قال الأب وهو يشير بسبابته ذات الظفر الطويل الذي اختزن تحته بعض الوسخ إلى دماغه. بينما كانت ابنته تقف إلى جانبي خلفه تماما، تبكي وتتوسل إلي همساً وتمتمةً ، وتشير إليَّ أن أتدخل في الموضوع .
-يا آنسة يا آنسة ضاعت البكالوريا ، الله يوفقك تدخلي، احكي معه يا آنسة.
- طيِّب .طوِّلي بالك طوِّلي بالك! تقدمتُ مبتسمةً لأقف إلى جانب المدير، وافتتحتُ مدخلا إلى الحوار:
-يا أخي طوِّل بالك ، أبو من حضرتك ؟
- أنا أبو (ضراط ).
-ويلاه ! أرجوك انتبه لكلامك ! أنت في معهد محترم.
-وأريد أن أكسر رجلي ابنتي وأقعِّدها في البيت. أعيدوا لي نقودي التي دفعتها عندما كنت جحشا وسمعت كلامها .
- لستَ جحشا . حاشاك ! أستاذ إبراهيم ! هات المبلغ . سلِّمني إياه بيدي ،إذا سمحت ! قلت للمدير بلهجة مستسلمة
فأخرج المدير النقود ووضعها في يدي. عند ذلك جلستُ على الكرسي ولوَّحت للرجل، بيدي التي أمسك بها النقود، مشيرة إليه أن يجلس على الكرسي المقابل .
لن تخرج من هنا إلا ونقودك هذه معك . فاطمئِنْ! و أرجوك ،إهدأ قليلا، واعتبرني أختك ( حاشاي أنا الأخرى ) ، ودعنا نتكلم كالمحترمين :
جلس الرجل ممتعضا ، وقال : تفضلي . إحكي!
-ابنتك ما شاء الله ! ذكية ومجتهدة، ويحق لك أن تفخر بها .ابنتك متفوِّقة . بعد سنوات قليلة ستقول: أنا أبو الدكتورة مها.وستذكر كلامي هذا . فلا تقف اليوم عقبة في طريقها وأنت أبوها . ماذا قلت ؟
- .........
- طيِّب. ما رأيك في أن أمرَّ أنا بنفسي يوميا على بيتكم وأحضرها معي إلى الدرس بسيارتي؟ وبعد الدرس أنا أيضا أوصلها بسيارتي إلى باب بيتها . وما يحصل لي يحصل لها . يا أخي قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا .ولن أعطيك النقود حتى توافق. ومددت يدي إليه بالنقود .
حينها سحب الرجل النقود من يدي ودسَّها في جيب قميصه، وقال :"وأفوِّض أمري إلى الله... موافق!"،
ثم سحب ابنته من يدها، وأسرع بالخروج . أحيانا يحقق (العقل الجحش) لصاحبه بعض المكاسب. حقيقةٌ ثابتةٌ علميا !
-"لم يبق سوى سبع طالبات في الصف يا آنسة ! بعد أن كنا عشرين طالبة قبل شهرين ، الناس ينزحون من المساكن "قالت ريم بعد أن بقينا وحدنا في السيارة . مرت بجانبنا ثلاث شاحنات صغيرة (سوزوكي ) تحمل الناس وفُرشهم وأدواتهم
-إلى أين يذهبون في هذا المساء ؟ إلى القرى ؟ أنا خائفة يا آنسة . خائفة جدا .قالت ريم ودوَّت مع قولها في الجو أصوات الرصاص ، أوقفت محرك السيارة وأخذنا ننصت في جميع الاتجاهات وكم تمنيت لو أن الله خلق للبشر آذن كأذان الحمير، أو الأرانب مثلا . وبعد دقائق من الإنصات سمعنا فقط أصوات قرع أحذية الجنود وهم يهرولون باتجاه آخر الشارع ، ونظرت كل منا في وجه الأخرى برعب وقالت ريم ، أنا خائفة ، خائفة جدا . ودوُى صوت الرصاص من جديد.
-أرأيت ماذا جررتِ علينا بخوفك ؟ لا تلفظي هذه الكلمة مرة أخرى ،لأنها هي السبب في كل ما يحصل ،قوليها أكثر فلا نصل إلى بيتنا اليوم .
-لن أقولها ، ولكن أسرعي أرجوك ! هل تلاحظين فراغ الشوارع يا آنسة، نحن فقط في الشارع ؟ لم نر بشرا غير أولئك النازحين . وجودنا هنا خطأ.
- تابعت القيادة بحذر وخوف أكبر :
- ريم ! انظري ! هل كانت أكياس الرمل تلك التي عند الشجرة، هل كانت في هذا المكان عندما مررنا قبل الدرس من هنا ؟
- لا هذا حاجز جديد. حاجز جديد للجيش الحر ، أظنهم ما زالوا يصنعونه ولم أره من قبل .
- حسنا ،سنمر بقربهم بهدوء ، فلا تخشي شيئا إذا استوقفونا. نظرت كل منا في وجه الأخرى برعب، ومررنا ببطء.
- ما من أحد خلف الحاجز ، لم يستعملوا الحاجز بعد. مررنا بسلام(قالت ريم )
- هم يحضِّرون الحواجز احتياطا . ولكنهم يستقرّون في أبينة المؤسسات الحكومية العاطلة عن العمل ، في مبنى البريد وفي المخفر، وفي المدارس. مررنا بسلام ، لم يرنا أحد. أليس كذلك؟
-على فكرة ، القصف اليوم استهدف منطقة شارع حي الشهداء في مساكن هنانو. وسقط صاروخ على مدرستنا. قالت ريم ونحن نترجل من السيارة بعد أن جف حلقي وحَلْقُها رعبا:
-ماذا ؟ ثانوية عز الدين القسم ؟ !
-عز الدين القسام .نعم . انهار جدار المدرسة من جهة موقف الباص ، وتشكلت طاقة كبيرة في جدار قاعة المختبر، رأيتها بنفسي اليوم قبل الظهر.
-متى قُصِفَت ؟ في الغارة الصباحية ؟ سألتها وأنا أهز برأسي، وكأنني كنت أتوقع ما حصل وتابعت: يقصفون المدارس لعلمهم بأن الجيش الحر يتخذها ثكنات عسكرية له . الحمد لله أن الدوام لم يبدأ بعد، ربنا يسترنا أيام الدوام .
-أي دوام يا آنسة ؟! من سيداوم ؟ المساكن فارغة ما فيها أحد غيرنا ، كل الناس نزحوا .
ربتت على كتف ريم، أمام باب بيتها في الطابق الثاني.وقلت وأنا أهم بمتابعة صعود الدرج.
-تصبحين على خير يا ريم ، سلِّمي على الوالدة .
فشدَّتني من ذراعي، وقالت وهي لا تعلم ما ينتظرها في الداخل :
- أرجوك ادخلي معي آنسة .تفضلي واشربي فنجان قهوة ،لدي موضوع أحدثك عنه ،وأحتاج نصيحتك .
– موضوع ماذا ؟ عريس مثلا ؟
- كيف عرفت ؟ قالت وهي تبتسم مستحية و مستغربة .وأصبعها يضغط على جرس الباب.
-أنا أعرف وأفهم ، ماذا تظنين ؟ هههههه شرودك في الدرس اليوم لم يكن مجانيا .رأيتك شاردة على غير العادة ، وأنا أشرح الدرس. ولكن ..؟!
وفتحت أمها الباب ، ولم تسمحا لي بإبداء أعذاري للتملص منهما، ووجدتني قد أصبحت في الداخل:
-أهلا بالآنسة والله . أهلا وسهلا ،(مية السلامة) والله . هذه أول مرة تدخلين فيها بيتنا، منذ أن سكنت في البناية، يعني منذ ثلاث سنوات .
-أهلا بك ، الله يخليكِ ، حقكم علي يا أم ياسر
-نحن زرناك أنا وكل الجارات عشرين مرة ، ثم اتفقنا وقررنا أن لا نزورك أبدا ، إلا بعد أن تردّي الزيارة . (قالت أم ياسر عاتبة وضاحكة، وهي تفتح باب غرفة الضيوف) .
- يعني شكَّلتُنَّ حزباً وتآمرتُنَّ ضدي . هههههه والله معكم حق ،أنا آسفة ، وأعترف بذنوبي ولكن أرجوكم أن تعذروني . وريم فقط تعرف وضعي، وتعلم بقلة وقتي، إسأليها ! أين أنت يا ريم؟ تعالي أنقذيني!
-ريم؟ دعيها تصنع القهوة ـ وأنا سـأستغل الفرصة وأشكوها لك ، قبل أن تأتي.
- نعم دعينا نتحدث عن ريم ، فهذا أحسن . خير ! ما بها ريم ؟
-أمي ! أنا أسمعك . (صرخت ريم من المطبخ )
-اسمعيني وكثِّري ، سأشكوك . وأخذت الأم تسابق الزمن في سرعة كلامها : -تخيلي يا آنسة أن ريم ومنذ أربعة شهور، وهي لا تستحم إلا مرة واحدة في الشهر ، يعني بصراحة هي لا تغتسل إلا بعد الدورة الشهرية ، وعندها تغتسل خلال خمس دقائق فقط ، يعني تصب الماء على جسمها صبا سريعا فقط ، وتخيلي أنها تحاول ألا تشرب الماء كي لا تدخل إلى (التواليت )! وأنها تنام بعباءتها وبحجابها .
- ما هذا الذي أسمعه؟ معقول ؟ ! ريم؟! هل تمزحين ؟
ودخلت ريم مضطربة بوجهها المحمر خجلا، ووقفت في باب الغرفة وهي تصرخ بأمها:
-أمي ! كفى فضائح!
-لمَ كلُّ هذا يا ريم ؟ سألتها وسط ذهولي
جلست ريم بجانب أمها على الأريكة ، وقالت بصوت أكاد لا أسمعه وهي مطرقة:
-أخاف أن يسقط صاروخ أو برميل أو قذيفة على بيتنا وأنا أستحم عارية في الحمام.أخاف أن ينتشلوا جثتي من تحت الأنقاض وأنا عارية . ولست أنا فقط من يفعل هذا يا آنسة ، كل رفيقاتي بالمدرسة أيضا يفعلن هذا . ونحن اتفقنا على ذلك . وأنا أستغرب كيف تستطعن أنتن الاستحمام عاريات وتطلن الاستحمام ، وكأن الأمر عادي !
- ماهذا التهريج ؟ قلت وأنا أتصنع عدم الفهم.
- وكنا نفكر أنا ورفيقاتي أن نحدثك أنت بالذات عن هذا ، لكي تقومي بتوعية النساء جميعا ،أعني زميلاتك المدرِّسات وقريباتك .
ونظرت ريم في عيني ورفعت صوتها وقد وصلت إلى النقطة التي جعلتها تزداد قوة.
لطمتُ خدي وصرختُ بها :
-كفى ! لستِ محقة . كلنا لا يهنأ لنا عيش ، ويقض مضاجعنا خوف الموت كل لحظة. لكننا نتوكل على لله ونستحم . أنت منذ أربعة أشهر لم تستحمّي ؟ كيف تطيقين نفسك ؟ درجة الحرارة تفوق أربعين درجة مئوية في هذا الصيف الحارق .وأنا التي كنت أسأل عن اسباب الرائحة السيئة في الصف . أصبحت سماكة الأوساخ المجبولة بعرقك عشرة سنتيمترات ، لماذا لا تبدين سمينة وأنت تلبسين جلدك السميك الميت منذ أربعة أشهر . هل يعجبك جلد وحيد القرن؟
-أنا لست قذرة يا آنسة ! وليست لي رائحة عرق. الرائحة السيئة في الصف سببها أكوام القمامة التي تتسرب رائحتها من النافذة .
-آه صحيح ،فهمت ،أنت لا تتعرّقين . أنت لا تشربين الماء كي لا تدخلي إلى التواليت ، لذا فأنت لا تتعرقين أيضا.
-آنسة ! أنا أمسح جسمي بالماء وبالعطر ، وأغسل شعري فوق المغسلة يوميا. أنا لست قذرة. أنا فقط لا أريد أن ينتشل الناس جثتي وأنا عارية . لماذا تستنكرين هذا ؟ ماذا لو متنا ونحن نستحم عاريات؟ أنت يا آنسة ، ألا تتوقعين الموت في كل لحظة وثانية ؟ أجيبيني ! هل تضمنين عدم قصفك وأنت في الحمام ؟ فلماذا نخاطر ؟ ولماذا تلومينني ؟ انظري إلى أهل حمص المحاصرين منذ سنة بدون ماء ، هل يستحمون ؟ أنا ورفيقاتي نعتبر أنفسنا وكأننا نعيش في حمص.
-ريم حبيبتي ، ريم العاقلة ، ريم الواعية ، كفاك قذارة ! لا تتكلمي عن رفيقاتك ، فأنا أعلم أنك أنت صاحبة هذه الفكرة ، وأنت من أقنعهن بها ، أليس كذلك ؟ اعترفي!
-نعم أنا . ألا تشاهدين الأخبار ؟ لاحظي جثث النساء تحت الأنقاض ، لم أر جثة عارية لامرأة . بل كلهن يضعن حجاب الرأس تحت الأنقاض ، هذا يعني أن جميع النساء في سوريا يفكِّرن مثلي .ويحتطن مثلي. وهذا هو التفكير السليم. فكّري بأهل حمص وستجدينه سهلا. تخيلي جثتك عارية وهم ينتشلونها من تحت الأنقاض وستجدينه مقنعا .
-ريم !استحمي يا ريم! فأهل حمص لو وجدوا الماء لاستحموا . وأنت ما يزال لديك ماء . استحمي يا ريم فالجزء القذر من الثورة لم يبدأ بعد .وستضطرين لتحمل القذارة فيما بعد دون إرادتك . استحمي يا ريم فالقُمَّل حشرات عديمة الأجنحة، ولها ستة أرجل، وتتغذى على دم الإنسان . استحمي يا ريم فالقملة العرجاء تأتيك من على بعد أربعين فرشة . فما بالك بالقملة غير العرجاء . تعالي إلى جانبي واخلعي حجابك لأفلّي لك شعرك . تعالي فنحن نحتاج بعض العينات الحية من الحشرات الطفيلية ، لنضعها في مختبر العلوم من أجل طلاب الصف الثامن .
-أنا لست مقمِّلة !
-ماذا إذن . أتبخلين علينا ببعض العينات ؟ تعالي بجانبي ولن أبحث عن القُمَّل ، بل سأبحث عن هامة الجرب ،وهي ابنة عم العنكبوت كما أخبرتك سابقا . وتملك ثمانية أرجل ستحفر بها الخنادق في جلدك، ولا أشك بأنها قد بدأت بالحفر الآن ، فهي تتكاثر ولا تضيع الوقت، وتحتاج الخنادق لإخفاء بيضها . تعالي لأريها لك ؟
-آنسة أرجوكِ!
- لا آنسة ولا بطيخ ! عديني بأن تستحمي اليوم جيدا ، ولا تزيدي كلمة واحدة.
- لا أعدك . وأرجوك وأتوسل إليك أن تكفي عن الاستحمام أنت أيضا.
- هكذا إذن. سأخرج . افسحي لي الطريق يا أم ياسر.
خرجتُ وأنا أدّعي الغضب .وريم تبكي . وأم ياسر تصرخ: يا آنسة لم تشربي القهوة بعد.
وفتحت باب بيتي على صوت قذيفة قريبة رجّت البناية ، توجهت مباشرة إلى الحمام . كنت أريد أن أتوضأ قبل أن يفوتني وقت صلاة المغرب . رفعت الحجاب عن رأسي . صوت قذيفة ثانية رجّ البناية مرة أخرى . أعدت لفّ شعري بالحجاب . وقررت ألا أنزعه عن رأسي أبدا بعد اليوم ، سأمسح على رأسي في أثناء الوضوء بمد أصابعي تحت الحجاب ، سأنام بالحجاب. وقررت تقليل كمية الماء التي سأشربها بعد اليوم أيضا ، قررت أن لا أستحم بعد اليوم . سنتحمّل ، سنصبر ، هي شدّة وستزول ، وهي تجربة اختناق إرادي، سنختبرها على أمل التنفس بعدها . وهي "فرصة لجمع العينات الحيّة من أجل طلاب الصف الثامن ".كما ستقول ريم غدا مكررة كلامي ومدلّلة على حكمة رأيها.

هذا الجزء رااااائع جدا
كتب بحرفية تامة وبمشاعر حية لا تكلف فيها
وتقولين لي ساخر؟ حرام عليك........
بكل صدق عشت ألم وخوف وقناعة ريم
رائعة بكل المقاييس
ملاحظة:
شعرت بالقهقهة ... ههههه ... كأنها
أقحمت في النص بدون مبرر
شكرا على هذه الجرعة الدسمة
أعد نفسي بأن أتابع هذا الجمال المفعم بالألم
كثير تقدير






حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
  رد مع اقتباس
/
قديم 26-04-2018, 11:30 PM رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
ياسر أبو سويلم الحرزني
عضو أكاديمية الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
الأردن

الصورة الرمزية ياسر أبو سويلم الحرزني

افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

كنت محظوظاً بما يكفي اليوم لأحظى بشرف ومتعة قراءة هذه التحفة الأدبيّة/الفنيّة.
وكي أكون أكثر تحديداً وصدقاً ، فقد قرأت الجزء الأوّل فقط ، قرأته ثلاث مرّات.
قرأت الجزء الأوّل ثلاث مرات ، وأنا على يقين بأنّي لو قرأته عشر مرّات لكانت حصيلة أرباحي عشر دهشات ، قياساً على الثلاث دهشات الّتي حظيت بها اليوم.
لماذا لم أقرأ باقي الأجزاء ؟ ، لأنّي حاولت تجنّب تكرار الخطأ الفادح الّذي ارتكبته كثيراً في الماضي حين قرأت روايات : زوربا/وداعاً للسلاح/الحبّ في زمن الكوليرا/لمن تقرع الأجراس ، وغيرها ، إذ أّنّني كنت أقرأ ما يقع تحت يدي منها دفعة واحدة ، ولا أتركها حتّى أنتهي منها ، ولم يدر بخلدي حينها أن أمارس فن إدارة المتعة والدهشة واستدامتهما.
ولأنّ مثل هذا السرد الرائع والحقيقيّ من النادر أن أحظى به كثيراً ، لذلك قررت بعد الإنتهاء من الجزء الأوّل أن أعيد قراءته كثيراً ، وألا أتسرّع بقراءة بقيّة الإجزاء كمحاولة لاستدامة متعة القراءة.

هذا سرد حقيقيّ.
هذا سرد ساحر.
هذا سرد تعدّى حدود السرد والرواية ليمارس تأريخاً للحدث /الأحداث والّتي ستشكل ذاكرة المكان والإنسان ، ويمنح اللحظة (على اختلاف زمن ديمومتها طالت أو قصرت) صفّة الإستعصاء على النسيان ، ويجعلها تبدو إمّا كشامة أو ندبة في وجه العروس / المدينة / الوطن / الذاكرة / الإنسان الجامع أو المختصر المفيد لكل من عايش هذه الأحداث / الزمن / حصيلة النتاج الأدبي لهذه المرحلة ، قلت شامة أو ندبة كما لو أردت أن أقول ضحك أو بكاء لأنّي ضحكت ودمعت عيني وأنا أقرأ الجزء الأول واقتنعت أنّ الضحك والبكاء وجهان لعملة واحدة (شعور الإنسان)، وكيف استطاعت الكاتبة أن تستضحك المحن بسردها الساخر/الساحر ، وأن تقول المأساة.

ولأنّ المكتوب يقرأ من عنوانه ، فإنّي على يقين بأنّ باقي الأجزاء لن تقلّ روعة عن جزئها الأوّل.

فردة حذاء/ نصف عاقل / نصف حنون / أدرينالين / محاولة إنصاف الصراصير والطيّار / الكاتبة حين كانت تبرد / نظرة الطلّاب وثقتهم بمعلّمتهم / الزهرة الصفراء الشاحبة / الزوج (اللي ماخذ على خاطرة) في الوقت غير المناسب / درس الفيزياء ..... وغيرها الكثير من التفاصيل شكّلت بنك المعرفة الحيّاتيّة (إن جاز التعبير) ورصيد التجربة المختزنين في الذاكرة والّذين لم يخذلا الكاتبة وهي تمارس هذا السرد.

يبدو بأنّي ثرثرت كثيراً (مع كرهي الشديد للثرثرة) ، ولكنّني أحببت أن أنصف هذا السرد الرائع ، وأحببت أن أشكر أستاذتنا المبدعة الشاعرة والروائيّة ثناء حاج صالح لما قدمته من نص ساحر أمتعني وأدهشني كثيراً.

شكراً جزيلاً أستاذتنا ثناء.

تحيّاتي واحترامي
وتعظيم سلام


(والمعذرة إن كان هناك أخطاء نحويّة أو إملائيّة)



أقترح وضع نسخة في قسم السرد.






  رد مع اقتباس
/
قديم 27-04-2018, 12:11 AM رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
خالد يوسف أبو طماعه
عضو مجلس إدارة
المستشار الفني للسرد
عضو تجمع الأدب والإبداع
عضو تجمع أدب الرسالة
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
عضو لجنة تحكيم مسابقات الأكاديمية
الاردن

الصورة الرمزية خالد يوسف أبو طماعه

افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ياسر أبو سويلم الحرزني مشاهدة المشاركة
كنت محظوظاً بما يكفي اليوم لأحظى بشرف ومتعة قراءة هذه التحفة الأدبيّة/الفنيّة.
وكي أكون أكثر تحديداً وصدقاً ، فقد قرأت الجزء الأوّل فقط ، قرأته ثلاث مرّات.
قرأت الجزء الأوّل ثلاث مرات ، وأنا على يقين بأنّي لو قرأته عشر مرّات لكانت حصيلة أرباحي عشر دهشات ، قياساً على الثلاث دهشات الّتي حظيت بها اليوم.
لماذا لم أقرأ باقي الأجزاء ؟ ، لأنّي حاولت تجنّب تكرار الخطأ الفادح الّذي ارتكبته كثيراً في الماضي حين قرأت روايات : زوربا/وداعاً للسلاح/الحبّ في زمن الكوليرا/لمن تقرع الأجراس ، وغيرها ، إذ أّنّني كنت أقرأ ما يقع تحت يدي منها دفعة واحدة ، ولا أتركها حتّى أنتهي منها ، ولم يدر بخلدي حينها أن أمارس فن إدارة المتعة والدهشة واستدامتهما.
ولأنّ مثل هذا السرد الرائع والحقيقيّ من النادر أن أحظى به كثيراً ، لذلك قررت بعد الإنتهاء من الجزء الأوّل أن أعيد قراءته كثيراً ، وألا أتسرّع بقراءة بقيّة الإجزاء كمحاولة لاستدامة متعة القراءة.

هذا سرد حقيقيّ.
هذا سرد ساحر.
هذا سرد تعدّى حدود السرد والرواية ليمارس تأريخاً للحدث /الأحداث والّتي ستشكل ذاكرة المكان والإنسان ، ويمنح اللحظة (على اختلاف زمن ديمومتها طالت أو قصرت) صفّة الإستعصاء على النسيان ، ويجعلها تبدو إمّا كشامة أو ندبة في وجه العروس / المدينة / الوطن / الذاكرة / الإنسان الجامع أو المختصر المفيد لكل من عايش هذه الأحداث / الزمن / حصيلة النتاج الأدبي لهذه المرحلة ، قلت شامة أو ندبة كما لو أردت أن أقول ضحك أو بكاء لأنّي ضحكت ودمعت عيني وأنا أقرأ الجزء الأول واقتنعت أنّ الضحك والبكاء وجهان لعملة واحدة (شعور الإنسان)، وكيف استطاعت الكاتبة أن تستضحك المحن بسردها الساخر/الساحر ، وأن تقول المأساة.

ولأنّ المكتوب يقرأ من عنوانه ، فإنّي على يقين بأنّ باقي الأجزاء لن تقلّ روعة عن جزئها الأوّل.

فردة حذاء/ نصف عاقل / نصف حنون / أدرينالين / محاولة إنصاف الصراصير والطيّار / الكاتبة حين كانت تبرد / نظرة الطلّاب وثقتهم بمعلّمتهم / الزهرة الصفراء الشاحبة / الزوج (اللي ماخذ على خاطرة) في الوقت غير المناسب / درس الفيزياء ..... وغيرها الكثير من التفاصيل شكّلت بنك المعرفة الحيّاتيّة (إن جاز التعبير) ورصيد التجربة المختزنين في الذاكرة والّذين لم يخذلا الكاتبة وهي تمارس هذا السرد.

يبدو بأنّي ثرثرت كثيراً (مع كرهي الشديد للثرثرة) ، ولكنّني أحببت أن أنصف هذا السرد الرائع ، وأحببت أن أشكر أستاذتنا المبدعة الشاعرة والروائيّة ثناء حاج صالح لما قدمته من نص ساحر أمتعني وأدهشني كثيراً.

شكراً جزيلاً أستاذتنا ثناء.

تحيّاتي واحترامي
وتعظيم سلام


(والمعذرة إن كان هناك أخطاء نحويّة أو إملائيّة)



أقترح وضع نسخة في قسم السرد.
قراءة رائعة وعميقة وأنصفت السرد
سؤال للأخ ياسر
هل ترى هذه الرواية ساخرة؟
بما أنك.أثنيت على جمال وقوة السرد
عندما تمر على الجزء الثاني منها ستصدمك الدهشة
ضوء من لدن الياسر
ما زلت أتمسك بقناعتي بأنها ليست ساخرة إطلاقا
تقديري لك ولل ثناء






حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
  رد مع اقتباس
/
قديم 27-04-2018, 12:38 AM رقم المشاركة : 20
معلومات العضو
ياسر أبو سويلم الحرزني
عضو أكاديمية الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
الأردن

الصورة الرمزية ياسر أبو سويلم الحرزني

افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خالد يوسف أبو طماعه مشاهدة المشاركة
قراءة رائعة وعميقة وأنصفت السرد
سؤال للأخ ياسر
هل ترى هذه الرواية ساخرة؟
بما أنك.أثنيت على جمال وقوة السرد
عندما تمر على الجزء الثاني منها ستصدمك الدهشة
ضوء من لدن الياسر
ما زلت أتمسك بقناعتي بأنها ليست ساخرة إطلاقا
تقديري لك ولل ثناء

أهلين أستاذنا خالد

الكتابة شأنها شأن الحديث ، وأصعب ما فيهما أن تقول شيئاً مبكياً وأنت تبتسم !
وكما قلت في قراءتي المتواضعة لهذا النصّ الرائع ، أنّ الأستاذة ثناء كانت تستضحك المحن ، وتروي سفرها الموشّى بالكمد والمعاناة والمأساة بإسلوب ساخر.
بدا هذا جليّاً في الجزء الأوّل ، ولا أدري عن باقي الأجزاء لأنّي لم أقرأها إلى ألآن.

لا أعتقد أنّ تصنيفها يهمّ كثيراً ، فما يهمّ هو أنّها سرد حقيقيّ ، ولا أعتقد أنّ الروايات ذات الإسلوب الساخر يكتب على غلافها أنّها رواية ساخرة ، وبرأيي أنّ التصنيف متروك للمتلقّي.

وطالما أنّك مقتنع أنّها ليست ساخرة ، فعليك أن تصدّق قناعتك وتنتصر لها.

تحيّاتي واحترامي أخي خالد.

ملاحظة : استضحاك المحن (بما معناه) ليست من عندي ، وأذكر أنّي قرأتها في إحدى قصائد السيّاب رحمه الله.






  رد مع اقتباس
/
قديم 27-04-2018, 12:44 AM رقم المشاركة : 21
معلومات العضو
خالد يوسف أبو طماعه
عضو مجلس إدارة
المستشار الفني للسرد
عضو تجمع الأدب والإبداع
عضو تجمع أدب الرسالة
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
عضو لجنة تحكيم مسابقات الأكاديمية
الاردن

الصورة الرمزية خالد يوسف أبو طماعه

افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ياسر أبو سويلم الحرزني مشاهدة المشاركة



أهلين أستاذنا خالد

الكتابة شأنها شأن الحديث ، وأصعب ما فيهما أن تقول شيئاً مبكياً وأنت تبتسم !
وكما قلت في قراءتي المتواضعة لهذا النصّ الرائع ، أنّ الأستاذة ثناء كانت تستضحك المحن ، وتروي سفرها الموشّى بالكمد والمعاناة والمأساة بإسلوب ساخر.
بدا هذا جليّاً في الجزء الأوّل ، ولا أدري عن باقي الأجزاء لأنّي لم أقرأها إلى ألآن.

لا أعتقد أنّ تصنيفها يهمّ كثيراً ، فما يهمّ هو أنّها سرد حقيقيّ ، ولا أعتقد أنّ الروايات ذات الإسلوب الساخر يكتب على غلافها أنّها رواية ساخرة ، وبرأيي أنّ التصنيف متروك للمتلقّي.

وطالما أنّك مقتنع أنّها ليست ساخرة ، فعليك أن تصدّق قناعتك وتنتصر لها.

تحيّاتي واحترامي أخي خالد.

ملاحظة : استضحاك المحن (بما معناه) ليست من عندي ، وأذكر أنّي قرأتها في إحدى قصائد السيّاب رحمه الله.
شكرا لك أخي ياسر
نعم انتصرت لقناعتي كمتلقي ومتذوق
نحن نجتهد إما أن نصيب أو نخطئ
رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري
خطأ يحتمل الصواب
محبة






حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
  رد مع اقتباس
/
قديم 27-04-2018, 10:15 PM رقم المشاركة : 22
معلومات العضو
ياسر أبو سويلم الحرزني
عضو أكاديمية الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
الأردن

الصورة الرمزية ياسر أبو سويلم الحرزني

افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)



فشلت بامتياز في تأجيل قراءة باقي الإجزاء إلى أوقات قادمة في محاولة منّي لتجريب إدارة المتعة واستدامتها ، وكما فعل إسلوب نيكوس كزنتزاكي ، وإرنست همنجواي فعلت ثناء حاج صالح في تسليط سيف التشويق على رقبة القراءة ، وبممارسة هذا النوع من الديكتاتوريّة الجميلة يعمد الكاتب إلى استبقاء القارئ وإجباره على مواصلة القراءة حتّى ينتهي من قراءة الرواية كاملة ، ولكنّها وعلى عكسهما لم ترم بكامل بياضها (كما يقول لمثل المصري "إرمي بياضك" هههه) إذ أنّها تعاملت معنا "بالقطّارة" (كما نقول) ولم تنشر النصّ كاملاً ، ربّما في محاولة منها لضمان قراءة كلّ ما تنشره هنا ، وقد تكون محقّة في هذا النهج ، وأنا أتفّق معها في ذلك ، فربّما لو نشرت الرواية كاملة ، فستستغرق قراءتها وقتاً طويلاً ، أو ربّما (وهذا تخمين) أنّها لم تنته من كتابتها بعد ، وتقوم بنشر ما يتمّ إنجازه ، وهذا شيء جيّد إذ إنّه يمكنّها من قياس درجة حرارة القراءة والتلّقي بشرط عدم الوقوع تحت تأثير أراء القراءة حين كتابة بقيّة الأجزاء ، ولا بدّ أن أؤكّد أنّ هذا مجرّد تخمين.

خلاصة هذه الثرثرة : إن كانت الكاتبة قد راهنت على عنصر التشويق فيما تمّ نشره إلى الآن ، فإنّ رهانها كان ناجح بامتياز ، إذ أنّ التشويق قد مارس دور البطولة المطلقة في الإسلوب.






  رد مع اقتباس
/
قديم 27-04-2018, 10:35 PM رقم المشاركة : 23
معلومات العضو
ياسر أبو سويلم الحرزني
عضو أكاديمية الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
الأردن

الصورة الرمزية ياسر أبو سويلم الحرزني

افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)



فيما يتعلّق بجزء طالبتي ريم ،
فإن انطباعي عنه لم يخذل ما طرحته عن انطباع القراءة للجزء الأوّل ، وما زال السرد وفيّاً لمستوى تقييمه ، ولم يخذله.
ما زال السرد حقيقيّ ورائع ، وما زال إسلوبها الساخر يحافظ على كونه إسلوباً فخماً وراقياً.

وما زال تعظيم السلام واجب ومستحقّ لهذه الكتابة الرائعة.



ملاحظة : أنا لست ناقداً ولا ينبغي لي . أنا مجرّد قارئ متواضع وعاديّ جدّاً يمارس تطفّلاً على نص كبير ، ويحاول أن يسجّل انطباعاته بالقدر الّّذي تسمح به أدواته المتواضعة . أنا مجرّد قارئ أراد أن ينال شرف المشاركة بقول رأيه وانطباعه في هذا العمل الكبير والّذي أتوقع له نجاحاً كبيراً.






  رد مع اقتباس
/
قديم 27-04-2018, 10:45 PM رقم المشاركة : 24
معلومات العضو
سُلاف عمرو
عضو أكاديميّة الفينيق

الصورة الرمزية سُلاف عمرو

إحصائية العضو








آخر مواضيعي


سُلاف عمرو غير متواجد حالياً


افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

\

الرواية .. تروي أحداثاً تصفها الكاتبة من رؤيتها وتجربتها الشخصية لا أكثر ولا أقل ...!

بكل ما أتيتِ كاتبتي الرائعة لا يحمل في طياته ما يسمى أدبا ساخراَ ..
الأدب الساخر يجسد نقدا لاذعا بكل لباقة ..


لا أجامل هنا .. ولا أقوى على المجاملة .

خفة الروح ظهرت بعفوية السرد ...
لكن لم أشعر بتشويق عميق يشدني لما بعد !!!


كلي سعادة لمكوثي بين سطورك ...

مع احترامي المبجّل لك!






  رد مع اقتباس
/
قديم 27-04-2018, 11:55 PM رقم المشاركة : 25
معلومات العضو
ياسر أبو سويلم الحرزني
عضو أكاديمية الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
الأردن

الصورة الرمزية ياسر أبو سويلم الحرزني

افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)



النزوح من الرقّة :
ما زالت الكاتبة تمسك بزمام السرد بكلّ براعة.
طربت جدّاً حين أنسنت الكاتبة أشياءها وتبادلت معها حواراً من طرف واحد ، كان الحوار مؤثّراً جدّاً.
وبين قوسين وبرأيي المتواضع أقول : أن كلّ ما يكتبه الكاتب من نصوص يكمّل بعضه بعضاً ويشرح بعضه بعضاً ، ولا بد أن يحيلنا بعضه إلى بعضه ، هذا رأي تكون لديّ منذ زمن ووجدت شاهداً هنا عليه إذ ذكّرني حوارها مع أشيائها بقصيدة لها قرأتها سابقاً تتحدث فيها عن أشيائها الّتي تركتها وراءها في حلب.

السرد في هذا الجزء ما زال رائعاً.

ولكن :
كنت أتمنى لو اكتفت الكاتبة في سردها للمكالمة الهاتفية بين الزوج وعمر بسرد ما قاله الزوج فقط ، ويمكن إعادة صياغة كلام الزوج بطريقة تشي بفحوى أسئلة وكلام عمر ، لأنّ الكاتبة هنا كانت في توازي أفقي مع باقي الشخوص في مكان وزمان الحدث.
وتمنيّت كذلك أن أعرف ماذا أعدت لهم زوجة عمر من طعام للغدء بالتفصيل الممل ، لماذا ؟ ، لأنّنا في حضرة رواية وليست قصّة قصيرة ، فالثرثرة محمودة في الرواية والتفاصيل الصغيرة حين تصاغ ببراعة تصنع الفارق ، ولأنّ قارئ الرواية فضوليّ جدّاً (ربّما) ،
(وربّما لأنّي جائع جدّاً وأنا أكتب هذه الثرثرة هههه).

كتابة رائعة ، وبانتظار بقيّة الأجزاء.
بالتوفيق إن شاء الله أختي المبدعة الأستاذة ثناء.
تحيّاتي احترامي.






  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:34 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط