شكرا لك على مرونتك وسعة صدرك في الحوار أخي وأستاذي الكريم طارق . ويعلم الله أنني لا أحب هذه القسوة . ولا أختارها مع وجود خيار آخر يفي بالغرض .
بل إنني أجدها مفروضة عليّ فرضا ولا مهرب لي منها؛ لأنها تبدأ من مجرد مخالفتي للآراء التي قيلت في القصيدة من قِبَل الأساتذة - لهم مني جميعا الاحترام والتقدير -
ومن الطبيعي أن تكون مخالفتي لهذه الآراء مستنكرة من قِبَلك؛ لأن كلام الكثرة يقنعنا في العادة أكثر مما يقنعنا كلام الفرد (مع غض النظر كليا عن مضمون الكلام) .
فموقفي ضد القصيدة بحد ذاته فيه قسوة، حتى لو لم أقل شيئا سوى جملة ( أنني أقف ضد القصيدة) .
فكيف إذا اضطررت لشرح وتبيين تفاصيل الثغرات التي أراها في القصيدة ؟
وكيف إذا كنت مضطرة لاستخدام مفردات أراها هي الأنسب للتعبير عن وصف الثغرات ؟ ألن أبدو أكثر قسوة ؟ ؟ بلى .
وفي الحقيقة ، ليس لدي مجال للحديث دون قسوة، إلا بأن أغيِّر موقفي من القصيدة، أو أن أتجاهل ما أراه ثغرات فيها، فأمتنع عن الإشارة إليه، أو أن أمتنع عن وصف هذه الثغرات بصفات تناسبها .
وعلى العموم ، فإنني أعتذر عن مضايقتك .
لكنني أودّ - مع ذلك - أن أردّ على ما تفضلتَ بقوله فيما يتعلق بعدم وجود قوانين للنقد ، وعدم وجود ضرورة للتقيُّد بعلاقات التناسب بين عناصر الصورة الشعرية عند تشكيلها وإنشائها .
فقوانين النقد هي الأساس الذي اعتمدتُ عليه في نقدي لنص القصيدة . وكي أكون أكثر وضوحا وتحديدا ، أقول : إن منهج الأسلوبية في النقد يقوم أساسا على مبدأ (البحث في اختيار الشاعر للألفاظ ) وهذا الاختيار يقوم على ( مبدأ التناسب بين الألفاظ ) في السياق الذي وردت فيه . لذا فإن ترجيح لفظ على آخر لاعتبارات دلالية وبيانية مختلفة ، إنما هو مسألة في غاية الأهمية والدقة في الشعر .
وليس صحيحا على الإطلاق أن ننسف مبدأ التناسب وأن نضرب به عرض الحائط . لأننا بذلك نقؤِّض المعنى المراد من التراكيب اللغوية ،ونجعله مضطربا غامضا وعاجزا عن إحداث الأثر المطلوب. وهذا يقوِّض البنية اللغوية والفنية للنص كاملا.
قوانين بناء الصورة الشعرية ليست منفلتة، وليست تهويمية، وليست هلامية غير قابلة للتحديد. بل هي تقوم أساسا على (علم البيان) . فكل صورة شعرية هي في الأصل صورة بيانية . وكل صورة بيانية تعتمد على أركان التشبيه ( المشبَّه، والمشبَّه به، ووجه الشبه، ووجود أو غياب أدوات التشبيه ) .
فإذا تحدثنا عن التناسب بين عناصر الصورة الشعرية فنحن في الحقيقة نتحدث عن (وجوه الشبه) التي تجمع بينها، والتي تجعلها داخلة في الحقل الدلالي ذاته .
ولا يمكن لأحد أن يشكل صورة شعرية متقنة وصحيحة بيانيا إلا بأن ينطلق من وجود وجه شبه بين عناصر الصورة البيانية . ووجه الشبه هذا يجب أن يلحظه القارئ ويفهمه من خلال إيحاءات وإشارات موجودة في النص ، وليس خارج النص .
فإذا قلت إنك تعني بالنجمة إحدى الشخصيات المشهورة ، أو ذات المكانة العالية، فهذه كناية تتبع لعلم البيان ، وينبغي أن تترك في النص إشارة أو تلميحا يحدد بالضبط المعنى المراد من الكناية .
وأما أن تأتي من خارج النص لتقول : إنني أقصد ذلك . فهذا غير مقبول؛ لأننا نتعامل مع النص كبنية مغلقة مستقلة بذاتها .
ثم إن فهم الحالة الشعورية للقصيدة أمر مختلف تماما عن تحليل صوره الشعرية بيانيا وجماليا . فالحالة الشعورية يمكن أن تصل إلى القارئ بكل وضوح على الرغم من وجود الخلل في المعنى وفي بناء الصور البيانية . وأنا وصلتني الحالة الشعورية للقصيدة ولم أعترض عليها ، ولكنني اعترضت على المعاني الضائعة ، وعلى الألفاظ التي لا تناسب عناصر الصور الشعرية.
وما زلت غير مقتنعة بأن صورة ( الأريج الذي يذهب ليشتكي إلى النجمة من ليل الأماني ) هي صورة ذات قيمة بيانية حقيقية .
إذ لا يمكنني أن أفهم سبب شكوى الأريج من ليل الأماني . فما الذي يزعج الأريج من ليل الأماني كي يشتكي منه ؟ بماذا يؤذيه ليل الأماني وبماذا يضره ؟
أم أنها مجرد كلمات مصفوفة لا هدف حقيقي من دلالتها ؟
ومثل هذه االأسئلة أود أن أطرحها عن المذنب الذي يحطّ على غصن الزهور مثلا . وكيف يمكننا تخيُل هذه الصورة .
أفلام الكرتون يمكنها أن تكون مصدرا للصور الشعرية ، شريطة أن تكون قراءتنا للشعر شبيهة بمشاهدتنا لأفلام الكرتون ، فلا نعوِّل عليه شيئا غير التسلية بالفانتازيا ( الخيال المجرد) دون البحث في المعاني .
والنظرية النسبية لأينشتاين لم تلغ فكرة التناسب بكافة أشكاله ؛ لأنها أصلا لا تتحدث إلا عن زمن وقوع الأحداث المتزامنة من وجهة نظر موضع المراقب لها . فكل ما عدا ذلك من علاقات التناسب يبقى ساري المفعول . وإلا اختلط الحابل بالنابل وضاعت القيم الفنية وتلاشت الفروق بالدلالات المعنوية وسيطر الهذيان على الأدب .
تحياتي العطرة وخالص التقدير